وبارعة كقفزة غطاّس في مياه غير عميقة

أمال نوّار
(لبنان/ أوهايو)

بريت إيستن أليسقلما تتحقق شهرة روائي من خلال عمله البكر، غير أن بريت إيستن اليس استطاع، وهو بعد في الحادية والعشرين من العمر، أن يتجاوز منذ روايته الأولى "أقلّ من صفر" (1985)، درجات عالية من السلّم مباشرةً إلى لائحة أفضل المبيعات، والترجمة إلى لغات أخرى، والإقتباس السينمائي. روايته الثالثة، "المعتوه الأميركي" (1991(، صدرت وهو فقط في السابعة والعشرين من العمر، أرادها وثيقة اتهام لثقافة الغرائز والجشع التي سادت مانهاتن في الثمانينات، فأثارت ضده عاصفة من الغضب والاستنكار، غيظ النساء وحنقهن بصفة خاصة، وتعدّت كيل الشتائم إلى تهديده بالقتل، نظراً إلى مغالاتها في تصوير العنف ضد المرأة، والفحش الجنسي، والعالم الدموي البشع للجريمة، متجاهلةً كل حساسية أخلاقية أو عقائدية أو فطرية لدى المتلقي.

شهرة اليس قوامها ما حققته أعماله من مردود مادي، لا قيمتها الأدبية والفنية التي لا تزال مثار شكّ ومناقشة كثيرين. الواقع أن نقاداً اعتبروه صوت جيله، وآخرين اتهموه بالسطحية، وثمة من اختاروا الصمت، غير عابئين إطلاقاً بتجربته التي ربما لم تقدّم أو تؤخر شيئاً في الأدب الأميركي المعاصر. "قراءة اليس أشبه بمشاهدة قفزة غطّاس بارعة إلى بركة كبيرة إنما غير عميقة، تُمتعنا تقنياتها، لكننا عبثاً ننتظر أن يرششنا الماء!". هذه عيّنة مما كُتب فيه. رواياته عموماً تتناول العوالم الخاوية والمادية والسطحية لجيل الشباب الأميركي في الثمانينات والتسعينات، إلا أنها هي نفسها تبدو خاوية من أي هدف واضح، أو بُعد مجازي، أو مغزى أخلاقي أو فني ما. إسرافها في وصف العنف تقابله حيادية شبه تامة من الروائي، ولامبالاة بما يحدث، حتى لا تتعدى الكتابة لديه متعة التلذذ في عرض عضلاتها من دون أن تستخدمها في تغليب فكرة ما، أو في مؤازرة المعنى الذي يقف وراء الإيغال المفرط في سرد اللامعنى.

بريت إيستن أليسيختار اليس في روايته الأخيرة، "المتنزه القمري"، أن يجعل نفسه بطل روايته. على أنه لا يكتب سيرة ذاتية، بل ما يسمى رواية الأنا - البطل الزائف، أو ربما السيرة المخادعة. بطله كاتب مثله، ويحمل إسمه. بل نسخة كربونية عنه. مطلّق وأب لمراهق أيضاً. لديه الروايات نفسها لكن شخصياتها ترد بأسماء وعناوين مغايرة. نتساءل: ما السبب الذي يدفع اليس للجوء إلى أدوات سيرة لكتابة رواية؟! أهو الإفلاس، أم الكسل، أم الخيلاء، أم العبث وكسر المألوف، أم الرغبة في إمتاع القارئ وتسليته ليس إلا؟ لا ريب، التسلية لا يمكن التغاضي عن قيمتها النوعية في ثقافة مثل الثقافة الأميركية. الفكاهة أيضاً، وهي لا تعوز معظم أعمال اليس. "المتنزه القمري" قصة كاتب عاش طفولة مضطربة مع والده السكّير والعنيف الطباع الذي مات منذ ثلاثة عشر عاماً ليخلّف وراءه إبناً بكّاءً كالأطفال، مهووساً بذاته، زير نساء ومثلياً أحياناً، مدمناً الكحول والمخدرات، ومحبطاً في الوقت عينه، لكون نجوميته الأدبية بدأ وهجها يخفت بفعل النقد اللاذع الذي تعرضت له تجربته أخيراً. في محاولة لإنقاذ ذاته، وترويض حياته المشاغبة، يُقدم على الزواج من ممثلة جميلة كان عرفها قبل أحد عشر عاماً، وقد أنجبت منه آنذاك طفلاً، وينتقل للعيش معها في بيئة أكثر ألفة وأقلّ مدينية. هناك، محصّناً بكنف الحياة العائلية الحميم، يبدأ بكتابة رواية جديدة. ورغم توافر معظم شروط الإستقرار المادية والنفسية، لن يستطيع الخروج من جلده تماماً ولمدة طويلة. ها هو يتعاطى المخدرات، ويخرج من مرحاض الكلية التي يدرّس فيها مع إحدى طالباته. ثم أن علاقته بإبنه ما إن تدفأ قليلاً حتى تعاودها الثلوج. على أن حياته لا يحدق بها الخطر فعلاً، إلا على إثر حفلة تنكرية يقيمها لمناسبة عيد البربارة. يبدأ مسلسل الرعب، ويصير بيته مسكوناً بأرواح شريرة، فنرى مثلاً لعبة بلاستيكية وقد تحولت طائراً حيّاً يعضّ فعلاً. كذلك فإن شخصية المهووس القاتل باتريك بايتمان في رواية "المعتوه الأميركي"، تتجسد حقيقة لترتكب أشنع الجرائم. هذه الحوادث الغرائبية تشمل المدينة بأسرها مع لغز اختفاء الأولاد الصبيان منها تباعاً.

بريت إيستن أليس"المتنزه القمري" إذاً، رواية غرائبية، فظّة اللهجة، وخرافية المحتوى، لكنها تستمد قوتها من صلاتها بطبيعة الحياة الواقعية. الروح الشريرة تقتحم بيت اليس وتسأله: "أريدك أن تراجع حياتك... أن تعي كل الفظائع التي ارتكبتها". رغم هذا، الرواية لا تبدو عملاً تكفيرياً، أو نوعاً من العقوبة الذاتية، يُنزلها الآثم بذاته. هي تتوسّل استحقاق البطل للشهرة، وتُغالط الفكرة الذائعة أن كتبه تعكس مفهوم بغض الجنس البشري. علينا الفصل بين اليس الحقيقي واليس البطل الزائف. لكن الأول لم يذلل لنا صعاب هذا الفصل الشائك، ولم يفلح في إقناع القارئ بأنه قادر على المجازفة بخلق شخصية تحمل هويته نفسها، ومع ذلك في وسعها التفرد بخصوصياتها ضمن عالم الفيكشن فحسب. يصرّح اليس في أحد أحاديثه: "لا يمكنني إطلاقاً التعبير عن نفسي في أي كتابة تقريرية مباشرة، بالصدق ذاته الذي أعبّر به عنها في أي من رواياتي". إذاً، مجازفة من هذا النوع قد تقلب السحر على الساحر. فالبطل الزائف الذي توسّل اليس من خلاله إظهار مهاراته، وخصب مخيلته، وطرق أبواب مغايرة، بدا عبره مجتراً نفسه، مفلساً، مدّعي معرفة لا يفوت القارئ إدراك حجمها الحقيقي.
التأويل الأكثر احتمالا لمظاهر الرعب والشرّ التي تلبّست بيت البطل، أنها مظاهر "أنوية" الكاتب الذي لا يمكنه الإفلات منها، ومظاهر هيمنة عالمه الخيالي الذي يسكنه كبيت تسكنه الأشباح. فالخيال الروائي تماماً كالشهرة، أو تأنيب الضمير، أو مكامن الضعف في النفس، يلاحق الكاتب إلى كل بيت آمن. على أن هذا الإحتمال فكرة مستهلكة في الأدب حتى العظم. وعليه، فالرواية تعجز عن طرح أي ثيمة تتجاوز التسلية. وهي إن كانت تطمح إلى أكثر من ذلك، فمضمونها مسطح وعادي، وما أراده الكاتب بحثاً عن الذات، بدا ترويجاً لها، وإشاراته الضمنية إلى الإرث المرضي الذي يأخذه الأبناء عن الأباء، وإلى العلاقة بين الخيال والحقيقة، جاءت خافتة الوهج، مجترة ومملّة. هذا بالطبع إذ غضضنا عن السؤال: ما العلاقة بين هذه الموضوعات؟! لكأن إنشغال اليس بإبهار القارئ جعله يجازف بفتح أكثر من جبهة، مما تسبب في عجزه عن الدفاع عن أي منها. الرواية ضحية المبالغة في الطموح، كي لا نقول إنها قتيلة الإدّعاء. اللافت أن الفواصل السردية النادرة التي لم يكن فيها الروائي يتحدث عن بطله، هي أفضل ما في الرواية. لسببٍ ما، يبدو أسلوب اليس في السرد أكثر تمكناً حين يلجأ إلى إستعمال مشرطه على الآخرين، بدلاً من السكين البلاستيك الذي يدّعي به تشريح ذاته!

ولد اليس عام 1964 في لوس أنجلس وترعرع فيها. موهبته الأدبية استرعت الإنتباه منذ الصغر. في عمر المراهقة، وعلى إثر طلاق والديه، انتقل إلى مدرسة داخلية، حيث انكبّ على المطالعة وتعرّف إلى أدباء كثر منهم جوان ديديون التي يعترف بتأثره الكبير بها، واعتماده تقنياتها الأشبه بتقنيات الكتابة الصحافية المعاصرة، عاملاً على تمويه الحدود الفاصلة بين الأدب والريبورتاج. يقول إن كتاباته أقرب إلى الأرشفة وطرح الأسئلة والمشكلات، منها إلى التحليل والتعليل والبحث عن الأجوبة والحلول. افتقار أعماله إلى موقف نقدي شخصي، وطابعها التقريري، هما تحديداً ما جعلاه فريسة سهلة لأنياب النقد. عام 1985، أي قبل عام واحد من تخرجه من كلية بنينغتون في مدينة فرمونت، فاجأ اليس المشهد الأدبي بالظهور المتألق لروايته "أقلّ من صفر"، التي تدور حوادثها حول عوالم الشباب في بحثهم عن الإثارة، والعزلة بين الأهل وأولادهم. سبب نجاح هذه الرواية، هو تناولها موضوعة كانت لا تزال طازجة في الثمانينات، أيضاً عينُ اليس الصحافية التي عنيت كثيراً بالتفاصيل، وأسلوبه السردي الذي تماهى بصدق مع لغة هذه العينة من الشباب الأميركي، المفتقرة إلى العاطفة والميالة إلى النزعة العدمية.

روايته الثانية، "قواعد الجذب" (1987)، نسخة كاريكاتورية عن الأولى، لذا لم تحظ بالنجاح نفسه، أما الثالثة، "المعتوه الأميركي" (1991)، والتي أرادها كوميديا سوداء هجائية تصوّر شباب أميركا المعاصرة وافتقارهم إلى المثل والمبادئ الأخلاقية، فانقسم حولها النقاد. اعتبر البعض أنها حققت أهدافها، أما الغالبية فرأت إلى اليس في وصفه قوّاد قراء أو سمسار رغبات، يسعى إلى مجاراة الذائقة العامة، ويبني طموحاته الأدبية على فكرة مخاتلة، قوامها أن قيمة الأدب تتأتى من مقدار صداميته. الواقع أن روايته هذه إن كانت ذات قيمة فنية ما، فإنها في مضمونها لم تتجاوز مستوى أي فيلم رعب تجاري. ولا عجب إذاً، فقد تم اقتباسها سينمائياً! عام 1994 صدرت رواية اليس الرابعة، "المخبرون"، أقرب إلى كولاج قصصي قصير منه إلى بناء روائي. لم يتمكن اليس فيها من تحقيق الخبطة الأدبية المرتجاة كمحاولة لإنعاش مسيرته، بل سجّل مزيداً من التقهقر بسبب مداومته على اجترار نفسه موضوعاً وأسلوباً. روايته الخامسة، "فتنة"، الصادرة عام 1999 تختلف في نظره عن كل سابقاتها، لكونها الوحيدة تحتوي على حبكة. فيها حاول الربط بين طغيان الجمال وطغيان الرعب، لكن الناقد جيمس بانرو تساءل: "هل حقاً للجمال طغيان يحاكي الرعب؟!". ناقد آخر اعتبر أن حبكة هذه الرواية لا تخلو من التعقيد المفتعل والمبالغ فيه.
في مقابلة معه، يصف اليس رؤيته إلى الأشياء بأنها "ميالة إلى السطحية، والنرجسية، والهوس بالشكل الخارجي والسطوح، حيث تكمن الحقيقة هناك". ويرى أننا نعيش في عالم دارويني بامتياز، الشكل فيه أهم بكثير من كل وعي يمكن أن يتخفّى تحته. في مكان آخر يصرّح: "أنا شخص شديد التمسك بالقيم الأخلاقية، الكثير من الناس يسيئون فهم كتبي، ويعتبرونها مؤيدة أوممجدة لنمط سلوكي معين". خلاصةً، يبدو بريت إيستن اليس في نظرنا مثالاً حياً على الكاتب الذي تخنقه شهرته المبكرة، وعلى الموهبة الواعدة التي لا تعي أن انتفاخها المغالي بذاتها يجعل مستقبلها لا يشذ عن مستقبل أكبر بالون!

(النهار 15 حزيران 2006)