هل كانت الشاعرة نازك الملائكة 3 آب 1923 – 20 حزيران 2007 هي نفسها ضحية "الكوليرا"، أم هو زمنها تفشّى في جسمه وروحه ذلك الداء، الذي كان (وربما لا يزال) إذا أصاب شخصاً فتك به وبمن يحوطه، متفشياً في الأرض والهواء، جارحاً رئات الحواس، ضارباً في عمق الأعماق، ناخراً إياها، وجاعلاً منها أرضاً محروقة لا تصلح لزرع ولا لضرع؟ هل هو المرض البيولوجي نفسه، ما كانت تتحدث عنه الشاعرة، عام 1947، عندما "لفظت" أنّاتُ روحها تلك الأبيات التي حملت عنوان "الكوليرا"، أم هو "مرض العصر" آنذاك، جعلها، هي لا بدر، أو هي قبل بدر، أو هي وبدر معاً (في قصيدته "هل كان حباً" التي قيل إنه كتبها في العام 1947 نفسه)، فاتحةً لأفق في القصيدة العربية، سيكون منطلقاً للشعر الحر، وللتجديد البنيوي والمضموني في القصيدة العربية، وباباً على الحداثة مطلقاً؟
السؤال محض ذريعة. ذلك أن القصيدة "المريضة" بزمنها، هي اللغة "المريضة" بإرثها الآكل ذاته، وهي أيضاً الوجدان "المريض" بهجسه، والفاقد بوصلته في خضمّ الأنواء والأهواء، والشريد خارج جاذبية الثوابت والاطمئنانات، بحثاً عن لجوء يحرر ويُخرج من سجن. لكن كيف يتحقق اللجوء؟ وأين؟
الأحرى أن نقول إن منتصف القرن آنذاك، أو قبيله بقليل، كان ليكون غير قادر على القبول بجسمه اللغوي المتداعي، أو بروحه الألفية، وحتى بالأثواب التي إن دلّت على شيء، فعلى الاتشاح برثاثة كانت تجعل كل استمرار فيه ضرباً من عفونة موت، لكنْ على قيد حياة خالية من كل حياة.
كان لا بدّ إذاً من ان يحدث شيء ما في ذلك الزمن الفاصل وفي شعره. في الزمن، حدث شيء كثير، ليس أقلّه ما عرفه العراق وسواه من دول عربية، عشية منتصف القرن العشرين ذاك، من تحولات وتغييرات، أصابت ما أصابت وأخطأت ما أخطأت. وفي الشعر، حدث ما اعتبر نقلةً بنيوية، محدودة، في طبيعة "بناء" القصيدة العربية، على يد نازك الملائكة بالطبع، وسواها من مجايليها، من حيث "الخروج" الحر والخفر على صدر البيت الشعري وعجزه، ومن حيث "التمرد" الشكلاني على المنطق السائد في تفعيلات بحور الشعر الفراهيدية.
لم يكن ذلك بالشيء القليل، وإن يكن قليلاً. الكثير القليل هذا، أرسل إشارةً حقيقية، وقد تحققت تلك الإشارة بيد نازك الملائكة وبـ"ريادتها"، شعراً وتنظيراً عروضياً طليعياً، ونقداً. وسنظل، عندما يأخذنا التأريخ الى تلافيفه، وتجرفنا غواياته الحنينية، نذكر شيئاً خاصاً ولافتاً يُحفَظ لنازك الملائكة في حركية التاريخ الشعري.
لكن تلك الإشارة اللافتة، لم تكن وحيدة. فقد كانت نازك الملائكة صاحبة إشارة أخرى، إذ كانت شاعرةً امرأةً، بما يكسر ذكورة التأريخ الشعري. وفي هذا المعنى هي رائدة من حيث جرأتها الرومنطيقية وفرديتها التي تُعلي الذات على كل اعتبار آخر.
ولكن! هاتان الإشارتان الرائدتان، على أوليتهما التاريخية، لم تذهبا حفراً في جسد القصيدة، وفي بنيتها، وفي بواطن لغتها وهلوساتها وهواجسها. وهما لم تُحدثا شيئاً كيانياً يمكن ان نطلق عليه تسمية "الحالة"، التي تفتح النوافذ والأبواب على حالة الشعر مطلقاً. إذ لم يكن لهاتين الإشارتين القويتين أن تتبلورا في تجسيدات بنيوية وجوهرية وكاملة، ولا في رؤى إنسانية وأدبية وثقافية مهدِّدة. كان لا بدّ من أن يتولى تلك المهمة شعراء آخرون، وربما أن تتولاها أزمنة لاحقة أخرى، لكي تكتمل الآية.
لكأن نازك الملائكة في هذا المعنى، وإن تكن هي الحدث، لم تكن حدثاً استثنائياً في مسيرة الشعر العربي. ونخشى أن وظيفتها الشعرية كانت محض اصطدام خفيف بين زمنين ولغتين. هو اصطدام حقاً، لكنه اصطدام لم يُحدث انفجاراً، ولا ترك شظايا، ولم يُكتَب له أن يتبلور في فضاء رحب أو في تجربة كبيرة. للتأريخ، يستطيع المؤرخ أن يقول ما يأتي: في يوم كذا من عام كذا، كتبت نازك الملائكة قصيدتها "الكوليرا" التي خرجت فيها على تاريخ متأبد من قوانين القصيدة العربية الكلاسيكية، معتمدةً طريقة تقوم على ما اصطلح بعد قليل، أو قبل قليل، على تسميته "الشعر الحر".
كانت نازك الملائكة امرأة وشاعرة في التاريخ. لكنها لم تكن في أي معنى من المعاني شاعرة معاصرة، أو لحظة تغييرية في زمن الشعر العربي، لكي نقول إنها شاعرة تاريخية. "خروجها" الى العصر، والى لغته، لم يأتلف في مفهوم ثقافي، لغوي، بنيوي، ورؤيوي، يمكن معه القول بأن "تحرير" القصيدة لديها قد اضطلع حقاً بفاعلية "تحريرية". كان هذا "الخروج" نوعاً من انزياح متململ داخل ثابت مستمر، بـ"التحايل" الشكلاني عليه. لم يكن "المرض"، أي الكوليرا، في هذا المعنى، مرضاً خطيراً وفتّاكاً. هو مرض يشبه الرشح. وعكة صحية ليس إلاّ. والدليل، بداهةً، أن مفهوم القصيدة الكلاسيكية بقي راسخاً رسوخ الجبال الراسيات. بل ان النظرة، في هذه القصيدة، الى الذات والعالم والكائنات والأشياء، ظلت منتمية الى نظرات ماضيات لا عدّ لها ولا إحصاء. فكأن نظرة الشاعرة هي محض مراكمة، من مكان خاص ما، فوق مجموع تلك النظرات، في لحظة تاريخية لم يؤتَ لها، مع الشاعرة بالذات، أن "تنحرف" عن زمنها، أو أن تصنع لنفسها زمناً موازياً. ونخشى أن يقال دوماً إن القصيدة بقيت "تقريباً" مع نازك الملائكة على ما كانت عليه، وما الانزياحات المفترضة في تجاربها الشعرية، بدءاً من ديوانها الأول "عاشقة الليل" (1947)، مروراً بـ"شظايا ورماد" (1949)، و"قرارة الموجة" (1957)، و"شجرة القمر" (1968)، و"يغيّر البحر ألوانه" (1970)، سوى غيمة صيف، بليلة ومنعشة، تحت شمس قائظة.
كتبت في النقد الشعري وفي سواه، وقالت رأيها في "قضايا الشعر المعاصر"، وهو كتاب نقدي أثير، و"سيكولوجيا الشعر" و"الصومعة والشرفة الحمراء" و"التجزيئية في المجتمع العربي" وفي سواها. وكُتِب عنها وفيها الشيء الكثير، دراسات وأبحاثاً وأطاريح جامعية، وهي تعتبر في مكيال الميزان التأريخي العام امرأة علامة، وشاعرة علامة، ولحظة تاريخية يؤسَّس عليها في دراسة التاريخ.
لكنها في الشعر كانت غيمة صيف ممطرة، لا عقيمة. غيمة صيف بكل تأكيد. وكانت مبهجة. ومثمرة. ومبشّرة. هذا ليس في باب المجاملة، كما ليس في باب التنكيل بالشاعرة الرائدة. غيمة ممطرة وواعدة، من حيث أنها كانت إيذاناً بشتاء شعري جديد، وبعده بالربيع، وبالصيف، وبالقطاف. لكنها لم تكن منارة الطريق الى هذا القطاف. كان على أهل الشعر العربي أن يأخذهم الجرف الشعري الذي أحدثه بدر شاكر السياب، الذي في رأيي، هو العلامة الجوهرية، وهو المنارة التي تبهر، وهو أول الطريق، وبعض مسافاته، الى حيث هو الشعر اليوم، على اختلاف تطوراته منذ ثورة الحداثة الكاملة في الستينات، وما تلاها، وما سيظل يليها، الآن، وبعد قليل، وفي ما بعد.
نعتقد أن نازك الملائكة إذ تغادر زمنها، الآن، وبعد طول مراوحة، قد بقيت في زمنها ذاك. وهو لم يكن، كالكوليرا، قاتلاً... أو محيياً.
ع. ع.