ملف السفير
الكاهنة
أبداً، لا نتعود على الموت. يظل مفاجأة باستمرار، حتى ولو كان الشخص العزيز على فراش المرض القاتل منذ سنوات فكيف إذا كان اسمه نازك الملائكة؟!.
يغدو الموت جريمة حين يقترب من مثل هذه الأسماء اللطيفة التي كانت تعزّينا بصوتها الرقيق المرتعش، من لذة الشعر أن بؤسنا ليس ثقيلا الى الحد الذي كنا نتصوره ما دام هناك شعر مُنعش الى هذا الحد الخارق.
أذكرها الآن بكل جوارحي. منذ ستين عاماً وأنا في ريعان العمر أقارب ما يهب على البلاد من نسمات شرقية آتية من صوب العراق، لم يكن يدهشني اسم مثل اسم نازك الملائكة. كان لجيلنا من المؤمنين بآلهة الشِعر ان هذا الاسم أشبه ما يكون لكاهنة بُعثت حية في معبد سومري عتيق، جاءت كي تعلمنا صلوات الحب، والجمال والحزن، وبالتالي الفرح بالحياة وأن فيها محطات استراحة بهذه الروعة تأخذنا إليها كلما ضاقت بنا سُبل العيش.
وازداد إيماني بها أعمق فأعمق حين اجتمعت بها عام 1957 في مؤتمر الأدباء العرب في القاهرة. وكنا معا نزلاء في فندق واحد اسمه على ما أذكر سميراميس على شاطئ النيل.
كانت لا تتكلم كثيراً، فإذا فعلت ارتعش جسدها مع كل كلمة كانت تنطق بها، فإذا بالحاضرين يصمتون لا لشيء سوى أنهم شعروا أنهم فقدوا القدرة على الكلام أمام كاهنة الحب والشِعر. وحين كان يأتي دورهن للإلقاء في مهرجان الشعر كانت تبدو كمن يوشك ان يتحول الى طيف يهم بالطيران بعيداً، غير أنه يبدو في الوقت ذاته مرتعدا كأنه فرخ في تجربته الأولى للطيران.
لم يكن بين الحاضرين، نساء ورجالاً، امرأة من هذا النوع العجيب. كنا جميعا نبدو عاديين إلا في ساعات معينة متوهجة بنيران الشِعر، إلا نازك فقد كانت تبدو باستمرار امرأة غير عادية في جلوسها، وحريتها، وحركاتها، وعلى الكلام أو في مرابع التسلية التي كانوا يأخذونها إليها أحيانا.
أين هي نازك؟... هكذا كان أصحابها يسألون كلما غابت، فإذا حضرت سكتوا كأن كل شيء قد حضر معها.
لم يكن شِعرها وحده السبب في حضورها الرهيف وإنما في الهالة التي كانت تحيط بشخصها. وحين كنا نتناقش في أمور الشِعر كانت تصغي طويلا، فإذا شاركت بدا أن ليس ثمة مشكلة نختلف حولها ما دام هناك امرأة مؤمنة بما تقوله الى هذا الحد.
ماتت إذن نازك الملائكة. فماذا على الملائكة ان يصنعوا الآن كي يقنعوني ان الدنيا بخير، وأن الشعر العربي في صحة جيدة، وأنه ما يزال ديوان العرب؟!
ليكن الله في عوننا كي نتعود على مواجهة الركاكة والغثاثة قبل ان يلتحق من تبقى من رموز الجمال وهم قلة بنازك الملائكة...
***
تأنيث الحداثة
ندر أن تحدث أحد عن الحداثة الشعرية العربية إلا وكان الحديث مقروناً بأسماء العراقيين الثلاثة: نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. فعلى يدي هذا الثالوث الريادي والتأسيسي تمكنت قصيدة الشعر الحر من ان تتبلور وتتطور وترسخ حضورها في ساحة الشعر العربي التي ظلت طوال خمسة عشر قرناً من الزمن حكراً على العمود الخليلي باستثناء بعض التجارب الوزنية المغايرة في الجاهلية والأندلس. وإذا كان البياتي قد تأخر قليلاً عن الملائكة والسياب فإن ما يجمعه بهما ليس فقط التواريخ المتقاربة للولادة والنشر بل كونهم جميعاً، إضافة الى لميعة عباس عمارة، قد درسوا في معهد المعلمين العالي وتخرجوا منه. وهي ظاهرة تستحق الالتفات إليها من قبل الدارسين والنقاد، وخاصة ان الأمر نفسه قد حدث في بيروت فيما بعد، بحيث ان القسم الأوفر من شعراء السبعينيات في لبنان هم من متخرجي هذا المعهد.
اتفق الدارسون جميعهم على تأخر البياتي عن زميليه في الشعر والدراسة، لكنهم لم يتفقوا على رأي واحد بالنسبة لأسبقية نازك أو السياب في نشر أول قصيدة خارجة عن مألوف الشعر العربي. ويبدو ان شاعرة «قراءة الموجة» «وشجرة القمر» قد اهتمت كثيراً بهذا الشأن الذي يعني لها الكثير في ظل سيطرة الرجل وهيمنته الكاملة على السياسة والاجتماع ونظام القيم، كما على اللغة والإبداع. ولذلك فهي تجانب الحذر والخجل، المعروفين عنها على الصعيد الاجتماعي والسلوكي، وتعلن في كتابها النقدي المتميز «قضايا الشعر المعاصر» ان قصيدتها «الكوليرا»، التي كتبتها حول الوباء الفتاك الذي ضرب مصر، هي أول قصيدة عربية مكتوبة وفق نظام التفعيلات الحرة والمتنوعة لا وفق نظام الشطرين. فالقصيدة وفق نازك قد نشرت في بغداد بتاريخ 1/12/1947 في حين ان ديوان السياب الأول «أزهار ذابلة» قد صدر بعد هذا التاريخ بأسبوعين اثنين متضمناً قصيدته الحرة الأولى «هل كان حباً؟». ومع ذلك فإن السياب قد ذيّل قصيدته المذكورة بتاريخ سابق هو 29/11/,1946 ما يعني ان سنة كاملة تفصل بين القصيدتين.
إلا أن السبق الزمني، على أهميته، ليس هو المعيار الحاسم في تحديد قامات الشعراء وعطاءاتهم. لا بل إن هذه الأهمية تتضاءل كثيرا اذا ظلت المحاولة في إطار المصادفة العارضة أو التجريب المحض ولم تكن جزءا من مشروع حداثي أو تصور مغاير للعالم. وما يلفت النظر في هذا الإطار هو ان نازك في كتابها النقدي الصادر في منتصف الخمسينيات تذهب الى القول بأنها لم تكن أول من كتب القصيدة الحرة بل ثمة من سبقها الى هذا النوع من الكتابة بسنوات عديدة. ومن بين هؤلاء المصريون بديع حقي ولويس عوض وعلي أحمد باكثير. لكن الذي سبق الجميع في رأيها هو العراقي احمد مطلوب الذي نشر قصيدته الحرة «النظم الطليق» عام 1921م. ومع ذلك فإن السجال حول ريادة الشعر الحر لم يظل دائماً في سياقه النقدي الصرف بل كانت تداخله أحيانا النعرات العربية القطرية، بحيث يرى بعض اللبنانيين ان هذه الريادة تعود إليهم بالذات عبر نصوص حرة لجبران خليل جبران وأمين الريحاني. دون ان نغفل مزاعم الشاعر اللبناني الراحل فؤاد الخشن من ان قصيدته «سوار الياسمين» المؤرخة عام 1944م. هي أول قصيدة شعرية حرة.
لا تجافي نازك الملائكة الحقيقة كثيراً حين تربط الحداثة بالمشروع والوعي والدعوة، وإن كان الأمر لا يأتي بناء على النوايا الطيبة أو على التعسف والافتعال بل نتيجة لتغيرات الواقع وانسداد أفقه ولقلق الإنسان وحاجته الملحة الى كسر النمط وهتك المحظور وركوب المغامرة. وتتجلى هذه المغامرة في مواقع عدة من دواوين الشاعرة التي تعلن حينا «نسير ولا نستطيع الوصول»، وتعلن حينا آخر:
«سأحلم بالزائر المستحيل الذي لم يجئ». وفي كلتا الحالتين تصيب نازك كبد الحداثة التي هي في جوهرها إصغاء عميق لنداءات المجهول ولبناء يوتوبيا إنسانية جديدة تكون بديلاً افتراضياً عن تلك التي خسرناها.
على ان أهم ما في محاولة نازك الملائكة الجريئة يتمثل في قدرة المرأة العربية على استعادة الزمام من يد الرجل وفي كسر الغلبة الذكورية التي كانت تربط دائماً بين الشعرية وبين الفحولة، وفق ما ذهب إليه الناقد السعودي عبد الله الغذامي. كما ان ثمة دلالات رمزية لافتة لمشاركة نازك في التأسيس الثاني للحساسية الشعرية العربية بعد ان أسهمت الخنساء في التأسيس الأول. وفي رأيي ان الشاعرة التي عاشت في نهاية حياتها، متوارية وشبه منسية، في القاهرة قد تعرضت الى ظلم فادح بعد ان اتهمت زوراً بالارتداد الكامل عن الحداثة، في عملية تماه قاسية بين الردة الإبداعية والردة الدينية. والحقيقة أن من يقرأ كتابها النقدي وآراءها المختلفة لا يتلمس أي شكل من أشكال الردة بل يتحسس خوفاً على الحداثة بعد ان تعرضت للتسيب والفوضى والاستباحة، من جهة، وللنمطية والرتابة والمحاكاة الفارغة من جهة أخرى. ومثل هذه الآراء لا تستحق الرجم بأي حال بل إننا جميعاً مدعوون الى تأملها ومناقشتها بعمق بعد مرور ستين عاماً على قصيدة «الكوليرا» وبعد ان أصبحت الشاعرة نفسها في عهدة الموت.
***
في الإسم شيء من المعنى
سوف أظل أحب نازك الملائكة بوصفها الرمز الشعري لحركة لا تزال فعالية قابلة للتأويل، أقول التأويل وليس التفسير، تفادياً لتفريط حاصل لشعرية الحركة التي لا نزال نتمرغ بغابة عطاياها دون أن نبرأ من مخرجاتها السطحية.
سأحب نازك الملائكة لأن ثمة إشارة شعرية منحني إياها اسمها الشعري الفاتن: (نازك الملائكة).
تعودت أن أصادف في اللغة إشاراتها الرمزية الغامضة قبل أن أخضع لجاهزية معطياتها الذهنية المباشرة.
وقتها، يوم كنا في ستينيات القرن الماضي، كان كل شيء مرتبطاً بالحلم الصادق لسعينا، حلم رومانسي يبدأ من الحب ويعلو عند شهوة تغيير العالم، ويجد تمثله الجميل في الشعر.
لذلك وجدت في اسم نازك الملائكة ما يمنح ولعي بالشعر وأحلام التجديد الشعرية حديقة غنية بالدلالات، فاسم مثل (نازك /الملائكة) لا بد له أن ينتمي للفعل الكوني الخارق من جهة: نازك، وبراءة العمق الروحاني من جهة ثانية: ملائكة.
وإذا كنت أحببت نازك بدءاً من اسمها، فلأن هذا سوف يستقيم، لاحقاً، مع قناعة اكتسبتها من تجربة الحياة والشعر، بأن الشعر ليس فحسب في القصيدة، لكنه سوف يتمثل دائما في الفعل الإنساني اليومي المستمر في الحياة. حيث ستصبح تفاصيل الحياة هي بمثابة الدليل الحي على كوننا شعراء، حتى الذين لا يكتبون الشعر (في القصيدة) يمكن أن نصادفهم شعراء يغنون حياتنا الإنسانية.
لذا سوف اشعر الآن، وأنا أفقد نازك الملائكة، أن أحداً منا يجب ألا يفرط في جمال الدلالات التي تمنحنا إياها الأسماء، ففي التسمية شيء من المعنى.
فربما يسعفنا هذا الالتفات إلى فسحة رحيمة نحتاجها لكي نتمرن على الإصغاء لأصوات أرواحنا، ونحسن الحوار فيما بيننا، انطلاقاً من موسيقى الأسماء في أرواحنا.
الآن،
أي نيزك سوف يحمل ملاكاً شعرياً إلى ملائكة ينتظرون؟
***
الدور التأسيسي وهمّ المراجعة
يصعب علينا أن نتجاهل نازك الملائكة إذا أجرينا الحديث على انطلاقة الحركة الشعرية العربية منتصف القرن المنصرم. وأما تقويم شعرها، فمن شأنه ان يضعنا في موقف حذر، أو لنقل في موقف حساس يتطلب منا قدراً كبيراً من الدقة والموضوعية، ولكن، في أية حال، كانت نازك الملائكة جزءاً من الاندفاعة الجريئة التي قتلها الأوائل من شعراء الحداثة إزاء القصيدة العمودية، أو بالأحرى إزاء التقاليد الشعرية الموروثة.
لقد تمثلت بدايات الشعر العربي الحديث بنازك الملائكة، كما تمثلت ببدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي... وغيرهما. ولكن بعد هذه البدايات، راحت الملائكة تبتعد قليلاً أو كثيراً عن المشهد الشعري، وراح التمثيل الأبرز ينتقل الى آخرين التحقوا بالركب، وفي طليعتهم شعراء مجلة «شعر»، ولعل ادونيس من بينهم هو الذي راح يبلور المفاهيم والمرامي التي انطوت عليها حركة الحداثة الشعرية، ليس في شعره فقط، وإنما على وجه الخصوص في مقالاته ودراساته.
لو أردنا اليوم ان نتقصى أثراً لنازك الملائكة في حركة الشعر الحديث، التي مضى على انطلاقتها أكثر من نصف قرن، لربما أمكننا القول إن حضورها ليس ملحوظاً كحضور البعض من أبناء جيلها، وعلى رأسهم السياب. يصعب علينا مثلا ان نتكلم على اتجاه شعري يمكننا ان ننسبه إليها، وأن نلحظ بالتالي تأثيراً له في الأجيال التي تعاقبت على مر العقود السابقة. ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع ان نهمل ما قدمته الملائكة في الشعر، وكذلك في النقد، إذا ما أردنا ان نؤرخ للأدب العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
قد تكون الفضيلة الكبرى لنازك الملائكة أنها أبقت على «الحداثة» في موضع الشك، أو المراجعة، أو النقد. لم تندفع اندفاعاً حماسياً أو متهوراً، كما أنها لم تلتزم موقف التزمت أو الانحياز للماضي. كانت كمن يتقدم، ثم لا يلبث ان يستدرك محاولاً النظر الى ما حققه مشككاً فيه، أو خائفاً من الشطط أو المغامرة في جانب من جوانبه. ومثل هذا الاستدراك يبدو ضرورياً، خصوصاً اذا نظرنا الى ما آلت إليه اليوم حالة الشعر من فوضى وتخبط.
لقد ظلت نازك الملائكة مأخوذة بدورها التأسيسي. وربما حاولت ان ترسي قواعد لاتجاه جديد في الشعر، وهذا ما أظهرها أحيانا في موقع المحافظ، أو المتراجع إزاء المتاهات المستجدة. لقد حاولت الملائكة ان تعبر عن وجهة نظرها الخاصة في كتابها المعروف «قضايا الشعر المعاصر». حاولت ان تقدم مفهومها للحداثة، وأرادته ان يكون بسيطاً واضحاً متحرراً من تعقيدات الحياة والثقافة التي راحت تغزو واقعنا العربي على نحو كاسح. ربما أمكننا القول إن الملائكة أرادت ان تأخذ بجوانب معينة للحداثة، وأن تعرض عن جوانب أخرى. ربما أمكننا القول إنها ركزت على الجانب «العروضي» أو «الوزني» في الكتابة الشعرية، أكثر من تركيزها على الجوانب الأخرى الكثيرة. وهذا واضح في كتابها النقدي الذي أشرنا إليه، كما هو واضح في كتاباتها الشعرية.
لقد عاشت نازك الملائكة همومها الشعرية والنقدية متمسكة بدورها التأسيسي. وإذا كانت قد ابتعدت في مراحل معينة عن المشهد الشعري، بهذا القدر أو ذاك، فحسبها أنها ظلت جزءاً لا يمكن إغفاله من حركة الشعر التي تبدو لنا الآن مفتوحة علي مختلف الاحتمالات والآفاق.
***
الريادة المسروقة
برغم معرفتي بأنها ما زالت على قيد الحياة، فقد كنت، لفترة طويلة، منساقاً إلى شعور عام، بأنها ماتت منذ زمن.. ماتت كأقرانها من أولئك الذين تنازعوا على ريادة الشعر العربي الحديث بأنواعه، وكذلك القسم الأغلب من الجيل الذي تبعهم، صانعاً لنفسه ما شاء من ريادات، شعراء من طبقة بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ولويس عوض وصلاح عبد الصبور ويوسف الخال وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا ونزار قباني ومحمد الماغوط... الريادة التي كنت أتمنى، شخصياً، أن نبقيها لها من دون تردد، وذلك كرغبة مني بأنثوية الريادة لشعرنا الحديث، الأمر الذي لا نعرفه نحن العرب بتاريخنا كله. هي التي شعرت بأنها سرقت منها، سرقها أولئك الذكور الملعونون!.. فسارعت لكتابة، واحداً من أول وأهم الكتب، التي تتصدى، على نحو كاد يكون حدساً واستشرافاً، لما سينزلق إليه هذا الشعر من استسهال ونمطية وقوالب جاهزة، ما عبرت عنه بقولها: (التشابه والتكرار الممل).. وذلك كدليل باكر على افتعالية وفجاجة نقطة انطلاقه، وضعف الأساس الذي بني عليه!؟ نازك الملائكة.. إذا نجح في انتزاع ريادتها لهذا الشعر آخرون، فهي بلا منازع رائدة كشف عطوبته وهشاشته.. وبالتالي عطوبة وهشاشة الحداثة العربية برمتها، الحداثة التي لم تجد سوى الشعر رائداً لها. وهذا ما يجعلني أعترف بأن كل ما أحتفظ به من شعر الملائكة هو كتابها ذاك (قضايا الشعر المعاصر) الذي منذ أن قرأته متأخراً في طبعته الثالثة عام 1971 جعلني أرى، بوضوح كاف، النهاية المسدودة لذلك الطريق الملتوي.
غير أن أكثر ما همني في هذا الكتاب المشاكس، هو الفصل المخصص بقصيدة النثر، حيث في ردة فعلها على مجلة (شعر) أبدت الملائكة، أكثر ما باستطاعتها من قسوة وتحجر، معبرة عن رأيها الصريح بأن: (وقد تبنت مجلة (شعر) هذه الدعوة الركيكة الفارغة من المعنى!؟). ومع أنها اعترفت مراراً بأنها اتبعت في قصيدتها (كوليرا) الأسلوب الإنكليزي. فهي تقول عن (شعر) بأنها مجلة بلغة عربية وروح أوروبية!؟ ولا تجد سوى الاستغراب من أن يرضى جبرا إبراهيم جبرا نفسه تسمية ما يكتبه توفيق الصايغ بأنه شعر!؟ منتهية إلى حكم ملتبس لحد كبير، بأنه: (إذا استحال معنى كلمة (شعر) إلى التعبير عن النثر... غير أن الشعر وجد لنفسه اسماً آخر صادقاً ينص على الوزن الذي حاولوا قتله. ولسوف يبقى الناثرون حيث كانوا مع الناثرين).
هي ماتت .. لفظة دون معنى/ وصدى مطرقة جوفاء يعلو ثم يفنى). هذا من شعر نازك الملائكة، وقد وجدت نفسي أتلوه المرة بعد المرة، وأنا أكتب هذا عنها. هي التي كتبت في إحدى رسائلها لعيسى الناعوري: (لست مسؤولة عما صار الشعر الحر إليه اليوم.. أما المعارضة فهي المدرسة الكبرى في نظري).
***
أردت لها جائزة المؤتمر
نازك الملائكة عَلم من أعلام الشعر في كل العصور ودورها في الكتابة الشعرية في ديوانها عمل متميز ولغة شعرية خاصة بها، وثقافة شعرية كذلك متميزة تجتمع فيها العناصر العربية من جهة والإنكليزية من جهة أخرى التي شكلت ثقافتها، بعد ذلك يأتي دورها في التجديد دور هام بل هو من أهم الأدوار، وإذا ذكرت خمسة أسماء من رواد الشعر العربي المعاصر فنازك الملائكة في المقدمة.
نازك لم تكن كذلك مجرد شاعرة مبدعة بل شاعرة ناقدة ومفكرة ومقدماتها لدواوينها وكتاباتها عن قضايا الشعر من أهم مصادر النظرية الشعرية الجديدة.
ونازك أيضا كانت كذلك متصلة أشد الاتصال ببقية شعراء الجيل والأجيال السابقة لها والأجيال اللاحقة لها، وهي تدين بالفضل لهؤلاء الشعراء السابقين لها، ولها عنهم كلام مهم ليس من الوجهة الفنية فقط بل ومن الوجهة الأخلاقية. لأن غيرها يظنون أنهم يوجدون بغياب غيرهم.
كنت أتمنى في مؤتمر الشعر العربي الذي عقدناه أخيرا أن تذهب جائزة المؤتمر لنازك الملائكة لأن لها السبق في حركة التجديد، وكذلك هي أستاذة وأيضا لأنها اختارت القاهرة للإقامة والمعيشة بعد أن وصلت إلى سن عالية، لكن آخرين من ذوي السلطان والنفوذ أصروا أن تذهب الجائزة إلى غيرها.
***
انتهاء في تاريخ الشعرية العربية
إن موت نازك الملائكة يمثل انتهاء في تاريخ الشعرية العربية، وهو ما يجب أن نهتم به، لأنها أسست لشعرية الحداثة حتى يومنا هذا، حتى أنها تنبأت بما يسمى بقصيدة النثر وناقشتها، إذن هي كانت على وعي بالقديم والحاضر والآتي، وأظن أن الشعرية العربية والثقافة العربية سوف تخلد هذه الرائدة بوصفها مرحلة كاملة في تاريخ الشعر العربي، وأنا أدعو المؤسسات الثقافية في العالم العربي أن تقيم المؤتمرات والندوات التي تكشف عن الدور الريادي لهذه السيدة وعن الأثر الذي تركته في مسيرة الشعر العربي كله وفي الوقت ذاته أدعو إلى الاحتفاء بالرائدين الباقيين على قيد الحياة وهما أدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي حتى نتخلص من ظاهرة البكاء على الموتى.
***
الخوف من المستقبل
إن نازك الملائكة شاعرة رائدة في حركة الشعر العربي الحديث وأول من شق الطريق لحركة التجديد في القصيدة العربية بقصيدتها الكوليرا التي نشرتها في منتصف الأربعينيات، ويضيف سليمان: لكني أظنها تراجعت في منتصف الستينيات لأنها رأت قصيدة التفعيلة وهي تتطور وتحارب في الوقت ذاته القصيدة العمودية وتدفعها للتواري وتوقعت نازك أن تتوارى الأشكال الشعرية والثراء الشعري وأن يحاول الشعراء الجدد محاربة كل التيارات الشعرية الأخرى، لذلك هاجمت في كتاباتها التطرف في التجديد وإهمال الكتابة بالشكل العمودي وتوقعت نوعاً من الدكتاتورية الإبداعية التي نعاني منها الآن، فلدينا جماعات شعرية متعددة كل شكل شعري يحاول إعلان موت الأشكال الشعرية الأخرى، شعراء التفعيلة يرفضون قصيدة النثر ويحاربونها، والعموديون يرفضون الجميع، بينما يتصور شعراء قصيدة النثر أن ترسيخ قصيدتهم وشكلهم الشعري لن يتم إلا بموت الأشكال الأخرى.
أصبحنا إذن ضد الثراء والتنوع، وأظن أن نازك الملائكة كانت في الستينيات ترى المستقبل وتخشاه لكنني لم أكن في صفها عندما هاجمت حركة التجديد، لأنني أعتقد أن كل شاعر حقيقي هو تجريبي بالدرجة الأولي وعليه دائما أن يعيد اختراع الشكل وأن يضيف وأن يختلف عن الآخرين، لا حدود للتجريب ولا قفص يحبس الشعر فيه.
***
كبيرة وسط كبار
أبدت حزنها الشديد على الرائدة الراحلة وأشارت الى أنها نازك الملائكة اختارت أن تختفي عن الحياة لفترة طويلة معتزلة الحياة الثقافية والشعرية. وأضافت: لكن يظل الجانب الشعري والنقدي فيها مستمراً بحكم ارتكازه على أعمدة قوية من الرؤى لا تتزحزح، فقد حققت ريادة في القصيدة الحديثة.
ترى ميسون صقر أن نازك غيرت فكرة الشاعرة المرأة بإنجازها وحضورها ورؤاها، ومن رأيي أن الخنساء ونازك الملائكة ومي زيادة يمثلن ثلاثة محاور مهمة تعتمد عليها المرأة الشاعرة في الدخول إلى عالم الشعر بقوة وثبات، حيث فتحن الطريق ومهدنَه لها لتأتي بإبداعها بجرأة وقوة.
لقد تحققت نازك رائدة وسط شعراء كبار ولا تستطيع أن تفرق قوة لغتها وشخصيتها ورؤيتها عن جيلها من الشعراء، لا أنثوية ولا ذكورية، إنها التميز والريادة يضاف إليها القوة النقدية والفكرية، لقد كتبت نازك قصيدتها التي تعد من أوائل قصائدها المهمة الكوليرا في مصر وها هي تموت أيضا في البلد الذي أحبته وكتبت عنه.
***
الموت والنقد
أرجو أن لا تأخذنا عاطفة الموت بحيث لا ننظر إلى تاريخ الشاعرة وسعيها نحو قصيدة جديدة نظرة نقدية وتاريخية ونتفحص ما كتبه نقاد وأساتذة الأدب وشعراء عاصروا الشاعرة حول (ريادتها) للشعر الحر.
فمثلاً ما ذكره عبد الله الغذامي في كتابه (الصوت القديم والصوت الجديد دراسات في الجذور العربية لموسيقي الشعر الحديث) حيث خصص فصلاً عنوانه (نازك ومستقبل الشعر الحر) هذا الفصل الذي يعرض لتاريخ رواد قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر يفند المزاعم التي تخص نازك كريادة مزعومة، وأظن أن هناك عشرات الدراسات ومئات المقالات التي كتبت خلال الثلاثين عاماً عن هذه الإشكالية التي ينبغي أن يعاد طرحها لأن أسماء مهمة قد ظلمت تحت سنابك نازك ومؤيديها.
المسألة الأخرى التي أود أن أشير إليها أن نازك التي حملت مصر والقاهرة خاصة في ثقافتها وتكوينها، هذا جعلها وزوجها د. محبوب المدفون في ثرى القاهرة عام 2001 تحتفل مصر وتحتفي بالشاعرة الكبيرة. فللمرة الأولى في تاريخها الشعري والأكاديمي يصدر لنازك كل كلمة كتبتها في مجلدات أصدرها المجلس الأعلي للثقافة وبيعت بسعر زهيد، كما أن هناك أكثر من عمل شعري وأكاديمي صدر لها في طبعات عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهذا الموقف ليس غريباً عن مصر التي كتبت عنها نازك عام 1967 قصيدتها الكوليرا حيث حصدت آلافاً من أرواح المصريين، وهي القصيدة التي يزعم كثيرون أنها أول قصيدة في الشعر الحر على الرغم من أن أباها قال لابنته وقتئذ أن هذا يا نازك ليس شعراً.
ولعل المناسبة تتيح للنقاد والشعراء أن يبحثوا في نكوص وارتداد نازك إلى السلفية والتقليدية وعزوفها عن الكتابة الجديدة منذ فترة طويلة جدا كأن (الطفرة) الشعرية التي بدأتها لم تكن ذات أساس سليم وغير نابعة من روح متأصلة في المغامرة والتجديد.
***
نازك الملائكة شاعرة العرب الأولى ومعلمة الشعراء
ماذا يبقى منها؟
يعيدنا خبر رحيل الشاعرة العراقية نازك الملائكة، إلى بدايات حركة التحديث في الشعر العربي المعاصر، إذ لطالما اعتبرت الشاعرة واحدة من رواد (رائدات) الشعر الحر في العالم العربي. واحدة من الذين انقسم حولهم النقاد معتبرين أن قصيدتها «الكوليرا»، (التي كتبتها عام 1947 ونشرتها عام ,1949 في ديوان «شظايا ورماد»، وفق ما اتفق عليه)، كانت نقطة انطلاق شعر التفعيلة وقد سبقت بها عظيما كبيرا آخر، هو بدر شاكر السيّاب. أيضا، لطالما تعارك الاثنان حول من كانت له الأسبقية والحق في هذا الادعاء، متناسين معا أن ثمة من سبقهما من حيث الخروج على الوزن الخليلي، وحتى في الذهاب إلى أبعد من ذلك، أي كتابة قصيدة نثر. من هنا أين نضع مثلا أمين الريحاني في كتابه «هتاف الأودية»، الصادر عام ,1905 وبخاصة مقدمته التي طرح فيها هذه الإشكالية، مستندا إلى الشاعر الأميركي والت ويتمان، وقبل زمن طويل من حديث أهل مجلة شعر عن نظرية سوزان برنار. بهذا المعنى أيضا، كيف نقرأ جبران خليل جبران، وكيف نقرأ توفيق صايغ، الذي لم نرغب بعد في إخراجه من تهمة مجلة حوار وارتباطه مع من ارتبط؟ فكرة سخيفة بالطبع، في زمن هذه التحولات الجذرية التي نشهدها في عصورنا الراهنة، أليس كذلك؟
في أي حال، ثمة «طرح ما» قد يعيدنا إليه خبر الموت هذا، إذ لا بد أن يقودنا إلى إعادة قراءة نازك الملائكة بعد أن ابتعدت من على الساحة الأدبية، بسبب أمور شتى، وربما بعد أن طواها الزمن الحديث، بمعنى من المعاني، ليضعها بعيداً عن تحولات الراهن وحتى بعيداً عن تجذراته الجديدة، التي أخذت الشعر العربي الحديث، إلى آفاق لم تكن لتخطر على بال هؤلاء الرواد، وما نادوا به. حتى إن رغبنا في تقصير حديثنا، عن تلك الفترة، لوجدنا أن أسماء أخرى، بقيت حاضرة أكثر مما يحضر اسم نازك الملائكة.
آخر مرة عدت فيها إلى قراءة شعر نازك الملائكة، كان يوم صدور عدد «كتاب في جريدة» العدد 41 لرغبة في الكتابة عنه، وقد وجدت فيه عدداً من الحسنات، البعيدة عن الشعر، إذا جاز القول، إذ أنه وضعنا أمام قراءة شاعر عراقي آخر، وهو شوقي عبد الأمير، لقصائد الملائكة، فكل مختارات أدبية (أي كل أنطولوجيا) تملك، في عمقها، مشروعها النقدي. لأن القراءة، كما أجدها، ليست في النتيجة سوى عمل نقدي، وبخاصة إذا كان القارئ يتعاطى شأن الكتابة والأدب.
أما الحسنة الثانية، فقراءة القارئ للمختارات، التي تملك زاويتي نظر، أو قراءتين. القراءة الأولى، قراءة المختارات التي اختارها المعد والثانية، قراءة الشعر نفسه، شعر الشاعرة بعيدا عن أي قناة للتوجيه.
تلك المختارات أتاحت لنا أن نتذكر مجددا بأن نازك الملائكة وبعيداً عن قضية «الكوليرا»، وبعيدا عمن سبق الآخر «كانت رائدة الرومانسية في الشعر العربي الحديث بالمعنى الفلسفي والرؤيوي، فهي المرأة الشاعرة الأولى التي خلطت حلم الموت بالحياة، في نسيج رؤيوي لغوي موسيقي مبتكر في شعرنا المعاصر». قد تكون هنا «أهمية» نازك الملائكة، في كونها نحت إلى صوغ الرومانسية في قلب العملية الشعرية العربية الحديثة. ثمة العديد من قصائد دواوينها «عاشقة الليل» و«شجرة القمر» و«مأساة الحياة» و«شظايا ورماد» و«قراءة الموجة» و«يغير ألوانه البحر»، التي تنحو إلى كتابة هذه الأحاسيس، في بعديها التوصيفي الخارجي والحسي الداخلي، التي ترتكز على مسحات الكآبة والتي تغني الطبيعة... بمعنى آخر، نجد في شعرها، كل تلك الموضوعات التي كانت عزيزة جداً على قلب الرومانسيين، إلا أن الملائكة، لا تحاول نقلها، بل تعجنها بعجينة بيئتها وثقافتها ورؤيتها الخاصة.
وبعيداً عن ذلك كله، ما الذي تبقى اليوم من شعر نازك الملائكة؟ ليس في السؤال أي محاولة للتجني، ولكنه الأدب الذي يفرض علينا دوما، أسئلة مشابهة، في ظلّ هذه التطورات اليومية التي تدفع المعارف إلى أماكن مختلفة وجديدة.
أعترف أني لم أكن أشعر يوماً بانجذاب حقيقي إلى كلام الشاعرة. قرأتها إذ كان عليّ أن أقرأها. من هنا جاءت المختارات في «كتاب في جريدة» لتذكرني بها، إذا جاز التعبير، بعيدا عن أي تاريخانية وبعيدا عن موقعها وسؤال ريادتها. من هنا أيضا، أتساءل عن معنى هذه الريادة. لو أن الملائكة لم تكتب الشعر الحر، هل كانت حضرت بهذا الوزن في الشعر العربي المعاصر؟ لولا معاركها النقدية مع السياب، هل كانت تبوأت «المكانة» التي هي عليها اليوم؟ لكن عن أي مكانة نتحدث؟
في أي حال، لا استطيع أن أنسى، الفترة التاريخية التي عاشت فيها الملائكة، بيد أن الفن حيث يقع أسير لحظته التاريخية، لا بد وان يتقادم مع الزمن، أن يسقط معه، أن يغيب معه، أي أن يبقى في لحظته التاريخية، من دون أن يجد مقومات استمراره، هذا ما لم يقع فيه بعض الشعر الجاهلي، وبعض الشعر العباسي... الخ، أي ما زال الكثير من شعراء تلك الفترة، يحضرون بقوة، أكثر من غالبية رواد الحداثة، الذين حقا، لا افهم معنى ريادتهم.
ومع ذلك، لنعد قراءة الشاعرة، إذ لن يتوقف حضورها على ذائقتي الشخصية، وإنما هو سؤال من ضمن هذه الأسئلة، التي تطرأ على بالي في كثير من الأحيان.
السفير- 22 يونيو 207
******************
ملف الحياة
نازك الملائكة رائدة الشعر العربي الحر
ترحل عن 84 عاماً في القاهرة منفاها الاختياري
غيّب الموت الشاعرة العراقية نازك الملائكة في القاهرة ليل الأربعاء الفائت عن عمر يناهز 84 سنة. وهي من رواد الشعر العربي الحديث، وساهمت في إرساء ثورة الشعر الحر مع الشعراء الرواد من أمثال بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وسواهما.
ولدت في بغداد عام 1923، ونشأت في بيت علمٍ وأدب، في رعاية أمها الشاعرة سلمى عبدالرزاق أم نزار الملائكة وأبيها الأديب الباحث صادق الملائكة، فتربَّت على الدعة وهُيئت لها أسباب الثقافة والأدب. وما أن أكملت دراستها الثانوية حتى انتقلت الى دار المعلمين العالية وتخرجت فيها عام 1944 بدرجة امتياز. ثم دخلت معهد الفنون الجميلة وتخرجت في قسم الموسيقى عام 1949. وفي عام 1959 حصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكنسن في الولايات المتحدة الأميركية. وعينت أستاذة في جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت.
عاشت في القاهرة منذ 1990 في عزلة اختيارية.
من أعمالها الشعرية: عاشقة الليل (1947)، شظايا ورماد (1949)، قرارة الموجة (1957)، شجرة القمر (1965)، مأساة الحياة وأغنية للإنسان (1977)، للصلاة والثورة (1978)، يغير ألوانه البحر، الأعمال الكاملة – مجلدان – (طبعات عدة).
ومن أعمالها النقدية والنثرية: قضايا الشعر المعاصر، التجزيئية في المجتمع العربي، الصومعة والشرفة الحمراء، سيكولوجية الشعر.
كتبت عنها دراسات عدة ورسائل جامعية في جامعات عربية وغربية.
*****
نازك الملائكة أحدثت ثورة الشعر الحر وغرقت في الصمت
رحلت الشاعرة العراقية نازك الملائكة ليل الأربعاء - الخميس عن أربعة وثمانين عاماً في القاهرة التي اختارتها بدءاً من العام 1990 منفى طوعياً، بعدما ضاقت في وجهها ظروف الحياة في بغداد. جاءت الى القاهرة مريضة من جراء الاكتئاب الذي ألمّ بها ولزمت منزلها ثم الفراش طوال سنوات. ولم تكن تقابل سوى الأقارب، ثم اشتد عليها المرض فانقطعت عن العالم، حتى ظن الكثيرون أنها رحلت. والضجة التي أثيرت اخيراً حول معاناتها المادية هي التي أعادت اسمها الى الذاكرة فتذكّر الجميع انها ما زالت حية.
لكن نازك الملائكة، الشاعرة الرائدة والناقدة يصعب أن تُنسى لا سيما بعدما دخلت «تاريخ» الشعر الحديث من باب الريادة وشكّلت دواوينها التي تناهز التسعة «تراثاً» حداثياً مستقلاً بذاته. ولا تُنسى ابداً المعركة التي دارت بينها وبين زميلها في دار المعلمين العليا في بغداد الشاعر بدر شاكر السياب حول القصيدة الحرة الأولى. وكانت تعتبر انها السباقة الى كتابتها عبر قصيدتها «الكوليرا» التي نشرتها مجلة «العروبة» البيروتية لصاحبها الشاعر اللبناني محمد علي الحوماني في 1/12/1947، فيما كان السياب الذي يصغرها ثلاث سنوات يقول ان قصيدته الحرة «هل كان حباً؟» ظهرت في ديوانه الأول «أزهار ذابلة» الصادر في القاهرة منتصف العام 1947. حينذاك دار سجال واسع حول هذه الريادة شمل العالم العربي وشارك فيه ايضاً شعراء آخرون قالوا انهم سبّاقون الى كتابة الشعر الحر. إلا ان نازك ما لبثت ان اعترفت لاحقاً عندما احترفت «مهنة» النقد أن بضعة شعراء كتبوا القصيدة الحرة في مطلع القرن الماضي.
لا تكمن اهمية الدور الذي أدته نازك الملائكة في حركة الشعر الحديث في تجديدها الشكلي أو الإيقاعي فحسب، على رغم الثورة العروضية التي أحدثتها، منطلقة من إحساسها الموسيقي العميق، هي التي درست الموسيقى في كلية الفنون واحترفت العزف على العود. بل ان ما يميز شعرها ايضاً هو انفتاحه على قضايا وجودية وشؤون فلسفية ذات بعد وجداني، وعلى أسئلة الحياة والموت. ولم يكن مفاجئاً ان يحمل ديوانها الأول عنواناً رومنطيقياً هو «عاشقة الليل» (1947)، فالليل كان أنيسها هي الشاعرة المتبرّمة بالحياة المفعمة بالألم والإبهام، والمتشائمة والعاجزة عن استيعاب المآسي البشرية. ولعل ديوانها الثاني «شظايا ورماد» (1949) رسّخ هذا الطابع الكئيب والسوداوي الذي وسم قصائدها الأولى، وقد تضمن قصيدتها «الكوليرا» التي كانت كتبتها كرد فعل إزاء مأساة مرض الكوليرا الذي فتك العام 1947 بأهل الريف المصري. إلا ان الشاعرة لن تتوانى في ديوان مثل «شجرة القمر» الصادر العام 1968 عن خوض التجربة السياسية ناظمة قصائد حماسية عن فلسطين والوحدة العربية والثورة العراقية التي عرفت بثورة الثالث عشر من تموز (يوليو) 1958. وبعد هذه المرحلة تستعيد الشاعرة إيمانها في مواجهة أحوال الكآبة والتشاؤم والقلق، وتكتب خلال شهر رمضان 1974 قصيدتها الإسلامية الشهيرة «زنابق صوفية للرسول» وقد ضمّها ديوانها «يغيّر ألوانه البحر».
يصعب حقاً اختصار عالم نازك الملائكة والمراحل التي اجتازتها نظراً الى رحابة هذا العالم وتداخل تلك المراحل. واللافت في مسارها الشعري الحداثي انها لم تتخلّ عن القصيدة العمودية على نحو مطلق، فمعظم دواوينها عرفت حالاً من «التعايش» بين الشعر الحر القائم على نظام التفعيلة والشعر الكلاسيكي القائم على وحدة البيت، لكنها تظل شاعرة التجديد، في الإيقاع والبنية.
اما نازك الناقدة فكانت الوجه الآخر للشاعرة: ناقدة صارمة ذات منهج شبه أكاديمي، تناقش وتساجل وترفض وتنتقد بشدة أحياناً. وكتابها الشهير «قضايا الشعر المعاصر» ما برح واحداً من المراجع المهمة التي لا بد من العودة إليها لقراءة النظريات والمفاهيم التي رافقت ثورة الشعر الحر.
رحلت نازك الملائكة بعد سنوات طويلة من المرض والعزلة، رحلت كما لم تتمنّ يوماً، بعيداً من بغداد مدينتها التي حملتها في القلب وصانتها من عبث العابثين ومن الجرائم التي شوهتها وما زالت.
****
الصوت الرومنطيقي الآخر
رحلت أمس نازك الملائكة، الشاعرة الرومنطيقية الحقيقيّة في أدبنا العربي... كانت نازك الملائكة نموذجاً متفرّداً لما يُعرف بالرومنطيقية في الآداب العالميّة والتي كان جلُّ عطائها الشعري متماهياً بالروح ذات الوهج «الملائكيّ» والنغمات التي تُذكّر ب «ووردزورث» و «شيلر» و «بايرون» و «لامارتين» في الشعر العالمي.
أولئك هم آباؤها ولا أبوّة لها في الشعر العربي. كما أن نازك الملائكة لم يكن لها أبناء في شعرنا المعاصر، هكذا فقد أدار شعر الحداثة العربي ظهره هو الآخر عن تجربتها المتميزة وظلّت حاضرة ربما في نصّها النقدي.
ترى هل هو زهدُها الشخصي في إرتقاء المنابر وتعبئة الحشود والمريدين، أم كونها إمرأة، أم أنّ السبب يكمن في خصوصيّة نصّها الشعري الذي لا يقبل التقليد من ناحية ويمتاز بحصانة أدبيّة قَلَّ نظيرُها.
هي «عاشقة الليل» التي عاشت في «قرارة الموجة»، تستفيء في ظل «شجرة القمر»، لتكتب «مأساة الحياة وأغنية الإنسان» قصائد وأغاني، مقاطع ملتهبة «شظايا ورماد». تواصل الحياة والعمل بعُلوٍّ وتجرّد وكأنها في سيرورة «للصلاة والثورة». هكذا تمضي في مسيرتها الشعرية الحياتية، في هامشها المضيء اللامتناهي، في منطقة النصّ الشعري الخالص حتى «يغير ألوانه البحرُ».
ليست أهمية نازك الملائكة كما اعتاد النقّاد والجمهور الحديث عنها في قصيدة «الكوليرا» عام 1947 في كونها أول نص شعري «حر» ولا في نقدها الأدبي الذي تمثل في كتابها المعروف ولكن في كونها رائدة الرومانطيقية الشعرية العربية بمعناها الفلسفي والرؤيوي فهي الأولى التي خلطت حلم الموت بالحياة في نسيج رؤيوي لغوي موسيقي لم يعرفه قط شعرنا العربي المعاصر. تلك حداثتها التي لم تتكرر.
أما نازك المرأة الشاعرة فقد رحلت عن الحياة الثقافية قبل رحيل جسدها، وكانت تضيء في عزلتها «المقهورة» وليست «القاهرية» التي إختارتها ملجأً صامتاً حتى الشهادة:
«أين أمشي؟ مَلَلْتُ الدروب،
العدوّ الخفيّ اللجوج
لم يزل يقتفي خطواتي، فأين الهروب؟»
لعلها اليوم وجدت طريق الخلاص.
الكلمات بين قويسات هي عناوين دواوينها الشعرية.
***
أجمل السجالات وأرصنها
كانت قد افتتحت أكثر السجالات النقدية جدية في تاريخ الشعر العربي المعاصر. فبعدها، سوف نصادف نادراً سجالات على تلك الدرجة من الجدية والرصانة. فذلك الحوار الساخن، حول تجديد القصيدة العربية، لم يكن يصدر سوى عن رغبة معرفية صادقة لفهم ما كان يحدث على صعيد التحولات الجذرية في الكتابة الشعرية العربية.
وفي كتابها «قضايا الشعر المعاصر» كرست اجتهاداً نقدياً لا يمكن، في النقاش الرصين تفاديه، ولعل في المعارضات (التقنية) التي ميزت اجتهاد كتابها دليل على أن للرأي المحافظ، آنذاك، الرصيد الكافي لاحترام شرط الحوار الثقافي الذي يغري بالسجال.
ساعتها، والحماسة النقدية على أشدها، نشأنا على مثل ذلك النقاش البالغ التنوع، في الاختلاف والشغف بالاكتشاف. وأخذنا درس نازك النقدي مأخذ الجد فعلاً. وعلى رغم حمأة الانحيازات الأيدلوجية التي عملت على تجيير بعض تلك الاجتهادات، إلا أنني استفدت من مسافتي الجغرافية لكي أبتكر مسافة نقدية تساعدني على الإصغاء لمختلف تلك الاجتهادات، وربما شغف جيلي بالتجديد لمس في منافحة نازك الملائكة عن (شعريتها) شكلاً رومانسياً تقتضي الحكمة عدم التفريط به.
وأذكر أنني فيما كنت اقرأ فصول كتابها، أبتكر محاولاتي النقدية متوهماً أنني أستعد لصياغة شخصيتي النقدية على شاكلتها، ظناً بأن قدر الشاعر المعاصر هو أن يكون ناقداً أيضاً، لكي ينافح عن ما يكتبه وما يؤمن به من شعر.
ونحن نودع واحدة من أهم التجارب النقدية التي رافقت خطوات التحولات الشعرية المعاصرة في الثقافة العربية، لعلنا نجد الفسحة اللازمة للتوقف وتأمل كم نحن بحاجة ماسة لضرب من السجال النقدي والثقافي الراقي برصانته ومستواه المعرفي. ونحن في هذا المناخ الذي يتفسخ على غير صعيد، من دون أن نستثني الأخلاق الثقافية.
****
وجه تاريخي
نازك الملائكة وجه تاريخي من وجوه الشعر العربي، وإبداع سوف تظل قيمته ثابتة على الأيام، ونازك الملائكة لم تكن مجرد شاعرة ولم ترض بالمكان المقدر للشاعرة العربية، وهو في الغالب ليس المكان الأول.
وجهود نازك الملائكة في الحركة الشعرية العربية جهود فعالة مؤثرة في سلم الشاعرية، ونستطيع أن نقول إنها مغيرة، وحتى زميلاتها المعاصرات على أهمية بعضهن لم يبلغن شأوها لا في الشعر ولا في التفكير للشعر ولا في نقد الشعر.
وفي السنوات الماضية توقفت جهودها وللأسف أيضاً أصبحت الحياة الأدبية العربية تسيطر عليها قوانين التجارة والذي يملك الأدوات التي يفرض بها نفسه هو الآن في المقدمة، أما الذين يكتفون بعملهم ويلوذون بالإنتاج وينأون بأنفسهم عن المضاربات تنساهم الحياة الأدبية التي أصبحت غير عادلة وغير وفية وفاقدة للذاكرة، ونازك الملائكة انقطعت عن الظهور والإنتاج منذ أكثر من 20 سنة.
وفي مؤتمر الشعر الذي عقدناه في مصر في شباط (فبراير) الماضي اقترحت أن تعطى الجائزة لنازك الملائكة لكن الاتجاهات الأخرى تغلبت، ولو كانت الجائزة ذهبت إليها لكان هذا مكافأة بسيطة واعتراف بدورها وعملها لكن أنا متأكد أن الأيام المقبلة ستنصف نازك الملائكة.
*****
شاعرة تقيم في اللغة
ترحل نازك الملائكة رحلتها الأخيرة كي تقيم في اللغة. إشارة أخرى الى أن قومها العرب الذين أحبتهم، ودافعت عن تراثهم، لا مكان لهم إلا في اللغة. كانت ترثي لبعضهم وهم الكثرة الكاثرة، لإصرارهم على تحويل اللغة الى دبابات وطائرات وألغام وقنابل. الى قبائل من الحديد حيناً، ومن الورق المقوى، حيناً آخر. وكانت تتعاطف وتتضامن مع بعضهم، القلة القليلة، الذين كانوا يحوّلون اللغة الى توهّم، عارفة انه ليست لتلك الكثرة الكاثرة غير الكارثة وغير الدم والانقاض. كانت تعرف كذلك أن التاريخ يفتح في أحضانه لأولئك القلة زاوية، ولو صغيرة وهامشية.
نازك الملائكة تدخل الآن الى هذه الزاوية الى جانب الراحلين السابقين. تدخل، تاركة وراءها المشهد العربي نعشاً يتحرك من المحيط الى الخليج، تحت قُبّة هائلة من الغُبار هي ديار الاسلام: نعشاً راقصاً.
وقد أمضت نازك الملائكة سنواتها الأخيرة منزوية، تكاد أن تُطبّق أجفانها لكي لا ترى هذا النعش – المشهد، فيما كانت توغل، شعرياً، في توهم يكسر الجسد الذي يربطها بهذا الواقع. هذا الإيغال هو أجمل ما في شعرها، وهو الأبقى.
عرفت نازك الملائكة في بيروت. وكانت بيننا خلافات، لكنها كانت عالية، وبقيت عالية في سماء الأخوة الشعرية. لقد فجعتها وخانتها قضايا السياسة. غير أنها، هي، لم تخن نفسها، ولم تخن قضية الشعر.
****
المالكي دعا الى نقل الجثمان الى بغداد لكنها دفنت في القاهرة بحسب وصيتها
شيعت القاهرة ظهر أمس الشاعرة العراقية نازك الملائكة من مسجد الأميرة عين الحياة المعروف شعبياً باسم جامع الشيخ كشك في القاهرة، وتقدم المشيعين الكاتب فخري كريم ممثلاً رئيس الجمهورية العراقية، وكان في مقدم المشيعين مثقفون مصريون كثيرون من مثل رئيس المركز القومي للترجمة الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة جابر عصفور والأمين العام الحالي للمجلس نفسه علي أبو شادي والشاعر حلمي سالم وسواهم. وتوجه موكب الجنازة عقب الصلاة على الجثمان إلى مقبرة الأسرة في مدينة 6 أكتوبر جنوب غربي القاهرة حيث دفنت الملائكة إلى جوار زوجها الراحل الدكتور عبد الهادي محبوبة بناء على وصيتها.
وقال الكاتب والباحث العراقي صادق الطائي ل «الحياة» إن قنصل العراق في القاهرة نزار مرجان أبلغ أسرة الملائكة أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أبدى الاستعداد لنقل جثمان نازك الملائكة إلى العراق لتدفن في وطنها، إلا أن نجلها البراق عبد الهادي أكد له أن لا بد من تنفيذ وصية والدته. وكشف الطائي أن الملائكة نقلت مساء أول من أمس إلى مستشفى قريب من شقتها في ضاحية حدائق القبة شرق القاهرة بعد إصابتها بأزمة تنفسية، لكن المنية وافتها بعد نصف ساعة من نقلها إلى المستشفى، وجاء في التقرير الطبي أن الوفاة نجمت عن هبوط مفاجئ في الدورة الدموية.
ونقلت فضائية «العراقية» الرسمية مراسم التشييع والدفن على الهواء مباشرة، وقررت العائلة إقامة مجلس للعزاء في قاعة «العلم والإيمان» في شارع مصر والسودان القريب من منزل الراحلة مساء غد السبت. وكانت الملائكة وزوجها غادرا العراق إلى الاردن في 1995 لأسباب صحية، مشيراً إلى أن ظروف الحصار حالت دون تلقيهما العلاج اللازم من أمراض ترتبط عادة بالتقدم في السن، ثم توجها إلى مصر في 1998 وفي العام 2000 غيب الموت عبد الهادي محبوبة عن عمر يناهز الخامسة والثمانين.
وخلال تشييع الجنازة قال الدكتور جابر عصفور: «إن نازك الملائكة هي أول شاعرة تساهم في تأسيس القصيدة العربية الحديثة وتدافع عنها نظرياً وجمالياً. فقدنا شاعرة لا وجود لأمثالها الآن في العالم العربي ويصعب أن توجد شاعرة تعوض مكانتها في القريب المنظور. كانت نازك الملائكة من أصدق وأنبل الأصوات الشعرية منذ العصر الجاهلي وإلى الآن».
*****
رائدة الحوار مع الذات والعالم
طوت نازك الملائكة بصمتها صفحة من صفحات الأدب العربي، حيث بدت المرأة أكبر من مشروع لتدوين العواطف والمظالم. وكان ظهورها في أربعينات القرن المنصرم وفي العراق على وجه التحديد، ثمار النهضة التي أضحت دانية القطوف بعد أزيد من ثلاثة عقود تغيرت فيها القيم والعادات والأفكار، وقادت فيها الطبقة الوسطى المجتمع في محاوره الحساسة: السلطة والثقافة.
كان وقتها وقت الشعر في العالم العربي، ولذا غدت نازك شاعرة، ولو قيض لها ان تعيش في عصر آخر لما كتبت الشعر، ولخاضت غمار الأفكار التي جادلت فيها على غير صعيد. كانت القصيدة بالنسبة لنازك ذريعة للحوار مع الذات والآخرين، فهي بنزوعها الفرداني وحبها للجدل العقلي، وقفت في عالم تشكك فيه بقواعد اللعبة الشعرية إن لم ترتبط بفكرة المعاصرة، فهي لا تقر بالموهبة وسيلة وحيدة لنجاح الشاعر، بل ترى في قدرة الشاعر على فهم عصره أساس انبثاق الحداثة. تكتب الملائكة حول شعر ايليا أبي ماضي معرّفة التجديد: «الشاعر المجدد هو ذلك الذي يقدم في شعره وجهة نظر جديدة، تحدد علاقات لم تؤلف سابقاً بين القصيدة والشاعر من جهة، والقصيدة والعصر كله من جهة أخرى».
تولت نازك الدفاع عن الشعر الحر من منطلقات علاقتها الوثيقة بالتراث واللغة العربية حيث لم يضارعها زملاؤها من الرواد، كما أضافت دراستها في أميركا على عدد من نقاد الحداثة، تطوير ثقافتها في المجالين، وكان مشروعها يقوم على فحص النتاج الشعري والبحث عن قاعدة أساسية ومنطقية لتشكله. وبصرف النظر عن نتائج البحوث التي كتبتها والتي اتسمت بعضها بالتشبث بالأصول العروضية على نحو صارم، غير انها من جهة أخرى حاولت فيما لم يحاوله غيرها من نزوع الى غربلة وقراءة مكون القصيدة الحديثة بنية لغوية وموسيقية.
عمر نازك الأدبي أقصر من حياتها التي أورثتها حساسية مفرطة إزاء المحيط وأدت بها الى مرضها النفسي في وقت مبكر، فنازك التي نشأت لعائلة مثقفين، ساعدتها العائلة على ان تمتلك صوتها الخاص حيث الابتكار يعني طريقة جديدة في التفكير. ونازك التي تعلّمت العود والتمثيل في بداية الأربعينات عندما كانت طالبة في دار المعلمين العالية، كانت تطمح الى دورة حيوات أكبر من عمر امرأة، ولكن الجانب المحافظ في تلك العائلة خلّف لها رهاباً من العالم، والمزيد من الانكفاء على الذات. ولعل في سيرة نازك الملائكة ما يذكرنا بمصير الكثير من المبدعات اللواتي تواشج إبداعهن مع مرض الاكتئاب ورفض الحياة.
كتبت نازك النقد وحاضرت في الشأن الفكري والسياسي وقضايا النساء، ولكنها أيضاً كتبت القصة، ومجموعتها القصصية سيرة متخيلة لحياتها، تلك السيرة التي تشف عن منزع صوفي وأرواحية عالية، فهي تتواصل مع الأشياء والنباتات وحتى الشخصيات التاريخية عابرة حلم اليقظة الى عالم يجعل الواقع ظلاً له، وسنرى هذا ينعكس في خيارات ترجمتها للشعراء الذين كان بينهم جون دن شاعر الميتافيزيقيا الأقدم. وفي واحدة من قصصها تتحدث عن بيتهم «هذا البيت الكبير المتمادي في القدم، بزواياه المظلمة، وأقبائه وأواوينه. هذا البيت الذي يزرع الكآبة في نفسها دون أن تشخّص مبعثها». كتبت حياة شرارة الأديبة العراقية التي انتحرت، سيرة نازك، وكانت لها فرصة التحاور معها حيث تحدثت عن هذا البيت الذي حملته نازك في أعماقها قلقاً مقيماً تجهل سره.
كان المثل الأعلى يسكنها وبحثها عن الكمال يقض مضجعها، لذا اختصرت التواريخ كلها في رحلتها الى المستقبل، فتاهت عند مفترق طريقها، ولكنها خلّفت أثراً لن تمحوه ذاكرة الزمن.
****
بين نازك وجميلة بوحيرد
لا أعرف لماذا أجد شبهاً كبيراً بين الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة والمناضلة الكبيرة جميلة بوحيرد... فلو سألت قبل يومين واحداً من شعراء الجيل الجديد عن نازك الملائكة لأجابك «كانت رحمها الله...» من دون أن يعلم أنها على قيد الحياة إلى بداية صيف 2007 لأنها تنتمي لجيل الرواد الذين غادرنا كثير منهم قبل أربعين أو خمسين عاماً... فنازك ظلت حية ميتة بيننا... إنما صمتها عزز الظن بأنها لم تكن من هذا العالم... وهي الشاهدة على انهيار العراق وعلى حروبه الكثيرة... وهي الشاهدة أيضاً على فتنة الشعر العربي في زمن العولمة والبحث عن ذائقة جديدة...
وأما جميلة بوحيرد، فهي المرأة التي هزأت بجلاديها وخلدها السياب وقباني وعبدالصبور وحجازي في أشعارهم... واعتقد الشارع العربي الذي تفاعل مع الثورة الجزائرية وانتصارها أن جميلة واحدة من شهيدات هذه الثورة فأطلقت اسمها على شوارع عدة في عواصم عربية... في حين أن جميلة لا تزال حية ترزق بأناقتها وجمالها وكبرياء المرأة المنتصرة التي آثرت الصمت حتى تحتفظ بذلك الرصيد الثوري الذي أسكنها قلوب الملايين...
نازك وجميلة، هما امرأتان من طينة مختلفة تماماً، وكتب عليهن أن يلتزمن الصمت المقدس حتى يحتفظن بذلك التوهج الآسر والحب الكبير في وجدان الناس. كل الناس.
إن رحيل نازك الملائكة، المرأة التي سبقت عصرها برؤية المبدع المتجاوز للغة والزمن والتلقي، فاجتازت بوعي كبير حواجز النمطية للخوض في عملية تجريب عميقة على مستوى النص الشعري العربي الذي وصل مرحلة إشباع في الذائقة، وصار في حاجة إلى منافذ أخرى ومتنفسات على مستوى الإيقاع والبناء الفني... فظهرت نصوصها التي هيجت دعاة المحافظة على ما ترك الأولون (...) فنجحت المرأة الجريئة في إثارة حفيظة الرجال المنعمين بالركود القاتل... وفتحت مع أولئك الذين أدركوا الحاجة إلى التغيير والابتداع الواعي، وحققت النقلة الإبداعية المستمرة، ومنحت للشعراء فسحة أخرى لكتابة نص مختلف، لا يلغي ما كان قبلة، ولا يتفرد عما سيأتي بعده، بل هو إضافة نوعية ولمسة فنية متألقة، كانت اللغة والشعر العربيان في حاجة ماسة إليها في فترة بروز الرواية وبلوغ الشعر الكلاسيكي منتهاه. رحم الله نازك الشاعرة التي رحلت في هذا الزمن المر جداً.
****
نار القصيدة
أخيراً ماتت نازك الملائكة. نكاد لا نصدق لكثرة ما أشيع عنها في السنوات العشر الأخيرة من حياتها المديدة من شائعات المرض والموت. حسناً! لقد ماتت أخيراً كما ينبغي لكل انسان. فلتكن مشمولة بما يليق ب «عاشقة الليل» وصاحبة «أنشودة الموت والحياة» من مقام.
يبقى من نازك شعرها وأثرها الابداعي والنظري في تحديث القصيدة العربية، فقد بدأ اسمها يلمع بقوة مع جيل الريادة الأولى من الحداثة الشعرية في العراق، مع السيّاب والبياتي وبلند الحيدري. زاملتها يومذاك شاعرات من مثل: فدوى طوقان وسلمى الخضراء الجيوسي. لكن اسمها كان الأهم، حتى بين الرياديين الذكور. وسبب ذلك يعود الى مجموعة قصائد حديثة كتبتها نازك من بينها قصيدة «الكوليرا» و «قصائد الألم». كتبت ثلاثة أناشيد للألم وخمس قصائد للألم. تميزت هذه القصائد بالتجديد الإيقاعي والبنائي للقصيدة الكلاسيكية، وبالنبض الانساني العميق، وملامسة الألم الذي كان يصهر هذه القصائد بنار حامية حتى لكأنها كانت تكتب في حال الغليان. أردفت الشاعرة هذه التجربة الإبداعية التجديدية بكتاب نظري مبكر حول الشعر الحرّ وهو كتاب عميق وريادي ومثقف وأخذت يومذاك ما تستحق من صدى.
ولكن فجأة وإثر عوامل يرجّح انها تربوية وبيئية اجتماعية عاد فغلب عليها التقليد وانحصرت شجاعتها الإبداعية، بل لعلها ارتدّت دفعة واحدة ضد الحداثة وضد نفسها أولاً، بما يشبه التبكيت الذاتي. دخلت في ما يشبه تجاهل النقد الحديث لها ولتجربتها اللاحقة ودخلت أيضاً حياتياً في هامش معتم من النسيان.
****
كاسرة الجمود والمألوف
الراحلة نازك الملائكة قامة إبداعية كبيرة، أحدثت حركة تحول فى مسيرة الشعر العربي. وإذا كانت الثقافة العربية قد فرضت على نفسها وألزمت الشعر العربي بأن يرتهن لقيود عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي، فإن نازك الملائكة هي التي أعتقت الشعر من جموده الإيقاعي، وفتحت له آفاقاً رحبة وجدنا معها الشعر العربي ينطلق إلى فضاءات إبداعية أكبر.
إن نازك الملائكه كانت على وعي بما كتبت وما قدمت من تجديد، وإذا كانت بداية الشعر الحر تتنازعها أسماء كثيرة، فإن الريادة من دون ريب لنازك لأنها قدمت مشروعاً تنظيرياً متكاملاً، وهي التي حطمت هذا السور التقليدي، لينطلق بعدها المبدعون والمبدعات إلى تجارب شعرية ثرية ومتنوعة.
وإذا كان الشعر مذكراً والإيقاع مذكراً، فإن أنثوية نازك الملائكة هي التي نجحت في تحويل مساره الإبداعي.
إذا كانت نازك الملائكة رحلت عن دنيانا، فإنها ستبقى خالدة في ثقافتنا وفى أذهاننا، وستظل رمزاً لكسر الجمود واختراق المألوف لدى جميع الأجيال القادمة.
***
حارسة القصيدة الحرّة
نازك الملائكة عاشقة الليل وشاعرة الأجيال ومخططة مسار القصيدة الحديثة من القرن الماضي، بدءاً من قصيدتها «الكوليرا» 1947 ومقدمة ديوانها «شظايا ورماد» و «قرارة الوجه».
كانت الشاعرة الراحلة تمثل الخط الأول للدفاع عن الشعر الحر، إذ جعلته قضيتها فقد كتبت الدراسات والمقالات الكثيرة منظرة ومدافعة عن التوجه الجديد للشعر العربي في الخمسينات من القرن الماضي، فكانت تمثل المرأة العاكسة للحدث الشعري الذي مثل منعطفاً مهماً في الفن الشعري، عندما كونت الكثير من المعلومات عن الشعر الجديد ورصدتها ووثقتها في كتابها الشهير «قضايا الشعر المعاصر»، الذي كان النواة الأولى في الدراسات حول الشعر الجديد «الحر» من الناحية الفنية والرؤيوية، وجسدت فيه ما يشبه العرف الذي ساد عند الشعراء والناقدين مدة طويلة.
فقد رجع وما زال يرجع إلى كتابها هذا عدد من الباحثين والناقدين من الدارسين للشعر الجديد، والى اليوم تذكر نازك الملائكة في كل وربما معظم الدراسات عن الشعر العربي في تقنياته الجديدة وتوجيهاته الحديثة.
قادت الشاعرة العراقية نازك في شعرها حملات تنويرية حول الشعر الجديد وفتحت بابا للدراسات التي توالت وما زالت عن التحولات الحديثة في الشعر العربي، وهى دراسة واعية تملك ثقافة عريضة مصممة بالمعارف كما تدل على ذلك مؤلفاتها عن الشعر والحياة مع دواوينها الشعرية، التي كانت مواكبة للمتطلبات الحياتية لشاعرة مهمومة بالحياة والناس.
غابت الملائكة ولكنها تركت الكثير من الإعمال المهمة في الشأن الثقافي والإبداعي، ومهما كانت المحاولات لطمس منجزاتها التي تركزت على تطوير الشعر العربي، فإنها بإعمالها بقيت وستبقى متجددة على مر الزمن وهكذا شأن المبدع الصادق.
الحياة يونيو 2007
************************
رحيل الشاعرة العراقية نازك الملائكة
(1923 - 2007)
أضاءت كالنيزك في فضاء الريادة الشعرية الواسع
ثم اختارت أن تنتظر كل شيء في الظلال الرطبة
بيروت القسم الثقافي / عمان موسى برهومة
نازك الملائكة رحلت، محزونة، خائبة، معدمة، مريضة، وحيدة في منفاها في القاهرة، وكأن مصير المثقفين العراقيين والكتاب والفنانين أن يموتوا في منافيهم الكثيرة. رائدة الشعر العربي الحديث، مؤسسة ثورة الشعر الحر، عن 84 عاماً (مواليد 1923)، مخلّفة وراءها إرثاً لم يكن يوماً سوى ما نضح به قلبها وعقلها وشعريتها، وما نبع من حالاتها واعتمالاتها وقلقها، وحضورها كإمرأة، تحمل ما تحمل من هواجس المراحل، ومن تفتحات القيم الجديدة، ومن إلزامات الموروث، ومن الخروج على "طاعة" الأمر الواقع. إنها امرأة افتتحت الريادة الشعرية، بكل "عفوية"، عفوية "الخروج" أو "التمرد" أو "الجنون" لكنها بهدوء امرأة تربت على الصمت، والهامشية، والكتاب، والشعر، وهذا ما ترك أثره على امتداد حياتها. لم تألف الضجيج الإعلامي، ولم تحترف أسلوب "العصابات" والمافيات، والأخوانيات، ولا طقوس التزلف، ولا مراتب الأنظمة والأحزاب والقبائل والطوائف. سجلت ريادتها وحدها هكذا، كما فتح نافذته وأطلق منها طيراً فريداً... ولهذا، بقيت، باختيارها، على الهامش... حتى النسيان، وفي العزلة حتى التجاهل، وفي الانفراد حتى حاول كثيرون من ممتهني "سرقة" أدوار الآخرين أن يصادروا دورها وريادتها ونفاذها الى معظم الشعراء الذي كتبوا بعد قصيدتها الأم في الريادة "الكوليرا" (1947). إنها رفيقة السيّاب، وشقيقته في "الاجتراح" لكنها تداركت، وكأنها تبغي تراجعاً عما أنجزته في قصيدة التفعيلة تعود الى العمودي المشطر، بل وكأنها "ثارت" واستكانت، أو فلنقل عادت الى شيء من الواقع الأليف. لكن مع هذا لم يكن في شعرها العمودي الذي ابتدأت به عام 1945، والذي صاغته بعد ثورتها، من مألوف نمطي. كأنها أكملت خروجها على الموزون التاريخي، بدخولها إليه، لتحاول جعله حيّزاً حياً يمكن أن يختزن ما يعتمل به الداخل، أو القلق.
في هذه المناسبة، شهادات من كتاب وشعراء وشيء من شعرها ويومياتها.
***
بدأت قصيدتها باسمها
نازك الملائكة تركيبة لغوية وشعرية إنسانية فريدة. من اسمها نبدأ، فنازك يوحي بالأناقة والرقة والأنوثة واللباقة. والملائكة توحي بما توحي به من خيال وطهارة ونبل وقدرة على رؤية العالم.
بدأت قصيدتها باسمها. ومع مرور الزمن أثبتت جدارة هذا التناسق بين الاسم والفكر والجسد والروح والقصيدة.
نازك من أسماء التجديد العالية في الشعر العربي الحديث. وكلنا يذكر معركتها حول دورها في الريادة مع بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي.
وبغض النظر عن الروزنامة، تبقى نازك من الإشراقات الأولى في تحديث الشعر العربي. ويظل دورها كشاعرة وامرأة وإنسانة عراقية عربية جميلاً ومتداخلاً بحيث يغدو رحيلها محزناً بكل المقاييس.
وما يدهش أن الأرض العراقية تبدو أرضاً صالحة لنمو الشعر. فبعد نازك الملائكة والبياتي والسياب والعملاق محمد مهدي الجواهري ما زالت الأرض العراقية والعذاب العراقي والدم العراقي يقدم جدارته الأصيلة في الإبداع الشعري، ففي العراق أصوات جديدة جديرة بكل انتباه.
ولا يبقى لنا إلا أن نطلب لأختنا وحبيبتنا نازك الملائكة غفران الله ورضوانه، فكل نفس ذائقة الموت حتى أنفس الشعراء.
***
ثارت قبل ستين عاماً
ذات يوم وضعت اللبنة الأولى في مبنى حداثتنا الشعرية، ذات يوم كانت الأم، وسواء واصلت الانجاب أو توقفت فإنها تبقى أمّاً، وإلا فالأمر يدعو للحزن والأسى، إذا ما اعتبرنا الأم، أي أم، ليست أماً، لمجرد أنها كفّت عن الإنجاب.
لعل نازك الملائكة لم تلدنا مباشرة نحن الذين جئنا بعد ربع قرن من بدء مسيرتها، لكنها بالتأكيد ولدت كثيرين قبلنا، وكان لهم الحضور اللافت في مسيرة أرواحنا.
المحزن في كل هذا، هو دورة الحياة، ورياح الموت التي لا تبقي ولا تذر، فكلما ودّعنا أحداً من هؤلاء الكبار، اقتربنا أكثر من تلك اللحظة التي لن نستطيع فيها أن نلوّح لأنفسنا في وداعنا الخاص.
ستعيش نازك الملائكة بقوة الريادة، لأن الريادة تحمل في جوهرها قيمة الشجاعة وكسر الساكن وتذرية الغبار المتراكم على إيقاع القلب وشفافية الروح.
لقد فعلت الكثير حين ثارت قبل ستين عاماً، ولم تكتب قصيدتها فقط، بل كتبت القصائد التي كُتبت بعدها، والتي ستُكتب.
****
أهميتها مرتبطة بسياق تاريخي
تعود أهمية نازك الملائكة إلى السياق التاريخي الذي شهد تجربتها الشعرية إلى جانب بدر شاكر السياب. وكان قد سبقهما زمانياً الشاعر السوري نزار قباني الذي بدأ حداثته الشعرية في بداية اربعينيات القرن الماضي.
وواقع الأمر أن الملائكة لم تدشن أو تؤسس لمرحلة شعرية جديدة ولم تلعب، لاحقاً، دوراً مميزاً في تطوير الحداثة الشعرية. فهذه الحداثة سبقت بزمن طويل قصيدتها "كوليرا" التي أثارت لغطاً طويلاً بعد نشرها وأدخلها في سجال مع السياب وغيره، ذلك أن الحداثة الشعرية العربية جاءت معها جماعة "أبولو" وخليل مطران والشعر المهجري اللبناني، إضافة إلى ملاحظات لامعة لأمين الريحاني.
بهذا المعنى فإن الحداثة لم تنتظر الإبداع الشعري لنازك الملائكة، إضافة إلى أن تطور هذه الحداثة تم لاحقاً بمعزل كلي عن الشاعرة الراحلة من خلال أسماء كثيرة اندرج فيها أدونيس وخليل حاوي ومجلة شعر.
ولعل ما سبق نازك بالمعنى الشعري وما جاء بعدها بالمعنى الشعري أيضا يجعل أهميتها مرتبطة بسياق تاريخي محدد من دون أن يجعل من مساهمتها عنصراً دالاً وأساسياً في تطوير الحداثة الشعرية العربية.
وفي الحالات جميعاً، فإن دور الراحلة الكبيرة لا يُرى إلا إلى جانب مجموعة كبيرة من الأسماء ضمت السياب والبياتي وانطلقت أولاً من سياق عربي جديد أسقط بعد العام 1948 الرومانتيكية العربية المفروضة وفرض أسئلة جديدة على الكتابة الشعرية.
***
جذبتني طيبتها وبساطتها
سبق أن استضفت الشاعرة الراحلة نازك الملائكة في عمّان للعلاج عندما كنت رئيساً لاتحاد الكتاب والأدباء العرب. وعملنا من أجل أن تتلقى العلاج على نفقة الديوان الملكي الهاشمي الذي بادر رئيسه آنذاك الدكتور والناقد المثقف خالد الكركي إلى بذل جهد محمود في هذا السياق.
ومن خلال هذه الحادثة تلمست الجانب الإنساني في شخصية الملائكة، وجذبني فيها طيبتها وودها وبساطتها. لقد كانت مبدعة في الكتابة وفي صمتها الإنساني العميق.
***
ممثلة حقبة لمناخ رومانتيكي
كانت نازك ممثلة حقبة لمناخ رومانتيكي كان سائدا في العراق ذلك الوقت لدى الطبقة الوسطى. وهذا تمثل في ديوانها الأول "عاشقة الليل" الذي نشر في العام 1947، لكنها سرعان ما أدركت ان وجودها داخل العراق مرتبط بتحول عميق في المجتمع العربي، فتعلقت بنوع من الإنكار المطلق لتراث يحض على القبول والارتهان.
وهكذا ظهر ديوانها "شظايا ورماد" الذي صدر في العام 1949، وقد ارتبطت منذ ذلك الوقت بموجة الشعر الحر وهي موجة انخرط فيها عدد من الشعراء الذين أرادوا مراجعة نظام الشعر العربي الذي مر عليه سقف زماني عمره ألفا عام.
بكلام آخر أرادت هذه الشابة من عائلة الملائكة، أعرق الأسر البغدادية، أن تجعل من هذا الإنكار المطلق نوعاً من قبول شكل من التهديم المتحفظ لواحدة من أقدس أقداس الأمة.
لا أحب شعرها
أهمية نازك الملائكة تكمن في ريادتها التاريخية. أما على الصعيد الشعري فلست من المؤمنين بها. ربما هذا تقصير مني، لكنني لا أحب شعرها رغم إقراري باهميتها كشاعرة. لذا أراني أشعر بالأسى لرحيل هذه الرائدة الكبيرة.
***
كلاسيكية في ثياب المجددين
مع أن ما يقوله مؤرخو الشعر العربي المعاصر في ما يتعلق بريادة نازك الملائكة لقصيدة التفعيلة يغمط حق زملائها مثل السياب والبياتي وبلند الحيدري، إلا أن المتعارف عليه الآن والذي يصعب محوه من الذاكرة النقدية العربية هو أنها كانت أول من كتب قصيدة تفعيلة. وقد جعلها هذا السبق المؤرخ له تفتح باب الشعر العربي على رياح التغيير في التعبير الشعري العربي بصورة عامة.
كما أن هذا التحوّل وضعها في مواجهة الشعراء العرب المجايلين لها والداعين إلى حرية القصيدة المعاصرة في اتخاذ الشكل الذي ترتأيه بغض النظر عن مسافة ابتعاد هذه القصيدة أو اقترابها من الموروث الشعري العربي.
وفي كتابها "قضايا الشعر العربي المعاصر" فتحت النار على هؤلاء المجددين الذين أخذوا القصيدة العربية إلى آفاق أبعد من تلك التي أرادتها نازك الملائكة.
ولهذا نظر النقد العربي في النصف الثاني من القرن العشرين إلى ما حققته نازك الملائكة سواء في شعرها أو في تنظيرها بعين الريبة، فهي من وجهة النظر هذه كانت كلاسيكية في ثياب المجددين، خصوصا أنها في ما تلا قصيدة "كوليرا" من ديوانها "عاشقة الليل" نكصت عن الروح المجددة لشعرها في ذلك الديوان. ولهذا هوجمت نازك كثيرا من قبل شعراء مجلة "شعر" على التخصيص، لكنها تظل من وجهة نظري من بين المجددين لروح الشعر العربي، وأجرها تحقق في فتحها آفاق الشعر العربي على رياح التغيير الإيقاعي على الأقل.
***
كبرياء الموهبة
كأن الموت فاتحة النسيان. من زمان لم ينتبه أحد الى نازك الملائكة وهي تعاني غيابها البطيء ونسيانها القاهر. إحدى القامات التي فكفكت البيت الشعري وأعادته الى أوالياته، وأعين التفعيلة. ثمة موازنة بينها وبين بدر شاكر السياب. يقال بأنها الأولى ويقال بأنه الأول. إلا أنهما معاً يشكلان ذلك الملمح الحديث لكتابة الشعر العربي. وتلفت نازك الملائكة بأنها كانت ناقدة بالمعنى الريادي للكلمة. فهي من الذين أضاؤوا فسحتهم شخصياً وأضاؤوا على إنتاج الآخرين. كأنها أم ولودة وكأننا في غيابها نخسر أحد الشهود الكبار على سياق القصيدة العربية الحديثة. لا أشعر بحزن بقدر ما أشعر بكبرياء الموهبة الباقية.
***
ذَوَتْ قبل أن تنطفئ
ذوى نجم نازك الملائكة قبل أن ينطفئ. حتى أن أحد النقاد (لندن) نعاها قبل أن تموت. وهي سلكت، في كتابات عديدين، سبيل التقويم "النهائي" قبل أن تنقطع عن الكتابة، وإن أقام أحد النقاد (السعودية) حملة لإحياء "ريادتها" (التي انتقص من قيمتها الخطاب "الذكوري") من دون أن يكون لحملته صدى مديد.
لعل اجتماعها بالسياب أضر بها، بعد أن غاب السياب مبكراً واحتل لهذا السبب وغيره سريعاً مكانة "الرائد". وما زاد الظلم اللاحق بها هو أنها طلبت "التقعيد" لتجربة شعرية كانت تنبني في ممارسة كتابية يتضح فيها التفلت أكثر من البناء، التجريب أكثر من التنميط.
لهذا بدت الملائكة لغيرها "قاضية" محافظة أكثر منها "ملعونة"، إذا جازت التسمية والتشبيه.
كما إن تجربة "الشعر الحر" بدت معها "ظاهرة عروضية محدثة"، فيما كانت الممارسة الشعرية لغيرها تتفنن في تمرينات وانبناءات مخالفة. هكذا قال أدونيس في "الكوليرا": "إن أي شخص يُعنى عميقاً بالشعر أو يمتلك خبرة في التذوّق والنقد، لا يسقط هذا النص من إطار الشعر الحديث وحسب، وإنما يسقطه أيضاً من إطار الشعر".
سقطت "ريادة" الملائكة لهذا الشعر الجديد، منذ بداياتها، حتى أن ريادة السياب بالمعنى العروضي "المحدث" سقطت هي الأخرى، بعد القيام بتحقيقات ميدانية عديدة في عدد من البلدان العربية الأخرى أثبتت بروز التنويع العروضي الجديد عند شعراء عديدين، مثل باكثير وعوض في مصر أو "جماعة أبولو" في تجريبها ل"مجمع البحور" (أي الجمع بين بحور مختلفة في القصيدة الواحدة)، أو "عرار" الأردني، أو "الشعر المهجري" أو تجارب خليل مطران وغيرهم ممن ظل مجهولاً أو غير معروف إلا في مواقع ضيقة.
إلا أن النقد حفظ لها مكانة أضمن وأوثق، منذ زمن بعيد، ولا سيما في دراساتها التي ضمها كتابها الذائع الصيت، والذي يعتبر من أفضل المساعي في درس الشعر الحر، في عروضه، وعلاقاته التعبيرية مع الشروط الاجتماعية والتاريخية.
لهذا قد يكون من الأنسب البحث في طبيعة هذا التجديد، أو في "أوجهه" المختلفة. ذلك أن النظر النقدي جعل التجديد ظاهرة عروضية مستحدثة ليس إلا، وهو فهم يستدعي عدة تدقيقات. منها النظر إلى مسألة العروض خارج المنظور القالبي الذي حكم نظرات العديدين من النقاد والشعراء إلى التجديدات هذه: فلقد جرى الكلام عن "كسر" العروض، أو عن تنويع القوافي وحسب (وهو ما نسميه بالنظر إلى الشأن القالبي فقط)، من دون النظر إلى مفاعيل هذا التغير العروضي على المستويات المختلفة في كل قصيدة. ذلك أننا وجدنا أن تغير المبنى العروضي وإن بدا عند بعضهم تنويعات وتشطيرات أتاحها الشعر العربي في عهديه، الأندلسي والعثماني غيّر أسساً في الصنيع الشعري، ووجد صيغاً تركيبية ودلالية، منوعة ومختلفة، في السطر الواحد، كما في علاقات الجمل والسطور الشعرية بعضها ببعض. وهي تغييرات أفاد منها الشاعر وجربها، وأتاحها التأليف نفسه (بما أن القصيدة لم تعد "نظماً" لأسباب الشعر كلها في قالب مضغوط، ووفق توظيفية ترشيدية لها، كما هو عليه الحال في القصيدة العمودية).
موعد العام 1947 العروضي تلغيه السوابق التجديدية له والسابقة عليه، ما يدعونا إلى تدبير تأريخي آخر يعيد إلى التجارب العربية المختلفة حظوظها المختلفة في "السبق" التجديدي. هو موعد "ساقط"، إلا انه يدعونا إلى التفكير بعوامل أخرى أدت إلى تجديد الشعر، غير التنويع العروضي، وهي عوامل موجودة قبل 1947، وإن حافظت القصائد فيها على العروض في صيغه القديمة. ذلك أننا عايشنا في مدى واسع من التجارب الشعرية تعايشاً نزاعياً، فيه عوامل تجديد وعوامل محافظة، في أشكال مختلفة في مستويات القصيدة: تمثل التجديد، بداية، في عوامل المعنى قبل أن يبلغ لاحقاً عوامل المبنى (وخاصة العروض)، على ما في التمييز هذا بين نوعي العوامل من تسرع والتباس وتداخل. وليس غريباً في هذا المسار الذي يعود، والحالة هذه، إلى منتصف القرن التاسع عشر، أن لا يتحقق الانفصال التام، أو تجديد مستويات القصيدة كلها، إلا بعد الخروج، ولو المخفف والتنويعي، من العروض أعتى أبواب المحافظة الشعرية وخاتمتها. وعند ذلك تكون العودة إلى الوراء لازمة تاريخية لوضع الحداثة في مدى الحركة التي أوجدتها في إطار "المثاقفة" وفي ضلوع الشعر في تعايش (مختلفة الأوجه، التآلفية والنزاعية) مع مرجعيتين، العربية والأوروبية، وحتى أيامنا هذه.
وهذا يدعونا إلى التعامل مع القصيدة لا على أنها نص منسجم ومتوافق، بل على أنها نص متفاوت وله مرجعيات متعددة، قبل أن تتوافر فيه أو تجتمع مستويات التجديد المختلفة. وقد يكون من الأنسب في هذه الحالة، النظر إلى أوجه التجديد في صورة منفردة أو متفرقة، فنتوقف عند كل وجه على حدة، فلا يغيب عنها، على سبيل المثال، لا حدوث التغيّرات العروضية كلها، ولا دخول القصيدة مضامين جديدة، ولا تجدد سبل الانبناء النحوي والتركيبي.
ذلك أننا لو أقمنا مثل هذه المراجعة، لوجدنا حقيقة المصير "البائس" الذي فاز به الشعر الرومانسي في النقد العربي، إذ جرى التعامل معه بخفة وسرعة، أشبه بلحظة عديمة النفع في تاريخ الشعر بين التقليدية والحداثة، فيما هو بوابة الحداثة الأولى والعريضة، إذا جاز القول.
ويعود ذلك إلى حسابات متأخرة، قوامها النظر إلى الشعر وفق ما انتهى إليه، أي تدبير تاريخ جديد له يجعل مما وصل إليه الشعر في ستينات القرن المنصرم أساس التقويم الشعري. إلى هذا فإن النقد نظر إلى الشعر وفق أساسه العروضي في المقام الأول، وأهمل عداه في مسألة التحقق المتفاوت من بلوغ أو دخول القصيدة في مسارات التجديد المختلفة.
المراجعة لأزمة، إذن، وتدعونا إلى التأكد من وجود "مواعيد" مختلفة للتجديد: مواعيد مختلفة في كل بلد وبين البلدان العربية، ومواعيد مختلفة أو حظوظ متباينة من التجديد في هذا المستوى أو ذاك من مستويات القصيدة: لهذا نقول إن موعد 1947 نفسه، وهو الأقرب الينا، لا يمثل التجديد "الناجز"، على ما نعتقد، خاصة في قصيدة الملائكة الشهيرة، "الكوليرا"، الموضوعة في العام 1947، طالما انه لا يجرب سوى تغيرات عروضية، معروفة وسابقة عليه.
***
عنوان غير مسبوق
نازك الملائكة.. اسم حفره الإبداع والتألق في ذاكرة الأمة ولغتها المعجزة..
لم تكن شاعرة رائدة ومجددة فقط بل كانت استاذة كبيرة تشرفت بدرس لم يكتمل على يديها في جامعة الكويت، كانت مع السياب عنوان مرحلة غير مسبوقة في تاريخ الشعر العربي.. بل الأدب العربي بكامله..
يا الله.. كم كانت مذهلة وعظيمة ورائعة.
نودع برحيلها مرحلة كانت فيها هي الحادي وخلفها كوكبة من الفرسان العظام.
إلى جنّات الخلد.. والعزاء لكل المريدين والشعر والشعراء.
***
أشجع الرائدات
نازك الملائكة كانت من أشجع رائدات التاريخ في القصيدة العربية وقصائدها الأولى "الكوليرا" وقصائد الألم لفتت انتباه الشعراء، حتى ان نزار قباني قال في نقده لثلاث قصائد من الألم المنشورة في الآداب عام 1958 قال إن بين يدينا كنزاً اسمه نازك الملائكة.
عادت نازك فارتدت عن التجديد، على الرغم من انها كتبت كتاباً في النثر الحرّ يعتبر الأول في اللغة العربية.
هذا الارتداء حصدت نتيجته إهمالاً لها من جهة النقد الحديث وثم دخلت في غيبوبة من الحياة الاجتماعية والأدبية حتى اعتبرت أنها ماتت عدة مرات قبل أن تنتهي إلى الموت الحقيقي الأخير.
***
مشروع رؤيوي
اعتقد ان القيمة الفعلية لنازك الملائكة تتمثل في كون الحداثة عندها لم تكن مسألة عارضة أو خاضعة للمصادفة المحضة، إذ ان بعض الشعراء يمكن، عن طريق هذه المصادفة، وبتأثير الانفعال والتوتر، ان يكتبوا بأسلوب مختلف، أو ان يهتدوا إلى شكل مغاير للأشكال السائدة دون وعي منهم لما أنجزوه. ومن الممكن أن يكون هذا الحدث عارضاً في حياتهم. لكن بالنسبة إلى نازك الملائكة هو ان الحداثة عندها كانت مشروعاً رؤيوياً وصادراً عن سابق تصور وتصميم. يؤكد ذلك انها انفردت بين زميليها في الريادة، بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، بإصدارها كتاباً نقدياً لا يزال يشكل حتى اليوم مربعاً أساسياً وهاماً للتعرف إلى مشروع الحداثة وعناصرها الأسلوبية والفنية. النقطة الثانية الهامة هي أنها أسهمت في حروب "الاسترداد" التي مكّنت الأنوثة العربية من تأكيد دورها ومكانتها بالنسبة إلى اللغة المكتوبة. ذلك ان دور شهرزاد في "الف ليلة وليلة" اقتصر على عنصر السرد والمشافهة، في حين ان الذين دونوا الخطابات كانوا من الرجال. إذا كانت الخنساء وولادة بنت المستكفي وقليلات غيرهما قد اسهمن في كسر احتكار الرجل للغة الشعرية، بوجه خاص، فإن ذلك لم يمنع الشعر العربي من ان يكون ذكورياً، وأن يرتبط مفهوم الشعرية بمفهوم الفحولة من دون سواها من الصفات. هكذا جاءت نازك الملائكة لتؤنث الحداثة ولتكسر الحواجز بين الكتابة الذكورية والكتابة الانثوية، مفسحة الطريق لعشرات الشاعرات اللواتي أكملن الطريق من بعدها.
***
قالوا الحياة...
غيّب الموت أمس الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة بعد أن غَيَّبتْها من قبله حاضرتُنا الثقافية والشعرية بالأخص وظلّت في "كرنتينتها" القاهريّة رمزاً للقهر الجسماني والروحي والثقافي...
لا تستحق نازك الملائكة كُلَّ ما عانته وأعرفُ جيداً، عندما أعددتُ المختارات من شعرها لنشرها في "كتاب في جريدة" أنها كانت تكابدُ في جسدها كما في روحها كل أشكال الإقصاء والتهميش بالإضافة إلى التراجيديا العراقية التي تفجّرتْ في السنوات الأخيرة من حياتها، وقد أخبرني زوجها وابنها الكبير الذي سمّتهُ "بُراق" بأنها غير قادرة على الحديث إلى الآخرين وحتى إلى مجرد الالتقاء بهم...
تلك كانت عزلة الشاعرة نازك الملائكة، التي أشعّتْ بنصّها الشعري المتميز منذ منتصف القرن المنصرم وبنظرتها النقدية الثاقبة التي صارت منهجاً في الدراسات الحديثة للشعر وأخيراً بعزلتها حتى الموت.
ها هي اليوم ترفع شاهدةَ قبرها ذراعاً للاحتجاج على الوسط الثقافي الذي لا يُعنى إلاّ بالخيول المعدّة للسبق والمطهّمة بكل أشكال الرعاية المادية والسياسية ولم تكن لهُ حتى إطلالة المتذكّر على واحدة من أهم صروح الشعر العربي المعاصر.
وفي هذا الإطار لا بد من استثناء الرعاية والحفاوة الحقيقية التي قدّمها لها المجلس الأعلى للثقافة في مصر ممثلاً بالدكتور جابر عصفور الذي نشر ديوانها وقدم لها كل أشكال الاحتضان والدعم في أحلك ظروف حياتها.
ومن هنا فقد ماتت نازك مرّتين... إن يوم 20/6/2007 هو الموت الثاني بعد موتها الأول في هامش الحياة الشعرية. لكنه سيكون حالة التجسّد الأعلى لنجمة حقيقية إبتعدت عنّا لتضيء أكثر ولتشعّ أطول.
ماتت نازك التي كانت تقول:
"قالوا الحياة
هي لون عَيْنَي مَيْتِ
هي وقعُ خطو القاتلِ المتلفتِ
أيّامُها المتجعّدات
كالمعطف المسموم ينضحُ بالممات..".
***
في قلبها الحسرات
في القلب حسرات كثيرة، منها حسرة فقدان نازك الملائكة حين العراق غارق في دمائه ودموعه وكذلك فلسطين ولبنان، وقبل حسرة الفقدان، حسرة خاصة حيث أن المرض العضال حرمني متعة حوار الملائكة، التي كانت حاضرة دائماً في معظم حواراتي مع كتاب وشعراء من رفاق دربها ومن الذين لحقوا بها وبهم، لكن الحسرة الكبرى أن نازك الملائكة، وعلى الرغم من تداول إسمها في الوسطين الثقافي والإعلامي بقيت مظلومة على المستوى النقدي لأن الثقافة الذكورية حرمتها أسبقيتها في الريادة، وأهملت إنجازاتها فكأني بها غابت وفي قلبها الحسرات مجتمعة على بلاد لم يعرف رجالها أن يحافظوا عليها لا في النص ولا في السلوك.
تمضي نازك الملائكة الى عالم الملائكة حيث لا أجناس ولا أنواع، لا ذكورة ولا أنوثة بلا عالم من الأثير المطلق الصفاء والنقاء.
***
اللحظة التاريخية
من دون شك، لا نستطيع أن ننسى اللحظة التاريخية التي كتبت فيها نازك الملائكة أولى قصائدها، إذ أنها هذه اللحظة، هي التي تجعل منها اليوم، واحدة من رائدات الشعر العربي الحديث. لكن بعيدا عن ذلك، ما الذي يبقى اليوم من شعر هذه الشاعرة الرائدة، التي توضع في مصاف كبار زمنها؟
اختلف الجميع على اختيار اللحظة الأولى التي انطلقت فيها شرارة الشعر الحر، أكانت هي أم بدر شاكر السياب. بيد أن الجميع يتناسون، أن أمين الريحاني كان من أوائل الذين أشاروا إلى هذه الإشكالية في ديوانه "هُتاف الأودية" الصادر العام 1905، وبخاصة في مقدمته التي كتبها معتمدا فيها على شعر الأميركي والت ويتمان، أي أنه أشار إلى ضرورة التحديث قبل أهل مجلة "شعر"، وقبل أن يقرأوا سوزان برنار وتنظيراتها. من هنا، نجد أن هذا الامتياز التي يسبغ أحيانا على الملائكة، ليس في الواقع إلا هذا النوع من التهويم الذي يراد به تشويه تاريخانية ما، لأسباب لا أحد يعرفها. من هذا المنطلق أيضا، كيف يمكن لنا أن نقرأ جبران وغيره الكثيرين.
في أي حال، ربما كانت أسبقية الملائكة في أنها كانت من أوائل اللواتي أدخلن الرومانسية في الشعر العربي الحديث، لكن هل يكفي ذلك لتحتل كل هذه المكانة التي توضع فيها؟ برأيي الشخصي، أن الكثير من شعر الملائكة سيسقط مع مرور الزمن، هذا إن لم يبدأ، بمعنى، ما تشكل الملائكة حاليا في سجالات الشعر العربي الحديث؟
في أي حال، أن يغيب شاعر، لا بد أن يحزننا قليلا، لكن مع هذا، علينا فعلا أن نسأل عن شعره.
****
هم وجودي
كانت نازك الملائكة ركناً أساسياً في حركة الشعر العربي الحديث عند انطلاقتها. واليوم لا تذكر هذه الانطلاقة إلا ونتذكر نازك الملائكة إلى جانب السياب والبياتي وغيرهما.
بعد تلك الانطلاقة، ابتعدت نازك قليلاً أو كثيراً عن المشهد الشعري ولكنها حافظت دوماً على كونها جزءاً أساسياً من حركة الشعر التي باتت اليوم في حالة من الفوضى والتشتت، ولكنها مفتوحة على مختلف الاحتمالات والآفاق.
يمكننا ان نذكر أيضاً لنازك الملائكة انها ساهمت على نحو ما، في الحركة النقدية العربية الحديثة. فبصرف النظر عن آرائها التي عبّرت عنها في كتابها المعروف (قضايا الشعر المعاصر)، نستطيع القول إن الشعر كان عندها هماً وجودياً دفعها إلى الاضطلاع بقضايا التجديد والحداثة وما يتعلق بهما من تأمل ومراجعة دائمين.
***
جَدّة الشعر الحديث
نازك الملائكة خَسارة للشعر العربي الحديث عموماً، بوصفها رائدة ويمكن اعتبارها "جدّة" الشعر الحديث وإذا أردنا ان ننظر إلى تجربتها بشكل عام فقد ادخلت تجديداً على الشعر من حيث الشكل والمضمون والصورة الشعرية وهي أول من كتب قصيدة التفعيلة وهناك خلاف تاريخي حول قصيدة "الكوليرا" والبعض يقول انها سبقت قصيدة بدر شاكر السيّاب ببضعة أشهر في الكتابة التفعيلية. وهناك ايضاً ملاحظة انها توقفت عن تحديث تجربتها منذ وقت طويل ولكنها بقيت رائدة، وبقيت اسماً لأبرز النساء المجددات ونحن نعرف كونها امرأة مجددة في ذلك الزمن، وهذا وحده كاف لنقول انها وضعت بصمتها على منتصف القرن العشرين.
***
شهادة كبيرة على عصر الظلام
لطالما اقترن اسم الشاعرة الرائدة نازك الملائكة باسم رائد آخر هو بدر شاكر السياب. اقتران بدأ بسجال حول الريادة، وأظن أنه بمرور السنوات، تحول إلى نوع من الشراكة، وانتفى السجال القديم العقيم، ليصبح لكل منهما، كما لغيرهما، حصته ودوره في الشكل الجديد وقتذاك، أي الشعر الحرّ. اسم الملائكة في حدّ ذاته يمنح سامعه انطباعاً تاريخياً، تأسيسياً، كلاسيكياً، بالمعنى الإيجابي للكلمة، ولعلها واحدة من المرات القليلة التي يتحول فيها الشاعر، في حياته وليس بعد موته، اسماً كلاسيكياً، يلخّص، مع آخرين طبعاً، مرحلة واتجاهاً وتياراً شعرياً لعب دوراً أساسياً، في إطلاق الحداثة الشعرية العربية، وما تطورت إليه لاحقاً عبر قصيدة النثر.
أصرت الملائكة على أن تعيش في عزلة كاملة، وكانت تحب العزلة وتمتدحها، وتعتبرها شرطاً إنسانياً أساسياً، بعد أن "أضعت الكثير من السنوات وأنا أحاول أن أكون اجتماعية". وإذ يقرأ المرء اليوم سردها لسيرتها الذاتية، التي حاولت أن تكتبها على شكل قصة، كما على شكل مذكرات، يفاجأ بأن هذه الذاكرة مسكونة دائماً بأمرين اثنين: المكان العراقي، أي بغداد حيث ولدت ونشأت ودرست، والشعر. وقد ظلت مسكونة بهذين العنصرين أو الشغفين، حتى بعد غيابها وابتعادها القسري عن بلدها، وعن ساحة الشعر بالمعنى اليومي والحثيث، مكتفية ربما بعزلتها الليلية التي اشتهرت بها، وبذكريات حميمة عن بدايات ثورتها الشعرية، بين بغداد وبيروت، وربما مكتفية أيضاً بميراث تدرك مدى أهميته، كرائدة تأسيسية، حملت قبل الشكل، في قصيدتها الشهيرة "الكوليرا"، كما في قصائد أخرى كثيرة، نفَساً ونبضاً مختلفين، إلى الشعر العربي المعاصر. أحد الدروس التي يتعلمها الواحد من هذه الشاعرة المجدّدة هو تجربتها في كتابة هذه القصيدة تحديداً، إذ كتبتها أولاً بأسلوب الشطرين التقليدي، فلم تجد الكلمات والصور التي خرجت بها معبرة بما فيه الكفاية عما كان يجيش في نفسها من حزن وألم وغضب وجودي على الموت، وعلى شروط الحياة القاسية على حدّ سواء. فأعادت كتابة القصيدة ثانية، بأسلوب الشطرين أيضاً، لتواجه بخيبة أخرى. وفي نهاية الأمر كتبت أو بالأحرى "فجّرت" القصيدة على الشكل الذي خرجت به، أي الشعر الحرّ، المتفلّت من الأوزان التقليدية، فالشكل جاء إذن تلبية لحاجة تعبيرية ملحّة، ولم يكن مجرد ترف تجريبي أو رغبة بالتحدي المجاني. هكذا، بالنسبة إليّ، كأحد شعراء قصيدة النثر، يمكنني أن أجد في تجربة الملائكة دفاعاً ضرورياً عن تجربة قصيدة النثر التي ظهرت لاحقاً، أيضاً كحاجة ضرورية، للتعبير عن مشاعر وأفكار لم تعد تجد، سواء في القصيدة العمودية أم الحرة، شكلاً كافياً.
تجربة نازك الملائكة برمتها تقول إن الشعر في النهاية، بأشكاله وأنماطه وتياراته، هو ابن الحياة. وإذ يقرأ المرء اليوم أعمالها التي كتب معظمها قبل أربعة عقود على الأقل، فإنه يعثر على آثار السواد الذي يعيشه العراق والمنطقة اليوم، سواد تاريخي مزمن، أمسكت الملائكة بعصبه، وفجرت غضبها منه، فما كان انسحابها إلى عزلة منزلها، قبل الدخول في المرض والموت (وسط لامبالاة كاملة من "الثقافة العربية")، ليغيّب صوتها الجارح، أو شهادتها الشعرية الكبيرة على عصر الظلام الذي لا نزال نعيش فيه.
***
اسم لا ينسى
ربما يكون لقب الملائكة التي حملته نازك يحدّد موقعها في الشعر العربي المعاصر. يكفي أنها من أوائل الطفرة الشعرية الحقيقية في عصرنا، وأن تكون نازك إحدى اثنين في السبق الى القصيدة الحرة الموزونة لتصبح اسماً لا ينسى.
نازك الملائكة كتبت الشعر لأنها شاعرة، وآمنت بالتطور لأنها بنت زمانها ومكانها. عربية في النفس، شاعرة في المطلق. ننحني لها كما ينحني التلامذة أمام الأساتذة الكبار.
***
غياب العراق القديم
محزن رحيل الشعراء ولعله أعمق حزناً وإثارة للأسى رحيلهم في المنافي بعيداً عن بلادهم والديار والمنزل الأول والأزقة الخاصة ونسمات العشب الأول، ورحيل الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة مخضّب بالتأكيد بأرجواني الملحمة المذبحة المفتوحة على أبواب الجحيم في بلادها في العراق المنحور كل يوم وكل لحظة والمنهوبة بوحشية.
لغياب الملائكة أكثر من معنى وأبعد من مجرد نهاية موحشة لشاعرة كانت بمثابة الرمز والذروة لثقافة ساطعة وجريئة استطاعت تبوؤ الطليعة في الشعر وغيره. وساهمت بقوة في تبديل سمات المستقبل الشعري العربي ودفعته الى الحداثة مثبتة أسسه بصلب وإسمنت الثقافة والطليعية والانفتاح والموهبة البارعة وبالمشاعر والأحاسيس.
يشبه غياب الشاعرة الملائكة غياب العراق القديم أو لعله العراق الوحيد الذي نحبه ونهجس عودته الصعبة الشاقة. عراق الشعر والشعراء عراق النرجسية الشاعرة لا عراق الوحشية والغرائزية، عراق التعبير لا عراق التدمير. غياب الملائكة هو بالتأكيد في غير احتماله غياب صورة العراق القديم واندحار معلم أساسي تاريخي. ألا وهو العراق الشاعر، العراق الذي نزح منه شعراؤه منذ زمن مذ أمعن الصدام والصداميون في قمع الأرواح والأفكار والحياة ونحروا الحرية والأحرار بظلامية فاقت الانفجارات الوافدة من محبة الجوار الكالحة. يعنينا ما يعنيه غياب الشاعرة الملائكة ويشبه غيابنا ويومياتنا وانهيار حالنا يعنينا ويشبه كذلك اندحار آمالنا ولبناننا المندفع بهمة بعض أهله وأشقائه نحو الخراب الأخير. كان هناك عراق وربما سيكون أنه كان هناك لبنان. مخجل أنه ليس بالوسع الاحتفاء، أجل الاحتفاء بالملائكة وبمساهمتها الرائعة النادرة في زمن غياب الأوطان واضمحلالها، وقد أمسينا كلنا عراقيين بكائين رغماً عنا. نازك الملائكة اسم يرحل ولا يغيب كما النهرين والرافدين وكما الشعر الحقيقي الساكن أبداً في الفضاء في سماء الحرية، حيث الوطن الدائم.
***
صورتان
كنا في مجلة "نقد" قد اتفقنا على ان يكون العدد الرابع مخصصاً لتجربة نازك الملائكة. وبما أننا نضع في آخر كل عدد من المجلة غلاف العدد الذي يليه فقد جرى نقاش بيننا في أسرة التحرير حول الصورة التي علينا اعتمادها في الغلاف:
صورة لنازك الشابة، أم صورة لنازك في أواخر أيامها؟
اليوم، وأنا أقرأ خبر وفاة تلك الشاعرة المتمردة التي قاتلت في سبيل إثبات انها كانت السابقة في كتابة القصيدة الحرة ثم قاتلت لإثبات بطلان مثل هذا النوع من الشعر والحداثة.
اقتنعت أن علينا اعتماد صورة نازك الشابة.. نازك الجميلة.
***
ألم تمت بعد؟
عندما بادرت أحد أصدقائي صباحاً لأخبره برحيل نازك الملائكة، أجابني بسؤال: "ألم تمت بعد؟!"، ولم يكن سؤال صديقي الذي هجر الكتابة وجنونها منذ زمن بعيد إلا تعبيراً درامياً عن الصمت الذي اختارته الرائدة الراحلة، والعزلة التي فرضتها على نفسها بعد أن اختارت القاهرة موطناً وملاذاً حين خرجت من عراقها حزينة على حاله وأحواله، ومع عزلتها وصمتها وظنون كثيرين بأنها رحلت منذ زمن، ولأن بعض الظن إثم، فإن الآثام التي نرتكبها عربياً في حق روادنا وحق مبدعينا ستظل تلف رقابنا بالعار، ومع رحيل الشاعرة الرائدة نازك الملائكة أشعر بالمرارة لأن آخر ما وصل اليها من أخبار ربما لا يبعث على التفاؤل في الوطن المحتل.
نازك جزء من ضميرنا وثقافتنا وفرحنا كجيل فتح عينيه فوجدها مع غيرها تضيء شموعاً في طريق أبهى.
***************************
ملف المستقبل
الحزن يعم الأوساط الثقافية في العراق
فقد العراق والوطن العربي واحدة من ابرز الشاعرات التي امتدت مسيرة ابداعها لنحو 60 عاما الا وهي الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة التي توفيت في القاهرة عن عمر ناهز 86 عاما اثر مرض لم يمهلها طويلا ونعت الاوساط الثقافية العراقية الشاعرة العراقية الكبيرة فيما امر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي باتخاذ اجراءات لنقل الجثمان وموارته الثرى في بغداد.
وتوفيت الشاعرة العراقية في القاهرة الليلة الماضية عن عمر يناهز الرابعة والثمانين في احد المستشفيات بوسط القاهرة اثر مرض عضال.
ودعا رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي القائم بالأعمال العراقي في القاهرة الى المشاركة في مراسيم التشييع والإستعداد لاتخاذ الإجراءات لنقل جثمان الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة التى توفيت بالقاهرة الليلة قبل الماضية لدفنها فى بغداد.
وقال بيان للحكومة العراقية امس إن "يعزي رئيس الوزراء اسرة الفقيدة ابنة العراق الغالية والشعراء والمثقفين كافة، فقد تعلقت رحمها الله بحب الوطن وترعرعت في احضان اسرة كريمة تحتفي بالثقافة حتى غدت من ابرز مجددي الشعر العربي".
ونعى اتحاد الادباء والكتاب في العراق، رائدة الشعر الحديث الشاعرة العراقية نازك الملائكة.
واعلن الناقد علي الفواز امين عام الشؤون الثقافية في اتحاد الادباء والكتاب في العراق أن الاتحاد سيقيم في بغداد تأبينا كبيرا لها كما سيحتفي بها نادي الشعر في اتحاد الادباء في العراق.
وعلق اتحاد الادباء على جدار مبناه في ساحة الاندلس وسط العاصمة بغداد لافتة تأبيينة كبيرة لفتت انظار المارة هناك نعى فيها الشاعرة وكان اتحاد الادباء والكتاب في العراق قد خصص منتدى اطلق عليه اسم منتدى نازك الملائكة عمل طوال الاشهر الماضية على تفعيل حركة الشعر والنقد في العراق.
****
سيرة
ولدت الشاعرة الكبيرة في بغداد في الثامن والعشرين من شهر آب عام 1923 في بيت علم وأدب، أمها كانت الشاعرة سلمى عبدالرزاق وكنيتها (أم نزار) ووالدها الشاعر العراقي صادق جعفر الملائكة الذي جمع قول الشعر والاهتمام بالنحو واللغة كعادة الشعراء آنذاك...
أحبت نازك الشعر منذ الصغر وولعت به وهي ما زالت بعد طفلة.. ووجدت في مكتبة أبيها الزاخرة بدواوين الشعر وأمات كتب الأدب ما يروي ظمأها الى الإطلاع والمعرفة.
أكملت دراستها في بغداد، ثم التحقت بالجامعة واستطاعت أن تتمتع بمنحة دراسية الى الولايات المتحدة حيث حازت درجة الماجستير في الآداب وكانت أول تلميذة تحظى بالدراسة هناك، إذ لم يبح القانون بدراسة المرأة بجامعة برنستون آنذاك، عادت الى بغداد وأتيحت لها فرصة أخرى للسفر الى خارج العراق، للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن، عملت سنين طويلة في التدريس في جامعة بغداد، وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت.
أحبت الموسيقى منذ نعومة أظفارها وتعلمت العزف على آلة العود، واستطاعت بواسطة معرفتها العميقة بالأنغام الموسيقية أن تمتلك حساً مرهفاً بإيقاع الكلمة وموسيقاها، قالت الشعر منذ طفولتها المبكرة وأجادت فيه وكان لها السبق والريادة في حركة التجديد وإن ثار جدل طويل حول من كان الأول في نظم القصيدة التي تعتبر الأولى في تلك الحركة التجديدية، البعض ينسب التجديد للشاعر الشاب بدر شاكر السياب والبعض الآخر يقول أن نازك كانت الأولى. ومنذ أولى قصائدها كانت نازك مجددة وكانت رائدة في حركة تجديد الشعر العربي وتحريره من القيود والقواعد.
كتبت نازك الشعر والنقد ووضعت الكتب في مجال تجدد الشعر وكان أبرز كتبها: "قضايا الشعر المعاصر".
بدأت نازك حياتها الشعرية بقصيدة طويلة اسمها "الموت والإنسان" وكان ديوانها الأول "عاشقة الليل" وقد أصدرته عام 1947 وضم قصائد كتبت وفق الشكل الكلاسيكي القديم، لكنها من حيث البنية الفنية والمناخات الشعرية والصور والإحساسات جديد تماماً، وفي عام 1949 أصدرت الديوان الثاني بعنوان "شظايا ورماد" تضمن قصائد جديدة على الشكل الجديد والذي أطلق عليه اسم "الشعر الحر".
ثم كانت قصيدتها الشهيرة "الكوليرا" المؤرخة عام 1947 التي كتبتها على اثر انتشار مرض الكوليرا في مصر وكانت الكارثة الفظيعة التي أثرت أشد تأثر بالشاعرة: قصيدة غريبة، جديدة في كل المقاييس، مختلفة وإيقاعها غريب عن الأذن العربية، وسرعان ما انتشرت هذه القصيدة بين الشباب العربي المثقف.
ديوانها الثالث أصدرته عام 1957 وسمته "قراءة الموجة"، وديوانها الرابع عنوانه "الصلاة والثورة" أصدرته عام 1978.
استمرت نازك في كتاباتها الشعرية وكانت عظيمة في بداياتها حتى مطلع السبعينات، فلم تواصل الرحلة، وانقطعت عن الكتابة الشعرية، وبدأت تكتب في قضايا سياسية واتهمت أنها تراجعت عن آرائها السابقة في ضرورة الحداثة ووجوب التطوير.
توقفت نازك لفترة عن كتابة الشعر ثم عادت إليه بدواوين عديدة منها: "مأساة الإنسان وأغنية للإنسان" عام 1977 "ويُغيّر ألوانه البحر"... و"شجرة القمر" عام 1968,.
تزوجت نازك عام 1964 من الدكتور عبدالهادي محبوبة رئيس جامعة البصرة، ولها ابن وحيد "براق" وهو طبيب. عاشت نازك في سنواتها الأخيرة في عزلة بعيداً عن ضجيج الحياة في القاهرة. حازت نازك جوائز أدبية عديدة في حياتها، وهي توفيت في القاهرة وكانت آخر قصائدها "أنا وحدي" كتبتها ورثت بها زوجها الدكتور "محبوبة"
المستقبل - الجمعة 22 حزيران 2007
*******************************************************
ملف الخليج
لم يبق غد يانازك
حينما قرأنا ديوانها “يغير ألوانه البحر” في بداية اكتشافنا لقارة الشعراء العرب، كانت نازك الملائكة تبدو لنا نحن الجيل الجديد الشاب الخارج من حمأة الجامعة إلى الحياة مثل صوت بعيد قريب، والكثيرون منا كانوا يظنون أن الملائكة لم تعد موجودة في العالم الأرضي، بسبب العزلة التي أحاطتها بنفسها وأيضا لاستنكافها عن الحياة الثقافية العامة، بعد أن دارت أكثر من “داحس وغبراء” في ساحة وغى الثقافة وحروب الجماعات الأدبية، وبعد أن مل الناس تلك الأسئلة النقدية البليدة: من الأول؟ من أول من كتب قصيدة الشعر الحر؟ هل نازك أم منافسها الشرس السياب؟ هل كتبت المحاولات الأولى في الأربعينات أم في العشرينات من القرن الماضي؟ وبالتالي كان سؤال “الأول” بقدر ماهو سؤال مشروع ينطوي على قدر كبير من “الخسة” لأنه أصحابه كانوا يرمون من طرف خفي إلى ممارسة نوع من الوصاية على المشهد الثقافي العام، وإلى تكييفه وفق تأريخهم الثقافي الفاشل.
ماتت صاحبة “عاشقة القمر” و”يغير ألوانه البحر”، لكن قصيدتها “الكوليرا” التي كتبتها في سنة 1947 ستبقى قوية وحاضرة في الشعرية العربية الحديثة، بل إن هذه القصيدة التي كتبت في زمنها الخاص، تحفل بالكثير من الإشارات التي ستحملها إلى المستقبل كنبوءة، وبذلك تكشف هذه الشاعرة عن حسها الإنساني الكبير وعن نظرتها التي تخترق العصور.
ففي هذه القصيدة الجنائزية تردد نازك “موتى، موتى، ضاع العدد/ موتى، موتى، لم يبق غد”، وفي مقطع آخر من القصيدة تقول “الجامع مات مؤذنه/ الميت من سيؤبنه”، وهي مقاطع يمكن اليوم قراءتها على وقع المشهد الدامي في أوطان عربية كثيرة، ففي بلدها العراق الذي خرجت منه عقب حرب الخليج الأولى، صف جنازات طويل يصدق أن نقول عنه بتأس كبير “الميت من سيؤبنه؟”.
وإن كانت الرابطة الشعرية بين الأجيال الشعرية الجديدة ورواد قصيدة الشعر الحر قد خفت، وتداعت مع الزمن، فإن صوت نازك الملائكة رفقة صوت السياب وفدوى طوقان وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وصلاح
عبد الصبور والكوكبة التي لحقت بعد ذلك في الفلك الشعري العربي، هذه الأصوات حافظت على مرورها الكوكبي، وبقيت وشما محفورا في ذاكرة القصيدة العربية الحديثة.
في رؤية قوية تسأل نازك في قصيدة “في جبال الشمال” عن حين العودة إلى ظلال النخيل بعد انتظار طويل: “متى عودة الهاربين؟”.
إنها شاعرة مرت واخترقت الفضاء تاركة ذلك الأثر الذي تخلفه المذنبات الكونية، لقد كان مرورها واضحا ولماعا إلى درجة يمكن أن نقول إنها نيزك عابر للزمن مشرف على الأبدية، بشجاعة شاعرة “ذهبت ولم يشحب لها خد ولم ترجف شفاه”.
*********
رحلت عن عمر ناهز 84 عاماً
شمس نازك الملائكة تغيب
شيع جثمان الشاعرة العراقية نازك الملائكة ظهر أمس من مسجد الحياة بحي حدائق القبة بالقاهرة، حيث كانت تعالج منذ فترة طويلة في مستشفى سنابل، وقد حضر الجنازة عدد قليل من أفراد السفارة العراقية بالقاهرة وبعض الإعلاميين وغاب عنها المثقفون والشعراء المصريون، وقد دفنت الشاعرة بمقابر خصصت للأسرة في مدينة السادس من أكتوبر.
غيب الموت الشاعرة نازك الملائكة بعد صراع مع المرض دام سنوات طويلة عاشت خلالها الملائكة في عزلة كبيرة، حالت دون ظهورها في أي من منتديات القاهرة التي قضت فيها سنواتها الأخيرة عقب الحصار المضروب على العراق إبان التسعينات من القرن الماضي.
تربت نازك الملائكة المولودة في بغداد عام 1923 في بيت كانت الثقافة والفنون مفردة يومية تتردد بين جنباته فالأم هي الشاعرة سلمى عبد الرازق والأب صادق الملائكة أديب وباحث كبير.
تخرجت الشاعرة الكبيرة عام 1944 في دار المعلمين العليا، ثم توجهت إلى أمريكا بعد ذلك بعامين لدراسة الإنجليزية وآدابها، وبعد عودتها عملت أستاذة مساعدة في كلية التربية بجامعة البصرة.
نشرت ديوانها الأول “عاشقة الليل” عام ،1947 وارتبط ديوانها الثاني (شظايا ورماد) بضجة كبيرة، إذ أثيرت معه قضية الأسبقية في كتابة الشعر الحر، بقصيدتها “الكوليرا”، إذ إن بدر شاكر السياب كان قد كتب آنذاك قصيدته “هل كان حبا”.
شكلت نازك الملائكة مع بدر شاكر السياب عبر تجربة كل منهما المنفصلة غير المتماثلة، ملامح الشعر العربي الحديث المتحرر من العمود التقليدي، والذي اصطلح على تسميته بشعر التفعيلة. ولم يكن دور نازك مقصورا على إضافاتها الريادية الباهرة للقصيدة العربية، بل شاركت بمنجز تنظيري منذ وقت مبكر أسهم في ترسيخ الشعر الحديث وتقعيده من خلال دراساتها وأعمالها النقدية المتميزة في حقل كان بكرا لا يزال، بل وكان يتعرض لهجوم المحافظين الذين كانوا لا يزالون يحتلون مقاعد النقد والتنظير على السواء.
يضم أعمالها النثرية الكاملة كتابها الشهير “قضايا الشعر المعاصر” الذي صدرت طبعته الأولى عام ،1962 وآخر طبعاته هي الرابعة عام 1974. وإذا كانت نازك والسياب قد بدآ مغامرتهما الكبرى بكتابة أولى قصائد الشعر الحديثة الناضجة عام ،1947 ثم تدفق نهر الشعر الحديث من بعدهما، فإن السنوات التي أعقبت ذلك وحتى صدور كتابها “قضايا الشعر الحديث” أتاحت لها أن تستكمل قواعد الشعر الحر وتستخرج قوانينه الجديدة مبكرا، وذلك من خلال بحثها لأربع قضايا مترابطة: علاقة الشعر الحر بالتراث العربي، بدايات حركة الشعر الحر، البحور التي يصح استخدامها في كتابة الشعر الحر، وأخيرا قضية التشكيلات المستعملة في القصيدة الحرة.
ومن جانب آخر تؤكد نازك أن القضايا السابقة على قصائدها وقصائد السياب كانت إرهاصات تتنبأ بقرب ظهور حركة الشعر الحر، وتضيف أنها اندفعت إلى التجديد بتأثير من درايتها بالعروض العربي وقراءتها للشعر الإنجليزي، بل تذكر بالنص: “إنني لو لم أبدأ حركة الشعر الحر، لبدأها بدر شاكر السياب رحمه الله، ولو لم نبدأها أنا وبدر لبدأها شاعر عربي آخر غيري وغيره، فالشعر الحر قد أصبح في تلك السنين ثمرة ناضجة حلوة على دوحة الشعر العربي بحيث حان قطافها، ولابد من أن يحصدها حاصد ما في أي بقعة من بقاع الوطن العربي، لأنه قد حان لروض الشعر أن تنبثق فيه سنابل جديدة باهرة تغير النمط الشائع وتبتدئ عصرا أدبيا جديدا كله حيوية وخصب وانطلاق”.
كما يضم كتابها تقديم زوجها الناقد الراحل د. عبد الهادي محبوبة في الطبعة الصادرة عام ،1962 ويشير في هذا التقديم إلى الظروف التي أحاطت بكتابة قصيدتها الشهيرة “الكوليرا” عندما اجتاح الوباء اللعين مصر، فانفعلت الشاعرة، وكان هذا كما يذكر بدقة يوم الثلاثاء 27 تشرين الأول سنة 1947. وطبقا لما نقله عن دفتر الذكريات المخطوط بقلم نازك نفسها، فإن والدها الأديب والباحث صادق الملائكة، وأمها الشاعرة المعروفة أم نزار، وأشقاءها.. ما إن سمعوا قصيدتها حتى أعلنوا عدم رضائهم عنها بسبب تخليها عن عمود الشعر التقليدي!
ويلي هذا الكتاب طبقا لطبعة المجلس الأعلى للثقافة كتابها “سيكولوجية الشعر ومقالات أخرى” وتشير فيه نازك إلى أنه يكاد يكون الجزء الثاني من كتابها الأول لأنها تتناول فيه القضايا التي لم ترد في الكتاب الأول مثل علاقة الشعر باللغة، والجانب السيكولوجي من القافية وارتباط الشعر الحديث بالمأثورات وما إلى ذلك، كما ألحقت بالكتاب بابا في النقد التطبيقي تناولت فيه شاعرين أحدهما قديم وهو عمر بن الفارض والثاني حديث هو إيليا أبو ماضي.
تاريخ مقدمة هذا الكتاب هو 17/6/،1979 بينما تاريخ كتابها الثالث طبقا لترتيب هذه الطبعة “الصومعة والشرفة الحمراء” هو عام ،1965 لكن محرر الطبعة وهو الناقد د. عبده بدوي لم ينتبه لهذا الأمر، فهل مقدمة سيكولوجية الشعر يعود تاريخها إلى إحدى طبعات الكتاب فقط، أم انتظرت سبعة عشر عاما وهو الفارق بين كتابيها الأول والثاني الذي تعتبره جزءا ثانيا للأول حتى تكتب الجزء الثاني؟
والمثير للدهشة، أن “الصومعة والشرفة الحمراء” يكاد يكون مجهولا كما تشير هي بنفسها في المقدمة، لأن طبعته الأولى الصادرة عن معهد الدراسات العربية كانت طبعة محدودة لأنها مخصصة أصلا لطلاب المعهد، حتى إنها عندما أهدت إحدى نسخه لخالد محيي الدين البرادعي بعد صدور طبعته الأولى بعدة سنوات فوجئ به، بل وكتب مقالا عنه بعنوان “كتاب مجهول لنازك الملائكة”.
كتابها التالي “التجزيئية في المجتمع العربي” يضم عددا من الدراسات المتفرقة كتبت بين عامي 1953 و1969 ونشرت أيضا متفرقة في الدوريات والمجلات العربية. وفكرة التجزيئية تسري في دراسات الكتاب على نحو يؤكد أنها ظاهرة اجتماعية عامة وتسيطر على الفكر العربي والحياة العربية فعلى سبيل المثال تشير في دراستها “المرأة بين الطرفين.. السلبية والأخلاق” إلى هذه التجزيئية في فكرة الحرية، حيث يعتقد الكثيرون أنه من الممكن أن يكون الرجل حرا كامل الحرية بينما المرأة أسيرة القيود.
ويرتبط بهذه الدراسة، حتى يتبين القارئ الفكرة الأساسية التي تسري في دراسات الكتاب، ما أشارت إليه في دراستها “مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية” من أن المرأة تقول “إنها حرة كاملة الحرية ثم لا تلاحظ أن دور الأزياء تستعبدها وتسلبها كل حرية ممكنة، لأنها مضطرة شاءت أم أبت أن تلبس ما يريده مصمم الأزياء العابث الذي يفرض ما يشاء من دون منطق هنا نجد تجزيئية واضحة تفصل ملبس الإنسان عن حريته الفكرية فكان من الممكن أن تكون المرأة الحرة وهي قد استحالت إلى دمية يلبسها مصمم الأزياء ما يشاء دون أن تسأله: لماذا؟ وما المبرر الفكري لهذا الصنف من اللباس؟
***
“أكاديمية الشعر”: رحيل الملائكة خسارة للأدب العربي
أبوظبي “الخليج”:
تنعى “أكاديمية الشعر” في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة الراحلة، التي وافتها المنية أمس الأول في القاهرة بعد صراع طويل مع المرض، وتعتبر الشاعرة الراحلة من الأسماء ذات الريادة في تجربة الشعر العربي الحديث، حيث تعد قصيدتها “الكوليرا” التي كتبتها في عام 1947 أحد نصوص التفعيلة التي شكلت منعطفا مهماً في تاريخ الشعر العربي، كما كان لدراساتها وآثارها النقدية إضافة مهمة للمكتبة العربية.
إنه مما لا شك فيه أن الشاعرة الراحلة أخذت وهجها الشعري منذ قصيدتها الأولى، واستمرت بالوهج ذاته حتى سنواتها الأخيرة من ريادتها الإبداعية في الشعر، كما شكلت تجربة مهمة في مسيرة الشعر العربي، وتناولتها مختلف دراسات الشعر العربي في العصر الحديث.
إن رحيل الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة يشكل خسارة كبيرة للعرب وللأدب العربي، فقد كانت علما أدبيا وثقافيا وفكريا مهما، وأكاديمية الشعر إذ تنعى الفقيدة الراحلة، فإنها تتوجه بأحر تعازيها إلى أسرة الفقيدة، وجميع الأدباء في وطننا العربي، داعية الله أن يلهم أهلها وذويها الصبر والسلوان.
***
“اتحاد الكتاب” ينعى الراحلة
الشارقة “الخليج”:
نعى اتحاد كتاب وأدباء الامارات في الشارقة رحيل رائدة الشعر العربي الحديث نازك الملائكة، وفي ذلك يقول الأديب ابراهيم مبارك نائب رئيس اتحاد كتاب وأدباء الامارات: عندما يرحل أحد الأدباء والكتاب عن الساحة الثقافية العربية نشعر بفداحة الخسارة للجميع، وخصوصاً إذا كان الراحل من رواد وأعمدة الشعر العربي الحر، ناهيك عن أنها امرأة عربية قررت في ذلك الوقت، أي في نهاية الاربعينات من القرن الفائت، أن يكون لها وللمرأة العربية دورها في نهضة الشعر العربي، وتقدم مجتمعها فكرياً وثقافياً وحضارياً.
ان رحيل نازك الملائكة وفي هذا الوقت الذي يعاني فيه وطنها الكبير من هذه الأحداث المؤسفة من تمزق واختلاف ووطنها الأم العراق من هذا النزف الدموي اللامعقول، يبدو وكأنه يكمل هذا المشهد التراجيدي الذي نعيشه اليوم في وطننا العربي.
لقد تركت نازك الملائكة بصمتها الابداعية ورحلت كرائدة وعلم من أعلام الأدب والشعر عبر تاريخها ونتاجها وحياتها المديدة التي عاصرت من خلالها عدة أجيال شعرية عربية منذ ديوانها الأول “عاشقة القمر” في نهاية الاربعينات وحتى بداية الثمانينات من القرن الفائت.
ونحن في اتحاد الكتاب والأدباء في الامارات نعزي أنفسنا ونرفع التعازي الى أهلها والى الساحة الثقافية العربية ونشاركهم هذا الفقد الكبير الممثل في هذه القامة الشعرية الجليلة.
***
أحمد عبد المعطي حجازي:
نازك الملائكة شاعرة عظيمة بحق لأنها صاحبة لغة شعرية خاصة وتجربة شعرية متميزة، لأنها شاعرة مجددة بل هي رائدة من رواد التجديد في الصف الأول وربما سبقت الجميع.
وهي أيضا شاعرة ناقدة، وتجديدها ليس مجرد تجديد عفوي ينقصه الوعي وليس مجرد سليقة وإنما هو أيضا ثقافة ولذلك من خلال هذه الثقافة وما قدمته في دواوينها من مقدمات شرحت فيها الأسس الذي قامت عليه التجديد.
وعن أهم المحطات في مسيرتها الأدبية يقول حجازي إن كتاب “قضايا الشعر المعاصر” يعطيها مكانة فريدة في تاريخ الشعر العربي المعاصر، بالإضافة إلى قصيدتها الأشهر “الكوليرا” ومقدمة ديوانها “شظايا ورماد”.
وانتقد حجازي تجاهل الحركة الأدبية العربية لمرضها وقال إنها حركة تنقصها الأسس التي تقوم عليها وتنظمها وتجعلها حركة فاعلة، بمعنى آخر ان الأدباء والشعراء العرب الآن أفراد، لأن الشعراء والأدباء في معظم البلاد العربية مشغولون بكسب الرزق أو كلهم مشغول بالدفاع عن نفسه وإعلان اسمه ولا توجد غايات معروفة أو مفهومة أو جامعة تجمع هؤلاء الشعراء، فالحركة الأدبية العربية الآن حركة عشوائية وأستطيع أن أقول إنها بلا أخلاق.
ونازك مقيمة في مصر منذ أكثر من عشرين عاما وقررت العزوف عن الاتصال بالحياة الأدبية بأي صورة من الصور وقد اقترحت في مؤتمر الشعر في فبراير/شباط الماضي منح الجائزة إلى نازك الملائكة لكنهم لم يتصرفوا بالطريقة اللائقة التي تدل على الشعور بالمسؤولية، نازك الملائكة موجودة بشعرها وبدورها الخطير المؤثر والفعال في الشعر العربي المعاصر.
عبد الرحمن الأبنودي:
لقد رحلت بعد أن احتلت مكانتها البارزة في حركة تجديد الشعر العربي فهي أحد أعمدة مؤسسي صرح الشعر الحديث مع صلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب والبياتي وسعدي يوسف وهذه الكوكبة من الشعراء العظام شعرا ودراسة بقدر ما أعطت من قصائد تحتفي بالتجديد فإنها أيضا نظرت لهذا الشعر وساهمت في إضفاء الشرعية على الخروج عن القوالب القديمة وفكرة القافية الموحدة وبشرت باعتماد التفعيلة مما حرر الشعر وأعطاه فضاءات جديدة للتحليق فهي قيمة أدبية كبيرة.
وفي ما يتعلق بتجاهل الأدباء لها أكد الأبنودي أن هذه ظاهرة لا تنطبق فقط على السيدة نازك الملائكة ولكن على من يطول عمره أكثر من اللازم من وجهة نظر المثقفين لقد تجاوز الشعر نفسه بصورة كبيرة لكني لا أراه قد تجاوز عبد الصبور أو السياب أو نازك الملائكة، وعموما ففي هذه الفترة التي نعيشها لم نعد قادرين على الاحتفاء ببعضنا بعضاً فالهموم أكبر والبحث عن المطامح الشخصية يستغرق كل الوقت.
د. محمد عبد المطلب:
تربعت نازك الملائكة على قمتين في آن في تاريخ الثقافة العربية والشعر العربي هما قمة النقد والتنظير وقمة الإبداع الشعري، وإذا كان جيل الريادة لا يتجاوز خمسة أو ستة أشخاص فإن نازك بينهم تحتل القمة، وذلك لأنها من القلائل الذين فهموا الحداثة الإبداعية فهماً صحيحا حيث فهمتها على أنها احترام لقديمها بالدرجة الأولى ثم توافق مع الحاضر على نحو يلائم بين الإبداع وتطوراته ثم إن لها نظرة مستقبلية حتى إنها تناولت ما يسمى الآن بقصيدة النثر، وأظن أن كتابها “الشعر العربي المعاصر” يظل علامة بارزة في مسيرة الشعر العربي وأنا من هنا أدعو كل المؤسسات الثقافية في العالم العربي إلى أن تقيم المؤتمرات والندوات التي تفحص ما تركته هذه الرائدة من نقد ومن إبداع وأن تعيد تقديمه إلى الأجيال الحاضرة حتى تتحرك هذه الأجيال حركة تواصلية على نحو ما فعلت نازك، والذي يهمني الآن أن جيل الريادة قد رحل معظم أعضائه ولم يتبق لنا الآن إلا رائدان كبيران هما أدونيس وحجازي وعلينا أن نهتم بهما اهتماما بالغا حتى نتخلص من هذا الموروث الثقافي الذي يدفعنا دائما إلى البكاء على الموتى، نحن نريد أن نحتفي بالأحياء قبل أن نبكي على موتانا، ورحم الله نازك الملائكة التي ماتت منذ سنوات طويلة موتا تقديريا واليوم ترتفع روحها إلى السماء لأنها قصيدة جميلة لكنها قصيدة خالدة لن تغيب.
الشاعر حميد قاسم:
هكذا، أخذ الموت (بوصفه حقيقة مطلقة)، نازك الملائكة، واستُردت الوديعة، ليتوارى طائر آخر، على حد وصف الشاعر العراقي الراحل “عقيل علي” بل توارى آخر الطيور في سرب أنجز مفصلاً مهماً في تاريخ الشعر العربي، ان لم أقل المفصل الأهم منذ أبي تمام وأبي نواس، ضمن مشروع التحديث في شعرنا العربي. اذ كانت هذه الشاعرة أكثر رواد حركة الشعر الحر “التفعيلة” جرأة، وموهبة، و”التباساً” كذلك، واعني الالتباس الذي سيفسر للدارسين مواقفها اللاحقة من جوهر التحديث، ومما اسهمت هي في تأسيسه وريادته، والتنظير له تظل نازك الملائكة في تقديري الرائد الأهم في الحركة التجديدية التي شهدها شعرنا منتصف اربعينات القرن الماضي، غير أن انشغالها بالدرس الأكاديمي، وتراجعاتها الخطيرة عن هذه الحركة واساسياتها بروح “محافظة” لم تمنح الملائكة حقها من الشهرة والدراسة قياساً بزميلها بدر شاكر السياب، انها موهبة ظلمت كثيراً، ولم تنل ما تستحق من الاهتمام.
الشاعر كريم معتوق: أول ما أذكر من الراحلة الكبيرة نازك الملائكة بعيداً عن الصراعات التي قرأناها حول ريادة الشعر العربي الحر، هو عندما قرأتها في الجامعة كشاعرة تخصصت بلغة الموت اسماً ومعنى، حتى انك تستطيع أن تشم رائحة الموت في أسماء قصائدها ودواوينها، بدءاً من أول قصيدة لها في العام 1947 وهي “الكوليرا” مروراً ببقية نتاجها الشعري الذي امتد لأكثر من أربعين عاماً.
بحق هي الشاعرة العربية الاستثناء بين الشاعرات العربيات في العصر الحديث، حيث لم يختلف النقاد ولا الشعراء والباحثين والدارسين في الشعر العربي حول أهميتها ومكانتها الشعرية، وأتذكر أيضاً كيف أطلق على عائلتها لقب الملائكة، حين أقامت مع والديها واخواتها سعاد ولبنى وسها في بغداد، وأطلق عليهم أهل الحي عائلة الملائكة، لأنهم لم يسمعوا لهم صوتاً ولا ضجيجاً أو ازعاجاً أو شكوى، فلقبوهم بعائلة الملائكة.
أما نازك بشعرها فقد كانت دائماً قريبة من ملك الموت حيث حاورته وعاتبته طوال الثمانين عاماً ونيف التي عاشتها، ولكنه أمهلها ليزيد من غربتها عن بغداد، ولتعيش حزينة على ما آل إليه الحال في العراق من مآس وتمزق واختلاف واحتلال. ونسأل الله الرحمة لشاعرة الأمة العربية في العصر الحديث.
الناقد د. صالح هويدي:
“يأتي حادث وفاة الشاعرة الرائدة نازك الملائكة ليضيف مبدعة جديدة إلى قائمة المبدعين العراقيين الذين يموتون في هذه الأيام إما قتلاً أو إهمالاً أو كمداً في الداخل والخارج. وعلى النحو نفسه من المصير التراجيدي المذل الذي حاق بمبدع رائد كبير كبدر شاكر السياب حين مات خارج أرضه مخذولاً مهملاً معزولاً، لم يشيع جثمانه إلا نفر لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، تموت زميلته في الريادة الشعرية واجتراح طريق جديد للشعر العربي، بعد أن ظلت تصارع الموت سنوات طويلة من دون أن ينتشلها أحد أو يمد لها يد العون في أزمتها لترسم بذلك صورة محزنة لهذا الثنائي الاستثنائي الذي تحتفي أمم العالم المتقدم برموز ربما أقل منهما شأناً وتأثيراً في مسيرة الأدب والإبداع العربي. في مثل هذا الحدث الفاجع لا يملك المثقف إلا أن يوجه الدعوة الصادقة للمثقفين والمفكرين والأدباء العرب لتأمل ما وصلت إليه حال الأمة من تدهور وخراب. وما آل إليه حاضرها من تأزم وتراجع، وموقفها من بنيها ولا سيما المثقفين منهم الذين يدفعون الثمن مضاعفاً لفرط حساسيتهم وعمق إدراكهم ولتطلعهم الدائم إلى تجاوز واقعهم وامتلاك إرادتهم لتحقيق غد يليق بالإنسان العربي ويحقق للمبدع الكرامة التي تليق بمنجزه ودوره وطموحاته.
رحم الله الفقيدة الرائدة، فقد كانت شاعرة وناقدة مثقفة شغلت الوسط الثقافي بمواقفها وأفكارها، وأسعدت نفوس قرائها بنصوصها الشعرية ذات المسحة الرومانتيكية الشجية”.
الكوليرا
كانت قصيدتها “الكوليرا” التي نشرت في العام ،1947 أول قصيدة تنتمي الى الشعر الحر في الأدب العربي، والتي استكملت بعدها مشروعها كرائدة للشعر الحر من خلال ديوانها الأول “عاشقة القمر” الذي صدر في العام 1947. وفي ما يلي نص القصيدة:
سكن الليل،
اصغ إلى وقع صدى الأنات
في عمق الظلمة، تحت الصمت على الأموات
صرخات تعلو، تضطرب
حزن يتدفق، يلتهب
يتعثّر فيه صدى الآهات
في كل فؤاد غليان
في الكوخ الساكن أحزان
في كل مكان روح تصرخ في الظلمات
في كل مكان يبكي صوت
هذا ما قد مزقه الموت
الموت الموت الموت
يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت
طلع الفجر.
أصغ إلى وقع خطى الماشين
في صمت الفجر، اصغ، انظر ركب الباكين
عشرة أموات، عشرونا
لا تحص اصخْ للباكينا
اسمع صوت الطفل المسكين
موتى، موتى، ضاع العدد
موتى، موتى، لم يبق غد
في كل مكان جسد يندبه محزون
لا لحظة إخلاد لا صمت
هذا ما فعلت كف الموت
الموت الموت الموت
تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت
الكوليرا
في كهف الرعب مع الأشلاء
في صمت الأبد القاسي حيث الموت دواء
استيقظ داء الكوليرا
حقداً يتدفق موتورا
هبط الوادي المرح الوضاء
يصرخ مضطرباً مجنونا
لا يسمع صوت الباكينا
في كل مكان خلف مخلبه أصداء
في كوخ الفلاحة في البيت
لا شيء سوى صرخات الموت
الموت الموت الموت
في شخص الكوليرا القاسي ينتقم الموت
الصمت مرير
لا شيء سوى رجع التكبير
حتى حفار القبر ثوى لم يبق نصير
الجامع مات مؤذنه
الميت من سيؤبنه
لم يبق سوى نوح وزفير
الطفل بلا أم وأب
يبكي من قلب ملتهب
وغداً لا شك سيلقفه الداء الشرير
يا شبح الهيضة ما أبقيت
لا شيء سوى أحزان الموت
الموت، الموت، الموت
يا مصر شعوري مزقه ما فعل الموت.
الخليج- 22 يونيو 2007-06
*************************
ملف الدستور
بعد صراع طويل مع السرطان
رحيل الشاعرة العراقية نازك الملائكة
توفيت الشاعرة العراقية نازك الملائكة 85( عاماً) الاربعاء في القاهرة بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان، في منزلها في العاصمة المصرية التي انتقلت اليها بعد الحرب الاميركية على العراق، وستعلن مراسم الدفن في وقت لاحق.
وارتبط اسم نازك الملائكة بالرواد العرب الذين كتبوا الشعر الحر، متمردين على القصيدة التقليدية، حيث يرجح بعض مؤرخي الأدب العربي أن تكون هي الرائدة الأولى للشعر العربي الحر بعد أن كتبت قصيدتها الشهيرة "اللاجئ" عن اللاجئين الفلسطينيين عام 1948، بينما يرجح البعض الآخر أن يكون الشاعر الراحل بدر شاكر السياب أول من كتب هذا النوع من الشعر. «طالع الصفحات الثقافية»
وكتب عن الملائكة دراسات عديدة ورسائل جامعية متعددة في الكثير من الجامعات العربية والغربية ، وكانت قد نشرت ديوانها الأول "عاشقة الليل" في عام 1947، وكانت تسود قصائده مسحة من الحزن العميق فكيفما اتجهنا في ديوان عاشقة الليل لا نقع إلا على مأتم، ولا نسمع إلا أنيناً وبكاءً ، وأحياناً تفجعاً وعويلاً"هذا ما قاله مارون عبود، ثم نشرت ديوانها الثاني شظايا ورماد، وثارت حوله ضجة عارمة حسب قولها في قضايا الشعر المعاصر.
وتجيد الشاعرة الراحلة من اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية، اضافة إلى اللغة العربية، وتحمل شهادة الليسانس باللغة العربية من كلية التربية ببغداد، والماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكونسن أميركا، وقد مثّلت العراق في مؤتمر الأدباء العرب المنعقد في بغداد عام ,1965
من آثارها: عاشقة الليل، شظايا ورماد، قرارة الموجة، شجرة القمر، مأساة الحياة وأغنية للإنسان، للصلاة والثورة، ويغير ألوانه البحر.
ولها من الكتب: قضايا الشعر المعاصر، التجزيئية في المجتمع العربي، الصومعة والشرفة الحمراء ، وسيكولوجية الشعر. يذكر أن نازك الملائكة ولدت في بغداد في بيئة ثقافية وتخرجت في دارالمعلمين العالية عام 1942، والتحقت بمعهد الفنون الجميلة وتخرجت في قسم الموسيقى عام 1949، وفي عام 1959 حصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكونسن في الولايات المتحدة، وعينت أستاذة في جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت، وذهبت الملائكة لتعيش في عزلة اختيارية في القاهرة منذ عام ,1990
ويبقى لنازك الملائكة ريادتها على صعيد المرأة العراقية بشكل خاص والعربية عموما ، حيث كانت واحدة من المؤثرين في الثقافة والحركة الشعرية العربية. التفاصيل في الدستور الثقافي اليوم .
ثورة الشعر العربي الحديث انطلقت من قصائدها * رحلت عاشقة الليل * غابت نازك الملائكة عن 85 عاما
د. محمد عبيد الله
نازك الملائكة سيدة الشعر الحر ورائدته الشهيرة، ها هي تذهب إلى رحيلها الأخير وتترك وراءها سمعة أدبية وشعرية رفيعة، بوصفها الشاعرة النجمة التي سجلت اسمها مضيئا في رأس صفحة الشعر الحديث، وكأنها تنتقم من قرون طويلة حرمت فيها المرأة العربية من الشعر، إذ لم يفسح لها الماضي إلا موقع البكاء والرثاء.
فمنذ الخنساء البكاءة لم تظهر شاعرة بقامة وأهمية نازك وبالقيمة الرفيعة في هوية صوتها الهامس، عندما تفاعلت مع الواقع المتكسر وكتبت قصيدتها الشهيرة (الكوليرا) التي تنافست وما زالت مع قصيدة السياب على ريادة الشعر الحديث وأوليته.
وإذا كان سؤال الأولية سؤالا عربيا تقليديا ونمطيا ، فإن مكانة نازك لا تكتسب قيمتها من ذلك السؤال وإجابته المحتملة، وإنما من ذلك الدور الذي نهضت به ليس في مستوى القصيدة الأولى وإنما في الاستمرار بالتجربة وفتح مسارب جديدة شكلت النهج المبكر للقصيدة الحديثة من خلال جهدها الشعري في دواوينها الأولى التي مثلت صورة قريبة لما ارادته نازك في المستوى النقدي والنظري.
وإذا كان من ميزة فريدة تميزت بها نازك مقارنة مع الرواد الآخرين (بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي..) فإنها تتمثل في مقدرة نازك على الجمع بين الشعر والنقد، أي بين إبداع القصيدة الجديدة وإمكانية تقديم دفاع نقدي جاد يرسم خصائص تلك القصيدة ويحاول أن يكشف احتمالاتها وخياراتها المتعددة. ويظهر هذا الجهد النقدي في كتابها المبكر (قضايا الشعر المعاصر) الذي بذلت فيه جهدا رفيعا لتحديد مفهوم الشعر الحر كما تتصوره، ولعلاقته بالشعر العربي الكلاسيكي، ثم بجهدها في تحديد جملة من السمات الفارقة التي تتصور أنها تميز قصيدة الشعر الحر أو القصيدة الجديدة آنذاك.
وقد بدا واضحا في هذا الكتاب وفي غيره من أعمالها النقدية سعيها لتأطير القصيدة الجديدة وتحقيق الاعتراف بها ليس على مستوى نصي فحسب، وإنما من خلال دفاع نقدي رفيع يكتسب حضوره في الأوساط النقدية والأكاديمية التي استقبلت كتاب نازك النقدي باحترام وتقدير ربما يفوقان ما قوبلت به القصائد والدواوين الجديدة الصادرة حتى ذلك الحين. ويمكن القول بأن كتاب (قضايا الشعر المعاصر) ما يزال حتى اليوم كتابا أساسيا لا غنى عنه في مختلف دوائرالشعر والنقد لمتابعة الخيوط الأولى لتجربة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة. وما تزال معظم الجامعات العربية تعتمد هذا الكتاب في مقرراتها ومناهجها بوصفه المرجع الأساس الذي يشخص السمات الكبرى لقصيدة التفعيلة ويرسم الحدود الممكنة لها في تصور نازك الملائكة.
أشعلت نازك مع السياب والبياتي منارة القصيدة الجديدة في تفاعلها مع الواقع العربي، وفي تصورها للمخيلة الجديدة التي تنتج صورة مغايرة ومجددة، وفي استعمالها للأسطورة وفي علاقتها مع الموروث.
وقد ركزت نازك على القيمة الموسيقية والإيقاعية للشعر الحر، ورأت أن موسيقى القصيدة الحرة أحد أبرز جوانب افتراقها عن الشعر الكلاسيكي الذي تميز بانتظام إيقاعه نوعا وكما وبتقفية صارمة لا يمكن الفكاك منها.
وقد اخترقت نازك تلك الحدود الإيقاعية الصارمة عبر الشكل الموسيقي والإيقاعي الذي طبقته في قصائدها ونظّرت له في كتابها النقدي، ولكن من دون التفريط بالعنصر الإيقاعي تفريطا تاما، بل إن حرص نازك على الإيقاع قد يبدو اليوم نوعا من الكلاسيكية الجديدة فقد ألحت على عناصر الوزن والقافية وتشككت في إمكانية الدمج بين التفعيلات أو التنويع بينها لصالح ما سمته بالبحور الصافية، فقد رأت أن التفعيلات الصافية هي الأفضل للإيقاع الجديد مع إمكانية التنويع بينها وتطويل المسافات أو اختصارها قبل تكرار القافية.
وعندما نراجع هذا المنظور في ضوء الانفلات الموسيقي الذي شهدته القصيدة العربية سواء بشكلها (المتفعل) أو شكل قصيدة النثر نجد أن شروط نازك غدت من موروث التحديدات النقدية، ولكنها في كل حال تظل اجتهادا مبكرا في تحديد هوية قصيدة التفعيلة ووجهتها بعيدا عن الانفلات وغياب القواعد، كأن نازك المجددة رأت أن كل تجربة جديدة لا بد أن تقدم منظورها وشروطها فالتجديد عندها ليس مجرد إعلان الثورة وإنما هو تقديم منظور متكامل يعلن بدائله ويقدم مرافعته المقنعة بعيدا عن ميول الثائرين ورغبتهم في التجريب والتغيير.
لقد ساهمت نازك بفعالية في تحقيق الاعتراف بالشعر الحديث وفي إيصاله إلى الجمهور العربي من خلال طريقتها التجديدية التي لم تعلن قطيعتها التامة مع التراث سواء من ناحية الإيقاع أو النواحي الرؤيوية والتعبيرية، بل إن الموروث يبدو أحد ميزات شعر نازك وثقافتها ، ومعنى هذا أنها حاولت ان تصبغ رؤيتها التجديدية بلمسة تراثية تجعلها تجديدا من داخل التجربة العربية ومن صميم حركتها الشعرية، وعندما يشيد هذا التجديد بصوت نسوي شفاف مثل صوت نازك فإنه يكتسب قيمة كبرى تشير إلى محاولة من محاولات تأنيث القصيدة العربية وكسر عمود الشعر وما يحمله من مخايل الفحولة وأماراتها (وهو ما قرأه عبد الله الغذامي في دراسة مطولة عن نازك ربط فيها بين دلالة ولادة التجديد على يدي امرأة وبين الأبعاد الثقافية للشعر العربي).
نازك إذن تذهب بعد كل هذا العمر، ولكنها تخلف نسخة باقية منها تتمثل في مجمل منجزها الشعري والنقدي ، وهو ميراث باق سيظل له مكانته الخالدة في المدونة الإبداعية العربية وستظل الأجيال تعود إليه وتسترشد به في محطاتها المتجددة.
نازك الملائكة عاشقة الليل وعاشقة التجديد، أطلقت مبكرا على شعرها وشعر جيلها مسمى (الشعر الحر) وقد شاعت هذه التسمية رغم اعتراضات جبرا إبراهيم جبرا وتصويبات عبد الواحد لؤلؤة ، فقد لاحظا أن ما سمته بالشعر الحر هو ما يقابل اللون غير الموزون الذي يعتمد على الموسيقى الداخلية والصورة الشعرية، أما الشعر الموزون فيمكن تسميته بشعر التفعيلة أو اسماء أخرى اقترحها كثيرون. ولكن الخطأ الذي أشاعته نازك ظل هو التسمية الأكثر شيوعا ودخل في باب تفضيل الخطأ الشائع على الصحيح المهجور. وحتى هذا الخطأ في الترجمة أو نقل المصطلح يبدو اليوم خطأ محببا وكأنه جزء من مناخ الشعر الحديث ، عندما يربطه بالحرية. ولكنه عند نازك تحديدا حرية مقيدة بشروط تبدأ ولا تنتهي من باب حرص نازك على القصيدة الجديدة وعلى أن لا يفتح المجال إلا أمام الموهوبين لدخول أبوابها.
قد تبدو شروط نازك أحيانا أشد قسوة وسطوة من الاشتراطات الكلاسيكية للشعر، في صورة من الثورة الشعرية المعقلنة والمقيدة. وربما تنقلنا هذه الشروط النقدية الواعية إلى شيء من تأثيراتها على شعر نازك نفسها، فمع أنها شاعرة موهوبة وكبيرة بلا شك، فقد بدا عقلها الواعي موجها لشعرها ودافعا من دوافع انضباطها في مستوى الشكل والرؤية والمضمون. وربما يفسر هذا التضييق، الذي اختارته نازك واعية، تلك الحالة الوسطية في شعرها، إذ لا تتأجج القصيدة ولا تصل حدودها القصوى، وكأن نازك تمنع نفسها من ذلك الانطلاق وتلك المبالغة التي تميز الشعر.
خيار نازك كان الاعتدال في التجديد ليكون تجديدا منطقيا ومعقولا، مثلما اختارت أيضا في قصيدتها البقاء في منطقة معتدلة بعيدة عن مبالغات الشعراء وعن ذهابهم إلى المناطق القصوى في التعبير والتشكيل الشعري.
قراءة نازك الملائكة قد لا تكون قراءة سهلة لأولئك القراء الشغوفين بشعر المناطق القصوى، ومقدرة الشعر على التهويل والمبالغة ، ولكنه حتما شعر تقدمي في رؤيته العروبية وفي اختياره لطريق الاعتدال والتوازن، ومن يتذكر كتابها (قضايا الشعر المعاصر) سيقع على هجومها على التعقيد وقبولها لمستوى من الغموض الشفاف الذي لا يعمي الدلالة أو يطفئها أمام القارئ.
لكن الشاعر في العادة لا يختار مستوى وضوحه أو غموضه ، وإنما تحمله رؤيته الشعرية إلى مجاهل التعبيروالتشكيل. أما نازك فتختار دوما درب الاعتدال حيث المنطقة الوسطى بين العقل والقلب، حيث راحة الكائن وموقع توازنه.
وربما انتصارا لهذه الرؤية بدت نازك (مرتدة) عن الحداثة في نظر البعض، ولكن الصواب أنها ظلت وفية لمنظورها منذ خطواتها الأولى، وعندما انفلتت عقال التجديد وخرج على ما رسمته من ضوابط وحدود رفعت الصوت ضد ما اعتبرته تجاوزا ومبالغة في طريق الحداثة والتجديد.
******
نازك الملائكة.. فشل مشروع الأمة في العراق
لم يكن الطابع المأتمي لديوانها الأول "عاشقة الليل" الذي نشرته في العام 1947 إلا صورة حقيقية لمناخ رومانتيكي كان سائدا في العراق ذلك الوقت لدى الطبقة الوسطى، وكلنا نعرف الجمل التهكمية الساخرة لمارون عبود وعبقريته الفذة في توصيف الديوان.
غير أن النباهة والألمعية خذلت عبود هذه المرة - كما خذلته مرات عدة فيما بعد - في إدراك عمق التحول الشديد في المجتمع العراقي ذلك الوقت والذي عصف بطبقات بأكملها، كان حنا بطاطو وصفه فيما بعد، بتفصيل حاذق وشديد كنوع من أنواع الخراب المؤسف الذي حل بواحدة من مستعمرات بريطانيا.
ثمة مشهد موح، هذا الإنكار المطلق لعالم راهن، عالم الدولة العراقية الذي كان يسير بالمطلق نحو مطلق الدولة، وتأسيس مجتمع القبول والارتهان، بينما الذات كانت تريد قلب كل شيء، وفي الوقت ذاته كانت تؤكد حنينها اليائس إلى نظام ، وهذا ما دلل عليه لا ديوانها الثاني فقط "شظايا ورماد" والصادر في العام 1949 وإنما ظهور موجة من الشعراء الذين أرادوا مراجعة نظام الشعر العربي الذي مر بسقف زمني عمره ألفا عام. بكلام آخر أرادت هذه الشابة من عائلة الملائكة (أعرق الأسر البغدادية) أن تجعل من هذا الإنكار المطلق نوعا من قبول شكل من التهديم المتحفظ لواحد من أقدس أقداس الأمة.
ما هي هذه الأمة ذلك الوقت، في عراق دام من الصراعات والتجاذبات؟ فهد، زعيم الحزب الشيوعي العراقي، كان قد أعدم.
المثقفون المتنورون أبدوا نوعا من الشراسة الدفاعية إزاء التحول نحو الكومونويلث.
أما الشعر وهو التراث الصاخب بالمطلق ذلك الوقت - ولا سيما في المظاهرات - فقد منح امتيازا لنوع من الوعي الشديد بالذات، هذا الوعي الذي عزز فيما بعد مفهوم الأمة، الأمة العراقية التي أرادت الدولة العراقية أن تشيدها من أشلاء الإمبراطورية العثمانية ونظامها الملي القديم، ومن لملمة أوصال القومية العربية التي تنطوي على استعادة ماض، وتراث لغة قديمة، ومؤسسات متهاوية كالجوامع والمكتبات.
ربما كانت نازك الملائكة من أشد الأمثلة صرامة على مثل هذا التمزق الذي لم ينتج سوى حياة مشوهة ، ضغطت برمتها في قوالب جاهزة من الأفكار، وفي أوطان معدة الصنع، وإن كانت تمتلك ما ترد به على واقع ينحدر شيئا فشيئا نحو الرطانة السياسية، والمنفى في مدن هشة ومعطوبة، والانتقال من مجتمع الرعايا إلى مجتمع العمل والتجميع، والحياة القديمة التي لم تعد صالحة إلا لاستعمال مؤقت - مجتمع الطمأنينة كما يسميه تيبوديه - إلا أنها كانت بطلة المطالبة بمجتمع قديم، ومن هنا يأتي هذا الحنين الكلف بحياة باستورالية ذهبت ولن تعود.
إن الرغبة في التظاهر بقبول المجتمع الجديد تختفي تحت إرادة القبول بمجتمع التفاهة - هكذا كان يسميه محمود أحمد السيد - الرأسمالية الجامحة والكولونيالية المباشرة كانت تسحق قوى جديدة نازحة من الريف، والإذعان لا يظهر في مجتمع التناقض - المجتمع العراقي، وهو مجتمع الأهواء الجامحة حتى اليوم - إنما الإنكار هو الذي يظهر، وهكذا يتعاظم التمرد الذي يصل بعض الأحيان إلى العدم، لا عدم الجماهير فقط، أو عدم المثقفين فقط، أو عدم النخبة السياسية المعارضة فقط، إنما عدم الدولة، قتل - الطلبة الشيوعيين - المتظاهرين على جسر الشهداء كان هو قمة اللحظات العدمية في تاريخ الدولة العراقية. كانت الدولة العراقية غارقة في استخدام العنف، وكان العنف يتعاظم من قبل القوى السياسية السائدة ذلك الوقت لأنها وجدت نفسها في مناخ ثقافي عنيف، فالشيوعية قد اكتسحت أكبر قدر من الناس، من الشيعة والسنة واليهود والمسيحيين والصابئة واليزيديين، ومع ذلك لا تقدما حقيقيا في الفكرة أو في المصطلح، إنما يوجد تقدم حقيقي في اللهجة فقط، فالسعي إلى التصدي للدولة هو المسعى الحقيقي لأنتلجنسيا حديثة حداثة هشة.
كان نزعة القوى في التسلط والهيمنة تقوم على قاعدة شاملة، أما الرومانتيكية الجامحة فقد أخذت شكل تمرد عنيف، حتى أبناء الطبقة الأرستقراطية الحاكمة مع بعض التحسينات أخذوا دور العاصي، ذلك أن مجتمع الإنكار - وهو مجتمع التناقض بطبيعته - أخذ يتوسع، حتى توصل إلى إنكار كل شيء، وصولا إلى العدمية المطلقة - هذه العدمية التي حكمت تاريخ العراق حتى أوصلته إلى الفناء والانتحار - حيث نرى طوال تاريخه طبقة حقيقية من الأنتلجنسيا ممثلة بالفن تعلن الانقلاب المحتوم على كل ما هو سائد ، هذه الطبقة لا تتعلق بنير التمرد فقط، إنما بالانكسارات ، ولا تتوافق هذه الانكسارات فقط مع العدمية الأخلاقية - إنما مع الموقف من الحياة السياسية أيضا ، ولذلك لا يدرس تاريخ نازك الملائكة من النجاح مطلقا إنما من الفشل ، وهو فشل مجتمع بأكمله بطبيعة الأمر. أنا أجادل هنا أن كل مشاريع المثقفين العراقيين كانت مرهونة بمشاريع سياسية في الخفاء، هذه المشاريع التي أنتجت ضربا من الفشل المتجهم، وقد سارت في آنية معدة للصدفة السياسية والقطع والتمزق والهباء.
لقد ربطوا الحداثة الفنية بالحداثة السياسية، ودفعوا هذا التمفصل إلى السطح الظاهر، وتعلق السياسيون بهذا التاريخ لدفع الجماهير، ومن قبلهم المثقفون، إلى لعب دور حقيقي في المعارضة المطلقة، والذي أدى إلى فشل ذائع وذريع.
لقد ولدت نازك الملائكة في العام 1923، ولدت في زمن تأسيس الدولة العراقية بالضبط، ولدت لحظة ميلاد الأمة العراقية، ولم تكن هذه الولادة مبدئيا سوى الظهور بكينونة خاصة، لا تشبه أية كينونة لأمة محاذية لها مطلقا. وهذا ما جعلها في النقطة الأعلى من التناقض والاضطراب والتحول.
وهكذا ماتت نازك الملائكة، عاكسة نهاية هذه الأمة بوصفها امتيازا خاصا. ماتت في النظرة الكئيبة والكالحة لمجتمع العدمية المطلقة الذي سار منذ زمن الثورة شيئا فشيئا نحو الفناء والانتحار.
******
نازك الملائكة أم الشعر العربي الحديث
رحلت نازك الملائكة صاحبة أول قصيدة في الشعر الحر، ومفجرة ثورة الشعر العربي الحديث، والمنقلبة في ستينات القرن الماضي على التجارب المجايلة لها في تلك الثورة. رحلت في مقامها القاهري بعد سنوات طويلة من الصراع مع المرض، بعيدا عن عراقها الذي يحترق ويغرق في بحر من الدم، والتشظي والمستقبل المجهول.
كأن ديوانها الثاني "شظايا ورماد" كان يستبصر الحاضر، ويمثل انتقالها من تلك الرومانسية التي تتصادى مع رومانسية الشعراء الإنجليز في ديوانها "عاشقة الليل".
لقد كانت نازك الملائكة صلة الوصل بين التقليد الشعري العربي في النصف الأول من القرن العشرين وانفجار الشكل الشعري، بما يحمله ذلك من رغبة في التحرر من قيود الإيقاع الضاغطة وتطلع لحرية التعبير في شكل جديد جاهد، في تلك المرحلة من مراحل تطور القصيدة العربية الجديدة ، لكي يفتح الكتابة الشعرية على آفاق التطور في مبنى الشعر ومعناه على صعيد العالم كله ، لا على صعيد الشعر العربي فقط. لكن نازك كانت متأثرة بالرومانسية الإنجليزية فيما كان مجايلوها في تجربة مجلة "شعر" (وحتى بدر شاكر السياب ، الذي نازعها ما يسمى "ريادة الشعر الحديث) أقرب إلى روح الكتابة الشعرية في القرن العشرين: أي أنهم كانوا يقيمون في ظلال إزرا باوند وتي. إس. إليوت وجاك بريفير.
من هنا نبع نقدها لحركة التجديد في الشعر العربي المعاصر، واتهام زملائها لها بالنكوص عن التجديد والإقامة في زمان التقليد.
ولعل ما جر عليها ذلك الاتهام ما كتبته في كتابها الشهير "قضايا الشعر المعاصر"، الذي ربما يفوق في تأثيره شعرها نفسه: ففي ذلك الكتاب صبت نازك نقدها العنيف لمن يتحللون من الشروط التي وضعتها معايير للتجديد في إطار مما يسمى البحور الصافية في العروض العربي.
لقد سدت نازك أفق الحرية في وجه القصيدة العربية التي انحبست في أشكال إيقاعية محدودة رغم وجود إمكانات هائلة لتطوير البنى الإيقاعية في ميراث الشعر العربي.
وقد أثرت هذه الرؤية النظرية، التي ما فتئت تكررها في كتاباتها، على شعرها، ودورها في حركة تجديد الشعر المعاصر، وأبعدتها عن تيار التحديث في القصيدة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.
لكننا إذ ننظر إلى الخلف في محاولة لاستجلاء أبعاد تلك المعركة التي دارت بينها وبين دعاة التجديد في شكل الكتابة الشعرية العربية نقع على كثير من التجارب المشابهة ، المأخوذة بالتجربة الرومانسية لكن المتحللة في الوقت نفسه من بعض الشروط الإيقاعية ليس إلا.
لقد كان بعض منتقدي نازك الملائكة قريبين من كتابتها الشعرية لكنهم كانوا يتبنون رؤى نظرية مخالفة، ولعل باحثا في تاريخ الكتابة الشعرية العربية يعود ليقرأ تلك المرحلة مقارنا بين النصوص الشعرية والرؤى النظرية المصاحبة لها ، ليكشف عن اتساق الرؤية مع النص في شعر نازك الملائكة وانشقاق نصوص بعض مجايليها عن الرؤية النظرية التي كانوا يتبنونها.
من هنا تبدو تجربة نازك الملائكة الشعرية بحاجة إلى إعادة قراءة لنتبين بعد ستين عاما من انطلاقة الشعر الحر ، بحسب تسمية نازك نفسها ، أو ما سماه غيرها قصيدة التفعيلة ، تحولات حركة الشعر العربي المعاصر وتأثير الرؤى النظرية على شكل الكتابة الشعرية وخطابها وتوقها لتجسيد الحرية.
*****
قصائد من الشاعرة الراحلة نازك الملائكة
عاشقة الليل
يا ظلامَ الليلً يا طاويَ أحزانً القلوبً
أُنْظُرً الآنَ فهذا شَبَحّ بادي الشُحوبً
جاء يَسْعَى ، تحتَ أستاركَ ، كالطيفً الغريبً
حاملاً في كفًّه العودَ يُغنّي للغُيوبً
ليس يَعْنيهً سُكونُ الليلً في الوادي الكئيبً
هو ، يا ليلُ ، فتاةّ شُهد الوادي سُرَاها
أقبلَ الليلُ عليها فأفاقتْ مُقْلتاها
ومَضتْ تستقبلُ الواديْ بألحانً أساها
ليتَ آفاقَكَ تدري ما تُغنّي شَفَتاها
آهً يا ليلُ ويا ليتَكَ تدري ما مُنَاها
جَنَّها الليلُ فأغرتها الدَيَاجي والسكونُ
وتَصَبَّاها جمالُ الصَمْتً ، والصَمْتُ فُتُونُ
فنَضتْ بُرْدَ نهارْ لفّ مَسْراهُ الحنينُ
وسَرَتْ طيفاً حزيناً فإًذا الكونُ حزينُ
فمن العودً نشيجّ ومن الليلً أنينُ
إًيهً يا عاشقةَ الليلً وواديهً الأَغنًّ
هوذا الليلُ صَدَى وحيْ ورؤيا مُتَمنّْ
تَضْحكُ الدُنْيا وما أنتً سوى آهةً حُزْنً
فخُذي العودَ عن العُشْبً وضُمّيهً وغنّي
وصًفي ما في المساءً الحُلْوً من سًحْر وفنًّ
ما الذي ، شاعرةَ الحَيْرةً ، يُغْري بالسماءً؟
أهي أحلامُ الصَبايا أم خيالُ الشعراء؟
أم هو الإغرامُ بالمجهولً أم ليلُ الشقاءً؟
أم ترى الآفاقُ تَستهويكً أم سًحْرُ الضياءً؟
عجباً شاعرةَ الصمْتً وقيثارَ المساء
طيفُكً الساري شحوبّ وجلالّ وغموضُ
لم يَزَلْ يَسْري خيالاً لَفَّه الليلُ العريضُ
فهو يا عاشقةَ الظُلْمة أسرارّ تَفيضُ
آه يا شاعرتي لن يُرْحَمَ القلبُ المَهًيضُ
فارجًعي لا تَسْألي البَرْق فما يدري الوميضُ
عَجَباً ، شاعرةَ الحَيْرةً ، ما سرُّ الذُهُولً؟
ما الذي ساقكً طيفاً حالماً تحتَ النخيلً؟
مُسْنَدَ الرأسً الى الكفَينً في الظلًّ الظليلً
مُغْرَقاً في الفكر والأحزانً والصمتً الطويلً
ذاهلاً عن فتنةً الظُلْمة في الحقلً الجميلً
أَنْصتي هذا صُراخُ الرعْدً ، هذي العاصفاتُ
فارجًعي لن تُدْركي سرّاً طوتْهُ الكائناتُ
قد جَهًلْناهُ وضنَتْ بخفاياهُ الحياةُ
ليس يَدْري العاصفُ المجنونُ شيئاً يا فتاةُ
فارحمي قلبَكً ، لن تَنْطًقُ هذي الظُلُماتُ
******
الأرض المحجبة
صوّروها جنّة سحريّة
من رحيق وورود شفقّيه
وأراقوا في رباها صورا
من حنان ، وتسابيح نقيّه
ثم قالوا إن فيها بلسما
هيّأته لجراح البشريّه
وأردناها فلم نظفر بها
ورجعنا لأمانينا الشقيّه
ھھھ
الملايين عيون ظمئت
عزّ أن تملك سلوى واحده
والملايين شفاه عطشت
ليس ترويها الوعود البارده
ذلك المشتعل هاتوه فقد
أكل الليل العيون الساهده
وأمرّوه على أشباحنا
لتروا لون دمانا الجامده
ھھھ
عمرنا كان طريقا معتما
فأنيروه إلى القبر أخيرا
وصبانا كان جرحا ساهدا
يشرب الملح ويقتات السعيرا
وأغانينا رصفناها أسى
وسقفناها غيوما وهجيرا
وهو انا والنى بعناهما
واشترينا بهما حزنا كثيرا
ھھھ
أين ذاك النبع ؟ في أيّ ضحى
سنلاقيه ؟ وفي أية ليله ؟
لم نزل نحفر في أعمارنا
ظلمات ليس فيها طيف شعله
وزحفنا وجررنا معنا
ألف قيد في الأكف المضمحلّه
ووجدنا دربنا مقبرة
ما لنا فيها سوى الموت أدلّه
ھھھ
حدّثونا عن رخاء ناعم
فوجدنا دربنا جوعا وعريا
وسمعنا عن نقاء وشذى
فرأينا حولنا قبحا وخزيا
ورتعنا في شقاء قاتل
وكفانا بؤسنا شبعا وريّا
وعرينا وكسونا غيرنا
وكسبنا القيد والدمع السخيّا
ھھھ
أين تلك الأرض ؟ من حجبّها ؟
نحن شدناها برنّات الفؤوس
وأجعنا في الدجى أطفالنا
لنغذّيها وجدنا بالنفوس
وزرعنا وحصدنا عمرنا
وجنينا ظلمة الدهر العبوس
وسقينا أرضها من دمنا
ومنحناها لأرباب الكؤوس
ھھھ
أين تلك الأرض ؟ هل حان لنا
أن نراها أم ستبقى مغلقه ؟
لم تزل فينا حنينا صامتا
وابتهالا في شفاه مطبقه
والملايين حنين جارف
يتلظّى ورؤى محترقه
افتحوا الباب فقد صاح بنا
صوت آلاف الضحايا المرهقه
ھھھ
صوتهم خشّنه البؤس فما
فيه دفء أو بريق أو ليونه
وحشاه الدمع ملحا قاسيا
وشكايات وجوعا وخشونه
صوتهم خالطه الصبر وكم
قد صبرنا في شحوب وسكينه
لعنة الحسّ علينا إن يكن
غدنا كالأمس أقيادا مهينه ،
****
غرباء
الشمعةَ واتركنا غريبَيْنً هنا
نحنُ جُزءانً من الليلً فما معنى السنا؟
يسقطُ الضوءُ على وهمينً في جَفنً المساءْ
يسقطُ الضوءُ على بعضً شظايا من رجاءْ
سُمّيتْ نحنُ وأدعوها أنا:
مللاً. نحن هنا مثلُ الضياءْ
غُربَاءْ
اللقاء الباهتُ الباردُ كاليومً المطيرً
كان قتلاً لأناشيدي وقبرًا لشعوري
دقّتً الساعةُ في الظلمةً تسعًا ثم عشرا
وأنا من ألمي أُصغي وأُحصي. كنت حَيرى
أسألُ الساعةَ ما جَدْوى حبوري
إن نكن نقضي الأماسي ، أنتَ أَدْرى ،
غرباء
مرّتً الساعاتُ كالماضي يُغشّيها الذُّبولُ
كالغدً المجهولً لا أدري أفجرّ أم أصيلُ
مرّتً الساعاتُ والصمتُ كأجواءً الشتاءً
خلته يخنق أنفاسي ويطغى في دمائي
خلتهُ يَنبًسُ في نفسي يقولُ
أنتما تحت أعاصيرً المساءً
غرباءْ
أطفئ الشمعةَ فالرُّوحانً في ليلْ كثيفً
يسقطُ النورُ على وجهينً في لون الخريف
أو لا تُبْصرُ؟ عينانا ذبولّ وبرودّ
أوَ لا تسمعُ؟ قلبانا انطفاءّ وخمودُ
صمتنا أصداءُ إنذارْ مخيفً
ساخرّ من أننا سوفَ نعودُ
غرباءْ
نحن من جاء بنا اليومَ؟ ومن أين بدأنا؟
لم يكنْ يَعرفُنا الأمسُ رفيقين.. فدَعنا
نطفرُ الذكرى كأن لم تكُ يومًا من صًبانا
بعضُ حبّْ نزقْ طافَ بنا ثم سلانا
آهً لو نحنُ رَجَعنا حيثُ كنا
قبلَ أن نَفنَى وما زلنا كلانا
غُرباءْ
***
أنا
الليلُ يسألُ من أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرًّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولفقتُ قلبي بالظنونْ
وبقيتُ ساهمةً هنا
أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكون
والريحُ تسأل من أنا
أنا روحُها الحيران أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان
نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ
نبقى نمرُّ ولا بقاءْ
فإذا بلغنا المُنْحَنى
خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ
فإًذا فضاءْ،
والدهرُ يسألُ من أنا
أنا مثلهُ جبّارةّ أطوي عُصورْ
وأعودُ أمنحُها النشورْ
أنا أخلقُ الماضي البعيدْ
من فتنةً الأمل الرغيدْ
وأعودُ أدفنُهُ أنا
لأصوغَ لي أمسًا جديدْ
غَدُهُ جليد
والذاتُ تسألُ من أنا
أنا مثلها حيرَى أحدّقُ في ظلام
لا شيءَ يمنحُني السلامْ
أبقى أسائلُ والجوابْ
سيظَل يحجُبُه سراب
وأظلّ أحسبُهُ دنا
فإذا وصلتُ إليه ذابْ
وخبا وغابْ
***
مرثية امرأة لا قيمة لها
ذهبت ولم يشحب لها خدّ ولم ترتجف شفاه
لم تسمع الأبواب قصة موتها تروى وتروى
لم ترتفع أستار نافذة تسيل أسى وشجوا
لتتابع التابوت بالتحديق حتى لا تراه
إلا بقيّة هيكل في الدرب ترعشه الذكر
نبأ تعثّر في الدرب فلم يجد مأوى ضداه
فأوى إلى النسيان في بعض الحفر
يرثي كآبته القمر
ھھھ
والليل أسلم نفسه دون اهتمام ، للصباح
وأتى الضياء بصوت بائعة الحليب وبالصيام ،
بمواء قطّ جائع لم تبق منه سوى عظام ،
بمشاجرات البائعين ، وبالمرارة والكفاح ،
بتراشق الصبيان بالأحجار في عرض الطريق ،
بمسارب الماء الملوّث في الأزقة ، بالرياح ،
تلهو بأبواب السطوح بلا رفيق
في شبه نسيان عميق.
****
الراقصة المذبوحة
إرقصي مذبوحة القلب وغنّي
واضحكي فالجرح رقص وابتسام
إسألي الموتى الضحايا أن يناموا
وارقصي أنت وغنّي واطمئني
أدموع ، أسكتي الدمع السخينا
واعصري من صرخة الجرح ابتساما
اانفجار؟ هدأ الجرح وناما
فاتركيه واعيدي القيد المهينا
ھھھ
أيّ معنى لاختلاجات الضحايا ؟
بعض أحزان ستنسى ، ورزايا
وقتيل أو قتيلان ، وجرحى
ھھھ
إقبسي من جرحك المحرق لحنا
لم تزل فيها بقايا من حياة
لنشيد لم يفض بؤسا وحزنا
ھھھ
صرخة؟ أيّ جحود وجنون،
أتركي قتلاك صرعى دون دفن
أيّ معنى لانتفاضات السجين؟
ھھھ
إنتفاضات؟ وفي الشعب بقايا
من عروق لم تسل نبع دماء؟
إنجارات؟ وبعض الأبرياء
بعضهم لم يسقطوا بعد ضحايا؟
ھھھ
لم يكن جرحك بدعا في الجروح
فارقصي في سكرة الحزن المميت
الأرقّاء الحيارى للسكوت
ھھھ
إضحكي للمدية الحمراء حبّا
واسقطي فوق الثرى دون اختلاج
منّة أن تذبحي ذبح النعاج
منّة أن تطعني روحا وقلبا
وجنون يا ضحايا أن تثوري
وجنون غضبة الأسرى العبيد
أرقصي رقصة ممتنّ سعيد
وابسمي في غبطة العبد الأجير
ھھھ
وابسمي للقاتل الجاني افتتانا
إمنحيه قلبك الحرّ المهانا
ودعيه ينتشي حزّا وطعنا
ھھھ
وارقصي مذبوحة القلب وغنّي
إسألي الموتى الضحايا أن يناموا
وارقصي أنت وغنّي واطمئني
وابسمي للقاتل الجاني افتتانا
إمنحيه قلبك الحرّ المهانا
ودعيه ينتشي حزّا وطعنا
ھھھ
وارقصي مذبوحة القلب وغنّي
واضحكي فالجرح رقص وابتسام
إسألي الموتى الضحايا أن يناموا
وارقصي أنت وغنّي واطمئني
***
ثلاث أغنيات عربية
- 1 -
الساعة
دقّت الساعة في أرض بلادي العربيّه
جلجلت ، ضجّت ، ودوّت ملء وديان قصيّه
غلغلت عبر بساتين النخيل العنبريّه
وتلوّت في صحاررسخت كالأبديّه
دقّت الساعة واهتزّت لها سمر الصحاري
وارتوت بيد عطاش لانبلاج ، لانفجار
ورمال لم تزل منذ عصور في انتظار
فتحت أذرعها العطشى وألوت بالإسار
ھھھ
إحملي أغنية الصحو إلى خضر المروج
ووعودا مورقات عربيّات الأريج
نبضت بين المحيط المترامي والخليج
ھھھ
إثنتا عشرة من دقّاتها هزّت ربانا
غلغلت عبر صحارينا النشاوى وقرانا
وسمعناها تنادي وأفقنا من كرانا
ھھھ
- 2 -
اللصوص
ولصوص هناك كثار
أقبلوا من وراء البحار
ھھھ
يأخذون الثرى والهواء
ھھھ
يخنقون الأغاني الحنون
ھھھ
إنّهم يقطعون الطرق
- 3 -
النسر المطعون
حيث النخيل السامق المزدهي
وحيث أغنيات أنهارنا
هناك ألقى طائر ظلّه
ھھھ
في كبرياء الريش تحيا ذرى
أقام فوق الأرض لا يرتقي
واللانهايات تنادي وفي
في قلبه النابض قد أغمدوا
من صدره الحرّ يغذّي الثرى
يا رمح اسرائيل مهما ارتوى
- 3 -
النسر المطعون
حيث النخيل السامق المزدهي
حيث الينابيع وكاساتها
وحيث أغنيات أنهارنا
هناك ألقى طائر ظلّه
ھھھ
جنحاه مبسوطان فوق المدى
في كبرياء الريش تحيا ذرى
أقام فوق الأرض لا يرتقي
واللانهايات تنادي وفي
ھھھ
في قلبه النابض قد أغمدوا
من صدره الحرّ يغذّي الثرى
يا رمح اسرائيل مهما ارتوى
يبقى ثرانا عربيّ الشذى
ھھھ
يافا وحيفا في غد نلتقي
تبقى فلسطين لنا نغمة
ونسرنا الشامخ لن ينثني
غدا فلسطين لنا كلّها
*****
نازك الملائكة انثى الشعر التي رحلت وهي تحلم بالعافية الحضارية للعراق
حين يكون مسقط رأس المبدع هو "العراق" ، فإن مواصفات المكان العريق بمعطياته التاريخية والحضارية وربما الأسطورية أيضا ، ستظل تعمل على استدعائه ، لتظلل روحه بتلك الهيبة التي تُعرش على جغرافيا المكان.
وفي الذاكرة القريبة والبعيدة عربيا يمكن استذكار العديد من الاسماء الابداعية العراقية ، كان حجمها الكتابي والابداعي بحجم ثقل المكان الجغرافي العراقي.
والشاعرة العراقية "نازك الملائكة" التي غيبها الموت في العاصمة المصرية مساء أول أمس ، هي من تلك القائمة التي حملت سمة العراق ، ووشمه وتجريحاته التاريخية الموجعة.
وهي من تلك الأسماء التي حذفتها الأرض العراقية المتدفقة بالدم ، والمترجرجة بالتحولات التاريخية الموجعة.
وهي مثل كل الذين سبقوها ، كالسياب الذي مات وهو يصيح "ياعراق" ، و"الجواهري" سيد النطق الشعري الأصيل ، والبياتي موقظ المفردة الحديثة في وقت مبكر من تاريخ الشعر العربي المعاصر ، ومثل يوسف الصايغ الذي ظل يحاور قصيدته بحميمية الراهب حتى مات.
كل هؤلاء حملوا نعوشهم إلى خارج العراق ، وبدت مقابر الجغرافيا العربية وكأنها تستدعي هوى الإقامة القبرية عندهم. وأي هوى هذا الذي قاد الشاعرة "نازك الملائكة" نحو قبرها في القاهرة؟.نازك الملائكة التي نشرت قصيدتها الشهيرة "الكوليرا" ، التي نظمتها عام 1947والتي تقول عنها "أصور بهذه القصيدة مشاعري نحو مصر الشقيقة خلال وباء الكوليرا الذي دهمها ، وقد حاولت بها التعبير عن واقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتى من ضحايا الوباء في ريف مصر.
وقد ساقتني ضرورة التعبير الى اكتشاف الشعر الحر".
أي مفارقة استبطانية هذه التي تستدعي الشاعرة كي تشير الى وباء الموت في ريف مصر ، وكأنها تشير الى منطقة موتها القادم أيضا ، لتعلن في الوقت ذاته عن ميلاد قصيدة شعر التفعيلة العربية ، مع مجايلها الشاعر السياب؟.
روح الشاعرة الوقادة هي التي أمسكت بهذه المفارقة في وقت مبكر ، وهي روح الأنثى حين تنمو فكريا وحسيا في بيت أطلق عليه الجيران في وقت مبكر من عشرينيات القرن الفائت "بيت الملائكة" بسبب جو الصمت المتحضر الذي كان يسود البيت ، ليتحول بعد ذلك الى لقب يخص العائلة،.
ونازك التي تخرجت من بيت الملائكة أولا استطاعت الاستفادة وفي وقت مبكرمن أسرة تحتفي بالثقافة والشعر ، حيث كانت أمها تنشر الشعر في المجلات والصحف العراقية باسم أدبي هو"أم نزار الملائكة" ، أما ابوها فترك مؤلفات عدة ، أهمها موسوعة "دائرة معارف الناس" في عشرين مجلدا. من هذا الخروج نحتت الشاعرة الملائكة رحلتها الشعرية في مناخات ذكورية عربية تسلطية ، كان من الطبيعي جدا في أربعينيات القرن الفائت أن تقمعها وتلجم جموحها لتدخلها في قسوة "الحرملك" العربية.
لكنها نجت من ذلك بالحماية التربوية والمعرفية التي توجتها كأنثى عربية رائدة في وقت كان يحسب على الأنثى العربية شهيقها وزفيرها.واستطاعت الملائكة الإمساك بقصب السبق في ريادة القصيدة العربية الحديثة عندما أصدرت ديوانها الأول "عاشقة الليل" عام 1947 ببغداد ، إضافة الى مجموعاتها المتتالية "شظايا ورماد" عام 1949 و"قرار الموجة" عام 1957 و"شجرة القمر" عام 1968 و"يغير الوانه" عام 1970 إضافة لمجموعتها القصصية الوحيدة "الشمس التي وراء القمة".لكنها كمبدعة ترتهن الى تناقضات الجغرافيا المثقلة بالتاريخ العريق ، وتتالي السلطة القامعة ، في تاريخ مثل تاريخ العراق آثرت أن تغادر مكانها في وقت مبكر ، نحو جغرافيا اكثر امانا ، وكان مكانها الأخير في القاهرة ، حيث حاصرتها خيبات التداعيات الدموية العراقية ، والمرض الذي أخذها نحو عزلة كئيبة وقاسية ، الى ان أسلمت روحها التواقة الى عافية العراق الحضارية ، ونامت نومتها الأبدية كأنثى نادرة الحدوث. ہ قاص من أسرة
الدستور- 22 يونيو 2007-06
***********************************
ملف ألف ياء
الشعر العراقي يودع المع نجوم القصيدة العربية الحديثة
الموت يمتص رحيق أنفاس نازك الملائكة
ودع الشعر العراقي الحديث واحدة من المع نجومه هي
الشاعرة نازك الملائكة مؤسسة القصيدة الحديثة والمتمردة على نظم الشعر القديم على امتداد ستين عاما.
وقرر الاتحاد العام للادباء في العراق تنظيم ندوة تابينية بمناسبة وفاة نازك الملائكة مؤكدا ان الاستعداد بشكل استثنائي للحدث الذي يتطلب تحضيرات مهمة".
ومن المفترض ان تقام الندوة السبت المقبل.
ونازك الملائكة شاعرة العراق الاولى ولدت في 23اب/اغسطس 1923 لاسرة ادبية مرتبطة بالادب ولاثقافة .فكانت امها تنشر القصائد في المجلات والمطبوعات باسم مستعار ادبي ام نزار الملائكة".
اما والدها صادق الملائكة، فقد ترك ملفات عدة اهمها موسوعة دائرة المعارف المكونة من عشرين جزءا.
وقد تخرجت من دار المعلمين في 1944 ودخلت معهد الفنون الجميلة واكملت دراستها في الادب المقارن من جامعة ويسكونسن الاميركية عام 1954
وذاع صيت الشاعرة بقصيدتها الشهيرة الكوليرا التي كتبتها عام 1947 وتصور من خلالها مشاعرها تجاه هذا الوباء الذي اجتاح مصر آنذاك كما اصدرت في العام ذاته ديوانها الشعري الاول عاشق الليل".
ومن دواوينها الاخري الشهيرة شظايا الرماد (1949) و"قرار الموجة (1957) و"شجرة القمر (1968).
وقال الشاعر عبد الزهرة زكي لوكالة فرانس برس كان لافق تحديث الحرية التي عمل بموجبها الرواد الشعراء واطلقتها الملائكة الحصيلة الاهم التي تمسك بها الشعراء الجدد نحو آفاق التحديث في القصيدة العربية التي منحتها الملائكة الحرية والجراة".
واضاف ان مرض الملائكة صدمة ووفاتها بعيدا عن الوطن صدمة اكبر لادباء العراق ومثقفيه وشعرائه الذين نهلوا من تجربة الشاعرة الكبيرة التي ستبقى عنوانا للشجاعة والحرية والجراة في طرح قضايا النقد".
عملت الملائكة في التدريس في كلية التربية في جامعتي بغداد والبصرة واستقرت في جامعة الكويت منذ الستينات حتى منتصف السبعينات حيث كانت تدرس الادب المقارن.
وهي تنتمي الى جيل عمالقة الشعر العراقي الحديث مثل عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري.
وتابع زكي نعتقد ان انجاز الملائكة المتمثل بكتابها المثير للجدل (قضايا الشعر المعاصر) هو الاهم في سلسلة انجازاتها وما شكله من قيمة ادبية وفكرية ريادية وسيبقى انموذجا للتمرد على شكل القصيدة في الشعر العمودي".
من جهته، اشار الكاتب جمال كريم الى معاناة الكثير من الادباء والكتاب العراقيين من العوز والفقر والفاقة حتى ان بعضهم مات على قارعة الطريق او بعيدا عن المستشفي اوالرعاية".
اما الشاعر علي الفواز فرأي ان الاعلان عن الاهتمام بصحة الشاعرة الملائكة من قبل الجهات الحكومية جاء متاخرا للاسف فالشاعرة تصارع المرض منذ عدة سنوات في القاهرة".
ألف ياء- 22 يونيو 2007-06-
***************************
الرائدة
نعرف ما الذي كان يدور في صدر تلك الشاعرة العراقية الشابة وهي تستمع، عبر المذياع، الي اخبار وباء الكوليرا المتجول بسيفه الحاصد بين المصريين.
كان انفعالا شديدا. وارادت كتابة قصيدة موازية لقوة ذلك الانفعال وامواجه المتتابعة. كتبت قصيدة. فلم تعجبها. قالت: لا، ليس هذا ما اريد. ليس فيها شيء من الامواج المتلاحقة التي تلطم صدري. فمزقتها. راحت تكتب قصيدة جديدة. كان عدد ضحايا وباء الكوليرا قد بلغ ألفا في اليوم. قرأت القصيدة لنفسها وشعرت، مثل المرة الاولي، أنها قصيدة فاشلة . هذه قصيدة فاشلة قالت لنفسها، كان ينبغي ان تمرّ ليلة. لا ندري ما الذي جاءها في المنام. فهي لا تخبرنا شيئا عن ذلك. ولكن صباح يوم الجمعة الكسول هو الذي سيرمي بها من سريرها المجعد الي بناية قيد الانشاء قرب بيت ذويها. طبعا لم تنس، وهي تطير من السرير، الي ورشة البناء المجاورة، ان تأخذ قلما وورقة. ثم من دون جهد. من دون تفكير بالقصيدتين السابقتين الفاشلتين ، ستخرج قصيدة الكوليرا كطلقة واحدة. وستقول لنفسها، قبل ان تعود طائرة مرة اخري الي البيت: هذه هي القصيدة. هذه هي القصيدة.
X X X
في روايتها لولادة قصيدة الكوليرا ، التي يعتبرها معظم النقاد اللبنة الاولي في مدماك الشعر الحر العربي، تتهور نازك الملائكة في الوصف. تقرأ القصيدة لأمها. فتقول لها: شنو هاذا؟ تقرأها لأبيها فيقول: ماذا يعني الموت، الموت، الموت؟ تقرأها للحاضرين في صبيحة تلك الجمعة في بيت ذويها فيضحكون. هي وحدها تعرف مولودها. فتقول لهم في شيء من الحرد الطفولي والنبوءة : هذه القصيدة ستغير خارطة الشعر العربي!
X X X
لم يكن بودلير، وهو يكتب قصائد نثره الاولي، يفكر ب تغيير خارطة الشعر الفرنسي. كان ضجرا من الوزن والقافية. من التصنع والانشاء البلاغي. من التماثل. من ترفّع الشعر عن الانخراط في وحول المدينة. اراد ان يكتب شيئا (يتلاءم مع الحركات الغنائية للنفس)، مع (تموجات الحلم وانتفاضات الوعي).
يقول بودلير لناشره: اي كاتب من كتابنا (يقصد الشعراء طبعا) لا يملك طموح كتابة (نثر شعري)؟
هذا يعني ان بودلير لم يكن وحده يفكر بكسر طوق الوزن والقافية، والخروج الي الشارع بقميص وبنطلون، لا ببدلة من ثلاث قطع مخنوقة بربطة عنق. لكن لماذا لم يفعلوا ذلك. لماذا كان علي بودلير ان يعلق الجرس؟ لا اعلم. ولكنني اعلم ان آحادا، وليس مجموعات، هم الذين يضعون بدايات اشياء كثيرة. افراد هم الذين، يعبّرون من دون ان يدروا، ربما، عما يشعر به المجموع، عما يحتشد في ذلك الصدر الجماعي الكبير. ولكن واحدا فقط هو الذي يشق القفص الصدري ويطلق قلبه كعصفور حبيس في الفضاء.
X X X
هذا ما فعلته نازك الملائكة. انسوا قولها لذويها: ان هذه القصيدة ستغير خارطة الشعر العربي. انا، شخصيا، لا اصدق انها كانت تمتلك هذه القناعة الايمائية المبشرة بجنة الشعر الحر. حتي وان كانت نازك الملائكة قد قالت كلماتها الحاسمة تلك عن قناعة وانكشاف كامل لحجب الغيب، فلا يهمني ذلك. ما هو مهم ان (المعجزة) التي تحدث عنها بودلير قبلها بقرن تقريبا قد حدثت. لكن لاحظوا الفارق: كان بودلير يحلم بخروج شعري كامل من الوزن والقافية بعد تراكم شعري متواصل وطويل، بينما لم تكن تحلم نازك الملائكة بأكثر من قصيدة تلائم وقع الخيول التي تجر عربات ضحايا الكوليرا:
سكن الليلُ
اصغ، الي وقع صدي الأنّاتْ،
في عمق الظلمة، تحت الصمت، علي الأمواتْ.
صرخات تعلو، تضطرب
حزن يتدفق، يلتهب (الخ)...
خربطة التفعيلات المقصودة (او غير المقصودة) هي التي فتحت الباب للشعر العربي (الحر). من (خربطة) او (خطأ) بدأت مسيرة المعاصرة.
لم يكن عمر الشعر العربي المستعاد، من فترة الركود التركية الطويلة، اكثر من ضعفي عمر نازك نفسها عندما كتبت قصيدة الكوليرا . كل الارث الشعري العربي (النهضوي) ومدارسه المتعددة من المهجريين الي ابولو لم يكن يتجاوز نصف قرن. قبل ذلك كان العصر العباسي هو آخر ممارسة خلاقة للشعر العربي.
X X X
تؤرخ نازك الملائكة قصيدة (الكوليرا) يوم الجمعة 27/10/1947. بينما يؤرخ السياب قصيدته (هل كان حبا) في ديوانه (ازهار ذابلة) يوم 29/11/1946.
الجدل العربي حول ريادة السياب والملائكة لقصيدة (التفعيلة) وأيهما اسبق من الثاني، لم ينته فصولا. لكنه جدل توثيقي، تأريخي، لا اهمية حقيقية له في مسار هذه القصيدة التي نقلت الشعر العربي من محاولات تجديد الكلاسيك العربي الي الشعرية الحديثة ابنة زمنها ومخاضاته العسيرة.. وهي نفسها، علي الارجح، التي فتحت الباب لقصيدة (الماغوط).. وما صار يعرف، لاحقا، (قصيدة النثر).
نازك رائدة كبيرة. طارحة اسئلة لم يطرحها، قبلها، شاعر عربي بالدقة والمنهجية، التي بدت عليها في (قضايا الشعر المعاصر).
السياب.. هو الشاعر المغيّر، ليس بالتنظير، وانما بقلب تربة الشعر العربي وتعريضها لشمس عصره وأوانه.
*****
رحيل نازك الملائكة
(1923 2007)
ريادة الشعر الحر وانطواء وانتظار طويل للموت ومحاولة فك لغزه
ارتبط اسم الشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة (1923 2007 ) بسؤال الريادة في الشعر العربي الحديث، من تمرد اولا علي اوزان الخليل ومن بدأ حركة الشعر الحر نازك، بدر شاكرالسياب ام عبدالوهاب البياتي ... ومن كان سابقا، قصيدة الكوليرا ((1947 ام هل كان حبا للسياب، وايا كان الجدل، فالتجديد في القصيدة العربية اضحي واقعا والقصيدة العربية قطعت مراحل طويلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تواصل التجديد والبناء، ومن هنا فالمهم قراءة تجربة نازك الملائكة باعتبارها صوتا تأسيسيا في حركة الشعر العربي الحديث. وتري سلمي الخضراء الجيوسي ان حركة الشعر الحر بدأت رسميا واعلاميا بصدور ديوان شظايا ورماد ((1949 بالرغم من ان 11 قصيدة من قصائد الديوان ( مجموعها 32) كانت مكتوبة علي طريقة الشعر الحر.
وقد قدمت الملائكة لديوانها عارضة لافكارها في الشعر الحر وتفضيلها له كوعاء فني اقدر من الشعر المكتوب بطريقة البحور الخليلية. الاسلوب الجديد في ترتيب التفعيلات الخليلية يحرر الشاعر من الوف القيود .وتقول الجيوسي ان الحركة / حركة الشعر الحر تلقت دفعة عندما اصدر بدر شاكر السياب (1926 1964) ديوانه الثاني اساطير . لم تنته قصة الريادة خاصة ان الملائكة وان المحت في بداياتها الي انها اول من اكتشف هذا الشكل لكنها نفسها في المراحل الاخري من تجربتها الشعرية ضاقت ذرعا بالحديث خاصة هجوم، البياتي عليها والذي كان يعتقد انه احق بالريادة، مع ان المرحوم الدكتور احسان عباس اكد علي اهمية دورها عندما تحدث عنه في كتابه عن بدر شاكر السياب، حياته وشعره وايا كان فالجيوسي تعتقد ان ديوان شظايا ورماد (1949) كان المنبر الذي بدأ منه النشاط النقدي حول الشعر الحر واسهمت كتابات الملائكة في البداية واللاحقة في نشوء حركة او نشاط فني ساعد في تفسير وتحديد معالم الحركة الجديدة، رغم ان النقاش التجديدي حول الشعر كان سابقا. وتلاحظ الجيوسي ان السياب وعبدالوهاب البياتي والملائكة بدأوا رومانسيين، خاصة الملائكة التي بدأت في ديوانها الاول عاشقة الليل انطوائية ورومانسية، وفردية تحمل في طيات تجربتها الشعرية ابداعا اكبر مما كان لدي معاصريها من الرومانسيين العرب. عموما ظلت الانطوائية ملمحا هاما من ملامح شعرها وحياتها، خاصة قصائدها في قرارة الموجة وشظايا ورماد . ومع ذلك كتبت قصائد عالية الجودة تخوض في هموم الفرد العربي والقلق الانساني.
وتأخذ الجيوسي علي النقاد العرب تضخيمهم لموقفها الانطوائي، ربما بسبب طريقتها الشخصية في تناول المشكلات الشمولية.
عندما تحدثت الملائكة عن ضرورة التحرر من قيود القديم كانت شابة وغير مجربة او ربما بالغت في حديثها لانها الغت بقولها هذا شعرا جميلا وقديما. لكنها بعدما نضجت واستوي عودها وعود تجربتها الشعرية عادت ربما بدافع لتقنين التجربة الجديدة، بعد ان خرجت عن مسارها كما كانت تعتقد، خاصة ان فترة الخمسينيات شهدت طوفانا من الشعر الحر الرديء. ومن هنا قامت بتغيير موقفها من الشعر الحر عندما اصدرت كتابها قضايا الشعر المعاصر حيث اتخذت موقفا حذرا وبدت اكثر حرصا علي تقعيد التجربة وقالت ينبغي ألا ننسي أن هذا الأسلوب الجديد ليس خروجاً علي طريقة الخليل، إنما هو تعديل لها، يتطلبه تطوير المعاني والأساليب خلال العصور التي تفصلنا عن الخليل . وقد تكون هناك اسباب عديدة تلك التي دفعتها منها ما اشارت اليه الجيوسي من خوف الملائكة من انحراف الشعر الجديد عن الخط القومي، خاصة جماعة مجلة شعر التي كانت تطالب بتحرر اكبر في الشكل الشعري ولغته. ولكن موقفها هذا لم يلق حفاوة من النقاد الذين شنوا عليها حملة شديدة، فقد خصص محمد النويهي جانبا كبيرا من كتابه قضية الشعر الجديد (1964) للرد علي اطروحتها، كما لم تلق افكارها قبولا من عزالدين اسماعيل ولويس عوض ويوسف الخال وجبرا ابراهيم جبرا الذين دافعوا عن حريتهم في اختيار الشكل العروضي المناسب.
علي العموم ان موقف الملائكة وهي المبدعة مدعاة للدهشة فتجارب شعرية رديئة لا يمكن ان تؤخذ معيارا لتجربة ابداعية وهي كمغامرة كان عليها ان تتحلي بقدر من التسامح والجرأة لاخذ التجربة لمداها الرحب ومن المفيد هنا العودة الي تجربتها الاولي في قصيدة الكوليرا التي قدمتها علي انها محاولة للخروج لفضاء شعري جديد، حيث تقول: بعد صدور عاشقة الليل بأشهر قليلة عام 1947 انتشر وباء الكوليرا في مصر الشقيقة ، وبدأنا نسمع الإذاعة تذكر أعداد الموتي يومياً، وحين بلغ العدد ثلاثمئة في اليوم انفعلت انفعالاً شعرياً، وجلست أنظم قصيدة استعملت لها شكل الشطرين المعتاد، مغيرة القافية بعد كل أربعة أبيات أو نحو ذلك، وبعد أن انتهيت من القصيدة، قرأتها فأحسست أنها لم تعبر عما في نفسي، وأن عواطفي ما زالت متأججة، وأهملت القصيدة وقررت أن أعتبرها من شعري الخائب الفاشل وبعد أيام قليلة ارتفع عدد الموتي بالكوليرا إلي ستمئة في اليوم ، فجلست ونظمت قصيدة شطرين ثانية أعبر فيها عن إحساسي، واخترت لها وزناً غير القصيدة الأولي، وغيرت أسلوب تقفيتها ظانة أنها ستروي ظمأ التعبير عن حزني، ولكني حين انتهيت منها شعرت أنها لم ترسم صورة إحساسي المتأجج، وقررت أن القصيدة قد خابت كالأولي، وأحسست أنني أحتاج إلي أسلوب آخر أعبر به عن إحساسي، وجلست حزينة حائرة لا أدري كيف أستطيع التعبير عن مأساة الكوليرا التي تلتهم المئات من الناس كل يوم . وفي يوم الجمعة 27/10/1947 أفقت من النوم، وتكاسلت في الفراش أستمع إلي المذيع وهو يذكر أن عدد الموتي بلغ ألفاً فاستولي علي حزن بالغ، وانفعال شديد ، فقفزت من الفراش، وحملت دفتراً، وغادرت منزلنا الذي يموج بالحركة والضجيج يوم الجمعة، وكان إلي جوارنا بيت شاهق يبني، وقد وصل البناؤون إلي سطح طابقه الثاني، وكان خالياً لأنه يوم عطلة العمل، فجلست علي سياج واطئ، وبدأت أنظم قصيدتي المعروفة الآن (الكوليرا) وكنت قد سمعت في الإذاعة أن جثث الموتي كانت تحمل في الريف المصري مكدسة في عربات تجرها الخيل ، فرحت أكتب وأنا أتحسس أصوات أقدام الخيل:
سكن الليل
أصغ، إلي وقع صدي الأنات
في عمق الظلمة، تحت الصمت، علي الأموات
ولاحظت في سعادة بالغة أنني أعبر عن إحساسي أروع تعبير بهذه الأشطر غير المتساوية الطول ، بعد أن ثبت لي عجز الشطرين عن التعبير عن مأساة الكوليرا ، ووجدتني أروي ظمأ النطق في كياني ، وأنا أهتف :
الموت، الموت، الموت
تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت
وفي نحو ساعة واحدة انتهيت من القصيدة بشكلها الأخير ... وركضت بها إلي أمي فتلقفتها ببرودة، وقالت لي: ماهذا الوزن الغريب؟ إن الأشطر غير متساوية، وموسيقاها ضعيفة يا ابنتي ، ثم قرأها أبي ، وقامت الثورة الجامحة في البيت، فقد استنكر أبي القصيدة وسخر منها واستهزأ بها علي مختلف الأشكال، وتنبأ لها بالفشل الكامل، ثم صاح بي ساخراً: وماهذا الموت الموت الموت .... وراح أخوتي يضحكون وصحت أنا بأبي:
قل ما تشاء، إني واثقة أن قصيدتي هذه ستغير خريطة الشعر العربي . هذه الحكاية التي اسست فيها نازك الملائكة للقصيدة وتكشف عن وعي اولي بسطوة الموت، خاصة في اعمالها الاولي ووعيها وحساسيتها التي جعلتها تحاول فك سر الموت وانتظرته شابة وكهلة وعجوزا.
فمن الملاحظ ان نازك الملائكة انشغلت باكرا في فكرة الموت، فالموت يحضر دائما في اعمالها، مأساة الحياة واغنية الانسان (1970) الذي هو محاولة لفهم مكان الانسان في الحياة ومعني وجوده، في مقدمة هذا الديوان تقول انها في شبابها كانت تتعامل مع الموت كظاهرة مدمرة او كارثة يمكن للانسان ان يسمعها، فقد كان الموت هو اكبر تراجيديا للانسان، وقد حملت معها هذا الحس الخائف طوال حياتها، ومن هنا ظل الموت لغزا ومصدرا للكوابيس التي تغذي مخاوفه لحظة الموت رسم الحزن في محياه رعبا لم تر مثله الاحياء . الموت هنا لحظة الفناء والتلاشي لم يبق منه الدود شيئا يري ولم يذر منه الردي بقية الموت هو تعبير عن الدخول في نفق مظلم ومواجهة رعب اللحظة. ومن هنا كانت نازك معنية بوصف لحظة الدخول وصمت المقابر والشوك والاحجار التي توضع علي قبره، حيث تترك بقاياه لعالم مخفي الاسرار. تمظهرات الموت في شعر نازك الملائكة متعددة فهو قوة انتقام تضرب بلا رحمة و المغارة الغارقة عن سيل يجرف مقبرة يترك وراءه جثثا وجماجم وبقايا وعيونا مبحلقة، الموت قدر محتوم لا مفر منه والسيل العارم هو صورة من صور الموت فلا مفر منه وحتي الموتي ليسوا محصنين من سطوته. الموت ايضا هو تعبير عن عجز الانسان وعقمه، وتمشي الاحياء فوق بقايانا وداسوا عظامنا ودمانا. الموت هو المعادل الموضوعي للحياة وما منعها من حب الحياة هو الظلم والفقر والالم في مأساة حياة ترحل نازك مع الزهاد وتغوص في عالم القسوة وتغادر المدينة للريف وتبحث عن السعادة مع بقية الشعراء، ولكنها تعود خاوية الوفاض، رحلتها هنا تذكر بقصيدتها دكان القرائين الصغيرة حيث دخلت ازقة بغداد تبحث عن مصحف صغير تهديه لحبيبها المسافر ولكنها تعود من رحلته الروحية والمعبقة بالحناء والعنبر والعطر بلا مصحف صغير يعلقه حبيبها علي صدره كتعويذة تحميه من العيون وربما من الغياب. لم يكن الموت خوفا كله فهو تعبير عن السعادة لانه يحررها من مواصلة الرحلة الطويلة بحثا عن السعادة. تمنت الملائكة الموت سريعا وفي الشباب لانه، اي الموت، هو بمثابة العرس وقد خصصت في كتابها قضايا الشعرالمعاصر فصلا عن العلاقة بين الموت والشعر، حيث قدمت تحليلا عن موت الشاعر الرومانطيقي في عز شبابه، كيتس وبروك انكليزيا ومحمود الهمشري والشابي عربيا. انه تعبير عن اصالة الشعر وانفعالية الشاعر وحساسيته العالية التي تدفعه، ولهذا ظلت تنتظر الموت الذي كانت تعتقد انه سيحضر سريعا وليس متأخرا. وهنا كان حنين الملائكة للموت نوعا من الهروب من معاناة الحياة وملجأ من الخوف من تقدم العمر والشيخوخة. التوتر والمراوحة بين الخوف من الموت وكراهية الحياة كان عاملا غذي رحلتها ومن هنا جاء النداء دائما للعودة للشعر عودي للشعر والاحلام من اي شيء انت هاربة ، ان حب الشعر والقصيدة كان مخرجها من الخيارين الصعبين الموت والحياة. ومن هنا كان الطابع المميز لشعرها هو الحزن، اليأس، الكآبة، الالم والتشاؤم والعزلة والتمرد والتسليم، ربما كان خوفها من الموت نابع من حوادث في حياتها وهو موت والدتها في لندن عام 1953 بعد معاناة طويلة مع المرض، وهو ما تحدثت عنه في لمحات من حياتي وثقافتي . حاول الكثيرون فهم سر تعلق الملائكة بفكرة الموت منها ربطها بفظائع الحرب العالمية الثانية او حوادث ومآس عائلية او نظرا لتجذر فكرة الحزن في شعرها او محاولتها فك لغز الموت ولكنها في النهاية وقفت عاجزة امام سره فقد ظل الموت لغزا ظل يعاند ويراوغ قلبها الحزين. ومن هنا اشارت الي كيفية تعامل روبرت بروك الذي زارت مسكنه في كامبريدج وأحد الشعراء الذين تأثرت بهم، ان بروك لا يرِي في الموت غرابة تجعله يبالغ في حبه وانما هو شيء اعتيادي له ما للحياة من جمال ، وفيه ما فيها من انزعاج لا اكثر .
ولكن هذا الاهتمام بلغز الموت كان سابقا ووعيه مبثوث في كل اعمالها. تذكر حياة شرارة في كتابها صفحات من حياة نازك الملائكة (1994) ان نازك واجهت فكرة الموت بطريقة ارعبتها عندما كانت تدرس في جامعة ويسكونسن، ماديسون حيث مرت في خاطرها فكرة موت الانسان متجمدا في رحلة لها الي بحيرتي كومو وجنيفا اللتين تبعدان قليلا عن ماديسون، وهي تجربة رهيبة تركتها اسيرة مخاوف وشربت اكثر من كوب شاي ساخن لتهدئة اعصابها. وقد تحدثت نازك عن معركة امها مع المرض وموتها وقضيت اربعة ايام رهيبة في لندن لا اقوي علي النوم، وكنت اتعذب بفكرة عنبر الموتي الذي ترقد فيه امي الحبيبة وكانت لا تفتأ ترن في سمعي: انهم سيقتلونني .
نازك الملائكة كانت صورها تعلق في محلات بغداد واشتهرت ولما تبلغ الثلاثين من عمرها. عاشت سنواتها الاخيرة بعيدة عن الاضواء لدرجة ان اكثر من شائعة انتشرت عن وفاتها، وهي بعد ان استقالت من جامعة الكويت عام 1982 وعادت لبغداد ظلت بعيدة عن الاعلام . وانتقلت الي القاهرة بعد عام 1994 حيث لفظت انفاسها، ماتت نازك الملائكة في قاهرة المعز ، وكأن الزمن يعيد دورته الغريبة فعندما اجتاح المغول بغداد عام 1256 ودمروها نهضت مصر والقاهرة ولكن قاهرة اليوم لم تنهض عندما سقطت بغداد 2003. تموت نازك الملائكة التي اختارت العزلة والانطواء في سني حياتها الاخيرة وبغدادها/ عراقها يعيش وباء الموت تماما كما كتبت قبل ستين عاما عن وباء الكوليرا استيقظ داء الكوليرا... حقدا يتدفق موتورا ، الجامع مات مؤذنه... الميت من سيؤبنه . موتي موتي ضاع العدد.. موتي موتي لم يبق غد .
ولدت نازك صادق الملائكة في بغداد يوم 23 آب (اغسطس) عام 1923 في أسرة معروفة بحب العلم والثقافة والشعر وكانت أمها تنشر الشعر في المجلات والصحف العراقية باسم أدبي هو (أم نزار الملائكة) أما أبوها صادق الملائكة فترك مؤلفات أهمها موسوعة (دائرة معارف الناس) في عشرين مجلدا. درست الشاعرة الراحلة اللغة العربية في دار المعلمين العالية وتخرجت فيها عام 1944 كما درست الموسيقي بمعهد الفنون الجميلة. ثم درست اللغات اللاتينية والانجليزية والفرنسية وأكملت دراستها في الولايات المتحدة عام 1954 حيث حصلت بعد عامين علي شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن. والملائكة لقب أطلقه علي عائلة الشاعرة بعض الجيران بسبب ما كان يسود البيت من هدوء ثم انتشر اللقب وشاع وحملته الأجيال التالية.
وعملت الملائكة بالتدريس في كلية التربية ببغداد ثم بجامعة البصرة ثم بجامعة الكويت. صدر ديوانها الأول عاشقة الليل عام ( 1947) ببغداد ثم شظايا ورماد عام ( 1949) و قرارة الموجة عام (1957) و و شجرة القمر (1968) و يغير ألوانه البحر (1970 ) و الصلاة والثورة ( 1978) كما صدرت لها عام 1997 بالقاهرة مجموعة قصصية عنوانها الشمس التي وراء القمة .
ومن بين دراساتها الأدبية: قضايا الشعر المعاصر (1962) و سيكولوجية الشعر ( 1992) فضلا عن دراسة التجزيئية في المجتمع العربي (1974 ) ومقاطع من سيرتها الذاتية اهتمت بالسيرة الذاتية لمحات من سيرة حياتي وثقافتي .
ورحبت الشاعرة شعرا بثورة رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم عام 1958 لكنها اضطرت لترك العراق وقضت في بيروت عاما كاملا، وفيما بعد وصفت قاسم بالرجل الذي استهوته شهوة الحكم.
ورغم غياب نازك الملائكة عن المنتديات الثقافية في السنوات الأخيرة فإنها ظلت في دائرة الضوء إذ حصلت علي جائزة البابطين عام 1996. وقدمت لها جامعة البصرة دكتوراه فخرية.
كما أقامت دار الأوبرا المصرية يوم 26 ايار (مايو) 1999 احتفالا لتكريمها بمناسبة مرور نصف قرن علي انطلاقة الشعر الحر في الوطن العربي. وشارك في الاحتفال الذي لم تشهده نازك الملائكة لمرضها شعراء ونقاد مصريون وعرب بارزون إضافة إلي زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة الذي أنجبت منه ابنها الوحيد، البراق.
احبت نازك طفولتها وتمنت قائلة: ليتني لم أزل كما كنت طفلا ليس فيه إلا السنا والنقاء كل يوم ابني حياتي أحلاما وأنسي إذا أتاني المساء.
فيما يلي قصيدة (الكوليرا) التي تعتبر اول قصيدة تفصيلة عربية
القدس العربي- 22 يونيو 207
******************************************************
ملف النهار
رحيل نازك الملائكة
توفيت أول من أمس، في القاهرة، الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة عن عمر يناهز الرابعة والثمانين. لكن الشاعرة كانت "توفيت" أدبياً واجتماعياً، قبل هذا التاريخ بكثير، مذ قررت الانسحاب من الشعر والنقد و... العيش. على أن هاتين الوفاتين لن تطمسا يوماً حقيقة كونها رائدةً، مع آخرين من شعراء بلاد النهرين وما بينهما، في كتابة "الشعر الحر"، وفي أنها الأولى ربما بين اللواتي كتبن قصيدة "أنوية" جريئة، فردية ورومنطيقية، في حياتنا الأدبية العربية الحديثة، المثقلة بريادات الشعراء الذكور وأحمالهم الإبداعية الجمّة. وإذ تُحفَظ لها الريادة في هذين المجالين، كما أيضاً في باب النقد الأدبي، فذلك قد لا يكون كافياً تماماً لكي يثمّن أهل الاختصاص تثميناً إيجابياً كاملاً، “عيار” الذهب الذي صقلت الشاعرة سبائكه في خمسة دواوين شعرية، بدءاً من قصيدة "الكوليرا" الشهيرة التي جادت بها قريحتها ذات يوم من عام 1947. فهذه مسؤولية يفترض بالنقد الموضوعي الهادئ أن يضطلع بها، في غير مثل هذه المناسبة، كاشفاً عن قابلية هذا الذهب "الملائكي" لمعايشة أزمنة الحداثة الشعرية وما بعدها، والعيش فيها. "النهار" التي كانت منذ تأسيسها، ولا تزال، مكاناً رحباً للالتقاء بالشعر العربي وشعرائه، تفتح صفحتها الثقافية هذه، لشهادات عراقية ولبنانية في الشاعرة، وإن راحلةً، باعتبار أن الذهب الشعري إذا كان أصيلاً يستطيع أن يشعّ من تلقائه، وخصوصاً في غياب اليد التي صقلته.
***
نازك الملائكة حقاً ماتت
ماتت الشاعرة العراقية نازك الملائكة. سيقول كثرٌ إنها "ماتت" منذ وقت طويل: منذ قرّرت، مثلاً، التوقّف عن كتابة الشعر، أو على الأقل عن نشره (صدرت مجموعتها الأخيرة "يغيّر ألوانه البحر" عام 1970)، أو منذ ارتأت الانسحاب الى ظلال الصمت وشِعر الحياة الخاصة، بعيداً من ضجيج الاعلام و"فخاخ" ما يسمّى بالوسط الثقافي. إنسحاب يشبه، إلى حد بعيد، الانتقال الى الضفة الثانية. إنسحابٌ حاسم ومحميّ، حدّ أن البعض فوجئ بخبر رحيلها، ولم يتمالك من السؤال: "أحقاً كانت لما تزل على قيد الحياة؟".
أجل، كانت نازك الملائكة لا تزال على قيد الحياة. وربما على قيد الشعر ايضاً. ما أدرانا، نحن الدخلاء الخارجيين، بحقيقة أحوالها مع الكتابة، وفيها، وبكيفية تأثيثها عزلتها الطويلة تلك؟ كانت حيّة إذاً، وماتت "فعلياً" في العشرين من الشهر الجاري. لكننا لن نغتنم "فرصة" غيابها لكي نكيل لها المدائح. من جهتي، مثلاً، لن أدّعي بصفاقةٍ أني أحبّ شعرها، أو أني حتى أنتمي إلى بعضه، رغم "إرهاب" رحيلها. فلرحيل الكبار هيبةٌ مشوِّشة لا يُستهان بها، وهيبةٌ محرِّضة على اتباع اللياقات، وربما التزوير: سأكون كاذبة هنا، ومبالِغة هناك. حسبي أن نازك الملائكة تستحق أكثر بكثير من رياء المجاملات الراثية: بل أحترمها حدّ أني أنظرها اليوم، بعد وفاتها، عيناً بعين، وأقول لها: لا صلة قربى لي بشعركِ. ولا أحب نَفَسكِ الرومنطيقي الذي يلامس شفا السذاجة في بعض القصائد، حتى من هذه المسافة المتباعدة التي تفصلني عن عصركِ، وهي مسافة كان ليكون من شأنها أن "ترأف" برومنطيقيتك، وتبرّرها.
لا، لستُ بمتذوّقةٍ لشعركِ، لكني، في المقابل، أحترم كتاباتك النقدية (رغم اختلاف وجهتي نظرنا)، مثلما أحترم تشميركِ الشجاع عن ساعدَي لغتكِ الشعرية، وغوصكِ، أو على الأصحّ، محاولة غوصكِ في هاوية الحداثة، أو لنقل "التجديد": أسواء نجح ارتماؤكِ هذا أم لم ينجح، - وكيف ينجح ارتماءٌ يليه تراجعٌ سريعٌ وارتدادٌ ناقضٌ كتراجعك وارتدادك؟ – فالمسألة أنكِ ارتميتِ. وفي هذا الارتماء مبادرة. وفي مبادرة كهذه مساءلة. وفي كل مساءلة تطوّر ما، لا مفرّ.
يعجبني أيضاً، بل ربما يعجبني خصوصاً حضوركِ الناتئ كامرأةٍ وشاعرةٍ (وإن لم يكن هذا هو المعيار، لكنه يدغدغ كياني "الأنثوي"، أعترف)، وسط عصبة من روّاد الخمسينات والستينات، رغماً عن أنف ذكورة ذلك الزمن (ذكورةٌ لم نفلح في دقّ عنقها حتى يومنا هذا).
أحبّ أيضا البعد الانساني في بعض شعركِ. ولا أعني بالبعد الانساني اعتمادكِ نبرة الالتزام والنضال لايصال رسالتكِ. بل إيهامكِ إيانا، نحن قراءك، أنّ العالم الذي تتحدثين عنه هو عالم قد عشتِه بلحمكِ ودمكِ، بأوجاعكِ وجروحك، بأحلامك ودماراتكِ. لكني آخذ عليكِ أن رومنطيقيتكِ المعجمية واللغوية لا تتناغم مع زئير الملدوغ بسمّ الدهر والمحروق بجمر التجربة. عدم التناغم هذا، ربما هو الذي حال دون أن تغرز أناكِ أظافرها في ظهر العالم، ودون أن يحفر شعركِ في جوهر الأشياء وصولاً الى اللب الذي يمس الانسانية جمعاء.
***
ماتت الشاعرة العراقية نازك الملائكة. "ما لكِ ولمحاسبتها الآن، غداة رحيلها"، تسألون؟ أخاف أن تبهت مآخذي النقدية عليها، وأن تتضخّم أسباب إعجابي بها. هذا ما يفعله الموت (للأسف؟ لحسن الحظ؟).
وهذا ما لا يستحقه الشعر.
***
وداعاً نازك
"وداعاً نازك"، أقول، ولستُ عديم الوعي بما في عنوان كهذا من مفارقة. فيه من الألفة وإلغاء المسافة ما لا ينبغي أن يهبه لنفسه مَن لم يعرف الشاعرة الفقيدة معرفة مباشرة ولم يكن، وهذي هي حالتي أنا، من مخاطبيها القريبين. ولكني إذ أكتب على هذه الشاكلة فإنما أحاكي عُرفاً سرى في كتابات أغلب النقّاد. لقد ارتبطت نازك الملائكة ببدايات الشعر الحر، وبدايات تفتّح الوعي الحديث عند الأدباء العرب، بحيث صارت واحدة من مؤسّسي هذا الوعي وواحدة من أكبر "الشقيقات" وأقربهنّ إلى الروح في الدرب الشائك الطويل.
وبالرغم من كلّ ما أثاره توقّف الشاعرة بعد ثلاث مجموعات شعريّة شديدة الخصوصيّة من أسف واستغراب، ومع كلّ ما يكتنف إنتاجها الشعريّ من ظلال رومنطيقية، لم يكن ممكناً أن يتخلّص منها الشعر العربي دفعة واحدة، ومع جميع الحدود شبه المتعسفة التي يوحي بها تنظير نازك، والتي يبدو أنها أرادت أن تحبس فيها انطلاقة القصيدة الحرّة، رغم هذا كلّه كان انخراطها في التأسيس الحقيقيّ للشعر العربيّ الحديث وللوعي العربيّ الحديث، النسويّ منه أو الإنسانيّ بعامّة، وثيقاً ومؤكَّداً. يكفي أن نعيد قراءة "عاشقة الليل" و"شظايا ورماد" و"قرارة الموجة"، لنقف على شعر امرأة عرفت أن تمنح العربيّة سيولة ودفقاً لا يتراجع أمام ما عرف السيّاب والبيّاتي أن يمنحاه في الفترة نفسها للقصيدة؛ امرأة عرفتْ، إلى ذلك، أن تعبّر بروعة ونفاذ عن عزلتها كامرأة شرقيّة. وهي لم تفعل ذلك بلغة شعاريّة ولا في نواح وشكوى مريرة، بل بأنْ سلكت طريق الصوَر والاستعارات والكنايات الكبرى. رحلة في قطار، جلسة وراء نافذة تفصلها عن العالَم وفي الأوان ذاته تأتيها منه بصخب وإشارات متنائية، مراقبة ليليّة حالمة للنجوم، وضعيّات "دراميّة" وتأمليّة كهذه كانت تكفيها لترسم انكفاء عالَمٍ صودرتْ منه رغبته، ولتؤكّد هذه الرغبة بقوّة لا تكفي لإخمادها جدران الشرق العتيق كلّه.
****
أكبر شاعرة عربية في القرن العشرين
حينما كنت أدرس في بداية الستينات في كلية التربية في بغداد كنت أرى نازك الملائكة تتنقل بين الصفوف، حاملة في يدها إضبارات لا بد انها كانت تتضمن محاضراتها التي تلقيها على طلبة اللغة العربية الذين لم أكن واحدا منهم، فقد كنت طالبا في قسم اللغة الإنكليزية. ورغم اني كنت قد قرأت حتى قبل أن أنتقل الى بغداد للدراسة وفي مرحلة مبكرة دواوينها "عاشقة الليل" و"شظايا ورماد" و"قرارة الموجة"، فلم أجد في نفسي الشجاعة لأوقفها وأعلن لها عن إعجابي بقصائدها ذات النبرة العاطفية الغنائية الحزينة التي كنت أفتقدها في قصائد زملائها الآخرين من الشعراء الذين انتقلوا بالشعر العربي من القصيدة العمودية الى قصيدة التفعيلة او الى ما صار يعرف خطأ ب"الشعر الحر" الذي كانت نازك الملائكة أول من اقترحه كمصطلح. لم يكن هذا الشعر الذي ينسب الفضل في ابتكاره الى نازك الملائكة وبدر شاكر السياب شعرا حرا بالمعنى الغربي للمصطلح، فهو شعر يلتزم من الناحية الشكلية التفعيلة التقليدية ولا يختلف عن الشعر العمودي إلا بحرية الشاعر في عدد التفعيلات التي يستخدمها في البيت الواحد. لكن هذه الحرية قلبت الشعر العربي رأسا على عقب، متيحة للشاعر منظورا آخر الى موضوعه وفي طريقة التعبير عنه.
لم تكن نازك الملائكة او السياب أول من ابتكر هذا الشكل الجديد في كتابة القصيدة، فقد سبقهما آخرون في ذلك، لكن أهميتهما تكمن في ابتكار قصيدة جديدة تختلف كثيرا عن الطريقة التي تنظر فيها القصيدة العمودية الى العالم الذي تتعامل معه. من خلال قصيدة نازك والسياب صار الشعر أكثر التصاقا بالحياة الحقيقية للإنسان وأكثر حساسية في التعبير عن مواقفه من العالم الذي يعيش فيه. فالصوت هنا هو صوت الشاعر الشخصي والخاص والإستثنائي، مقابل الإيقاع الخارجي الذي شكّله تاريخ طويل من القصائد المكررة المسطحة، تاريخ يرتبط بعقل لم يعد راهنا وبقيم لا تكاد تنتمي الى عصرنا الذي نعيش فيه. نازك في هذا المعنى شاعرة رائدة فتحت الباب للقصيدة العربية الحديثة التي سارت بالتجربة الى أقصى مدياتها، رغم أن نازك نفسها لم توافق على هذا المآل. فإذا كانت تبدو مبتكرة ومجددة في قصائدها وكتاباتها النقدية الأولى فإنها صارت في ما بعد أكثر صرامة ومحافظة في تقويم التجارب الشعرية الجديدة، في محاولة منها لتقييد القصيدة الجديدة باشتراطات جديدة او قديمة، ولكن أيضا للجم التطور الكبير الذي شهدته القصيدة العربية التي أعقبت قصيدة الرواد.
لم تكن نازك الملائكة مكثرة في كتابة الشعر، فقد نشرت خمسة دواوين، واحد منها هو مطولة شعرية كانت كتبتها في بداية العشرينات من حياتها بعنوان "مأساة الحياة وأغنية للإنسان"، لكنها لم تنشرها إلا في العام 1970، وهي مطولة من 500 صفحة تلتزم الشكل العمودي. كان ديوانها الأول المنشور هو "عاشقة الليل" قد كرس سمعتها كشاعرة كبيرة. ورغم انه ديوان يلتزم هو أيضا الشكل العمودي إلا أن نبرة نازك الرومنطيقية الحزينة سحرت الكثيرين، فضلا عن لغتها الرصينة الخاصة بها. أما سمعتها كشاعرة مجددة فجاءت مع ديوانيها "شظايا ورماد" و"قرارة الموجة"، في حين شكل ديوانها "شجرة القمر" خيبة بالنسبة الى الكثير من شعراء الحداثة.
ولعل ما يلفت في تجربة الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة هو توقفها عن كتابة الشعر منذ ما يقرب من أربعة عقود من الزمن، وهذا يبدو لي على علاقة كبيرة تارة بمفهومها عن الشعر وأخرى بروحها الرومنطيقية الغنائية. ربما يمكن أن ننسب ارتدادها عن روحها التجديدية الأولى الى النزعة الأكاديمية التي هيمنت على تنظيرها للشعر، أما توقفها عن الكتابة فيرتبط بطبيعة شعرها. فإذا كان من الممكن لفتاة شابة في العشرينات او أوائل الثلاثينات من عمرها أن تتأثر بشاعر مثل كيتس وأن تكتب شعرا يتفجر عاطفة، فانه صار من الصعب عليها امتلاك مثل هذه العاطفة في فترة تالية. وما كان في إمكانها الإنتقال الى فهم جديد آخر للشعر ينتقل بها الى عوالم ورؤى أخرى. لكنها امتلكت ما يكفي من الشجاعة والإخلاص مع نفسها لتتوقف عن الكتابة.
*****
سيسألنا الله يوماً فماذا نقول؟
غياب الشاعرة العراقية نازك الملائكة في القاهرة أول من امس، يعيد القاء الضوء على دورها الريادي في حركة الشعر العربي الحديث، وعلى مسار الشعر العربي بعد النصف الثاني من القرن الماضي وحتى اليوم.
حفرت نازك الملائكة طريقاً آخر للشعر وشكلاً مغايراً للقصيدة العربية. وتعتبر من أبرز رموز الحداثة في الشعر المعاصر وأكثر الاصوات النقدية اثارة للجدل في النصف الثاني من القرن الماضي، وخصوصاً في أطروحاتها في كتابها "قضايا الشعر المعاصر". ولعل ما حققته نازك الملائكة في هذا المجال انها "وقتت" له في مواكبة للتغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي احرزتها الحرب العالمية الثانية. ثمة لحظة تاريخية كانت مؤاتية ولم تدعها نازك الملائكة تفلت منها. وهي لم تكتف بالقصيدة فقط بل اشتغلت على التأسيس النقدي وكتبت في تنظير حركة الشعر الحديث ومقوماته الفنية. ووضعت عمود الشعر الخاص بالتفعيلة مع وعي خاص ومرهف بالبنية الايقاعية في القصيدة العربية. وربما يعود هذا الشغف الخاص بالايقاع لأنها في صغرها تعلمت العزف على العود على أيدي امهر العازفين في بغداد، ما اكسبها حسا بإيقاع الكلمة وجرسها. ولكن، هل كانت ريادة نازك الملائكة ومكانتها الشعرية وخطابها النقدي استجابة لرغبتها في البحث الدائم عن طريق جديد؟ في هذا يقول الدكتور احسان عباس "ان ما دفع نازك لارتياد تجربة جديدة هو محاولة التغلغل في اعماق النفس في مجتمع لم يتعود صراحة المرأة في التعبير عن مشاعرها، وان هذه التجربة تخلصها من ايقاعات البطولة الرجالية في شعر الرجال". وهذا الكلام لا يردّ الفضل الى مصدره فقط بل يؤكد الدور المؤسس والمجدد للمرأة في الشعر العربي. لكن المفارقة، هنا، ان ثمة من صنّفها ناقدة اكثر من كونها شاعرة، مع الاعتبار بفضل السبق لقصيدتها "الكوليرا" عام 1947 والتي سبقت قصيدة بدر شاكر السياب (1926 – 1964) "هل كان حبا" والتي نشرت في العام نفسه.
اثارت كتابات نازك الملائكة النقدية السجال والنقاش وخصوصا في قضية الشكل. انهمكت في البحث والتقصي لوضع عمود جديد حر للشعر والدفاع عنه بقصد توسيع الآفاق والاحتمالات للشاعر، وتقول في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" عن ذلك: "ان الشعر الحر شكل جميل مكتمل وهو غير مسؤول عن ضعف طائفة من شعرائه وجهلهم واغرابهم، تماما كما ان شكل الشطرين جميل في ذاته، وهو غير مسؤول عن تقليدية الذين ينظمونه وجمودهم، ولذلك اؤمل ان يكون رأيي هذا دعوة فعلية الى الفصل بين الشكل المجرد وعيوب الشعر الذي ينتظم في اطار هذا الشكل. ان الشكل، بصفته المطلقة، صيغة جمالية مبرأة من العيوب، سواء اكان حرا ام خليليا".
لكن نازك الملائكة لبثت صادقة في مغامرتها الشعرية، وفي تفاعلها مع صيغ الاشكال والتصنيفات التي وضعتها. وقد ذكرت ذلك: "نبه اكثر من اديب الى انني انا نفسي استعملت التشكيلات الخماسية في شعري، وقد ادهشني هذا فرجعت الى قصائدي فاذا الامر صحيح، ومن ثم فان الظاهر انني مجزأة الى جانبين: جانب منه ذهني يرفض كل تشكيلة خماسية رفضا كاملا، وجانب منه سمعي يتقبلها ولا يرى فيها ضيرا، او لنقل ان الناقدة فيَّ ترفض والشاعرة تقبل". ورغم ذلك، امتاز شعرها بالقدرة الفائقة على بناء القصيدة، وعلى بلورة لغة خاصة بها على المستويين التركيبي والدلالي. وتحمل قصيدتها مناخاً رومنطيقياً خالصا يشبه شعر الشاعرات الرومنطيقيات في بريطانيا، واستطاعت ان تحمل في شعرها مضامين ذاتية كان حدسها استشرافياً وخصوصاً في دمج الخاص بالعام. واكثر ما يبدو ذلك ايضاً في ما قالته في هذه القصيدة:
"سيسألنا الله يوماً فماذا نقول:/ نعم قد منحنا الذرى والسواقي/ ومجد التلول/ ولكننا لم نصنها، ولم ندفع الريح والموت عنها/ فباتت كزنبقة في هدير السيول".
كأنها ادركت ان ما حاولته ظل ناقصاً ولم يصل الى غاياته. وهذا ربما يفسر ما كتبته في مقدمة ديوانها "شجرة القمر" وتنبأت فيه بعودة الشعر العربي الى القصيدة التقليدية.
المهم، لم تصدق النبوءة في عودة الشعر العربي الى التقليدية، ولكن صدقت النبوءة في عودة الواقع العربي الى ما هو أشد وادهى من التقليدية، الى سلفية عصبية مريضة. والدليل ما جرى في العراق والعالم العربي من نكوص وارتداد وانقلابات وحروب. وهذا، ربما، اضعف صوت نازك الملائكة، اضافة الى فترة مرضها الطويلة وانكفائها. هل نقول ان نازك الملائكة هي الابنة الحقيقية لزمن التمرد والتجديد؟ ام انها نموذج شعري فريد لم ينل حقه في عالمنا العربي؟
يبقى ان نازك الملائكة وبعد كل هذه الرحلة الصعبة، استطاعت بفضل موهبتها الشعرية الاصيلة وثقافتها التراثية والحداثية الواسعة، ونزعتها الواضحة الى التمرد ورؤيتها النقدية المطعمة بالبحث والتجريب والتجريس الاكاديمي، ان تثبت ريادتها وحضورها واضافتها الخاصة في الشعر والنقد والحياة.
******
خذلها العالم بأجمعه
ذات يوم في عمان وفي بار ال"هورس شو"، ذكر لي الشاعر العراقي الكبير المرحوم عبد الوهاب البياتي وبما يشبه الاعتراف ان نازك الملائكة هي أول من كتب القصيدة الحرة في العراق. وقد سبقته هو والسياب بأكثر من سنة ونصف سنة عندما كانوا في دار المعلمين العالية في بغداد. كنا نتحدث عن قصيدة جديدة للبياتي مهداة إلى القس الشاعر ارنستو ساباتو قرأها لي فاقترحت عليه أن يسميها "التنين" وقد وجد العنوان جميلا فأصبح اسم القصيدة "التنين" من دون أن يحذف الإهداء الذي وضعه في ما بعد بين قوسين.
لم يكن البياتي في ذلك اليوم كعادته، فقد بدا حزينا صامتا. وعندما حدثته عن زوجتي وأطفالي الذين تركتهم عندما هربت خلفي تحت سياط الديكتاتور، بدأت الدموع تنهمر من مقلتيه. وحين شاهد صاحب البار دموع البياتي اقترب مسرعا من الطاولة موجها الكلام اليّ: ماذا يحدث على طاولة البياتي؟ لكن أبا علي رد عليه قائلا: "إني أتذكر... والذي يجلس أمامي صديقي". سرد علي كيف انتحرت ابنته البكر في أميركا وكيف منعوه في بغداد من السفر من اجل نقل الجثمان إلى العراق. قال: لقد تدخلت عاهرة تعمل في القصر الجمهوري لدى وزارة الثقافة واستحصلت لي الموافقة على السفر.
رغم اني رافقت البياتي سنتين متواصلتين في عمان لم ننقطع يوما واحدا وأوصله في نهاية كل ليلة إلى البيت ، إلا اني لم اعتد ان اسمع منه مثل هذه الأسرار، وخصوصا سر الريادة الذي لا يزال يشغل الكثير من النقاد والمؤرخين والقراء أيضا. إذاً، نازك الملائكة هي الرائدة، كما يقول مجايلها البياتي، احد أعمدة الشعر العربي الحديث في العالم العربي. أما لماذا لم يصرح بذلك في لقاءاته الصحافية الكثيرة فهذا ما لا أريد أن أخوض فيه.
كانت الشاعرة الرائدة تعزف العود وتجيد أربع لغات هي الفرنسية والانكليزية واللاتينية بالإضافة إلى العربية. بدأت بكتابة الشعر في وقت مبكر جدا متأثرة بأمها الشاعرة سلمى عبد الرزاق وأبيها الشاعر صادق جعفر الملائكة وبجو البيت الذي يخصص الكثير من الوقت للأدب والفن والحرية كذلك. كانت أول طالبة في العالم تقبل في جامعة برنستون الاميركية التي كانت حكرا على الرجال. نازك الملائكة التي شرّعت الكثير من الأبواب أمام الأجيال الشعرية قررت ان تغلق خلفها الباب والى الأبد بعدما خذلها العالم بأجمعه حين لم يعطها حقها في الريادة.
*****
الرائدة المغيَّبة
تصحو نازك الملائكة فجأة في أذهاننا وتغيب من دون أثر، بسبب صرعة صحافية أو حفل تكريم لها أو جائزة. هكذا كانت في حياتها مذ وعيتُ الحياة الادبية في العراق حتى السنوات الاخيرة بعد مغادرتي الوطن، الى لحظة الاعلان عن وفاتها. لكن غيابها حقيقة اليوم ليس من دون أثر، فما تركته من دواوين سيخلِّد ذكرها طويلا، في الوقت الذي يثير فينا جملة من التساؤلات، على الاخص الاجيال التي أتت من بعدها وهي المرأة الشاعرة ومن رواد الشعر العربي الحر.
هكذا كانت الحال دائما معها في ذاكرة الاجيال اللاحقة والحالية، شاعرة مغيبة أو منسحبة. ولا يتوقف الكثيرون منا للسؤال عن أسباب ذلك، وخصوصاً العراقيين، إذ لطالما غيَّب التاريخ والانظمة المتعاقبة على العراق من شعراء وكتاب وعلماء. اللافت أن تشذَّ نازك الملائكة، في رأيي، بغيابها المضاعف في حياتها، فبعيدا عن جدل الأولوية في كتابة القصيدة الحرة، لا أذكر في دراستنا للأدب في مناهجنا المدرسية الكثير عنها ومدرّسة الادب العربي الوحيدة التي اخصها بالامتنان لحماستها للشعر آنذاك، الشعر الحر على الاخص، بذلت جهدا متميزا في التعريف ببدر شاكر السياب وفي دراسة شعره ونحن بعد ما زلنا اطفالا، ولكن مع الاكتفاء، وبطريقة مدرسية تقليدية، بالمرور السريع بنازك الملائكة وما صدر لها من دواوين. ورغم ان الشاعرة عملت محاضِرة في سلك التدريس، في البصرة ضمنا، وعرفت بجديتها وصرامتها، لم تأخذ قصائدها حظها من الانتشار الذي أخذته أشعار البياتي والسياب أو أخذه شخصاهما. ذلك حصرا بين أوساط المثقفين والشعراء في مدينة البصرة، مسقط رأسي، التي كانت ايضا مركزا ثقافيا متميزا له ثقله. وستعترض الأجيال التي سبقتني من بعض الشعراء والمثقفين لرأيي، وذلك ما هو الا تكريس لصفة احتكار الحقائق والعلم بالمطلق لكني ارى أنها لم تأخذ حقها ولذلك اسباب بلا شك.
هل لذلك علاقة بسيادة الرجل والتسليم بتفوقه، ام له علاقة بالذائقة وطبيعة النصوص التي كتبتها والتي يعتبرها البعض نصوصا لم ترد لها الشاعرة "المجددة والرائدة والمسافرة" الاخلال بالضوابط الاجتماعية المفروضة في المجتمع آنذاك، لذا جاءت محكمة بسيطرتها على المشاعر والتقنين في العاطفة، وخلت من الحيوية والانفعال اللذين تميزت بهما نصوص السياب، وربما الحيدري والبياتي في ريادتهم جميعا بالشكل والمضمون. يطرأ على البال عامل اخير قد يكون له دوره في مجتمعاتنا العربية، فلا أدري إن كانت لها توجهات او مواقف سياسية او فكرية وايديولوجية لها الاثر في ابتعادها هذا عن الذاكرة في وعي العامة وفي التفاف الوسط "دونها" والاحتفاء بالآخرين من رواد الشعر الحر.
******
مصالحة أخيرة بين أم القصيدة وأبيها
"الموتُ الموتُ الموتْ/ تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ". بهذه الكلمات التي كتبتها في قصيدتها الشهيرة "الكوليرا" (1947)، حطّمت الشاعرة العراقية نازك الملائكة عمودية القصيدة. وبعيداً من سجال الأسبقية بينها وبين مواطنها بدر شاكر السيّاب، لعلها مفارقة أن تحرر القصيدة العربية الحديثة بالموت، والموت وحده. وفاة نازك الملائكة في القاهرة إثر هبوط حادّ في الدورة الدموية عن عمر ناهز الرابعة والثمانين، بعد معاناة طويلة مع المرض، لم تكن مفاجئة، فهذه الشاعرة التي اختارت الصمت والابتعاد، ظلّت محصورة في ذاكرتنا بعصر القصيدة الذهبي، وارتبط اسمها بشكل أساسي بمعركة الشعر الحر. هذه المعركة التي حُسمت اليوم بالتعادل بين طرفيها، بعدما أعلن المجلس العراقي للثقافة في نعيه للملائكة انها "تعدّ من أوائل من كتب الشعر الحر إلى جانب الشاعر الراحل بدر شاكر السياب". لنقل إن للقصيدة العربية الحرّة أبوين إذاً، وها هي الأم تبتعد بصمت، بعدما سبق لها الاعتراف بوجود قصائد أخرى منشورة في مجلات أدبية منذ العام 1932، أي قبل نشرها قصيدتها "الكوليرا". لكن أهمية نازك الملائكة لم تكمن في الشعر فقط، بل في النقد أيضاً، ولا سيما في كتابها المثير للجدل "قضايا الشعر المعاصر". هذه السيدة المولودة في بيئة مرفّهة، كما أخذ عليها منافسوها، عرفت كيف تأخذ مكانها كرائدة من روّاد القصيدة العربية.
ولدت نازك الملائكة في بغداد في العام 1923 في منزل غير بعيد عن أجواء الأدب، فوالدها صادق الملائكة كان أديباً وباحثاً، وأمها سلمى عبد الرزاق كانت شاعرة. هكذا، كبرت الشاعرة في بيئة مثقفّة، فأكملت دراستها الثانوية ثم انتقلت إلى دار المعلمين العالية التي تخرّجت منها في العام 1944 بدرجة امتياز قبل أن تتوجه في العام 1950 إلى الولايات المتحدة حيث أكملت دراستها في اللغتين الإنكليزية والعربية وآدابهما، ونالت شهادة الماجيستر في الأدب المقارن. بعد ذلك، عادت الملائكة إلى وطنها حيث عملت أستاذة مساعدة في كلية التربية في جامعة البصرة. وإضافةً إلى دراستها اللغتين العربية والإنكليزية، كانت الشاعرة تجيد لغات أخرى مثل الفرنسية واللاتينية.
في العام 1947 نشرت الملائكة ديوانها الأول بعنوان "عاشقة الليل"، وتميّز بطابعه الرومنطيقي الحزين والباكي. ثم نشرت ديوانها الثاني "شظايا ورماد" في العام 1949 الذي أثار الكثير من الضجيج بسبب تنافسها مع بدر شاكر السياب حول أسبقية كتابة القصيدة الحرة. ففي حين اعتبرت الملائكة انها أول من كتب هذه القصيدة في "الكوليرا"، قال السياب إن أول قصيدة عربية حرة هي قصيدته "هل كان حباً". موقف نازك الملائكة جاء في كتابها "قضايا الشعر المعاصر"، حيث قالت إن "بداية حركة الشعر الحر كانت سنة 1947، ومن العراق، بل من بغداد نفسها، ثم زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله. وكادت، بسبب تطرف الذين استجابوا لها، تجرف أساليب شعرنا العربي الأخرى جميعاً، وكانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر، قصيدتي المعنونة " الكوليرا " وهي من الوزن المتدارك ( الخبب)". لكن الشاعرة سرعان ما عادت عن قولها هذا وتدراكته في مقدّمة الطبعة الخامسة من الكتاب نفسه، معترفةً: "عام 1962 صدر كتابي هذا، وفيه حكمتُ أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربي، ولم أكن يوم أقررت هذا الحكم أدري أن هناك شعراً حراً قد نظم في العالم العربي قبل سنة 1947 سنة نظمي لقصيدة "الكوليرا" ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ سنة 1932، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين لأنني لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها".
في العام 1965 مثّلت نازك الملائكة العراق في مؤتمر الأدباء العرب، وفي العام 1996 نالت جائزة البابطين تثميناً لدورها التاريخي في "شقّ مسارات جديدة أمام الأجيال الشعرية في مجال القصيدة الحديثة". كُتبت عنها دراسات ورسائل جامعية عدة في الكثير من الجامعات العربية والغربية.
تركت نازك الملائكة أعمالا كثيرة تنوّعت بين الشعر والنقد. لها في الشعر: "عاشقة الليل" (1947)، "شظايا ورماد" (1949)، "قرارة الموجة" (1957)، "شجرة القمر" (1965)، "مأساة الحياة وأغنية للإنسان" (1977)، "للصلاة والثورة" (1978)، "يغيّر ألوانه البحر" (1970)، إضافةً إلى "الأعمال الكاملة"، ولها في النقد: "قضايا الشعر المعاصر"، "التجزيئية في المجتمع العربي"، "الصومعة والشرفة الحمراء"، و"سيكولوجيا الشعر".
وكان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أصدر بياناً عبّر فيه عن "بالغ الأسى والحزن" لوفاة الشاعرة الرائدة "ابنة العراق الغالية التي تعدّ من أبرز مجددي الشعر العربي". وفاة الملائكة التي دُفنت بعيداً عن وطنها، في مقبرة العائلة غرب القاهرة، جاءت في وقت تشهد الحياة الثقافية العراقية نقاشات حامية حول أهمية رعاية الدولة للفنانين والمثقفين، هؤلاء الذين عاشوا شقاء المنافي والقتل والتهجير مراراً وتكراراً.
ملف النهار -22 يونيو 2007
**********************************
ملف الاخبار
نازك (عند) الملائكة
القاهرة ودّعت «عاشقة الليل» إلى مثواها الأخير
الشاعرة التي انطفأت عن 84 عاماً، سبقها اسمها إلى كتب التاريخ. إنجازاتها هي والسياب والبياتي والحيدري، فتحت الطريق أمام مغامرة الشعر العربي الحديث التي أفضت إلى أقاليم لا تتخيّل وجودها! تحيّة أخيرة إلى رائدة «الشعر الحرّ»، وملهمة العصر الذهبي للمدرسة العراقيّة
النخبة العراقيّة طرحت الصوت، قبل أسبوعين: لا تنسوا نازك الملائكة! تباً لقد نسيناها حقاً، كانت غائبة إلى حدّ، منزوية وصامتة، غارقة في مرض بلا قرار، حتى خالها كثيرون تقيم في الكتب والذاكرة الشعرية. نشر الاعلام بياناً يدعو الحكومة العراقية إلى تحمّل مسؤوليتها، و«تبنّي علاج ابنة العراق البارة، ورعايتها الرعاية التي تستحقها كواحدة من أعظم أدباء العراق الحديث»...
لم تعد تنفع النداءات. «عاشقة الليل» ستمضي بأمان إلى موت طالما هجست به في شعرها. لقد تعبت من المرض، من ذلك الوجع الغامض الذي يسكنها، كما سكن قبلها مي زيادة وفيرجينيا وولف. آن لها أن تلتحق بشعرها، بتاريخها، بحقبتها المجيدة التي سبقتها إلى تاريخ الأدب الحديث. انطفأت رسولة «الشعر الحرّ» في القاهرة أول من أمس، حيث تعيش منذ زمن. فخسر الشعر الحديث آخر الشهود على تلك الحقبة الذهبية، في بغداد المنعطفات الحاسمة.
ماتت نازك الملائكة (1923 2007). آخر ضلوع المربّع الذهبي الذي شق طريق الحداثة الشعرية، أغمضت عينيها، مثل أقرانها، بعيداً عن بغداد: بدر شاكر السياب مات في الكويت (1964)، بلند الحيدري في لندن (1996)، وعبد الوهاب البياتي في دمشق (1999)... مثل الجواهري ويوسف الصائغ. غريب أمرهم هؤلاء العراقيين، في علاقتهم بالشعر والوطن والذاكرة والمنافي.
حول ذلك المربّع العتيد انتظمت القصيدة الحديثة التي منها تناسلت تجارب ومدارس واتجاهات. غير مجدية خناقات الريادة: «كوليرا» نازك أم «هل كان حبّاً» للسياب؟ كلتا القصيدتين كتبت عام 1947، صحيح. لكن باكورة الحيدري «خفقة الطين» صدرت عام 1946... والتجارب التي سبقت هؤلاء عديدة خارج العراق، من علي أحمد باكثير إلى لويس عوض صاحب «بلوتولاند» في قاهرة الثلاثينات. الملائكة نفسها اعترفت بذلك لاحقاً. ثم من قال إن الأسبقية الزمنية هي المعيار؟ مع الملائكة وصحبها صار للقصيدة الجديدة وجودها وشرعيتها. صارت قضيّة، رافقها خطاب نظري متماسك. وكان الجمهور جاهزاً لاستقبالها خلال بحثه عن أفق حريّته، وتحولات زمنه.
الحكاية تبدأ ذات ليلة من 1923، في بيت بغداد عريق، والقمر في المحاق. في مفكرته كتب صادق الملائكة، أستاذ النحو (والكاتب لاحقاً) وذواقة الشعر: «30 من ذي الحجة 1341، قبيل منتصف الليل بخمس دقائق، ولدت ابنتي نازك». كان الأب في الثامنة والعشرين، أي ضعف عمر زوجته التي ستنشر لاحقاً نصوصها في الصحافة تحت اسم أم نزار الملائكة. كُتب كثيراً عن البيت الذي احتضن البدايات. هنا ستجمع نازك أفراد العائلة، بعدها بأربع وعشرين سنة، وكانت ترتاد اسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس واريستوفان في معهد التمثبل، وتدرس العود على يد محيي الدين حيدر في معهد الفنون الجميلة. جمعت الأب والأم والأخت إحسان (شاعرة أيضاً)، والأخ نزار (شاعر طبعاً)، عام صدور ديوانها الأول «عاشقة الليل»، لتقرأ عليهم قصيدة كتبتها متأثرة بالوباء الفظيع في مصر. «هذه مشكلة جديدة، من مشاكل ديواني المنحوس»، قالت. ديوانها المنحوس هو «شظايا ورماد» الذي سيصدر بعدها بعامين. شرعت تقرأ: «سكن الليل/ اصغ، إلى وقع صدى الأنّات/ في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الاموات...». وكانت «الكوليرا». أول قصيدة تخطها يراعة نازك، في سياق «الشعر الحرّ» كما سمّته بنفسها كمن يعتذر من سدنة المعبد. أقل ما يقال إنها لم تحقق الإجماع العائلي: «ما هذا الشعر الجنوني؟ أين الوزن؟ أين القافية؟» سأل الوالد منتهراً.
الديوان الذي نشرت فيه القصيدة، تضمّن مقدمة نظريّة تجيب عن أسئلة الوالد الساخطة: «ما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيّدة، بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة، وسدى يحاول أفراد منّا أن يخالفوا، فإذّاك يتصدّى لهم ألف غيور على اللغة، وألف حريص على التقاليد الشعريّة التي ابتكرها واحد قديم أدرك ما يناسب زمانه». إنه بيان الحداثة الأولى إذا جاز التعبير، إعلان حساسية أخرى تبحث عن أشكالها وقوالبها. بدت الشاعرة مشغولة بالأطر النظرية لتجربتها، فيما انصرف السياب والبياتي والحيدري الى ممارسة أقرب الى العفويّة.
نحن في بغداد الأربعينات، والإرث التقليدي ما زال جاثماً على الصدور. ما زال الذوق العام تحت سطوة أحمد الصافي النجفي وحافظ جميل ومعروف الرصافي... وصولاً إلى عابر العهود والمدارس محمد مهدي الجواهري. وابنة العائلة البغدادية المحافظة، ستلعب في ملعب الرجال. الناقد السعودي عبد الله الغذاني أفرد صفحات لافتة لهذه الظاهرة في كتابه «تأنيث القصيدة والقارئ المختلف» (المركز الثقافي العربي بيروت، 1999)، معتبراً نازك «الأنثى التي حطمت أهم رموز الفحولة، وأبرز علامات الذكورة: وهي عمود الشعر»!.
لكن هل أفلتت نازك الملائكة حقّاً من أسر أنوثتها؟ هل خرجت من غرفتها لمواجهة العالم؟ هل كسرت قوالب الوعي «الأنثوي» السائد، في مواضيعها، في لغتها وقوالبها الشعريّة؟ ألم تراوح قصائدها بين واقع بعيد وتهويمات رومنسيّة، بين موت كان يبهرها ويخيفها، وعالم حقيقي بقيت غالباً عند أعتابه، متعثرة بوضعيتها الاجتماعية، في اللغة والحياة؟
يلفت الشاعر العراقي عبد القادر جنابي إلى «وعي دفاعي» لدى الملائكة، في وقوفها «ضد تطورات تيارها الشعري وتداعياته المتمثلة بشعر الماغوط مثلاً». ألم تكتب في «سيكولوجيّة الشعر» أن «تقفية القصيدة مطلب سيكولوجي فني مُلِحّ»، معتبرة القافية «ضرورة لا يمكن أن يستغني عنها الشعر»؟ لكن لندع الشاعرة تدخل التاريخ مطمئنة آمنة... ولنرضخ مرة أخيرة لطلبها القديم: «فدعوا لي ليلَ أحلامي ويأسي/ ولكم أنتم تباشيرُ الشُروقِ».
تنافست نازك الملائكة مع بدر شاكر السياب حول أسبقية كتابة الشعر الحر وقالت الملائكة في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» «كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947، ومن العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المعنونة «الكوليرا»» التي تضمنّها ديوانها الثاني «شظايا ورماد».
الا أنّها لم تلبث أن كتبت العام 1962 في مقدمة الطبعة الخامسة من كتابها المذكور: «أدري أن هناك شعراً حراً نظم في العالم العربي قبل سنة 1947 سنة نظمي لقصيدة «الكوليرا» وفوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة ظهرت في المجلات الأدبية منذ 1932، وهو أمر عرفته من الباحثين لأنني لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها».
سيرة
أبصرت نازك الملائكة النور في بغداد عام 1923. رائدة الشعر الحديث، اختارت والدتها الشاعرة سلمى عبد الرزاق ووالدها الأديب الباحث صادق الملائكة أن يسمّياها نازك، تيمّناً بنازك العابد، الثائرة السوريّة التي قاتلت المستعمر الفرنسي. حصلت على إجازة في اللغة العربية من كلية التربية في بغداد، ثم سافرت إلى الولايات المتحدة لتنال إجازة في الأدب المقارن. نشرت ديوانها الأول «عاشقة الليل» عام 1947، الذي «لا نقع فيه إلا على مأتم، ولا نسمع إلا أنيناً وبكاءً، وأحياناً تفجعاً وعويلاً» على حدّ قول الأديب مارون عبود. ثم تتالت الإصدارات من «شظايا ورماد» و«شجرة القمر» و«يغيّر ألوانه البحر». ولم يقتصر إنتاجها على الشعر بل تجاوزته إلى مجال النقد. أصدرت عام 1962 كتابها النقدي الأول بعنوان «قضايا الشعر الحديث» و«سايكولوجية الشعر»، إضافة إلى دراسة بعنوان «التجزيئية في المجتمع العربي».
غادرت العراق عام 1970 أي بعد سنتين من تولي البعث الحكم وعاشت في الكويت حتى اجتياحها عام 1990 حيث غادرت إلى القاهرة.
***
عانت الملائكة الكثير من المشاكل الصحية قبل رحيلها.
مثواها الأخير في جوار نجيب محفوظ
من أحد مساجد ضاحية مصر الجديدة في القاهرة، شُيّعت ظهر أمس الشاعرة العراقية نازك الملائكة التي رحلت الأربعاء عن 84 عاماً إثر هبوط حاد في الدورة الدموية عانت قبله أمراض الشيخوخة والزهايمر. وبحضور عدد قليل من أفراد الجالية العراقية الذين انضم اليهم عدد من المصريين من سكان حي سرايا القبة الذي عاشت فيه منذ وصولها إلى مصر عام 1990، أُجريت للملائكة مراسم صلاة الجنازة في جامع كشك بحضور أمين المجلس الأعلى للثقافة جابر عصفور وعدد من المثقفين والكتّاب المصريين. ونُقل جثمانها الذي لُفّ بالعلم العراقي الى مقبرة مدينة 6 أكتوبر خارج العاصمة المصرية بجوار مدفن نجيب محفوظ.
ونعى المجلس العراقي للثقافة الشاعرة فيما أوعز رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى القائم بالأعمال العراقي في القاهرة باتخاذ الإجراءات اللازمة لنقل جثمانها الى بغداد.
وأثّر رحيل الملائكة في عدد كبير من الشعراء والكتّاب العرب على رأسهم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الذي قال «إنّها كانت وجهاً مهماً من وجوه الشعر العربي في كل العصور. إذ تبنّت في قصائدها كل الفرص الممكنة للتجديد وعملت على إضافة بحور جديدة إلى القصيدة العربية تتماسّ مع قواعد البحور الشعرية القديمة. وفي مراحل النضج استطاعت أن تعدّل من موسيقى بحورها المبتكرة وتنشىء بحرين جديدين طافت بهما في دواوينها الأخيرة».
وأكد ابنها البرّاق عبد الهادي محبوبة أنّها لم تكن تعاني مرضاً عضوياً حتى صباح الأربعاء حين أصيبت بغيبوبة نقلت على إثرها الى مستشفى مُلاصق لمنزل العائلة. وبين الإفاقة والأخرى، طلبت رؤية عدد من أفراد أسرتها وذكرتهم بالاسم رغم معاناتها مرض «الزهايمر» أو النسيان.
وكانت أعمالها الكاملة قد صدرت في القاهرة قبل 5 سنوات باعتبارها رائدة التجديد ويقول الناقد عبد المنعم تليمه إنّه «في الشعر الحديث، كان أحمد شوقي هو رائد التجديد الذي أحيا الشعر العربي. وبعد شوقي أتى مجدّدون كثر بدايةً من مدرسة الديوان وأبّولو وغيرهم، وبين هؤلاء تقف نازك رائدةً مجددة متفرّدة بدايةً من قصيدتها الأولى «الكوليرا». فقد جدّدت نازك غنائية الشعر العربي وحررته من القافية لتخلق غنائية جديدة تعتمد على التفعيلة وعلى تداخل البحور الشعرية».
حلمها توقّف ولم يحدث الانفجار
ليس مهمّاً اليوم مَن الذي أطلق شرارة الشعر العربي الحديث: نازك الملائكة أم السيّاب... أم لعلّه البياتي؟ فقد انتهى المشروع الحداثي إلى مأزق حقاً وبدا سؤال الريادة ملتبساً، وخصوصاً بعد سجالات ساخنة حول مَن قاد الانقلاب. نازك الملائكة التي عاشت سنواتها الأخيرة في غيبوبة تامّة، توقظ برحيلها أسئلة البدايات وما آل إليه الشعر العربي من خيبات ومعارك حول كرسي العرش. سرعان ما اختلف «الانقلابيون» على توزيع الغنائم وبدت صاحبة «شظايا ورماد» أوّل من ارتدّ على الحداثة ذاتها. في كتابها «قضايا الشعر الحديث»، تنسف الروح التجديدية التي طرأت على قصائد الآخرين. تقول «أما اليوم، فنحن على شيء من القلق على الحركة، وتلك الحدّة التي يكتب بها بعض أنصارها المتحمسين الذين حسبوا أن محاربة آدابنا القديمة جزء من أهداف الشعر الحر». هكذا اعتقدت صاحبة أنّ الأمر يتعلق بالشكل والوزن، ولم تلتفت إلى الروح المتمرّدة في معنى الشعر نفسه والآفاق التي يتطلع إليها الشاعر الحديث. وربما لهذا شنّ يوسف الخال حملة ضد «رائدة الشعر الحديث» في مجلة «شعر» إثر صدور كتابها، مشيراً إلى روح ارتدادية خانت «حركة الشعر الحر» التي تدّعي المؤلفة «اكتشافها».
أمّا الشعرة التي قصمت ظهر البعير بين الملائكة والخال، فتتعلق بموقفها المضاد لقصيدة النثر. اعتبرتها بدعة أوروبية، لا علاقة لها بالشعر. وهنا اتّهمها الخال بالجهل بأنّها «وضعت حجاب السلفية والانغلاقية فتجاهلت كل ما حدث ويحدث من تطورات وتجارب ومفاهيم شعرية في العالم». كأنّ نازك الملائكة اكتفت بقصب السبق ثم انسحبت إلى الخطوط الخلفية، لتنكر على مجدّدي الشعر العربي أي اختراق لجبهتها، فها هي تشير في مقدمة ديوانها «قرارة الموجة» إلى أنها أعطت المفتاح الفلسفي لحياتها الشعرية للقارئ والناقد «وإن لم أجد حتى الآن من استفاد من ذلك المفتاح وفتح به القفل المغلق الذي هو شعري».
لكن البوصلة الشعرية لصاحبة «يغير البحر ألوانه» لم تتوقف عند جهة واحدة، وإذا بها تخوض في مياه، كادت أن تغرق تجربتها كلها، فالشاعرة التي أعلنت حماستها لثورة 14تموز/يوليو، سرعان ما ارتدّت عليها بعدما تكشّفت عن «إرهاب ماركسي بات سيفاً مصلتاً على الأعناق، يقوده عبد الكريم قاسم وزمرته» حسب قولها، ما قادها لاحقاً إلى الصمت لتعود في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، شاعرةً بإهاب صوفية تتلمّس في الماورائيات صورتها كما في «الصلاة والثورة» و«دم على الزنابق» (غير مطبوع).
وتشير في أحد آخر أحاديثها قائلة «أنا الآن على حافة انفجار شعري جديد، يتغيّر في أسلوبي، لذلك سأسكت والصمت أحياناً شعر نائم يوشك أن يستيقظ ويملأ الدنيا موسيقى وعبيراً وجمالاً». لكن حلم الملائكة توقف ولم يحدث الانفجار... بل دخلت في غيبوبة لن تستيقظ منها. وربما هي الآن تنصت إلى مرثية كتبتها ذات يوم بعيد «حتى النهار آوى إلى سرير المساء. لم يبق جوّال سواي، أنا وقلبي في السهوب. لم يبق إلا أنا وآهات المداخن من بعيد وكآبة الليل الجديد»
الأخبار- ٢٢ حزيران 2007
*****
ملف الدستور
نقاد ومبدعون: نازك الملائكة تفردت بوعيها للقالب الإيقاعي وحققت ريادة استهلت بها الحداثة الشعرية
الموت يغيب صاحبة "عاشقة الليل" ومفجرة القصيدة العربية الحديثة
عمان- استذكر نقاد ومبدعون ريادة الشاعرة نازك الملائكة التي توفيت في القاهرة يوم الاربعاء الماضي عن (84 )عاما وعدوها واحدة من المؤسسين للحداثة الشعرية العربية المعاصرة لأنها ربطت بين التجديد الشعري وقراءة ظواهر القصيدة خصوصا في كتابها "قضايا الشعر المعاصر".
وأكد الشاعر والناقد د. علي جعفر العلاق أن وفاة الشاعرة الرائدة نازك الملائكة "أفقدت الشعر العربي اسما سيظل خالدة في الذاكرة".
ورأى العلاق ان الملائكة "كانت جريئة حين واجهت جدارا صلبا من قيم السلوك الشعري والاجتماعي والثقافي، واستطاعت ومعها زميلها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب هز شجرة الشعر العربي هزا عنيفا بعث فيها الحياة وروح الدهشة من جديد".
وأضاف العلاق " لم تكن نازك شاعرة فقط بل كانت ناقدة من طراز ممتاز، وحين كتبت القصيدة الحديثة كانت ترقب المشهد الشعري بيقظة عالية وسجلت العثرات الأولى لهذه التجربة كما سجلت خطوات النجاح الأولى، وقد يجادل البعض في أن نقد نازك كان وسيظل أكثر أهمية من الشعر الذي كتبته ومع ذلك فان نازك قد تفردت كشاعرة بوعيها لشكل الشعر الجديد وتحقيقها لمستويات عالية من البناء الشعري في معظم قصائدها".
الريادة الشعرية
من جانبه قال الناقد فيصل دراج ان الشاعرة نازك الملائكة "من ابرز الوجوه في اطلاق ما يعد الآن بالشعر العربي الحديث وسواء كانت الريادة تعود لها في قصيدتها الشهيرة "الكوليرا" ام إلى الشاعر بدر شاكر السياب فإنها بالتأكيد شكلت مع السياب ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي الصوت الأكبر الذي استهلت به الحداثة الشعرية".
وأضاف دراج "لم تكن الملائكة معنية في ذلك فقط بتطوير القصيدة وحاولت ان تربط بين التجديد الشعري وقراءة ظواهر المجتمع العربي ناظرة إلى حداثة شاملة تربط بين الأدبي والمجتمعي وبين الشعري والوطني".
وتابع " إذ كان من المتفق عليه دورها في الحداثة الشعرية فان هذا الدور ومع تطورات المجتمع العربي لاحقا اخذ يتعقد شيئا فشيئا إلى حدود الالتباس ذلك أنها لم تحدد بشكل كامل الفروق بين الشعر الكلاسيكي العربي القديم والحداثة الشعرية".
وقال دراج يظل السؤال الأكبر الذي يطرح هو التالي: "لماذا أعطت جديدها كله في سن مبكرة وفي فترة من تاريخ المجتمع العربي والعراقي ولم تسطع بعد ذلك الاستمرار في تطوير هذا التجديد الشعري".
فضاء القصيدة
وفي السياق نفسه أكد الناقد د. عبدالله إبراهيم ان " الملائكة تعد الرائدة الحقيقية للشعر العربي الحديث فهي لم تتوقف عند كسر نظام الشطرين واعتماد مبدأ التفعيلة الواحدة، انما قامت بأكثر من ذلك حينما أنشأت فضاء شعرية القصيدة تنهار فيه القيمة القديم الموروثة بما فيها الموسيقي ونظام التشطير ويحل مكان كل ذلك حساسية شعرية جديدة تطرح فيها موضوعات غير تقليدية وما نظام التفعيلة عند نازك إلى ايقاع داخلي يضفي الموسيقى على التعبير الشعري لديها ومن هذه الناحية تعد الشاعرة التي دشنت لفكرة الحداثة الشعرية في الأدب العربي. فيما شغل الآخرون فقط بكسر النظام التقليدي دون الاهتمام بتأسيس ذائقة شعرية مبتكرة".
وأضاف إبراهيم " كانت نازك على وعي بعملية التحديث هذه ليس فقط بحكم قراءاتها وإطلاعها على الثورة الشعرية الحديثة في العالم إنما لأنها فوق ذلك عارفة تماما بما أقدمت عليه وكتابها (قضايا الشعر المعاصر) يعد الأول والأهم الذي قدمت فيه وصفا نقديا وتقنيا لقصيدة التفعيلة. هذا الكتاب ما يزال إلى الآن يعد المرجع الأساسي للشعر الحر في الثقافة العربية الحديثة".
من جانبه عد الناقد فخري صالح ان نازك الملائكة "واحدة من عدد قليل من الشعراء العرب الذين أطلقوا قاطرة التحديث في الشعر العربي المعاصر، وكانت في عرف مؤرخي الشعر أول من كتب قصيدة التفعيلة، ومع انها هاجمت زملاءها من الشعراء الذين حاولوا الخروج بالشعر العربي من تقليديته الا انها تعد بحق ممن استطاعوا ان ينقلوا شعرنا المعاصر من الزمان القديم إلى الزمان الحديث وخلصوا القصيدة العربية من القالب الإيقاعي التقليدي الذي كان يضغط خيال الشعراء وافاق التعبير".
ورأى صالح أن أهمية نازك تنبع من سياق آخر، وهو تنظيرها للقصيدة الحديثة وذلك من خلال كتابها الشهير (قضايا الشعر المعاصر) الذي ناقشت فيه التحولات الإيقاعية والتعبيرية في قصيدة التفعيلة وحددت موقفيها من الإيغال في التجديد والابتعاد كثيرا عن متن القصيدة العربية في تاريخها السابق. ووقفت نازك في هذا الكتاب ضد من سمتهم المغالين في التجديد، ما أبعدها عن السرب الطاغي في قصيدة التفعيلة في الخمسينيات والستينيات وهو الذي دفع إلى فتح القصيدة العربية المعاصر على افاق الحرية المطلقة.
ورأى الشاعر إبراهيم نصرالله ان الملائكة "وضعت ذات يوم اللبنة الأولى في مبنى حداثتنا الشعرية، ذات يوم كانت الأم، وسواء واصلت الإنجاب أو توقفت فإنها تبقى أمّا، وإلا فالأمر يدعو للحزن والأسى، إذا ما اعتبرنا الأم، أي أم، ليست أما، لمجرد أنها كفّت عن الإنجاب".
حضور في ارواحنا
وأضاف نصر الله " لعل نازك الملائكة لم تلدنا مباشرة نحن الذين جئنا بعد ربع قرن من بدء مسيرتها، لكنها بالتأكيد ولدت كثيرين قبلنا، وكان لهم الحضور اللافت في مسيرة أرواحنا".
وزاد " المحزن في كل هذا، هي دورة الحياة، ورياح الموت التي لا تبقي ولا تذر، فكلما ودّعنا أحدا من هؤلاء الكبار، اقتربنا أكثر من تلك اللحظة التي لن نستطيع فيها أن نلوّح لأنفسنا في وداعنا الخاص".
وقل نصر الله "ستعيش نازك الملائكة بقوة الريادة، لأن الريادة تحمل في جوهرها قيمة الشجاعة وكسر الساكن وتذرية الغبار المتراكم على إيقاع القلب وشفافية الروح. لقد فعلت الكثير حين ثارت قبل ستين عاماً، ولم تكتب قصيدتها فقط، بل كتبت القصائد التي كُتبت بعدها، والتي ستُكتب".
وعد الناقد د. إبراهيم خليل وفاة الشاعرة العربية نازك الملائكة خسارة كبيرة - في هذه الظروف - للشعر العربي، والنقد الأدبي، والثقافة العربية المعاصرة على وجه التخصيص.
وأكد خليل ان الملائكة التي تنتسب إلى أسرة تهتم بالعلم والأدب وباللغة العربية نشأت في أجواء فنية وشعرية وتدربت في صباها على الموسيقى وكانت أمها شاعرة ولأبيها مؤلفات في اللغة والتدريس وقد حفظت في صباها الكثير من دواوين الشعر العربي القديم والمعاصر واطلعت على أمهات الكتب الأدبية قبل أن تقرض الشعر وتنظمه. وقبل أن تجاري شعراء جيلها من أمثال البياتي والسياب والحيدري وغيرهم من شعراء التفعيلة الواحدة. ومثلما كانت رائدة في هذا الشعر كانت رائدة أيضاً في مجالات النقد الأدبي وكتابها " قضايا الشعر العربي المعاصر" (1962) شاهد على ذلك. أما كتابها الصومعة الحمراء الذي تناولت فيه الشاعر علي محمود طه فهو أيضاً يؤكد ذلك . يضاف إلى ما سبق كتاب "سيكولوجية الشعر" ومقالات أخرى.
وقال د. سامح الرواشدة "تعيدنا وفاة الشاعرة نازك الملائكة إلى ستين عاما مضت حينما ظهرت على المثقفين والمبدعين العرب بقصيدتها (الكوليرا) والتي أرفقتها بدعوة صريحة للشعراء تحثهم فيها بالاقتداء بالنمط الشعري الجديد والذي سمته شعر التفعيلة منحازة إلى أنوثتها وجنسها في تسميتها كما ذهب في ذلك د. الغذامي".
واضاف الرواشدة "كان لها شجاعة الاعلان عن منجزاها الجديد في حين ظل غيرها هيبا في اعلان ما قدمه خوفا من ردة الفعل في الاوساط الثقافية والعلمية ".
يذكر أن الشاعرة نازك الملائكة ولدت ببغداد في العام 1923، في بيت علمٍ وأدب، في رعاية أمها الشاعرة سلمى عبد الرزاق أم نزار الملائكة وأبيها الأديب الباحث صادق الملائكة، فتربَّت على الدعة وهُيئتْ لها أسباب الثقافة. وما أن أكملتْ دراستها الثانوية حتى انتقلت إلى دار المعلمين العالية وتخرجت في العام 1944 بدرجة امتياز، ثم توجهت إلى الولايات المتحدة الأميركية للاستزادة من معين اللغة الإنجليزية وآدابها في العام 1950 بالإضافة إلى آداب اللغة العربية التي أُجيزت فيها. عملت أستاذة مساعدة في كلية التربية في جامعة البصرة.
تجيد نازك الملائكة من اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية، بالإضافة إلى اللغة العربية، وتحمل شهادة الليسانس باللغة العربية من كلية التربية ببغداد، والماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكونس أميركا.
مثّلت العراق في مؤتمر الأدباء العرب المنعقد في بغداد العام 1965.
شظايا ورماد
وقد صدر لها من الشعر المجموعات الشعرية التالية:
"عاشقة الليل" في العام 1947، "شظايا ورماد" في العام 1949، "قرارة الموجة" في العام 1957، "شجرة القمر" في العام 1965، "مأساة الحياة وأغنية للإنسان" في العام1977، "للصلاة والثورة" في العام1978، "يغير ألوانه البحر" طبع عدة مرات، الأعمال الكاملة -مجلدان- (عدة طبعات).ولها من الكتب: "قضايا الشعر المعاصر"، "التجزيئية في المجتمع العربي"، "الصومعة والشرفة الحمراء"، "سيكولوجية الشعر".
كتبت عنها دراسات عديدة ورسائل جامعية متعددة في الكثير من الجامعات العربية والغربية.
ونشرت ديوانها الأول "عاشقة الليل" في العام 1947، وكانت تسود قصائده مسحة من الحزن العميق "فكيفما اتجهنا في ديوان عاشقة الليل لا نقع إلا على مأتم، ولا نسمع إلا أنيناً وبكاءً، وأحياناً تفجعاً وعويلاً " وهذا القول لمارون عبود.
ثم نشرت ديوانها الثاني شظايا ورماد في العام 1949، وثارت حوله ضجة عارمة حسب قولها في قضايا الشعر المعاصر، وتنافست بعد ذلك مع بدر شاكر السياب حول أسبقية كتابة الشعر الحر، وادعى كل منهما انه اسبق من صاحبه، وانه أول من كتب الشعر الحر ونجد نازك تقول في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" "كانت بداية حركة الشعر الحر في العام 1947، ومن العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكادت، بسبب تطرف الذين استجابوا لها، تجرف أساليب شعرنا العربي الأخرى جميعاً، وكانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المعنونة "الكوليرا" وهي من الوزن المتدارك (الخبب)". ويبدو أنها كانت متحمسة في قرارها هذا ثم لم تلبث أن استدركت بعض ما وقعت فيه من أخطاء في مقدمة الطبعة الخامسة من كتابها المذكور فقالت "في العام 1962 صدر كتابي هذا، وفيه حكمتُ أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربي، ولم أكن يوم أقررت هذا الحكم أدري أن هناك شعراً حراً قد نظم في العالم العربي قبل العام 1947 عام نظمي لقصيدة (الكوليرا) ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ العام 1932، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين لأنني لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها".
قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة
سكَنَ الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كلِّ فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزَّقَهُ الموت
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ
* * *
طَلَع الفجرُ
أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ
في صمتِ الفجْر, أصِخْ, انظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ, عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى, مَوْتَى, ضاعَ العددُ
مَوْتَى , موتَى , لم يَبْقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ
* * *
الكوليرا
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ الكوليرا
حقْدًا يتدفّقُ موْتورا
هبطَ الوادي المرِحَ الوضّاءْ
يصرخُ مضطربًا مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداء
في كوخ الفلاّحة في البيتْ
لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
* * *
الصمتُ مريرْ
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ
الميّتُ من سيؤبّنُهُ
لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ
يبكي من قلبٍ ملتهِبِ
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ
يا شبَحَ الهيْضة ما أبقيتْ
لا شيءَ سوى أحزانِ الموتْ
الموتُ, الموتُ, الموتْ
يا مصرُ شعوري مَزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ
الغد- 22 يونيو 2077
*****
إقرأ أيضاً: