" ارقصي لالاّ وليس ما يكسوكِ
غير الهواء،
غنّي لالاّ متدثرة بالسماء.
انظري إلى هذا النهار الساطع،
أية ملابس في وسعها أن تكون
أكثر بهاءً أو قداسة."
قليلون هم الكشميريون أو الهندوس أو المسلمون الذين لم تألف مسامعهم واحدة من حكمها أو مقولاتها الأثيرة التي تعجّ بها قصائدها، والتي أضحت على مرّ الزمن أمثالاً سائرة. "لالاّ"، أشهر شاعرات اللغة المحكيّة القديمة لأهل كشمير. أشعارها الشفهية التي أنشدتها في الطرقات خلال القرن الرابع عشر، لم تفارقها الروح أبداً، وواصل قلبها النبض في الذاكرة الجماعية لأهل تلك البلاد صادحاً بلغاتٍ ثلاث: الكشميرية والهندوسية والسنسكريتية. عدا عن إسم "لالاّ" الذي يعني "المحبوبة" بلغتها الأصل، عُرفت هذه الشاعرة بأسماء أخرى عدة، منها: "لالاّ- فاكيانا"، "لالسواري"، "لالاّ يوغيسواري" وهو إسمها في السنسكريتية،، "لال دِدْ" أي (الجدة لال)، "ماي لال ديدّي" وغيرها.
عاشت "لالاّ" تجربة الزواج لفترة وجيزة من حياتها، إذ سرعان ما ضاقت روحها بنمطية ورتابة العيش ضمن هذا الإرتباط التقليدي، فتحررتْ من أسره، لتنقطع إلى تحصيل الدروس والتعاليم الروحية على يد معلّم هندوسي. إبان هذه المدة، راحت "لالاّ" تجول في المناطق الريفية لتلك البلاد، منشدة قصائدها في الطرقات وهي ترقص بأسمال ممزقة بالية، او عارية تماماً.
روايات وأقاويل عدة، معظمها من نسيج المخيلة الشعبية، تناقلتها الألسن عبر العصور حول طبيعة حياة "لالاّ" الغرائبية، منها ما هو فكاهي، كحكاية الأمسيات التي كانت تقضيها في ضيافة حَمَاتها الشريرة، والتي كان من عادتها أن تضع لها حجراً تحت وجبتها من الأرز المطهي كيما توهمها بأنها تحظى بحصة كبيرة من الطعام. ومنها ما هو أُعجوبي، كحكاية لقائها بوليّ المسلمين الشهير آنذاك "سيّد علي حمداني"، الرجل الذي يُعزى إليه الفضل في هدْي أهل كشمير إلى دين الإسلام. وتقول الحكاية أنه بينما كانت "لالاّ" تتجول عارية في إحدى الدروب، وقع نظرها على حمداني، وللتوّ حَدَسَتْ بجلالته، فطفقت تعدو باتجاه أحد مخابز البلدة صائحةً: "لقد رأيت رجلاً"، وما إن ولجتْ باب المخبز، حتى قفزت في فرنه الملتهب لتلتهمها نيرانه الشرهة في ثوانٍ. وآن بلغ الوليّ المخبز باحثاً عنها، انبثقت "لالاّ" فجأة من الفرن، مكتسية ديباجاً أخضرَ باهراً من إستبرق الجنة.
"كولمان باركس" أحد المترجمين الذين نقلوا بعض قصائد "لالاّ" إلى الإنكليزية، عمد في إحدى دراساته إلى إجراء مقارنة بينها وبين "جلال الدين الرومي"، معتبراً أنهما على طرفَي نقيض. ففي حين أنّ أشعار "الرومي" مُسرفة، فيّاضة، جيّاشة المشاعر وممتلئة حيوية، فإنّ أشعار "لالاّ" مُقتصدة، مُتزنّة، وقورة، ورابطة الجأش. كذلك فإنّ التعقيد والغموض اللذين يشوبان بعض أشعار "الرومي"، تقابلهما بساطة صارمة، ووضوح مفرط في أشعار "لالاّ". لم يجنح باركس بعيداً عن الحقيقة في ما ذهب إليه، ولعلّ المتأمل في أشعارهما سيجد أنه إذا كانت أشعار "الرومي" أشبه بمخيلة وردة تتحرّك بكامل بتلاتها، فإنّ أشعار "لالاّ" أشبه بخلاصة عطر يتقطّرَ من خاطر تلك الوردة. إنها أشعار تتنفس في الجذور. انتمت "لالاّ" إلى مدرسة اليوغا الكشميرية، حيث احتفت بالإله الهندوسي "شيفا"، المتجسّد بالقمر، والذي كان يمثل لها الحقيقة الوحيدة المُطلقة، التي كانت تسعى إلى تقمّصها من خلال تماهيها واتحادها به في مراحل التجلّي القصوى، حتى أن البعض قال أنّ رقص "لالاّ" ما هو إلاّ انعكاس للغة جسد "شيفا" نفسه.
الروح كالقمر جديدة ومتجددة دوماً.
كذلك رأيتُ المحيط خلاّقاً باستمرار.
وبما إني طهّرتُ عقلي وجسدي
أنا ، لالاّ، أيضاً جديدة
في كل لحظة، جديدة.
معلّمي لقّنني شيئاً واحداً،
عيشي في الروح.
آن تمّ لي ذلك
شرعتُ أطوفُ عارية،
وأرقص.
تدثّرْ بالكفاف من الملابس ما يُبقيكَ دافئاً.
اقتتاتْ بالكفاف من الطعام ما يقيكَ وخزة الجوع.
وفي ما يخصّ عقلكَ،
دعْه يجتهد ليدركَ مَنْ أنتَ،
والمُطلقَ، وأنّ هذا الجسد
سيضحي يوماً
طعاماً لغربان الغابة.
أولئك ذوو موهبة المشي في الهواء،
أولئك القادرون على إخمادِ نارٍ،
تجميدِ مجرى،
أو الحظي بحليبٍ من بقرة خشبية،
هم مشعوذو شوارع، ليسوا أكثر.
الزهّاد يرتحلون من مزارٍ إلى مزار
سعياً وراء الذي يتأتى
من ارتياد الروح فقط.
تفكّرْ في اللغز الذي تجسّده.
حين تُمعن النظر انطلاقاً من ذلك،
العشبُ الغضّ يبدو أكثر نضارة
وهو غير مستوٍ تماماً،
وحتى أكثر اخضراراً إلى الأبعد.
اصمدْ هنا.
تأملْ من منطلق الأبدية.
لا تلزم حدود عقلكَ.
أفكاركَ مثل طفل يتململُ
قرب ثدي أمه، مضطرباً وخائفاً،
وهو بقليلٍ من التوجيه
يُمكنه الإهتداء إلى مسار الشجاعة.
ثمة أولئك النائمون الذين هم أيقاظ،
وآخرون أيقاظ ويبدون نياماً.
ومِمّن يستحمّون في بِركٍ مقدّسة
ثمة مَنْ لن يطهروا أبداً.
وهناك آخرون
تصرفهم شؤون منزلية عادية
عن القيام بأي نشاط.
دعْهم يكيلون لعناتهم.
إنْ كنتُ في الباطن، أنا على صلة
بما هو حقيقي،
روحي ستظلّ ساكنة وصافية.
أوَ تظن أنّ شيفا يُقلقه ما يقوله الناس؟!
إذا ذرور من الرماد تناثرتْ على مرآة،
استخدمْها لصقلها.
الشهرة ماء محمول في سلّة.
أحبسْ الريح في قبضتك،
أو أوثق فيلاً بشعرةٍ واحدة.
هاتان مأثرتان تجعلانك شهيراً.
لطّفْ من حِمل العُذوبة التي أنوء بها،
عُقدة الحبل تنغرز في كتفي.
هذا النهار تمادى في لامعناه،
أشعر أني لا أستطيع المضي.
آنَ كنتُ ومعلمي، سمعتُ حقيقةً
آلمتْ فؤادي كأنّها قَرْحٌ،
الألم الرقيق الناجم
عن رؤية شيءٍ عشقته كوهم.
القطعان التي رعيتها، رحلتْ.
أنا راعية، حتى من دون ذكرى
لما يعنيه، تسلّق هذا الجبل.
أشعر أني في منتهى الضياع.
هذا ما كانت عليه حالتي الروحية
إلى أن وجدتني في حضرةِ قمر؛
هذه المعرفة المُستجدة
بكيفية توحّد الشِبَاه.
صديقي الطيّب،
كلّ شيء هو أنتَ،
أنا أرى الإله فقط.
الآن، الأشكال والحركات المُبهجة
باتت شفافة،
أنظرُ من خلالها وأبصرني
في وصفي المُطلق.
وهنا تكمن الإجابة على لغز هذا الحلم:
أنتَ تغادر، كيما نحن الإثنان
نستطيع الإتيان برقصة واحدة.
جئتُ إلى هذا الكون المولود والمُنبعث أبداً،
ووجدتُ الضوءَ المُضاء بذاته.
إذا ما ماتَ أحدهم، فهذا لا يعني لي شيئاً،
وإذا ما متُّ أنا، فهذا لا يعني شيئاً لأحد.
خيرٌ أن نموت،
وخيرٌ أن نعمّر طويلاً.
الموت والولادة حَدَثان يعتملان
في باطنِ شعور الفرد،
لكن معظم الناس يسيئون فهم
اللعبة الجوهريّة للطاقة الخلاّقة،
كيف ضمن ذلك،
هذان هما حَدَثٌ واحد.
لالاّ، جبتي أماكن كثيرة
سعياً لإيجاد زوجك!
الآن وبعد لأي، داخل جدران
هذا الجسد البيت، في القلب المقام،
ها أنتِ تكتشفين أين يحيا.
الشمس؛ "التشاكرا"** الأدنى للحيوية،
اختفتْ..ثم "التشاكرا" الأعلى؛ القمر.
مُستغرِقاً في المُطلق، فكري تلاشى.
إلى أين الأرض والسماء ارتحلتا الآن؟
أتراهما متواريتان في العدم
مثل صديقين في نزهة على الأقدام.
بعض الناس تخلّوا عن منازلهم،
آخرون عن صوامعهم.
كلّ هذا التخلّي، بلا طائل
إنْ لم تكن واعياً في الباطن.
نهاراً وليلاً،
كنْ فطناً مع كل نَفَس،
وعشّ هناك.
معلمي، أنت الإله لي!
أطلعني على المعنى الدفين لنَفَسَيَ الإثنين:
الأول الحارّ، والآخر البارد.
" في حوضكَ، قرب السّرّة،
يكمنُ مصدرُ حركاتٍ حيوية عدة
تدعى الشمس، مدينة الضياء.
بينما حيويتكَ تتصاعد من تلك الشمس،
فإنّها تروحُ تسخن،
وفي فمك تلتقي بالجدول المُنحدِر
عبر يافوخ ذاتك العليا، الذي هو بارد
ويدعى القمر أو "شيفا".
هذا المزيج الجاري، نشعرُ به بالتناوب
حارّاً وبارداً."
ما هي العبادة؟
مَنْ هو هذا الرجل وهذه المرأة الآتيان بالزهور؟
أيّ أنواع الزهور ينبغي إحضارها،
وأيّ ماء جداولٍ ينبغي سكبه فوق التماثيل؟
العبادة الحقّة تقوم في السريرة،
(فليكن ذاك رجلاً) وبفعل الرغبة،
(لتكنْ تلك امرأة)،
وليكن لهذين الإثنين الخيار
في ما سيضحيان به.
ثمة سائل يمكن إفرازه
من تحت قناع الوجه،
رحيقٌ إلهي حينما يتصبّب،
يمنحُ النفس انضباطاً وقوّة.
ليكنْ ذلك هو سيلكَ المُقدّس.
ليكنْ نشيدُ عبادتكَ صامتاً.
كنتُ مشبوبة العاطفة،
ممتلئة صبابة،
أبحثُ في كل مكان.
لكنّ اليوم الذي فيه
الكائنُ الحقّ وجدني،
كنتُ في بيتي.
* "تشاكرا" كلمة من أصل سنسكريتي، وهي في المعتقد الهندوسي ورياضة اليوغا الروحية، إسم واحدة من عُقد أو (عجرات) سبع، تشكّل مراكز الطاقة الأساسية في جسم الإنسان، وتصطف تصاعدياً من أسفل العمود الفقري حتى قمة الرأس، حيث هناك، في التشاكرا الأعلى، يتمّ الإتحاد بالإله.
anawar63@yahoo.com