ناديا تويني، الشاعرة اللبنانية الفرنكوفونية المولودة عام 1935،لا تدّعي المعرفة، لكنها مضمخة بحبها لها وتوقها إليها. جاذبيتها تكمن في هذا السعيالمثقل ظهره بصليب السؤال، المشحون حنيناً إلى كل ما هو جوهري وأصيل في الوجود،المشتعل رغبةً في تقبيل عظام الحقيقة، ووضع شفتين من طين على شفتين من أثير. مفرداتأشعارها تنشغل بالكوني لا باليومي، حتى نخالها ناسكة فعلاً، تعيش في صومعة في ذروةالريح، لباسها أحلام غيم، وخاتمها حزن قمر، وشرودها عصافير، وشرابها شموس صغيرة،تسيل، وطعامها ذهب سنابل في كتب أقدم من التاريخ. أشعارها تنبئنا بسعيها الفادح،وأيضاً لغتها المائية العارية التي من طبعها أن تفضح، ولذا، لم تشأ للبّ قشوراً،ولا للحب زينة من بخور، ولا للمعنى شكلاً غير النور. سعت هذه الشاعرة إلى السرّبموهبة زجاج يمعن في الفضيحة. لقد عرفتْ كيف تعرف.
اختيارها لغة أخرى للتعبير بها غير لغتها الأم، هو اختراق للهويّة والموروث الحضاري في سعي لإخراج المعنى من حدود الشكل، ومنحه طعماً كونياً كطعم الحجر. ورغم أننا لانشكّ في أن "الشرق" كان هو منبت جذور ألمها الفادح وحبها الشاهق، إلاّ أننا نشكّ، مثلما هي كانت تشكّ، في أن صرخة ضوئه كانت لتترك نصف الأرض الآخر نائماً، وفي أن تأويل الشجرة فيه كان ليظلّ مغروساً في عرق الإنتماء، ولا يتشرّع على أفق الحريّة. كأنها أرادت لحبها وألمها أن تلبسهما أرواح كثيرة، فجعلت حبرها ماء كينونة خالص، فيه من الأصالة والفطرة والعذوبة ما تتشرّبه مسام الزمن والخرائط، بسلاسة، مثلما يتشرّب الغد البارحة، واليقظة الحلم.
موزاييك الروح
"لبنان، قصائد في الحب والحرب"، هو عنوان كتاب صدر حديثاً بالإنكليزية عن دارجامعة سيراكيوز بالإشتراك مع "دار النهار"، يضم انطولوجيا شعرية باللغتين الإنكليزيةوالفرنسية للشاعرة الراحلة، علاوةً على مقالتين نقديتين في أعمالها لكل من سيرينالحوت وجاد حاتم، ومقدمة بقلم محرر الكتاب، كريستوف إبّوليتو. تحوي الأنطولوجيا،إلى الترجمة الإنكليزية الكاملة التي قام بها صموئيل هازو لمجموعة "لبنان، عشرونقصيدة من أجل حب"، وسبق أن صدرت عام 1990 عن "دار بيبلوس" في نيويورك، عشرين قصيدةأخرى مختارة من مجموعة "محفوظات عاطفية لحرب في لبنان" ترجمها عن الفرنسية للمرةالأولى، بول ب. كيلي، كاتب متخصص بالآداب الفرنسية والفرنكوفونية المعاصرة. ورغم أنالحرب اللبنانية هي الثيمة الرئيسية للمجموعتين، والفارق الزمني بينهما لا يتعدىثلاث سنوات، إذ أن الأولى صدرت عام 1979، والثانية عام 1982، إلا أنهما بحسبإبّوليتو تختلفان إختلافاً جذرياً في طريقة التناول الشعري لموضوع الحرب والبحث عنأجوبة. في المجموعة الأولى، تكتب الشاعرة عن رمزية المكان في ما يجسّده من ماهيةخالدة للأرض. بمعنى أنها تحصّن الحاضر بالمستقبل، في حين أنها في المجموعة الثانيةتستعين بالماضي لتحصين الحاضر، وتستمد من ذكرياته ما يشحذ الحواس، ويمنحها قابليةالمواجهة اليومية الطازجة لواقع الحرب الأليم.
يستعرض إبّوليتو في مقدمتهالقيّمة لهذا الكتاب، المحطات الرئيسية في حياة تويني، وتجربتها الشعرية، مشيراًإلى أن قدومها إلى الشعر، كان حافزه الأساسي فقدانها المبكر لابنتها، ورغبتها فيإنشاد وطنها حبها العميق له. حبها هذا، لم ينحصر في منطقة معينة أو فئة من الناس أوحقبة زمنية، بل توسّع ليشمل جغرافيا وطن وتاريخه بأكمله، موزاييكه من موزاييك روحالشاعرة التي تطعمت بشاهق الجبال مثلما بعميق البحار، وبأديان ولغات وحضاراتوثقافات من كل الأطياف. وهو يلفت إلى نشاطها في المجال السياسي، وخصوصاً في أعقابحرب حزيران 1967 وإلى أنها إبنة ديبلوماسي وزوجة رجل سياسي، مما سمح بتعدد أسفارهاوأماكن إقامتها إذ أنها عاشت في كل من لبنان واليونان وفرنسا والولايات المتحدةالأميركية. في باريس، حازت عام 1973 جائزة قيمة من الأكاديمية الفرنسية عن مجموعتها "قصائد من أجل قصة"، وفي هذه العاصمة أيضاً، وبعد مضي ستة عشر عاماً على رحيلها،تمّ عرض عمل مسرحي مستوحى من مجموعتها "حزيران والكافرات". أشعارها تُرجمت إلىاللغتين الألمانية والإيطالية، عدا العربية طبعاً، في حين يسعى هذا الكتاب إلىاللحاق بركب ما فات اللغة الإنكليزية منها.
وعي اللغة
في رأي إبّوليتو أن مجلة "شعر" اللبنانية كان لها تأثيرها على الشاعرة في مايبيّنه نهجها الحداثوي في الكتابة. غير أننا لا نميل إلى مجاراته في ما يقول، ولانجد منطقياً، ربط مسار شاعرة فرنكوفونية تأثرت حكماً بشعراء طليعيين مثل رامبوولوتريامون وبودلير، وبحركات شعرية حداثية مثل الحركة السوريالية، وبكل من شبّ منقريحة الشعر أو مسّها لغةً أو مفهوماً في الثقافة الفرنسية، بمسار شعراء انشغلوا فيمختبر الكتابة بلغة أخرى. لا يمكن فصل وعي الشاعر عن وعي اللغة التي يكتب بها،وللغة الفرنسية مختبراتها التي استفادت الشاعرة من تجاربها قبل مجلة "شعر" وبعدها.وبما أن الشعر أمنع أبواب اللغة، فهي ما كانت لتُسكن خيالها ووجدانها خيالَ هذهاللغة ووجدانها، مقتحمةً هذا الباب تحديداً، لولا أنها كانت تألفها ألفة الجنينللرحم مرتويةً من ماضيها، ومسلحة بإمكاناتها، وممتلكة بريق تطلعاتها. صحيح أنالرصيد الثقافي للشاعرة، لا يمكن حصره في لغة أو حضارة واحدة، ولا في مرجعيةجغرافية أو زمنية واحدة، لكن الصحيح أيضاً أن الكاتب هو اللغة التي يكتب ويُكتببها، يؤثثها وتؤثثه بالتجارب والإمكانات والتطلعات، وأنه يتعدد بتعدد لغاته. في هذاالمعنى، فإن ناديا تويني ما كانت لتكتب بأي لغة أخرى ما كتبته بالفرنسية، ولو أنالفصل بين بريق عينيها وبريق كلماتها كان سيظل صعباً. في هذا المعنى أيضاً، فإنالقول بتأثّرها بحركة مجلة "شعر"، تصعب معاينته في تجربة أفصحت عن شاعريتها بأدواتمغايرة فرضتها اللغة التي كُتبت بها.
موت لا يبتلعه الموت
يقف إبّوليتو في مقدمته عند بعض ركائز المعتقد الدرزي، لكونه نبعاً رئيسياً من بين ينابيع روحانية وفلسفية وميتافيزيقية عدة روت روح الشاعرة، في محاولة منه لمعاينة مدى انعكاس ما تأثرت به من مفاهيمه على أشعارها. وفي رأيه أن دورة الحياة والموت المتعاقبة التي تمثل مسار النفس البشرية في مفهوم التقمّص في العقيدة الدرزية، ينسحب على الأرض أيضاً في أشعار تويني. هذه الأرض التي وإن احترقت وتلاشت، فثمة للفينيق رماد تُحفظُ ذاكرته تحت اللسان، فلا يبتلع الموتُ موتَه. إيمان الشاعرة بالتقمص يعزّزه، بحسب إبوليتو، قولها: "أنا أنجو من رفاتي/ وأعلم من الذاكرة مستقبل زمني". وها هي قد نجت فعلاً، بعد أن تقمّصتْ روحها جسداً آخر، من كلمات، وهل غيرها في الأرض مَنْ يستحقُ روحها؟! يبدو المنحى التنسكي في أشعار تويني، والذي مبعثه السعي إلى المعرفة المطلقة، دليلاً آخر على تأثرها بالمعتقد الدرزي. لكأنها في هذا السلوك، تلبّي شروط المعرفة المقدّسة لديه، والتي هي امتياز لا يناله إلا أولئك الذين خلت أنفسهم للخالق وحده. مبدأ التوحيد في هذه الديانة، وقيم مثل المساواة والعدل واحترام الحقيقة ومقت التعصّب وغيرها، كلها أيضاً تجد نظيرها في مبادئ وقيم الشاعرة. وفي هذا الشأن، يُحيلنا إبّوليتو إلى بعض مقالات الشاعرة من ضمن أعمالها النثرية الكاملة التي صدرت عن دار النهار عام 1986، ويرى أن ما كتبته الشاعرة عن كون قصائد الحب في التراث الشعري الدرزي تستثني كل ما لا يصبّ في حبّ الخالق والوطن، إنما ينطبق على أشعارها نفسها، أو على الأقل على مجموعتيها الأخيرتين، مما يُوحي أكثر فأكثر بنوع من الإلتزام الوجداني من الشاعرة ليس فقط بمفاهيم هذه الديانة، بل وبأدبياتها أيضاً.
تاريخ مؤنث
يقول إبّوليتو ما معناه أن الكتابة التي كانت بدايةً وسيلة الشاعرة في رثاءابنتها، أضحت لاحقاً وسيلتها في رثاء وطنها. الكتابة عن الموتى تبقيهم أحياء.الكتابة عن التاريخ تدخله المستقبل. ثم لا ننسى ما للكتابة من دور تطهيري وعلاجي فيمساعدة الأحياء للتعاطي مع فكرة الموت بموضوعية أكبر. زمن الحرب، كان الشعر هوالمخلّص الوحيد للشاعرة. كلمة واحدة منه، تهطل من السماء، فتمحو عن القبر كلمة قبر.ثم إن للشعر مكانه وزمانه المتخيلين اللذين كانا يشكلان ملاذاً للشاعرة من جحيمالواقع. بالشعر أعادت الشاعرة صياغة وطن من رماده، فثمة في المخيلة والذاكرة مايمنح الدمعة عيناً، والرمّة ذمّة، وسواد الدخان حدّة الخضرة في حشيشة القلب. وثمةما يسبق الحياة ويلي الموت، والذي ما كان إيمان الشاعرة العميق ليستبدل كلمة سرّهبكلمة "عدم".
تكتب الشاعرة: "قريباً، الأرض الموقوفة في عز طيرانها/ تنفتحكرمانة/ لشموس الفضاء". في هذا القول ما يوحي أن انعدام حركة الواقع، وتوقف الوجودعن التنفس، لم يدفعا الشاعرة إلى إغلاق كتاب الكون، والإستسلام للنوم. هي ظلت تقرأحتى بعد موت كل الكلمات، تقرأ ليس فقط ما امّحى، بل ما لم يُكتب أصلاً، وتستلهم كماالأنبياء العطش الذي سيرويه ماء لم يحبل به الزمان بعد. الحرب، جعلتها تسير إلى الأمام لا الخلف، وهي وإن كانت تحفر القبور والجروح برؤيتها المنقّبة، فثمة ملائكة على رموشها كانت تمنح الألم أجنحة، والحزن نور، كيما تحلّق المدن والكائنات فوق جثثها ناظرةً إلى نفسها من علٍ كما تنظر الحكمة إلى كلفة الدرس.
كتابة التاريخ التي هي حكرعلى الرجال (!)، شأن شغل الشاعرة في صميم أشعارها، ربما لتجعلنا ندرك أن التاريخ لايشبه نفسه في دفاتر امرأة، وخصوصاً امرأة مثلها. كانت تويني امرأة فاتنة الروح،غنية الثقافة، عميقة الوجدان، وبقدر ما كانت معاصرة وعلمانية في سلوكها ظاهراًوباطناً، كان تفكيرها مأخوذاً بعوالم ميتافيزيقية تتجاوز في مكنونها حدود الأديان. التاريخ الذي كتبته الشاعرة، وخصوصاً في مجموعتها: "لبنان، عشرون قصيدة من أجل حب"، اتسع زمنه ليشمل زمناً متخيلاً إلى جانب الزمن الواقعي. هو تاريخ فيه الأصل والفروع، الخالد والزائل، ما وقع وما كان يُتوقع وقوعه، وإذاً، فيه الماء وما امّحى فيه. وهو تاريخ يرى إلى الحجر، بحسب ما جاء في مقالة جاد حاتم، في كونه رمزاً لما يبقى، وإذاً فهو تاريخ ليس بآثار مدن وأطلال حيوات بحسب كتب التاريخ. الشاعرة إذ تكتب ماضي الحجر، لا تغفل عن عين ذاكرته المفتوحة على الخلود، فهي لا ترى إلى الأشياء بعين يقظة، بل حالمة، وعليه فهي لا ترى من الحجر نومه بل حلمه. نساء وطنها هذا، الذي كانت تكتب تاريخه، هن في نظرها قادرات، حتى والكون في هيولى، على اكتشاف ذاك الذي يدوم. وما تفترضه فيهن إنما ينسحب عليها، ويمنحها مبرراً كافياً كي تكتب في دفاترها تاريخاً آخر لم يقرأه التاريخ، لأنه تاريخ مؤنث لا يُقاس فيه الشيء بحجمه، إنما بحجم المعرفة به، وهي في حال الشاعرة، معرفة كوّنها الحب والإيمان أكثرمما كونها تعلّم التاريخ نفسه.
مجاز مضاد
في نبذة عن الحرب الأهلية اللبنانية، يوجز لنا إبّوليتو بعض أهم أسبابهاومجرياتها وآثارها المدمّرة على شتى الصعد. غايته في ذلك الإحاطة بالظروف الموضوعيةالتي كُتبت خلالها القصائد المترجمة في هذا الكتاب، مما سيتيح للقارئ إمكاناً أكبرلفهمها. رغم أن نيويورك كانت مكان إقامة الشاعرة بدءاً من العام 1977، حيث شغل فيهازوجها، غسان تويني، منصب ممثل لبنان في الأمم المتحدة، إلا أنها بالطبع لم تكنبعيدة عن الظروف المأسوية التي كان يعيش فيها وطنها، لاسيما أنها كانت تزورهباستمرار وتتحسس أهوال حربه ومعاناته عن قرب. ويؤكد إبّوليتو أن الحرب في لبنان، لمتكن حرب المرأة ولا خيارها، فهي لم تكن في موقع الفعل بل ردّ الفعل. ويشير إلى بعضالكتابات النسائية، ومنها كتابات الشاعرة، التي عمدت إلى انتقاد لغة الحرب الذكوريةوكليشيهاتها، وشددت على ضرورة التخلص من مصطلحاتها الايديولوجية الطنانة. وليس أدلّ على موقف الشاعرة من الكلمات الكبيرة الفارغة، وتلك الشعارات التي كانت تدلّ على الشيء وضده فيما تحمله من معاني التضليل والخداع، من قولها أنه كان سهلاً أن يُؤخذ الجبل على أنه البحر! أو قولها: "فكرة تُطلق ورجل يخرّ ميتاً / دوماً أحمر داعر نفوذ الكلمات/ أشدّ فتكاً من إيماءة/ أولئك الذين يعيشون في ضوء الكلمة/ فوق حصان الشعارات الهارب/ أولئك/ يحطّمون نوافذ الكون".
وتعدّى موقف الشاعرة رفض مصطلحات الحرب إلى رفض بيئتها المحكومة بالعنف الذكوريونواميسه العاتية. لذا، كان عليها أن تجد طريقة تساعدها في التغلب على هذا الواقع،وهي لهذا بحسب إبّوليتو، لجأت إلى "المجاز"، وراحت تقرأ وتكتب الأشياء بالإستعارات.فها هو الوطن يضحي أماً تحبل بها، وها هي الذكريات تأخذ شكل حبل سرّي موصول إلى كلوجه. هي إبنة هذه الأرض، فلا عجب إذاً أن تحبل بها الأرض، وأن تلدها، وترضعها منحليبها. ولا عجب أيضاًفي أن يكون لهذه الأرض عادة شهرية يُسفك فيها دم الحقدالحار. هذا الوصف، هو صورة شعرية شديدة التهذيب مقارنة بالواقع السافر على الأرض.ويبقى السؤال، هل يستطيع الشعر أن يحلّ مكان الحقيقة؟ هل استطاعت الشاعرة أن تتغلبعلى الحرب بأن رأت إليها في وصفها وضعاً بيولوجياً شرساً، هو رغم فداحة آلامه، قديدلّ، في ما يدلّ، على الخصوبة والتجدّد؟ وفي معنى آخر، هل الموت للشاعرة لم يكن مميتاً إلى الدرجة التي لا يعود معها يُنبىء بولادة جديدة؟ الجواب على هذا السؤال، يكمن في قصائدها نفسها، التي بانت فيها تتحدّى الموت، وتأخذ على عاتقها مهمة الدفاع عن أرضها ونفسها، هي التي كانت تتخبط وداء السرطان الذي أودى بحياتها عام 1983. قصائدها تُظهر قدرتها على تجنيد كلمة "حرب" ضدّ الحرب، وكلمة "قتل" ضدّ القتل، فهي استعارت الكثير من لغة الحرب المدمّرة، لتبني بها قلعة حبها، ولتكشف عن موهبتها الخارقة في تسخير أدوات الموت لإحياء الحياة. لقد صنعت من الرصاص عقداً، ومنحت رعونة الشكل معنى الياسمين. قصائدها لم تغرف من قاموس الحُبّ لتجمّل الواقع، بل غرفت من بشاعة الواقع ما جعلت منه كلمات حب. وها هي تأخذ كلام الموت بين يديها، فينبت له أجنحة ويطير: "الأرض ماتت من الجمال/ مقتولة بانفجار ضحكة/ قنبلة في الأرض جوّفت ابتسامة".
سماء الكتابة
بين الأرض والشعر علاقة كانت توليها الشاعرة بالغ اهتمامها، متأثرة في ذلكبكتابات اندريه شديد، وصديقها الشاعر فؤاد غبريال نفّاع. لا بدّ أن يكون للشاعر أرضمتخيلة تحميه من أرض الواقع، وقد كان للشاعرة كما تقول، "أرضها الشعرية" التي كانتمأهولة بالكامل بذكريات الماضي، واستعارات الحاضر، وتوقعات المستقبل. وهي لم تضعلها أرشيفاً إلاّ رغبة منها في مزيد من الفهم لرموزها، والإستيعاب لخفاياها. لم تكنالشاعرة لترضى، بأن تحدد لها الحرب هويتها ومستقبلها، فالحرب كانت واقعاً يقتل علىالهوية ويقتل الهوية، والطريق فيه إلى المستقبل مسدود. لذا كان لا بد لها من خلقواقع تخييلي آخر، يتحقق وجودها من خلاله بأسمى تجلياته، ويشرف على مستقبل تتقمص فيهالروح حياة جديدة.
الكتابة كانت وسيلتها في خلق أرض شعرية على أنقاض حرب أهلية،ووسيلتها في طرح أسئلة لانهائية حول حقيقة الوجود والهوية: "هل ولدتُ من كذبة/ فيوطن لا وجود له؟/ هل أنا قبيلة على ملتقى دماء متعاكسة؟/.../ مَنْ يجعلني حاضراً؟".إذاً، العالم "الآخر" الذي كانت تطمح إليه الشاعرة، لم يكن عالماً وهمياً،كرتونياً، خرافياً، زهرياً، تسعى من خلاله إلى الهروب من الواقع عبر التقوقع فيكذبة، والتحصّن بأسوار التجاهل، بل عالماً، لحمه ودمه من الحقيقة، تلك الحقيقةالمتخيلة في خيالها عن كذب التاريخ، وضلالة الحاضر، وغموض المستقبل. أسئلتهاالقلقة، تشير إلى أنها ما كانت لتستعيض عن الواقع الحقيقي بآخر وهمي، بل بآخريوازيه في الوجود، لكنه أكثر حقيقية منه، لأن حقيقته تقوم لا على الإقرار بواقعالحال، بل على السؤال، وإعمال الذاكرة والخيال.هذه الشاعرة لم تطرق باب المخيلة، جبناً وهروباً، إنما كان ذهابها إلى "الهناك" مغامرة حقيقية، جازفت لأجلها بالحقيقة نفسها، وجندّت لها جيوش روحها، مسلحةً بحواس من بلّور. هي لم تمنّ النفس بالوعود ، فقد كانت تعلم مسبقاً أن مغامرتها قد لا تقودها إلى أرض الميعاد ولا إلى أي أرض أو حقيقة مطلقة، ولذا، فقد جعلت من وسيلتها، أيضاً، هدفاً لها، جاعلةً من الكتابة نفسها أرضها المنشودة. هكذا لم يعد ثمة فرق بين السؤال وجوابه، وباتت الحقيقة للشاعرة هي نفسها هذا الذهاب الفاتن إليها، مثلما إيثاكا هي الرحلة إلى إيثاكا.
مسك البداية
يخلص إبّوليتو إلى القول بأنه لا شكّ في أن ناديا تويني قد أضحت بعد الحرب من الرموز الهامة لوطنها، ومن الأصوات النسائية التعبئوية التي خلّفت صدى كبيراً بين نساء مجتمعها. وهو يحيل هذين الأمرين إلى أسباب ثلاثة: انهماكها في إعادة كتابة التاريخ والواقع اللبناني من وجهة نظر الفئة المستضعفة، وتوقها إلى الوحدة والتلاحم بين أبناء مجتمعها، وأخيراً، سعيها المتواصل في جعل اللغة نوعاً من الشهادة والفعل الروحاني. وهو أبى إلا أن يختم مقدمته بمسك الشاعرة، نافثاً أريجها الروحاني عبرشهادة كتبتها عام 1982، وقام زوجها بترجمتها إلى الإنكليزية. فيها تقول: "أنا أنتميإلى بلاد تنتحر كل يوم/ بينما يغتالونها"، وكم كانت محقة في تشخيصها لمرض هذاالوطن، المزمن، وهل حاله الآن أفضل مما كان؟! يصعب فضح جمال روح هذه الشاعرة حتىأقصى مداه، فهو جمال بالكاد تقوى عليه اللغة، حتى تلك التي كتبت هي نفسها بها. وإنكنتُ سأفعل الشيء نفسه بمسكها، فليس لأني في صدد إنهاء أفكاري عنها، بل لأني في صددإخفاء قلبي عن القارىء، وأنا أبدأ بها من جديد. فتعالوا نقرأ هذه التي رحلت إلىشمال الكون البعيد، والجنوب فيها أقرب إلينا من نبض الوريد.
نُشر ملخص هذه المقالة في النهار 25 آب 2006
anawar63@yahoo.com