جميل الحديث عن الوحدة الوطنية بين اللبنانيين على خلفية اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية والثقافية والسياسية، أما ما ليس جميلاً البتة، فهو الحديث عنها على خلفية تباين أديانهم وديمغرافياتهم الطائفية.
أسمع مراسلي المحطات التلفزيونية اللبنانية وهم يشيدون بأهالي القرى المسيحية في تعاطفهم مع أهالي القرى المسلمة، والشيعية تحديداً. أسمع كيف أن أديرتهم شقّت صدورها مرحبة بسيوف الإمام علي. أسمع وأغصّ مما يستبطنه هذا الكلام عن الوحدة من عاطفة متفسّخة ومهترئة، وقابلية محدودة لدى أصحابه على فهم جوهر الحب الإنساني الحقيقي الذي لا يمكن أن يكون مشروطاً بغير مجانيته. أسمع وأشعر كيف أن حجارة السقوف والجدران التي عانقت القلوب الكليمة لم تعرف ولم يكن يهمها أن تعرف ما إذا كانت حجارة جوامع أو بيوت أو قبور أو أقبية أو أديرة، ولا ما إذا كان هؤلاء الذين اهتزّ كيانها برهبة صلواتهم، يرتّلون أم يتلوون. أسمع وأصرخ: يا حجر، علّمهمْ حبّكَ. يا حجر، علّم البشر أن لا دخل للقرآن والصلبان في براكين لبّك. أسمع وأتساءل: إلى متى ستظل تُقتلع في بلدي العاطفة الإنسانية العفوية النبيلة، من جذورها البريّة الأصيلة، لتباع في سوق النخاسة عبدةً لأسياد التأويل والتضليل، يتاجرون بها ويقبضون أثمانها السياسية الرخيصة بإسم الدين؟
متى سيُفصل الدين في بلدي ليس فقط عن الدولة، بل عن بديهيات سلوك أهله، وفطرة مشاعرهم وطبائعهم بحكم أنهم ينتمون إلى الجنس البشري ذاته ذي المقومات البيولوجية ذاتها من عقل وقلب وحواس خمس ولسان ناطق؟ متى سيُفصل الدين في بلدي عن حرام المأكل وحلاله، فلا يعود الذبح وطرائقه دليلنا إلى الحلال والحرام؟ متى سيُفصل الدين في بلدي عن الدمعة التي تفيض تلقائياً من احتكاك الصوان بالصوان، فما بالكم باحتكاك شعور الإنسان بشعور الإنسان؟ متى سنقتنع أن هذه الدمعة بريئة من التفكير والتخطيط والتعليل، والأهم بريئة من الدين، وأنها أصلاً وثنية، تعبد إلى جانب الكواكب والبشر والحجر، رأس البصل؟!
متى سيُفصل الدين في بلدي عن الهواء، فلا أعود أسمع بتلك الأمثلة النموذجية عن أهله وطرائقهم في التعايش والحب والوئام، على غرار أن شهيقهم وزفيرهم للهواء ذاته لم يمنعه اختلاف أديانهم، وأن إنجازهم هذا دليل وحدة وطنية؟! متى لا تعود الطبيعة في بلدي خارقة للطبيعة، فلا تعود ألوان قوس قزحه تعميه عن رؤية نور الشمس المجرّد؟
غريبة طرقت بابي تحمل صورة كلبها الضائع وتبكي. وعلى الشاشة كلب آخر أنقذ صاحبه من الموت... العواطف المتبادلة على قفا من يشيل، تجمع خرائطها في الأرض بين قلوب ناطقة وأخرى غير ناطقة، وفي السماء، تجعل من الجحيم قلباً للجنة. ما من كلب يسأل صاحبه أو يسأله صاحبه عن دينه كي يُحِبّ أو يُحَبّ. فالكلب حين يُحِبّ، يكون الحبّ دينه. والإنسان لا يجوز أن تقلّ عاطفته الغريزية تجرّداً عن عاطفة الكلب.
الأديان كلها نادت بالحبّ، وجاءت لأجله. هي لم تقل للبشر، أحبّوني، بل أحبوا بعضكم وغيركم من خلالي، ومارسوا طبيعتكم الموجودة فيكم أصلاً، والتي فطركم الخالق عليها كي تحبوه هو أولاً وكل ما خلقه، قبل الأديان وبعدها.
الحب دين الأديان، وليس للحبّ دين لأنه هو نفسه الدين.. دين الجوامع والكنائس وحجارة الطرق.. دين الحيوانات والشجر والبشر.. دين الهواء والتراب والمطر...
لماذا نكفر به إذاً، ونحيل وحدة المتدينين به ،الأرضية، إلى وحدة سماوية تدلل على عظمة الأديان لا الإنسان؟ لماذا نكفر به ونحيل فضل الإنسان لا إلى طبيعته بل إلى ما تطبّع به؟
لماذا لا نقبل أن نحبّ بالمجان؟
anawar63@yahoo.com