في مجموعتها الجديدة «بالنقطة الحمراء تحت عينه اليسرى» (الغاوون)، وهي الثالثة لها بعد «انحراف التوابيت» (1996) و«أسفار العزلة» (2008)، تدعونا الشاعرة العراقية منال الشيخ إلى لغة أكثر دسامةً وتعقيداً مما نقرأه لدى أغلب قريناتها. الاختلاف هنا لا يعني تقييماً مسبّقاً بالسلب أو الإيجاب. قد يحب بعضهم هذا النوع، وقد يفضِّل آخرون كتابة أقل صرامةً. إنه مجرد توصيف بديهي لا يستطيع القارئ تجاهله. لعل ثقل الإرث الشعري والتقاليد الصارمة تؤدّي دوراً أساسياً في الحصيلة النهائية التي تخرج بها هذه الشاعرة. لا نقول جديداً حين نستقبل التجارب العراقية بطريقة مختلفة قليلاً. لا يزال الكثير من الشعر هناك يتغذّى على اللغة والمعجم والاستعارات المستدرجة منهما إلى أرض القصيدة. مشهديات الواقع ويومياته محكومة بفقدان الكثير من رصيدها الوثائقي والوقائعي كي يُسمح لها بالتسرب إلى الكتابة. لن نجد جماليات اللغة اليومية وركاكتها المحبَّبة. ما ينتظرنا في شعر الشيخ أكثر بلاغةً وأشدُّ جزالة.
نقرأ كيف تعرِّف نفسها في قصيدة بعنوان «.V.I.P»: «أنا منال الشيخ/ ابنة مهاجرٍ آوى قطّاع الطرق في بيتنا الطيني المسقوف/ ولم يطعمهم ما تبقى من أحلامنا على مائدة احتضار/ ابنةُ امرأةٍ أحرقت آخر رغيفٍ كنا سنوكل إليه أيامنا المعدودة/ واتكأت على رهانٍ عتيق/ ابنةُ أسلافٍ، قاطعي الرقاب وسارقي ألقاب البطولة/ معتمري برق السماء/ دون أن تطالهم لفحةُ موتٍ واحدة/ تطول أعمارهم بعددِ ما ينتشرُ من أئمةٍ/ فوق جسر الخلود». هناك الكثير من هذه اللغة المتدفقة والقاسية لدى الشاعرة، التي تنذرنا بأن لديها «من العزلة ما يكفي لأنْ أذُمَّ دائماً تلك الطّرْقات على باب الجيران» وأن الوحدة تنتظرها مثل كل الشعراء: «ستموتُ وحيداً/ وسأموت وحيدة/ هم الشعراء هكذا/ يموتون وحيدين».
الشاعرة موجودة في أغلب قصائد المجموعة. ثمة أجزاء من سيرة شخصية تُقَلَّب وتُنضَجُ في مشغل الكتابة. الشعر في النهاية هو غلَّة الذات ومخيلتها، لكنه مصحوبٌ هنا بسعيٍ حثيث إلى تأمين إقامةٍ لما هو عابرٌ وقابل للنسيان. حتى مخاطبتُها للآخر تنكشف عن ذريعةٍ لاستثمار اللغة. لنقرأ: «ليس لي فيه ما يُملك/ فمٌ/ وباهٌ/ وعنقود عتب/ ستُرضعه أخرى/ وتراوده أمٌّ عن نفسها/ لأظل أنا/ أقدُّ الرجاءَ/ من قُبلٍ ومن دُبر».
الاخبار- 29 يناير 2010