الشاعر الأردني الذي بدأ مسيرته بكتابة تفعيلة خافتة تميل إلى القصّ، ينجز هنا سيرة شخصيّة مقنّعة لجيل من المثقفين لم يعد قادراً على وصل الماضي بالحاضر. نصّ يحيد عن عثرات الروايات الأولى... كأنّ «وصول أمجد ناصر إلى الرواية كان مسألة وقت»، يكتب الياس خوري في تقديمه لـ «حيث لا تسقط الأمطار»
بعد مسيرة شعرية متفرّدة وضعته بين أبرز شعراء السبعينيات، ها هو الشاعر الأردني أمجد ناصر يصدر رواية بعنوان «حيث لا تسقط الأمطار» (دار الآداب). نفاجأ دوماً حين يصدر شاعر رواية. نحسب ذلك تطفلاً أو تعدّياً على فضاءٍ، نظن أن النبرة الشعرية التي تربَّت على التكثيف والحذف واصطياد الاستعارات غير قادرة على التحليق فيه. بل إن الرواية عادةً لا تحتاج إلى تحليق بقدر ما تحتاج إلى تأريض الكتابة، وجعلها ملازمة للواقع في أشدّ حالاته نثرية ودقة. في رواية أمجد ناصر، لا تصمد ظنوننا طويلاً. تفقد المفاجأة وجاهتها كلّما توغلنا أكثر في عالمها المكتوب بعناية سردية، تقنعنا بأنّ ما نقرأه ليس باكورة روائية من تلك البواكير المزدحمة بالشوائب والعثرات، بل هي حصيلة ممارسة سردية يندر أن يمتلكها الشعراء.
الواقع أن ما يحدث ليس غريباً على صاحب «مديح لمقهى آخر» (1979) الذي بدأ مسيرته الشعرية بكتابة أشد أنواع التفعيلة خفوتاً وميلاً إلى السرد والقص، قبل أن ينتقل دفعة واحدة إلى كتابة قصيدة نثرٍ متخلية عن البلاغات المفرطة والميوعة العاطفية، إلى أن انتهى إلى تبنّي قصيدة النثر في مفهومها الفرنسي، والمكتوبة ككتلة نثرية منفَّذة على سطور كاملة، وهو ما تجلّى في ديوانه الأخير «الحياة كسردٍ متقطع» (2004).
إلى جانب ذلك، أنجز صاحب «خبط أجنحة» (1996) أربعة مؤلفات في أدب الرحلة بما يتطلبّه من جملة سردية طويلة وملموسة، قادرة على الصمود والعوم داخل لجَّة الحكايات والمشاهدات والتواريخ التي لا تتوقف عن التدفق داخل كتابة من هذا النوع. كأنّ «وصول أمجد ناصر إلى الرواية كان مسألة وقت»، كما كتب الياس خوري في مقدمة الرواية. يتعزّز هذا الاستنتاج أكثر بكتاب «فرصة ثانية» المنجز قبل الرواية، والصادر بالتزامن معها، والذي تتداخل فيه «الرؤى الشعرية والقيم الحكائية (...) ويلتبس الإخبار بالمجاز»، بحسب تعبير خالدة سعيد في تقديمها له.
سيرة المثقفين العرب الذين لجأوا إلى بيروت في النصف الثاني من السبعينيات
لا ينجو القارئ من فكرة أنّ صاحب «حيث لا تسقط الأمطار» هو شاعر بالأساس، لكنّ الرواية تشلِّحهُ هذا الإحساس بسرعة. يتراجع الشعر إلى الخلف، ويتحول إلى طاقة احتياطية تمتِّن السرد وتمنحه القدرة على الاستجابة لمتطلبات السرد في الاقتضاب والاسترسال، والتحرك بطلاقة بين أزمنة الرواية وأمكنتها وشخصياتها.
عندما تبدأ الرواية، يكون كلّ شيء قد حدث وانتهى تقريباً. البطل، يونس الخطاط، عائد إلى وطنه بعد عشرين سنة أمضاها في الخارج تحت اسم آخر هو أدهم جابر. لا يسمّي أمجد ناصر الأمكنة والأشخاص، لكننا لا نتأخر في الوصول إلى أسمائهم الحقيقية. نحزر أنّ «الحامية» هي الأردن، وأنّ «مدينة الحروب والحصار» هي بيروت التي فرّ إليها البطل، وأن «جزيرة الشمس» هي قبرص التي لجأ إليها بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وأن «المدينة الرمادية والحمراء» هي لندن محطته الأخيرة.
تحلّي البطل باسمين، وامتهانه للشعر والكتابة، ومحطات التيه والغربة الشبيهة بالتي عاشها أمجد نفسه، تدفعنا إلى الظن بأننا نقرأ سيرة شخصية مقنَّعة... لكنّ السيرة هنا «خدعة» كما يقول الياس خوري. لقد برع أمجد ناصر في استثمار أجزاء كبيرة من سيرته، لكنه بذل جهداً موازياً في طردها وإبعادها عن ذهن القارئ المطّلع عليها. السيرة هنا هي عظام الرواية المكسوة بلحمٍ مختلف، والمكتنزة بأحشاء مبتكرة، تجعل السيرة نفسها حاضرة على نحوٍ شبحي وزائغ. السيرة ليست ممنوعة في الروايات. هناك روائيّون لم يكتبوا سوى سِيَرهم وتجاربهم الخاصة. استعان أمجد ناصر بخيط الهجرات والتنقلات في سيرته، لكنّ هذا الخيط يتعرّض لعمليات كسر إيهام متواصلة من خلال ابتكار خيوطٍ أخرى تضع ما هو سِيرَوي داخل إطارٍ روائي أوسع وأخصب. إنّها سيرة يمكن تعميمها على جيل كامل من المثقفين والكتاب العرب، وخصوصاً من لجأوا إلى بيروت في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، بحثاً عن فضاءٍ سياسي وثقافي وشعري أكثر حرية. جيل آمن بأفكار خابت، وبأحلام تمخّضت عن كوابيس. جيل لم يعد قادراً على وصل الماضي بالحاضر، وهو ما يتبدَّى في استحالة تصالح أدهم جابر مع يونس الخطاط، إذْ تنتهي الرواية بزيارة البطل لقبر والدته. هناك يفكر باسميه: أيهما سيُنقش على شاهدة قبره إذا مات؟
انقسام الأنا ذو المذاق الطريف في سيرة أمجد ناصر الحقيقية، يكتسب مذاقاً مريراً في الرواية. وتكتسب عودة البطل نكهة عوليسية تتبنّى فكرة أن الطريق إلى «إيثاكا» أجمل من الوصول إليها، بحسب ما كتب الشاعر قسطنطين كافافيس. كافافيس الذي سبق لأمجد ناصر استهلال باكورته الشعرية بقصيدته الشهيرة التي تنتهي كالآتي: «وكما خربت حياتك في هذه الزاوية الصغيرة/ فهي خرابٌ أنى ذهبت». هكذا سيفهم بطل الرواية أنّه فقد طمأنينة أمكنته الأولى إلى الأبد، وأن المنفى لا يوفر طمأنينةً مماثلة. لقد وصل إلى «مدينة أين» التي اقترحها سركون بولص في أحد دواوينه، والتي يرد ذكرها في الرواية. حسناً، لم يبق له إلا أن يواصل الكتابة. ألم يقل أدورنو أن الكتابة هي «وطن من فقدوا أوطانهم»؟
"الأخبار" اللبنانية
10/8/2010