إلى الآسنِ الذي لا يتحرك، إلى المساوئ القاتلة التي نلبسُ كي نخفيها ثياباً بيضاً لكنها تُعمي المبصر، يا أيتها الجماعةٌ الغائبة الريحُ شديدةٌ في هذهِ الأنحاء تكشِفُ السوءةَ قبل العورة، رغمَ أنَّها تتحركُ وحدها، والزمنُ لا يتحرك، ألم يقل أحدٌ ما أنَّ الزمن هوَ الآن ؟ إنهُ كذلك، لكنهُ لدينا الآنُ البعيد، الآن الذي لا وجودَ لهُ هنا، الآنُ الذي لا يُشعَرُ بهِ، آنُنا لا آن !.
صرخةٌ في نومِ موتكم المكيف قبلَ أن أصرخَ في وجهِ حراسكم المترهلين الذين لا يجدونَ كثيرَ تعبٍ في إحاطتكم كلَّ مرةٍ وإعادتكم إلى الجادة، أقصدُ الحظيرة فأنتم لا تسافرون، أيها السادةُ الكتابُ المثقفون المثرثرون المتنطعون المغتابون الساخطون السكارى النمَّامون الشحاذون أيضا، أيها السادةُ البيض العارفون بشكلٍ مذهل، المتمكنونَ من الكتابةِ بشكلٍ خارق، المتحدثون بما لا يشقُّ لهُ غبار، مقارعو الكأسِ بالكأسِ، المنتصرون في (حروبِ الباراتِ وثاراتها)، المنظِّرُونَ لوضعِ العالم، عارفوا طريقِ الخلاص للبشرية، حملةُ مشاعل الهدايةِ النورانية للعالمِ الحرِّ، يا بشائر مُضادَّات المدينةِ الفاضلة في آخر رقعةِ قبلَ البحر .
الكتبُ ممنوعةٌ من النشر وممنوعةٌ من الطبع وممنوعةُ من أن تداعبَ الأفكار والأقلامُ محاصرةٌ بأسيجةِ الترهيبِ الفادح الضخم، والترغيبِ في أمنٍ موهومٍ، حتى صارَ الكاتبُ وداخله مقصلة الرقيبِ لا مِقصه، وثمَّ بعدَ ذلكَ تتمنى أن تتخيلَ بنتَ شفةٍ لها بنتٌ فائقةُ الروعةِ لها أيضاً ابنةٌ غايةٌ في الحسن، مُحرَّمٌ قولهن وكتابتهن والإشارةُ إليهن، إن أفلتَّ بالرمزِ إلى القلادةِ التي تزدانُ بنحورهن خرجتَ من الحدودِ صِفر اليدين، فما هذا باللهِ على من باللهِ عليه، ومرَّتِ البلادُ بالمشنقةِ ولم يشعرُ أهلوها شيئاً ومرت فوقها المجنزراتُ والدباباتُ وانفجرت فوقها القنابل ومن يدعي أنَّهُ يسمعُ دبيبَ النملةِ لم يسمع من ذلك إلا دبيبَ قدميهِ الأربع، ولم ينتبه أبداً لدبيبِ الدبابةِ واختراقِ الطائرةِ حاجزَ الصوتِ قربه، وتوقفَ الحدثُ عندنا حتى صرنا نتسلى بالحدثِ المستوردِ من بلدانِ الحوادث والحياة، أما نحنُ فقد أمِنَّا حتى ما بقي لدينا ما نتحركُ لأجلهِ أو ما تتحرقُ أقلامنا للكتابةِ عنه، فلماذا إذن التنطعُ بالثقافةِ وخدمةِ الكلمةِ الحقِّ والوقوفِ مع الحريةِ تقافزاً مع همومِ العالم متضامنينَ معهُ فيما يؤرقهُ ويضجُّ مضجعه والدخانُ خلفنا يتصاعدُ من أرضنا المحروقة، ولا أستثني أحداً بل بالعكسِ أقصدُ من يظن نفسه مستثناً من يقفُ خلفي ويهزُّ رأسه مؤَمِّناً على ذلك كأنهُ لا يعنيه، أقصدُ منظري قتل الحياة ووأدها وصلبها والنواح عليها .
الحياةُ ماثلةٌ بينَ يدي المرضِ يأمرها فتأتمر من يبعثُ الحياةَ من رمادها الدامي ومن موتها إن لم يكن المبدع، من يعيدُ رغبةَ الحياةِ للمنتظرين موتهم الحلال بدل اقترافِ موتهم الحرام، من ينفخُ الشرارة التي لا تكادُ تبين من ؟، الأمرُ ليس مجردَ تشدقٍ فارغٍ بالأهمية فالفاقد لا يعطي والحياةُ لا تعطي الأمن وإلا لما متنا، الجبانُ إذن أكثرُ أمناً من غيره والمنافقُ يعيشُ طويلاً، والرعاديدُ لولا الطعام والشراب لما تركوا أمنَ منازلهم ونواديهم أفهمُ الأكثرُ حكمةً ؟، هل أصبحَ الخوفُ اليوم وسيلة حياة وحكمةَ عيش ؟ إذن فمن الكاتبُ ومن الشاعر، أكرهُ اللفظَ العمومي الراقصَ فوقَ حبلِ الإرضاءِ والتزلف، كما أكرهُ النمطَ التعميميَّ الساكن تحتَ السماءِ التي تمطرُ الذهبَ والمخلصين،ف(هلُمُّوا في حُندُسٍ نتصادمْ ) ولتكنِ الكلمةُ وحدها الحيُّ الذي للخلود .
لا أتحدَّثُ معَ المانعِ المعطي بل معَ الممنوعِ المتعثر، معنا نحنُ الذين لا نحلمُ إلا بالإكراهِ، وبأصواتٍ جدُّ خفيضة، معنا نحنُ مخترعو المبررات ومختلقوها، نحنُ الذين يرتبطُ بنا نماءُ التبرير، صناديقُ الجيناتِ النادرة من الكسلِ والتسويفِ، لماذا نخاطبُ غيرنا ليحافظ على شرفنا نحن،إنَّ حريَّةَ الكلمة هي قضيةُ شرفِ الكاتبِ الأكثر أهميةً على الإطلاق، لأنها تتعلق بالوجودِ كلهِ وجود الكلمةِ وكاتبها لذلك تكونُ حريةُ القولِ في لبِّ الحياة الحقيقية، ليست ترفاً ولا آخرَ سلَّمِ الحضارة بل أوله، مشعلو الحرائقِ لا مطفئوها العابثونَ بماء الحياةِ في الشوارعِ الراقصة، هذا هوَ الدورُ اللائق، لا الخامدينَ سكانَ الدوائرِ المغلقةِ بُناةَ الأسيجةِ روَّادَ ساحاتِ الهزائمِ آباءَ الكآبةِ وممثليها، بل مقيمي الإبتهاجِ أعداءَ الغفلةِ والخنوعِ وعيشِ الظلِّ نُقادَ حياةِ الصَغَار، موسيقيو الأرواح والعقولِ الباطنة .
إنَّ الثقافةَ فعلُ ابتداع وخلق قبلَ أن تكونَ أيَّ شيءٍ آخر، هي فعلٌ إيجابيٌّ بالذات لا فعلَ عدم، والذي يعتقدُ أنهُ مرتبطٌ بالثقافةِ وصنعها عليهِ تجاوزُ الخاملِ إلى الفاعل لأنهُ ارتباط يتحقق بذلك، وإذا كانَ هناكَ من يظنُّ أنَّ الفعلَ الإبداعي خِلوٌ من المسئولية فلا أسفَ عليهِ لأنهُ يُهمِّشُ الحقيقة التي يُصاغ بها الإبداع، فالذي يتلألأ في العمل الفني إنما هو النسيج المحكم حولَ الوجودِ الفعَّال، لا إلاكةَ الماضي ولفظَه، أو مجرَّدَ التنطعِ والإتكاءَ على منجزاتٍ مشغولةٍ بالدمِ للإرتقاءِ بالذاتِ الخواء الجوفاء، إنَّ الإحترامَ الذي يستحقهُ المبدعُ ويتلقاهُ إنما هوَ إدراكٌ من العقلِ البشريَّ للقائه شخصاً يمضي لهدفٍ نبيلٍ يتجاوزُ الضيِّقَ اليومي لذلكَ يُظهرُ هذا الإحترامَ ويبديهِ لأنَّهُ بذلكَ يحترمُ النسغَ الإنساني العظيم الذي يمنح للوجودِ أحقيتهُ .
لقد أوصلتنا الحالةُ النفسيةُ السيئةُ إلى السقوطِ في المستنقعاتِ الآسنة من الحسدِ المستشري ووأدِ منجزاتِ الآخرين وعدمِ احترامها بدعوى حريةِ النقدِ، رغم أنَّهُ ما من نقد ولا شيءَ سوى الثرثرة البغيضة، وشرخِ الإسطواناتِ والأرواح بتكرارِ التَّشَكي والعويلِ المكتوم وارتيادِ المناحات وتحويلِ شواطئ البحار وظِلال النخيل والتكايا الرملية إلى أمكنةِ البكاءِ بتلكَ الدموعِ التي يُقرفكَ مدى ركونها للعجز .
لكن فلأستمع لهذا الذي يقولُ توقف لحظةً ويسألني (لماذا تضعُ المثقفين في واجهةِ غضبك وهم ليسو المتسببين في تكميمِ فمِ الكلمةِ؟ هل تظنُّ أن لو كانت حريةُ التعبيرِ والنقدِ متاحةً من السُلطة سراً وعلناً هل تظن أنهم كانوا سيصمتون عن قولِ الكلمةِ المكممةِ بالذات؟)، أعلمُ هذا السؤال جيداً أعلم قلب طاولة النقاشِ هذا، ولكنني أفعلُ هذا بالضبط، ليقيني من أنَّ الكلمةَ لم تتلقى هبةَ القولِ قطَّ بل اكتسبتها اكتساباً، الكلمةُ كلمةٌ لأنها تقال منذُ الأزل وستقالُ للأبد،الكلمةُ لن تكونَ دونَ قائل لن تستمرَّ دونَ مقول لابدَّ من فاعلٍ لها لتكون، الكلمةُ، ليست منحةً تمنح إنها تؤخذُ كما هي الحياة فإذا لم يوجد من يحياها فلمن هي ؟، مرت العقود وتبدَّلت القرون ونحن نتناطح ونتردى، فلماذا نطالبُ ونحنُ المتنفسون شهيقاً وزفيرا أن نتنفس حُريتنا بهبةٍ فوقيةٍ ومنةٍ علَوية، الوجودُ إجتراحٌ لما لم يوجد وإيجادٌ للشيءِ الذي لا مكانَ له واستمرارٌ في حياةٍ حقيقية لا وهمية، وإلا فمنِ المثقف ؟ هل المثقفُ نمطٌ أستطيعُ تحديدهُ بمحاولة التعريف، إذن فليس هوَ الذي أتحدثُ عنهُ إنني لا أصنِّفُ الثقافةَ أكاديمياً هنا إنني أُصَمِمُها بهذا الذي وجدت الأكاديمية من أجله وأغلقت من بعدُ لرؤيتهِ مقتولاً لكن هيهات فما يزالُ هذا العصيُّ على الوصفِ حياً يرتعشُ بجنونهِ في كلِّ مكانٍ يُعمِّرُ الدنيا بالممسوسين والمجانين الذين لا يتبعونَ إلا النداءَ الخفيَّ الرائع .
ebrahimalhajry@yahoo.com
إقرأ أيضاً: