نازك الملائكة رحلت، محزونة، خائبة، معدمة، مريضة، وحيدة في منفاها في القاهرة، وكأن مصير المثقفين العراقيين والكتاب والفنانين أن يموتوا في منافيهم الكثيرة. رائدة الشعر العربي الحديث، مؤسسة ثورة الشعر الحر، عن 84 عاماً (مواليد 1923)، مخلّفة وراءها إرثاً لم يكن يوماً سوى ما نضح به قلبها وعقلها وشعريتها، وما نبع من حالاتها واعتمالاتها وقلقها، وحضورها كإمرأة، تحمل ما تحمل من هواجس المراحل، ومن تفتحات القيم الجديدة، ومن إلزامات الموروث، ومن الخروج على "طاعة" الأمر الواقع. إنها امرأة افتتحت الريادة الشعرية، بكل "عفوية"، عفوية "الخروج" أو "التمرد" أو "الجنون" لكنها بهدوء امرأة تربت على الصمت، والهامشية، والكتاب، والشعر، وهذا ما ترك أثره على امتداد حياتها. لم تألف الضجيج الإعلامي، ولم تحترف أسلوب "العصابات" والمافيات، والأخوانيات، ولا طقوس التزلف، ولا مراتب الأنظمة والأحزاب والقبائل والطوائف. سجلت ريادتها وحدها هكذا، كما فتح نافذته وأطلق منها طيراً فريداً... ولهذا، بقيت، باختيارها، على الهامش... حتى النسيان، وفي العزلة حتى التجاهل، وفي الانفراد حتى حاول كثيرون من ممتهني "سرقة" أدوار الآخرين أن يصادروا دورها وريادتها ونفاذها الى معظم الشعراء الذي كتبوا بعد قصيدتها الأم في الريادة "الكوليرا" (1947)• إنها رفيقة السيّاب، وشقيقته في "الاجتراح" لكنها تداركت، وكأنها تبغي تراجعاً عما أنجزته في قصيدة التفعيلة تعود الى العمودي المشطر، بل وكأنها "ثارت" واستكانت، أو فلنقل عادت الى شيء من الواقع الأليف. لكن مع هذا لم يكن في شعرها العمودي الذي ابتدأت به عام 1945، والذي صاغته بعد ثورتها، من مألوف نمطي. كأنها أكملت خروجها على الموزون التاريخي، بدخولها إليه، لتحاول جعله حيّزاً حياً يمكن أن يختزن ما يعتمل به الداخل، أو القلق. في هذه المناسبة، شهادات من كتاب وشعراء وشيء من شعرها ويومياتها.
-سميح القاسم (*):
بدأت قصيدتها باسمها نازك الملائكة تركيبة لغوية وشعرية إنسانية فريدة. من اسمها نبدأ، فنازك يوحي بالأناقة والرقة والأنوثة واللباقة. والملائكة توحي بما توحي به من خيال وطهارة ونبل وقدرة على رؤية العالم. بدأت قصيدتها باسمها. ومع مرور الزمن أثبتت جدارة هذا التناسق بين الاسم والفكر والجسد والروح والقصيدة. نازك من أسماء التجديد العالية في الشعر العربي الحديث. وكلنا يذكر معركتها حول دورها في الريادة مع بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي. وبغض النظر عن الروزنامة، تبقى نازك من الإشراقات الأولى في تحديث الشعر العربي. ويظل دورها كشاعرة وامرأة وإنسانة عراقية عربية جميلاً ومتداخلاً بحيث يغدو رحيلها محزناً بكل المقاييس. وما يدهش أن الأرض العراقية تبدو أرضاً صالحة لنمو الشعر. فبعد نازك الملائكة والبياتي والسياب والعملاق محمد مهدي الجواهري ما زالت الأرض العراقية والعذاب العراقي والدم العراقي يقدم جدارته الأصيلة في الإبداع الشعري، ففي العراق أصوات جديدة جديرة بكل انتباه. ولا يبقى لنا إلا أن نطلب لأختنا وحبيبتنا نازك الملائكة غفران الله ورضوانه، فكل نفس ذائقة الموت حتى أنفس الشعراء.
(*) شاعر فلسطيني إبراهيم نصرالله (*):
ثارت قبل ستين عاماً ذات يوم وضعت اللبنة الأولى في مبنى حداثتنا الشعرية، ذات يوم كانت الأم، وسواء واصلت الانجاب أو توقفت فإنها تبقى أمّاً، وإلا فالأمر يدعو للحزن والأسى، إذا ما اعتبرنا الأم، أي أم، ليست أماً، لمجرد أنها كفّت عن الإنجاب. لعل نازك الملائكة لم تلدنا مباشرة نحن الذين جئنا بعد ربع قرن من بدء مسيرتها، لكنها بالتأكيد ولدت كثيرين قبلنا، وكان لهم الحضور اللافت في مسيرة أرواحنا. المحزن في كل هذا، هو دورة الحياة، ورياح الموت التي لا تبقي ولا تذر، فكلما ودّعنا أحداً من هؤلاء الكبار، اقتربنا أكثر من تلك اللحظة التي لن نستطيع فيها أن نلوّح لأنفسنا في وداعنا الخاص. ستعيش نازك الملائكة بقوة الريادة، لأن الريادة تحمل في جوهرها قيمة الشجاعة وكسر الساكن وتذرية الغبار المتراكم على إيقاع القلب وشفافية الروح. لقد فعلت الكثير حين ثارت قبل ستين عاماً، ولم تكتب قصيدتها فقط، بل كتبت القصائد التي كُتبت بعدها، والتي ستُكتب.
(*) شاعر وروائي أردني. فيصل دراج(*):
أهميتها مرتبطة بسياق تاريخي تعود أهمية نازك الملائكة إلى السياق التاريخي الذي شهد تجربتها الشعرية إلى جانب بدر شاكر السياب. وكان قد سبقهما زمانياً الشاعر السوري نزار قباني الذي بدأ حداثته الشعرية في بداية اربعينيات القرن الماضي. وواقع الأمر أن الملائكة لم تدشن أو تؤسس لمرحلة شعرية جديدة ولم تلعب، لاحقاً، دوراً مميزاً في تطوير الحداثة الشعرية. فهذه الحداثة سبقت بزمن طويل قصيدتها "كوليرا" التي أثارت لغطاً طويلاً بعد نشرها وأدخلها في سجال مع السياب وغيره، ذلك أن الحداثة الشعرية العربية جاءت معها جماعة "أبولو" وخليل مطران والشعر المهجري اللبناني، إضافة إلى ملاحظات لامعة لأمين الريحاني. بهذا المعنى فإن الحداثة لم تنتظر الإبداع الشعري لنازك الملائكة، إضافة إلى أن تطور هذه الحداثة تم لاحقاً بمعزل كلي عن الشاعرة الراحلة من خلال أسماء كثيرة اندرج فيها أدونيس وخليل حاوي ومجلة شعر. ولعل ما سبق نازك بالمعنى الشعري وما جاء بعدها بالمعنى الشعري أيضا يجعل أهميتها مرتبطة بسياق تاريخي محدد من دون أن يجعل من مساهمتها عنصراً دالاً وأساسياً في تطوير الحداثة الشعرية العربية. وفي الحالات جميعاً، فإن دور الراحلة الكبيرة لا يُرى إلا إلى جانب مجموعة كبيرة من الأسماء ضمت السياب والبياتي وانطلقت أولاً من سياق عربي جديد أسقط بعد العام 1948 الرومانتيكية العربية المفروضة وفرض أسئلة جديدة على الكتابة الشعرية.
(*) ناقد فلسطيني. فخري قعوار (*):
جذبتني طيبتها وبساطتها سبق أن استضفت الشاعرة الراحلة نازك الملائكة في عمّان للعلاج عندما كنت رئيساً لاتحاد الكتاب والأدباء العرب. وعملنا من أجل أن تتلقى العلاج على نفقة الديوان الملكي الهاشمي الذي بادر رئيسه آنذاك الدكتور والناقد المثقف خالد الكركي إلى بذل جهد محمود في هذا السياق. ومن خلال هذه الحادثة تلمست الجانب الإنساني في شخصية الملائكة، وجذبني فيها طيبتها وودها وبساطتها. لقد كانت مبدعة في الكتابة وفي صمتها الإنساني العميق.
(*) كاتب أردني، الرئيس السابق لاتحاد الكتاب والأدباء العرب. علي بدر(*):
ممثلة حقبة لمناخ رومانتيكي كانت نازك ممثلة حقبة لمناخ رومانتيكي كان سائدا في العراق ذلك الوقت لدى الطبقة الوسطى. وهذا تمثل في ديوانها الأول "عاشقة الليل" الذي نشر في العام 1947، لكنها سرعان ما أدركت ان وجودها داخل العراق مرتبط بتحول عميق في المجتمع العربي، فتعلقت بنوع من الإنكار المطلق لتراث يحض على القبول والارتهان. وهكذا ظهر ديوانها "شظايا ورماد" الذي صدر في العام 1949، وقد ارتبطت منذ ذلك الوقت بموجة الشعر الحر وهي موجة انخرط فيها عدد من الشعراء الذين أرادوا مراجعة نظام الشعر العربي الذي مر عليه سقف زماني عمره ألفا عام. بكلام آخر أرادت هذه الشابة من عائلة الملائكة، أعرق الأسر البغدادية، أن تجعل من هذا الإنكار المطلق نوعاً من قبول شكل من التهديم المتحفظ لواحدة من أقدس أقداس الأمة.
(*) ناقد وروائي عراقي مقيم في عمّان. رسمي أبو علي (*):
لا أحب شعرها! أهمية نازك الملائكة تكمن في ريادتها التاريخية. أما على الصعيد الشعري فلست من المؤمنين بها. ربما هذا تقصير مني، لكنني لا أحب شعرها رغم إقراري باهميتها كشاعرة. لذا أراني أشعر بالأسى لرحيل هذه الرائدة الكبيرة.
(*) قاص وروائي فلسطيني. فخري صالح (*):
كلاسيكية في ثياب المجددين مع أن ما يقوله مؤرخو الشعر العربي المعاصر في ما يتعلق بريادة نازك الملائكة لقصيدة التفعيلة يغمط حق زملائها مثل السياب والبياتي وبلند الحيدري، إلا أن المتعارف عليه الآن والذي يصعب محوه من الذاكرة النقدية العربية هو أنها كانت أول من كتب قصيدة تفعيلة. وقد جعلها هذا السبق المؤرخ له تفتح باب الشعر العربي على رياح التغيير في التعبير الشعري العربي بصورة عامة. كما أن هذا التحوّل وضعها في مواجهة الشعراء العرب المجايلين لها والداعين إلى حرية القصيدة المعاصرة في اتخاذ الشكل الذي ترتأيه بغض النظر عن مسافة ابتعاد هذه القصيدة أو اقترابها من الموروث الشعري العربي. وفي كتابها "قضايا الشعر العربي المعاصر" فتحت النار على هؤلاء المجددين الذين أخذوا القصيدة العربية إلى آفاق أبعد من تلك التي أرادتها نازك الملائكة. ولهذا نظر النقد العربي في النصف الثاني من القرن العشرين إلى ما حققته نازك الملائكة سواء في شعرها أو في تنظيرها بعين الريبة، فهي من وجهة النظر هذه كانت كلاسيكية في ثياب المجددين، خصوصا أنها في ما تلا قصيدة "كوليرا" من ديوانها "عاشقة الليل" نكصت عن الروح المجددة لشعرها في ذلك الديوان. ولهذا هوجمت نازك كثيرا من قبل شعراء مجلة "شعر" على التخصيص، لكنها تظل من وجهة نظري من بين المجددين لروح الشعر العربي، وأجرها تحقق في فتحها آفاق الشعر العربي على رياح التغيير الإيقاعي على الأقل.
(*) ناقد أردني. عصام العبدالله:
كبرياء الموهبة كأن الموت فاتحة النسيان. من زمان لم ينتبه أحد الى نازك الملائكة وهي تعاني غيابها البطيء ونسيانها القاهر. إحدى القامات التي فكفكت البيت الشعري وأعادته الى أوالياته، وأعين التفعيلة. ثمة موازنة بينها وبين بدر شاكر السياب. يقال بأنها الأولى ويقال بأنه الأول. إلا أنهما معاً يشكلان ذلك الملمح الحديث لكتابة الشعر العربي. وتلفت نازك الملائكة بأنها كانت ناقدة بالمعنى الريادي للكلمة. فهي من الذين أضاؤوا فسحتهم شخصياً وأضاؤوا على إنتاج الآخرين. كأنها أم ولودة وكأننا في غيابها نخسر أحد الشهود الكبار على سياق القصيدة العربية الحديثة. لا أشعر بحزن بقدر ما أشعر بكبرياء الموهبة الباقية. شربل داغر: ذَوَتْ قبل أن تنطفئ ذوى نجم نازك الملائكة قبل أن ينطفئ. حتى أن أحد النقاد (لندن) نعاها قبل أن تموت. وهي سلكت، في كتابات عديدين، سبيل التقويم "النهائي" قبل أن تنقطع عن الكتابة، وإن أقام أحد النقاد (السعودية) حملة لإحياء "ريادتها" (التي انتقص من قيمتها الخطاب "الذكوري") من دون أن يكون لحملته صدى مديد. لعل اجتماعها بالسياب أضر بها، بعد أن غاب السياب مبكراً واحتل ـ لهذا السبب وغيره ـ سريعاً مكانة "الرائد". وما زاد الظلم اللاحق بها هو أنها طلبت "التقعيد" لتجربة شعرية كانت تنبني في ممارسة كتابية يتضح فيها التفلت أكثر من البناء، التجريب أكثر من التنميط. لهذا بدت الملائكة لغيرها "قاضية" محافظة أكثر منها "ملعونة"، إذا جازت التسمية والتشبيه. كما إن تجربة "الشعر الحر" بدت معها "ظاهرة عروضية محدثة"، فيما كانت الممارسة الشعرية لغيرها تتفنن في تمرينات وانبناءات مخالفة.
هكذا قال أدونيس في "الكوليرا": "إن أي شخص يُعنى عميقاً بالشعر أو يمتلك خبرة في التذوّق والنقد، لا يسقط هذا النص من إطار الشعر الحديث وحسب، وإنما يسقطه أيضاً من إطار الشعر"• سقطت "ريادة" الملائكة لهذا الشعر الجديد، منذ بداياتها، حتى أن ريادة السياب بالمعنى العروضي "المحدث" سقطت هي الأخرى، بعد القيام بتحقيقات ميدانية عديدة في عدد من البلدان العربية الأخرى أثبتت بروز التنويع العروضي الجديد عند شعراء عديدين، مثل باكثير وعوض في مصر أو "جماعة أبولو" في تجريبها لـ"مجمع البحور" (أي الجمع بين بحور مختلفة في القصيدة الواحدة)، أو "عرار" الأردني، أو "الشعر المهجري" أو تجارب خليل مطران وغيرهم ممن ظل مجهولاً أو غير معروف إلا في مواقع ضيقة. إلا أن النقد حفظ لها مكانة أضمن وأوثق، منذ زمن بعيد، ولا سيما في دراساتها التي ضمها كتابها الذائع الصيت، والذي يعتبر من أفضل المساعي في درس الشعر الحر، في عروضه، وعلاقاته التعبيرية مع الشروط الاجتماعية والتاريخية. لهذا قد يكون من الأنسب البحث في طبيعة هذا التجديد، أو في "أوجهه" المختلفة. ذلك أن النظر النقدي جعل التجديد ظاهرة عروضية مستحدثة ليس إلا، وهو فهم يستدعي عدة تدقيقات. منها النظر إلى مسألة العروض خارج المنظور القالبي الذي حكم نظرات العديدين من النقاد والشعراء إلى التجديدات هذه: فلقد جرى الكلام عن "كسر" العروض، أو عن تنويع القوافي وحسب (وهو ما نسميه بالنظر إلى الشأن القالبي فقط)، من دون النظر إلى مفاعيل هذا التغير العروضي على المستويات المختلفة في كل قصيدة. ذلك أننا وجدنا أن تغير المبنى العروضي ـ وإن بدا عند بعضهم تنويعات وتشطيرات أتاحها الشعر العربي في عهديه، الأندلسي والعثماني ـ غيّر أسساً في الصنيع الشعري، ووجد صيغاً تركيبية ودلالية، منوعة ومختلفة، في السطر الواحد، كما في علاقات الجمل والسطور الشعرية بعضها ببعض. وهي تغييرات أفاد منها الشاعر وجربها، وأتاحها التأليف نفسه (بما أن القصيدة لم تعد "نظماً" لأسباب الشعر كلها في قالب مضغوط، ووفق توظيفية ترشيدية لها، كما هو عليه الحال في القصيدة العمودية).
موعد العام 1947 العروضي تلغيه السوابق التجديدية له والسابقة عليه، ما يدعونا إلى تدبير تأريخي آخر يعيد إلى التجارب العربية المختلفة حظوظها المختلفة في "السبق" التجديدي. هو موعد "ساقط"، إلا انه يدعونا إلى التفكير بعوامل أخرى أدت إلى تجديد الشعر، غير التنويع العروضي، وهي عوامل موجودة قبل 1947، وإن حافظت القصائد فيها على العروض في صيغه القديمة. ذلك أننا عايشنا في مدى واسع من التجارب الشعرية تعايشاً نزاعياً، فيه عوامل تجديد وعوامل محافظة، في أشكال مختلفة في مستويات القصيدة: تمثل التجديد، بداية، في عوامل المعنى قبل أن يبلغ لاحقاً عوامل المبنى (وخاصة العروض)، على ما في التمييز هذا بين نوعي العوامل من تسرع والتباس وتداخل. وليس غريباً في هذا المسار الذي يعود، والحالة هذه، إلى منتصف القرن التاسع عشر، أن لا يتحقق الانفصال التام، أو تجديد مستويات القصيدة كلها، إلا بعد الخروج، ولو المخفف والتنويعي، من العروض ـ أعتى أبواب المحافظة الشعرية وخاتمتها. وعند ذلك تكون العودة إلى الوراء لازمة تاريخية لوضع الحداثة في مدى الحركة التي أوجدتها في إطار "المثاقفة" وفي ضلوع الشعر في تعايش (مختلفة الأوجه، التآلفية والنزاعية) مع مرجعيتين، العربية والأوروبية، وحتى أيامنا هذه. وهذا يدعونا إلى التعامل مع القصيدة لا على أنها نص منسجم ومتوافق، بل على أنها نص متفاوت وله مرجعيات متعددة، قبل أن تتوافر فيه أو تجتمع مستويات التجديد المختلفة.
وقد يكون من الأنسب في هذه الحالة، النظر إلى أوجه التجديد في صورة منفردة أو متفرقة، فنتوقف عند كل وجه على حدة، فلا يغيب عنها، على سبيل المثال، لا حدوث التغيّرات العروضية كلها، ولا دخول القصيدة مضامين جديدة، ولا تجدد سبل الانبناء النحوي والتركيبي. ذلك أننا لو أقمنا مثل هذه المراجعة، لوجدنا حقيقة المصير "البائس" الذي فاز به الشعر الرومانسي في النقد العربي، إذ جرى التعامل معه بخفة وسرعة، أشبه بلحظة عديمة النفع في تاريخ الشعر بين التقليدية والحداثة، فيما هو بوابة الحداثة الأولى والعريضة، إذا جاز القول. ويعود ذلك إلى حسابات متأخرة، قوامها النظر إلى الشعر وفق ما انتهى إليه، أي تدبير تاريخ جديد له يجعل مما وصل إليه الشعر في ستينات القرن المنصرم أساس التقويم الشعري. إلى هذا فإن النقد نظر إلى الشعر وفق أساسه العروضي في المقام الأول، وأهمل عداه في مسألة التحقق المتفاوت من بلوغ أو دخول القصيدة في مسارات التجديد المختلفة. المراجعة لأزمة، إذن، وتدعونا إلى التأكد من وجود "مواعيد" مختلفة للتجديد: مواعيد مختلفة في كل بلد وبين البلدان العربية، ومواعيد مختلفة أو حظوظ متباينة من التجديد في هذا المستوى أو ذاك من مستويات القصيدة: لهذا نقول إن موعد 1947 نفسه، وهو الأقرب الينا، لا يمثل التجديد "الناجز"، على ما نعتقد، خاصة في قصيدة الملائكة الشهيرة، "الكوليرا"، الموضوعة في العام 1947، طالما انه لا يجرب سوى تغيرات عروضية، معروفة وسابقة عليه.
عبد العزيز السريّع (*):
عنوان غير مسبوق نازك الملائكة.. اسم حفره الإبداع والتألق في ذاكرة الأمة ولغتها المعجزة.. لم تكن شاعرة رائدة ومجددة فقط بل كانت استاذة كبيرة تشرفت بدرس لم يكتمل على يديها في جامعة الكويت، كانت مع السياب عنوان مرحلة غير مسبوقة في تاريخ الشعر العربي.. بل الأدب العربي بكامله.. يا الله.. كم كانت مذهلة وعظيمة ورائعة. نودع برحيلها مرحلة كانت فيها هي الحادي وخلفها كوكبة من الفرسان العظام. إلى جنّات الخلد.. والعزاء لكل المريدين والشعر والشعراء.
(*) كاتب كويتي. محمد علي شمس الدين:
أشجع الرائدات نازك الملائكة كانت من أشجع رائدات التاريخ في القصيدة العربية وقصائدها الأولى "الكوليرا" وقصائد الألم لفتت انتباه الشعراء، حتى ان نزار قباني قال في نقده لثلاث قصائد من الألم المنشورة في الآداب عام 1958 قال إن بين يدينا كنزاً اسمه نازك الملائكة. عادت نازك فارتدت عن التجديد، على الرغم من انها كتبت كتاباً في النثر الحرّ يعتبر الأول في اللغة العربية. هذا الارتداء حصدت نتيجته إهمالاً لها من جهة النقد الحديث وثم دخلت في غيبوبة من الحياة الاجتماعية والأدبية حتى اعتبرت أنها ماتت عدة مرات قبل أن تنتهي إلى الموت الحقيقي الأخير. شوقي بزيع: مشروع رؤيوي اعتقد ان القيمة الفعلية لنازك الملائكة تتمثل في كون الحداثة عندها لم تكن مسألة عارضة أو خاضعة للمصادفة المحضة، إذ ان بعض الشعراء يمكن، عن طريق هذه المصادفة، وبتأثير الانفعال والتوتر، ان يكتبوا بأسلوب مختلف، أو ان يهتدوا إلى شكل مغاير للأشكال السائدة دون وعي منهم لما أنجزوه. ومن الممكن أن يكون هذا الحدث عارضاً في حياتهم. لكن بالنسبة إلى نازك الملائكة هو ان الحداثة عندها كانت مشروعاً رؤيوياً وصادراً عن سابق تصور وتصميم. يؤكد ذلك انها انفردت بين زميليها في الريادة، بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، بإصدارها كتاباً نقدياً لا يزال يشكل حتى اليوم مربعاً أساسياً وهاماً للتعرف إلى مشروع الحداثة وعناصرها الأسلوبية والفنية. النقطة الثانية الهامة هي أنها أسهمت في حروب "الاسترداد" التي مكّنت الأنوثة العربية من تأكيد دورها ومكانتها بالنسبة إلى اللغة المكتوبة. ذلك ان دور شهرزاد في "الف ليلة وليلة" اقتصر على عنصر السرد والمشافهة، في حين ان الذين دونوا الخطابات كانوا من الرجال. إذا كانت الخنساء وولادة بنت المستكفي وقليلات غيرهما قد اسهمن في كسر احتكار الرجل للغة الشعرية، بوجه خاص، فإن ذلك لم يمنع الشعر العربي من ان يكون ذكورياً، وأن يرتبط مفهوم الشعرية بمفهوم الفحولة من دون سواها من الصفات. هكذا جاءت نازك الملائكة لتؤنث الحداثة ولتكسر الحواجز بين الكتابة الذكورية والكتابة الانثوية، مفسحة الطريق لعشرات الشاعرات اللواتي أكملن الطريق من بعدها. شوقي عبدالأمير: قالوا الحياة... غيّب الموت أمس الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة بعد أن غَيَّبتْها من قبله حاضرتُنا الثقافية والشعرية بالأخص وظلّت في "كرنتينتها" القاهريّة رمزاً للقهر الجسماني والروحي والثقافي... لا تستحق نازك الملائكة كُلَّ ما عانته وأعرفُ جيداً، عندما أعددتُ المختارات من شعرها لنشرها في "كتاب في جريدة" أنها كانت تكابدُ في جسدها كما في روحها كل أشكال الإقصاء والتهميش بالإضافة إلى التراجيديا العراقية التي تفجّرتْ في السنوات الأخيرة من حياتها، وقد أخبرني زوجها وابنها الكبير الذي سمّتهُ "بُراق" بأنها غير قادرة على الحديث إلى الآخرين وحتى إلى مجرد الالتقاء بهم... تلك كانت عزلة الشاعرة نازك الملائكة، التي أشعّتْ بنصّها الشعري المتميز منذ منتصف القرن المنصرم وبنظرتها النقدية الثاقبة التي صارت منهجاً في الدراسات الحديثة للشعر وأخيراً بعزلتها حتى الموت. ها هي اليوم ترفع شاهدةَ قبرها ذراعاً للاحتجاج على الوسط الثقافي الذي لا يُعنى إلاّ بالخيول المعدّة للسبق والمطهّمة بكل أشكال الرعاية المادية والسياسية ولم تكن لهُ حتى إطلالة المتذكّر على واحدة من أهم صروح الشعر العربي المعاصر. وفي هذا الإطار لا بد من استثناء الرعاية والحفاوة الحقيقية التي قدّمها لها المجلس الأعلى للثقافة في مصر ممثلاً بالدكتور جابر عصفور الذي نشر ديوانها وقدم لها كل أشكال الاحتضان والدعم في أحلك ظروف حياتها. ومن هنا فقد ماتت نازك مرّتين... إن يوم 2007/6/20 هو الموت الثاني بعد موتها الأول في هامش الحياة الشعرية. لكنه سيكون حالة التجسّد الأعلى لنجمة حقيقية إبتعدت عنّا لتضيء أكثر ولتشعّ أطول. ماتت نازك التي كانت تقول: "قالوا الحياة هي لون عَيْنَي مَيْتِ هي وقعُ خطو القاتلِ المتلفتِ أيّامُها المتجعّدات كالمعطف المسموم ينضحُ بالممات..". زاهي وهبي: في قلبها الحسرات في القلب حسرات كثيرة، منها حسرة فقدان نازك الملائكة حين العراق غارق في دمائه ودموعه وكذلك فلسطين ولبنان، وقبل حسرة الفقدان، حسرة خاصة حيث أن المرض العضال حرمني متعة حوار الملائكة، التي كانت حاضرة دائماً في معظم حواراتي مع كتاب وشعراء من رفاق دربها ومن الذين لحقوا بها وبهم، لكن الحسرة الكبرى أن نازك الملائكة، وعلى الرغم من تداول إسمها في الوسطين الثقافي والإعلامي بقيت مظلومة على المستوى النقدي لأن الثقافة الذكورية حرمتها أسبقيتها في الريادة، وأهملت إنجازاتها فكأني بها غابت وفي قلبها الحسرات مجتمعة على بلاد لم يعرف رجالها أن يحافظوا عليها لا في النص ولا في السلوك. تمضي نازك الملائكة الى عالم الملائكة حيث لا أجناس ولا أنواع، لا ذكورة ولا أنوثة بلا عالم من الأثير المطلق الصفاء والنقاء. اسكندر حبش: اللحظة التاريخية من دون شك، لا نستطيع أن ننسى اللحظة التاريخية التي كتبت فيها نازك الملائكة أولى قصائدها، إذ أنها هذه اللحظة، هي التي تجعل منها اليوم، واحدة من رائدات الشعر العربي الحديث. لكن بعيدا عن ذلك، ما الذي يبقى اليوم من شعر هذه الشاعرة الرائدة، التي توضع في مصاف كبار زمنها. اختلف الجميع على اختيار اللحظة الأولى التي انطلقت فيها شرارة الشعر الحر، أكانت هي أم بدر شاكر السياب. بيد أن الجميع يتناسون، أن أمين الريحاني كان من أوائل الذين أشاروا إلى هذه الإشكالية في ديوانه "هُتاف الأودية" الصادر العام 1905، وبخاصة في مقدمته التي كتبها معتمدا فيها على شعر الأميركي والت ويتمان، أي أنه أشار إلى ضرورة التحديث قبل أهل مجلة "شعر"، وقبل أن يقرأوا سوزان برنار وتنظيراتها. من هنا، نجد أن هذا الامتياز التي يسبغ أحيانا على الملائكة، ليس في الواقع إلا هذا النوع من التهويم الذي يراد به تشويه تاريخانية ما، لأسباب لا أحد يعرفها. من هذا المنطلق أيضا، كيف يمكن لنا أن نقرأ جبران وغيره الكثيرين. في أي حال، ربما كانت أسبقية الملائكة في أنها كانت من أوائل اللواتي أدخلن الرومانسية في الشعر العربي الحديث، لكن هل يكفي ذلك لتحتل كل هذه المكانة التي توضع فيها. برأيي الشخصي، أن الكثير من شعر الملائكة سيسقط مع مرور الزمن، هذا إن لم يبدأ، بمعنى، ما تشكل الملائكة حاليا في سجالات الشعر العربي الحديث. في أي حال، أن يغيب شاعر، لا بد أن يحزننا قليلا، لكن مع هذا، علينا فعلا أن نسأل عن شعره. جودت فخر الدين: هم وجودي كانت نازك الملائكة ركناً أساسياً في حركة الشعر العربي الحديث عند انطلاقتها. واليوم لا تذكر هذه الانطلاقة إلا ونتذكر نازك الملائكة إلى جانب السياب والبياتي وغيرهما. بعد تلك الانطلاقة، ابتعدت نازك قليلاً أو كثيراً عن المشهد الشعري ولكنها حافظت دوماً على كونها جزءاً أساسياً من حركة الشعر التي باتت اليوم في حالة من الفوضى والتشتت، ولكنها مفتوحة على مختلف الاحتمالات والآفاق. يمكننا ان نذكر أيضاً لنازك الملائكة انها ساهمت على نحو ما، في الحركة النقدية العربية الحديثة. فبصرف النظر عن آرائها التي عبّرت عنها في كتابها المعروف (قضايا الشعر المعاصر)، نستطيع القول إن الشعر كان عندها هماً وجودياً دفعها إلى الاضطلاع بقضايا التجديد والحداثة وما يتعلق بهما من تأمل ومراجعة دائمين. غسان جواد: جَدّة الشعر الحديث نازك الملائكة خَسارة للشعر العربي الحديث عموماً، بوصفها رائدة ويمكن اعتبارها "جدّة" الشعر الحديث وإذا أردنا ان ننظر إلى تجربتها بشكل عام فقد ادخلت تجديداً على الشعر من حيث الشكل والمضمون والصورة الشعرية وهي أول من كتب قصيدة التفعيلة وهناك خلاف تاريخي حول قصيدة "الكوليرا" والبعض يقول انها سبقت قصيدة بدر شاكر السيّاب ببضعة أشهر في الكتابة التفعيلية. وهناك ايضاً ملاحظة انها توقفت عن تحديث تجربتها منذ وقت طويل ولكنها بقيت رائدة، وبقيت اسماً لأبرز النساء المجددات ونحن نعرف كونها امرأة مجددة في ذلك الزمن، وهذا وحده كاف لنقول انها وضعت بصمتها على منتصف القرن العشرين. سامر أبو هواش: شهادة كبيرة على عصر الظلام لطالما اقترن اسم الشاعرة الرائدة نازك الملائكة باسم رائد آخر هو بدر شاكر السياب. اقتران بدأ بسجال حول الريادة، وأظن أنه بمرور السنوات، تحول إلى نوع من الشراكة، وانتفى السجال القديم العقيم، ليصبح لكل منهما، كما لغيرهما، حصته ودوره في الشكل الجديد وقتذاك، أي الشعر الحرّ. اسم الملائكة في حدّ ذاته يمنح سامعه انطباعاً تاريخياً، تأسيسياً، كلاسيكياً، بالمعنى الإيجابي للكلمة، ولعلها واحدة من المرات القليلة التي يتحول فيها الشاعر، في حياته وليس بعد موته، اسماً كلاسيكياً، يلخّص، مع آخرين طبعاً، مرحلة واتجاهاً وتياراً شعرياً لعب دوراً أساسياً، في إطلاق الحداثة الشعرية العربية، وما تطورت إليه لاحقاً عبر قصيدة النثر. أصرت الملائكة على أن تعيش في عزلة كاملة، وكانت تحب العزلة وتمتدحها، وتعتبرها شرطاً إنسانياً أساسياً، بعد أن "أضعت الكثير من السنوات وأنا أحاول أن أكون اجتماعية"• وإذ يقرأ المرء اليوم سردها لسيرتها الذاتية، التي حاولت أن تكتبها على شكل قصة، كما على شكل مذكرات، يفاجأ بأن هذه الذاكرة مسكونة دائماً بأمرين اثنين: المكان العراقي، أي بغداد حيث ولدت ونشأت ودرست، والشعر. وقد ظلت مسكونة بهذين العنصرين أو الشغفين، حتى بعد غيابها وابتعادها القسري عن بلدها، وعن ساحة الشعر بالمعنى اليومي والحثيث، مكتفية ربما بعزلتها الليلية التي اشتهرت بها، وبذكريات حميمة عن بدايات ثورتها الشعرية، بين بغداد وبيروت، وربما مكتفية أيضاً بميراث تدرك مدى أهميته، كرائدة تأسيسية، حملت قبل الشكل، في قصيدتها الشهيرة "الكوليرا"، كما في قصائد أخرى كثيرة، نفَساً ونبضاً مختلفين، إلى الشعر العربي المعاصر. أحد الدروس التي يتعلمها الواحد من هذه الشاعرة المجدّدة هو تجربتها في كتابة هذه القصيدة تحديداً، إذ كتبتها أولاً بأسلوب الشطرين التقليدي، فلم تجد الكلمات والصور التي خرجت بها معبرة بما فيه الكفاية عما كان يجيش في نفسها من حزن وألم وغضب وجودي على الموت، وعلى شروط الحياة القاسية على حدّ سواء. فأعادت كتابة القصيدة ثانية، بأسلوب الشطرين أيضاً، لتواجه بخيبة أخرى. وفي نهاية الأمر كتبت أو بالأحرى "فجّرت" القصيدة على الشكل الذي خرجت به، أي الشعر الحرّ، المتفلّت من الأوزان التقليدية، فالشكل جاء إذن تلبية لحاجة تعبيرية ملحّة، ولم يكن مجرد ترف تجريبي أو رغبة بالتحدي المجاني. هكذا، بالنسبة إليّ، كأحد شعراء قصيدة النثر، يمكنني أن أجد في تجربة الملائكة دفاعاً ضرورياً عن تجربة قصيدة النثر التي ظهرت لاحقاً، أيضاً كحاجة ضرورية، للتعبير عن مشاعر وأفكار لم تعد تجد، سواء في القصيدة العمودية أم الحرة، شكلاً كافياً. تجربة نازك الملائكة برمتها تقول إن الشعر في النهاية، بأشكاله وأنماطه وتياراته، هو ابن الحياة. وإذ يقرأ المرء اليوم أعمالها التي كتب معظمها قبل أربعة عقود على الأقل، فإنه يعثر على آثار السواد الذي يعيشه العراق والمنطقة اليوم، سواد تاريخي مزمن، أمسكت الملائكة بعصبه، وفجرت غضبها منه، فما كان انسحابها إلى عزلة منزلها، قبل الدخول في المرض والموت (وسط لامبالاة كاملة من "الثقافة العربية")، ليغيّب صوتها الجارح، أو شهادتها الشعرية الكبيرة على عصر الظلام الذي لا نزال نعيش فيه. طارق آل ناصرالدين: اسم لا ينسى ربما يكون لقب الملائكة التي حملته نازك يحدّد موقعها في الشعر العربي المعاصر. يكفي أنها من أوائل الطفرة الشعرية الحقيقية في عصرنا، وأن تكون نازك إحدى اثنين في السبق الى القصيدة الحرة الموزونة لتصبح اسماً لا ينسى. نازك الملائكة كتبت الشعر لأنها شاعرة، وآمنت بالتطور لأنها بنت زمانها ومكانها. عربية في النفس، شاعرة في المطلق. ننحني لها كما ينحني التلامذة أمام الأساتذة الكبار. شارل شهوان: غياب العراق القديم محزن رحيل الشعراء ولعله أعمق حزناً وإثارة للأسى رحيلهم في المنافي بعيداً عن بلادهم والديار والمنزل الأول والأزقة الخاصة ونسمات العشب الأول، ورحيل الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة مخضّب بالتأكيد بأرجواني الملحمة المذبحة المفتوحة على أبواب الجحيم في بلادها في العراق المنحور كل يوم وكل لحظة والمنهوبة بوحشية. لغياب الملائكة أكثر من معنى وأبعد من مجرد نهاية موحشة لشاعرة كانت بمثابة الرمز والذروة لثقافة ساطعة وجريئة استطاعت تبوؤ الطليعة في الشعر وغيره. وساهمت بقوة في تبديل سمات المستقبل الشعري العربي ودفعته الى الحداثة مثبتة أسسه بصلب وإسمنت الثقافة والطليعية والانفتاح والموهبة البارعة وبالمشاعر والأحاسيس. يشبه غياب الشاعرة الملائكة غياب العراق القديم أو لعله العراق الوحيد الذي نحبه ونهجس عودته الصعبة الشاقة. عراق الشعر والشعراء عراق النرجسية الشاعرة لا عراق الوحشية والغرائزية، عراق التعبير لا عراق التدمير. غياب الملائكة هو بالتأكيد في غير احتماله غياب صورة العراق القديم واندحار معلم أساسي تاريخي. ألا وهو العراق الشاعر، العراق الذي نزح منه شعراؤه منذ زمن مذ أمعن الصدام والصداميون في قمع الأرواح والأفكار والحياة ونحروا الحرية والأحرار بظلامية فاقت الانفجارات الوافدة من محبة الجوار الكالحة. يعنينا ما يعنيه غياب الشاعرة الملائكة ويشبه غيابنا ويومياتنا وانهيار حالنا يعنينا ويشبه كذلك اندحار آمالنا ولبناننا المندفع بهمة بعض أهله وأشقائه نحو الخراب الأخير. كان هناك عراق وربما سيكون أنه كان هناك لبنان. مخجل أنه ليس بالوسع الاحتفاء، أجل الاحتفاء بالملائكة وبمساهمتها الرائعة النادرة في زمن غياب الأوطان واضمحلالها، وقد أمسينا كلنا عراقيين بكائين رغماً عنا. نازك الملائكة اسم يرحل ولا يغيب كما النهرين والرافدين وكما الشعر الحقيقي الساكن أبداً في الفضاء في سماء الحرية، حيث الوطن الدائم. ماهر شرف الدين: صورتان كنا في مجلة "نقد" قد اتفقنا على ان يكون العدد الرابع مخصصاً لتجربة نازك الملائكة. وبما أننا نضع في آخر كل عدد من المجلة غلاف العدد الذي يليه فقد جرى نقاش بيننا في أسرة التحرير حول الصورة التي علينا اعتمادها في الغلاف: صورة لنازك الشابة، أم صورة لنازك في أواخر أيامها. اليوم، وأنا أقرأ خبر وفاة تلك الشاعرة المتمردة التي قاتلت في سبيل إثبات انها كانت السابقة في كتابة القصيدة الحرة ثم قاتلت لإثبات بطلان مثل هذا النوع من الشعر والحداثة. اقتنعت أن علينا اعتماد صورة نازك الشابة.. نازك الجميلة.
(*) شاعر مصري. كمال عبد الحميد (*):
ألم تمت بعد. عندما بادرت أحد أصدقائي صباحاً لأخبره برحيل نازك الملائكة، أجابني بسؤال: "ألم تمت بعد.!"، ولم يكن سؤال صديقي الذي هجر الكتابة وجنونها منذ زمن بعيد إلا تعبيراً درامياً عن الصمت الذي اختارته الرائدة الراحلة، والعزلة التي فرضتها على نفسها بعدز أن اختارت القاهرة موطناً وملاذاً حين خرجت من عراقها حزينة على حاله وأحواله، ومع عزلتها وصمتها وظنون كثيرين بأنها رحلت منذ زمن، ولأن بعض الظن إثم، فإن الآثام التي نرتكبها عربياً في حق روادنا وحق مبدعينا ستظل تلف رقابنا بالعار، ومع رحيل الشاعرة الرائدة نازك الملائكة أشعر بالمرارة لأن آخر ما وصل اليها من أخبار ـ ربما ـ لا يبعث على التفاؤل في الوطن المحتل. نازك جزء من ضميرنا وثقافتنا وفرحنا كجيل فتح عينيه فوجدها مع غيرها تضيء شموعاً في طريق أبهى.
بورتري ولدت الشاعرة الكبيرة في بغداد في الثامن والعشرين من شهر آب عام 1923 في بيت علم وأدب، أمها كانت الشاعرة سلمى عبدالرزاق وكنيتها (أم نزار) ووالدها الشاعر العراقي صادق جعفر الملائكة الذي جمع قول الشعر والاهتمام بالنحو واللغة كعادة الشعراء آنذاك... أحبت نازك الشعر منذ الصغر وولعت به وهي ما زالت بعد طفلة.. ووجدت في مكتبة أبيها الزاخرة بدواوين الشعر وأمات كتب الأدب ما يروي ظمأها الى الإطلاع والمعرفة. أكملت دراستها في بغداد، ثم التحقت بالجامعة واستطاعت أن تتمتع بمنحة دراسية الى الولايات المتحدة حيث حازت درجة الماجستير في الآداب وكانت أول تلميذة تحظى بالدراسة هناك، إذ لم يبح القانون بدراسة المرأة بجامعة برنستون آنذاك، عادت الى بغداد وأتيحت لها فرصة أخرى للسفر الى خارج العراق، للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن، عملت سنين طويلة في التدريس في جامعة بغداد، وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت. أحبت الموسيقى منذ نعومة أظفارها وتعلمت العزف على آلة العود، واستطاعت بواسطة معرفتها العميقة بالأنغام الموسيقية أن تمتلك حساً مرهفاً بإيقاع الكلمة وموسيقاها، قالت الشعر منذ طفولتها المبكرة وأجادت فيه وكان لها السبق والريادة في حركة التجديد وإن ثار جدل طويل حول من كان الأول في نظم القصيدة التي تعتبر الأولى في تلك الحركة التجديدية، البعض ينسب التجديد للشاعر الشاب بدر شاكر السياب والبعض الآخر يقول أن نازك كانت الأولى. ومنذ أولى قصائدها كانت نازك مجددة وكانت رائدة في حركة تجديد الشعر العربي وتحريره من القيود والقواعد. كتبت نازك الشعر والنقد ووضعت الكتب في مجال تجدد الشعر وكان أبرز كتبها: "قضايا الشعر المعاصر". بدأت نازك حياتها الشعرية بقصيدة طويلة اسمها "الموت والإنسان" وكان ديوانها الأول "عاشقة الليل" وقد أصدرته عام 1947 وضم قصائد كتبت وفق الشكل الكلاسيكي القديم، لكنها من حيث البنية الفنية والمناخات الشعرية والصور والإحساسات جديد تماماً، وفي عام 1949 أصدرت الديوان الثاني بعنوان "شظايا ورماد" تضمن قصائد جديدة على الشكل الجديد والذي أطلق عليه اسم "الشعر الحر"• ثم كانت قصيدتها الشهيرة "الكوليرا" المؤرخة عام 1947 التي كتبتها على اثر انتشار مرض الكوليرا في مصر وكانت الكارثة الفظيعة التي أثرت أشد تأثر بالشاعرة: قصيدة غريبة، جديدة في كل المقاييس، مختلفة وإيقاعها غريب عن الأذن العربية، وسرعان ما انتشرت هذه القصيدة بين الشباب العربي المثقف. ديوانها الثالث أصدرته عام 1957 وسمته "قراءة الموجة"، وديوانها الرابع عنوانه "الصلاة والثورة" أصدرته عام 1978• استمرت نازك في كتاباتها الشعرية وكانت عظيمة في بداياتها حتى مطلع السبعينات، فلم تواصل الرحلة، وانقطعت عن الكتابة الشعرية، وبدأت تكتب في قضايا سياسية واتهمت أنها تراجعت عن آرائها السابقة في ضرورة الحداثة ووجوب التطوير. توقفت نازك لفترة عن كتابة الشعر ثم عادت إليه بدواوين عديدة منها: "مأساة الإنسان وأغنية للإنسان" عام 1977 "ويُغيّر ألوانه البحر"... و"شجرة القمر" عام 1968،• تزوجت نازك عام 1964 من الدكتور عبدالهادي محبوبة رئيس جامعة البصرة، ولها ابن وحيد "براق" وهو طبيب. عاشت نازك في سنواتها الأخيرة في عزلة بعيداً عن ضجيج الحياة في القاهرة. حازت نازك جوائز أدبية عديدة في حياتها، وهي توفيت في القاهرة وكانت آخر قصائدها "أنا وحدي" كتبتها ورثت بها زوجها الدكتور "محبوبة" |
*مرثية إمرأة
(ور من زقاق بغداديّ)
ذهبتْ ولم يَشحَبْ لها خدٌّ ولم ترجُفْ شفاهُ لم تَسْمع الأبوابُ قصةَ موتها تُرْوَى وتُرْوَى لم تَرتَفِعْ أستار نافذةٍ تسيلُ أسًى وشجوَا لتتابعَ التابوت بالتحديقِ حتى لا تراهُ إلا بقيّةَ هيكلٍ في الدربِ تُرْعِشُه الذِّكَرْ نبأ تعثـّر في الدروب فلم يجدْ مأوًى صداهُ فأوَى إلى النسيانِ في بعضِ الحُفَرْ يرثي كآبَته القَمَرْ.
**
والليلُ
أسلم نفسَهُ دون اهتمامٍ, للصَباحْ وأتى الضياءُ بصوتِ بائعةِ الحليبِ وبالصيامْ، بمُوَاءِ قطٍّ جائعٍ لم تَبْقَ منه سوى عظامْ، بمُشاجراتِ البائعين, وبالمرارةِ والكفاحْ، بتراشُقِ الصبيان بالأحجار في عُرْضِ الطريقْ، بمساربِ الماء الملوّثِ في الأزقّةِ, بالرياحْ، تلهو بأبوابِ السطوح بلا رفيقْ في شبهِ نسيانٍ عميقْ
بيان اليوم
(6/24/2007)