يواصل الشاعر الفلسطيني توثيقه لأجزاء وشذرات من سيرته الشخصية التي تعكس سيرة عائلة وبلاد وبشر ومصائر... ووجع مزمن
في كتابه «ولدتُ هنا، ولدتُ هناك» (دار الريس)، يوثِّق الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي أجزاءً وشذرات من سيرته الشخصية التي تتكشّف عن سيرة عائلة وبلاد وبشر ومصائر. حميميّة العنوان متأتية من التطابق الأليم بين الـ «هنا» والـ «هناك». في الحالتين، ستعني مسقط رأسه دير غسانة في رام الله، فهو «هنا» إذا كان الشاعر واقفاً على أرضها، وهي «هناك» إذا كان يتحدث في مكانٍ آخر. رغم الحضور الكثيف لفكرة الوطن، فإنّ الكتاب ليس عالقاً في الحنين فقط. خيط الفقدان لا ينقطع على مدى 11 فصلاً، لكن البرغوثي يورِّطنا في موضوعات وقضايا عديدة. الذين قرأوا كتابه «رأيت رام الله» (1997)، لن يخيب أملهم بحصّة أخرى من السرد الفاتن والقادر على خلق جاذبية لكل تفصيل يرد بين السطور.
الكتاب، بمادته وطريقة سرده، أشبه بجزءٍ ثانٍ من كتابه السابق. في الأول، روى لنا كيف رأى رام الله بعد ثلاثين عاماً من الغياب، وفي الثاني، يروي لنا كيف أخذ ابنه تميم ليريه رام الله لأول مرة، ويستخرج له هوية فلسطينية. أما الروائية المصرية رضوى عاشور، زوجته ورفيقة دربه، فلن ترى ما رآه الزوج والابن لأنها «لن تقف أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة لطلب تأشيرة أبداً».
فلسطين هي بطلة كتاب البرغوثي. إنّها موجودة تحت كل سطر وخلف كل حكاية. كانت موجودة في شعره، وظلت موجودة وهو يكتب النثر. صاحب النبرة الخافتة والتفصيلية في الشعر، لا يغيّر عاداته. بالنسبة إليه، لا يكفي أن تكون صاحب قضية عادلة، المهمّ أن تكتب عنها بشكل جيد. فعل البرغوثي ذلك في الشعر، فابتعد عن الخطابة والتهويم البلاغي، لصالح لغة دقيقة وجافة ومكتومة. وها هو يفعل ذلك في كتابة سردية مرتاحة ومتفلتة من شروط الكثافة والاقتصاد. الصفة المميزة في هذا السرد هي أنه سرد لتواريخ وحوادث وحكايات فردية وصغيرة وهامشية. إنّه يدور في صورة أشمل وأعم بالطبع، ولكن صاحب «منطق الكائنات» يتجنَّب الضخامة والمبالغة والحماسة، فيجعل مادة الكتاب أقرب إلى قلب القارئ.
فصول الكتاب غير خاضعة لتسلسل زمني، لكننا نحس أن ثمة منطقاً يحكم ترتيب هذه الفصول التي تبدأ بـ «السائق محمود» الذي ينجح، رغم الحواجز والخنادق ونقاط التفتيش الكثيرة، في توصيل المؤلف مع ركاب آخرين من رام الله إلى أريحا. الرحلة تتحول ذريعة لرواية قصص وتفاصيل وسخريات عديدة... تنتهي بترجيح وصولهم سالمين «لأنّ القدر لم يسمح بعد للفلسطينيين بأن يموتوا بسبب حوادث الطرق».
الفصول الخمسة التالية مخصصة لسرد رحلة «الابن» الأولى إلى رام الله والقدس، لكن، كما هي حال صفحات الكتاب كلّها، تستدعي الرحلة ذكريات وتعليقات وآلاماً وطرائف. يتذكر البرغوثي لقاءاته الأولى في الجامعة مع رضوى عاشور، وولادة ابنهما في القاهرة، وإبعاده هو عن مصر 17 عاماً. يعاين الابن مواضع طفولة أبيه. يتشاركان في أمسية شعرية. يقدم الأب ابنه: «إن شئتَ أن تكون شاعراً فعليك أن تبدأ من هنا بين أهلك، وعلى هذه الأرض». لاحقاً، سيعيش الابن أيضاً تجربة الإبعاد عن مصر.
الفصل السابع بعنوان «ساراماغو». وفيه يستعيد البرغوثي زيارة وفد برلمان الكتَّاب العالمي التي أغضبت إسرائيل، وأقامت الدنيا بسبب مقارنة جوزيه ساراماغو بين جرائم الاحتلال الإسرائيلي وجرائم النازية، وتشبيهه رام الله بأوشفيتز. وفي الفصل الثامن، يسرد تجربته اليتيمة مديراً لمؤسسة تابعة للسلطة الفلسطينية، مكتشفاً أنّها منخورة بالفساد المالي. وفي السياق نفسه، يذكرنا بمعارضته لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ساخراً من مفارقة أنّ أخطاءها السياسية أعادته إلى رام الله.
رغم سرده الممتع، لا ينسى صاحب مقولة «الكتابة بالممحاة» أنه شاعر أولاً. الكتاب يتضمن مقاطع وقصائد تُستدعى لضرورات السرد. في واحدة بعنوان «لا بأس»، نقرأ رغبة الشاعر في ميتة عادية للفلسطيني الذي يموت دوماً في مجزرة: «لا بأس أن نموت في فراشنا/ على مخدة نظيفةٍ/ وبين أصدقائنا». وفي مكان آخر، يُبدي ضجره وغضبه من فكرة «الوجع المزمن» و«المقاومة المزمنة» كمحرِّض على الكتابة، حاسداً المقاومة الفرنسية لأنها «لم تزِدْ على أربع أو خمس سنوات عاد بعدها أراغون وإيلوار وسواهما إلى تجريبهم الشعري، ولعبهم الجمالي». رأى البرغوثي رام الله في المرة الأولى، وأرانا إياها، وها هو يذوِّقنا المزيد.
الاخبار
الجمعة 12 حزيران 2009