بضمير الجماعة الذي يجعل القصيدة سيّالة ومتدفّقة وهادرة، يستهلّ الشاعر السعودي محمد الحرز مجموعته «أسمالٌ لا تتذكر دم الفريسة» (دار النهضة)، وهي الثانية له بعد «رجل يشبهني». ضمير الجموع واللغة الهادرة يمنحان النص طابعاً نشيدياً. في أعمال كهذه، غالباً ما تطغى اللغة على كل المكونات الشعرية الأخرى، ويكون المعنى ضحية أولى أمام هرج العبارات وتدافعها بعضها وراء بعض. في نصوص محمد الحرز، ثمة انتباه إلى خطورة أن تجرف اللغة المعنى. اللغة هنا متدفقة لكنها ليست محلِّقة في فراغ معجمي، وليست مهوِّمة في بلاغات ملفَّقة. إنها لغة هادرة وليست هاذية. في النصوص الأربعة الأولى، نجد سطوراً فاتنة يتكفّل لمعانها بإضاءة كامل مساحة النص الذي تحضر فيه.
في النص الأول، نقرأ: «كلما عبر حطابٌ بفأسه، قبضوا على الشجرة، وأخرجوها من الغابة»، وأيضاً:
«لا تطرقوا بابه هذا الواقف كعرّاف على باب المدينة/ عيناه شاخصتان ناحية الأفق/ تحت قدميه/ العنب ينضج/ وما من نبيذ ولا كؤوس». ونقرأ في النص الثاني: «فكّرنا فقط في الأغصان المتروكة على جانبي الطريق بعدما يئس الفأس من تحويلها إلى طاولة»، وأيضاً: «من سيجرؤ على النظر إلى ظهورنا نحن الذين فتنّا الأشجار، ولم تجرؤ ثمرةٌ على السقوط إلا بعدما لامستها أكفّنا، والماء لم يصعد إلا بعد أن همسنا للجذور بالسر».
وفي النص الثالث، نقرأ: «عرفوا الماء في الجِرار وليس في النهر»، وأيضاً: «البعض لا تسيل ملامحهم على الوجوه إذا اشتدت الشمس عند الظهيرة». ليس المطلوب، على أي حال، أن يكون كل سطر شعراً خالصاً. هناك سطور وظيفتها إدخال خيوط ما سبق في ثقوب ما يلي من سطور. القصد أن السطور ذات الشعرية العالية قادرة على جعل حضور العبارات والمقاطع الأقل شعرية طبيعياً.
داخل هذه العوالم، ينتبه القارئ إلى غياب الحياة اليومية في نصوص الحرز أو ندرتها. وهي ملاحظة يمكن، بشيء من العجلة، إطلاقها على أغلب ما يصلنا من شعر سعودي راهن. لعلّ الشغل المعجمي والبلاغي الكثيف هو أحد مظاهر غياب الحياة العادية وتفاصيلها الملموسة. الحياة في معظم نصوص المجموعة تحدث في اللغة لا في الواقع. هذا يعيدنا إلى اللغة ذات الطابع النشيدي الطارد للتفاصيل والنثريات الصغيرة، ففي لغة كهذه، يصعب على حياة عادية أن تقيم باطمئنان. الشاعر نفسه قليل الاكتراث بالعاديات. إنه طامح إلى أسطرة النص وتتريخه. الكتابة بضمير الجماعة لائقة بسرد سيرة شعب أو مصير أقوام وممالك. لنقرأ: «كان أناس قبلكم شمّروا عن سواعدهم يوم كانت الصحراء جرداء لا يعبرها غيمٌ أو قطيع. هم أخلاط قبائل نزاريون وعدنانيون، تحالفوا ولم تكن ثمة قلاعٌ أو حصون، (...)، لذلك لمّعنا سيوفنا وسردنا القصة كاملة على العالم، ولم نغمدها إلا بعدما شققنا الريح إلى نصفين، الأول ألقينا به إلى سفننا وقلنا للبحر: اذهب حيثما ذهبت، والآخر ربّيناه في أحضاننا ليحفظ عزتنا عندما نشيخ ونكبر على الحياة».
بالمقابل، لا تمنع هذه المناخات أن تُخترق بعض القصائد بمفردات وإشارات تُذكرنا بحياة عادية، فنقرأ استعارة لافتة مثل:
«اليقـين وحده يلمع كالأواني التي لم تُستخدم في المطبخ»، ونعثر، كذلك، على ذكر لكونديرا وسيوران وقاسم حداد ومريد البرغوثي... ونقرأ قصيدة عن أصدقاء محددين «كعادتهم يدخلون الحانة».
وفي النصوص الأخيرة، ندلف إلى مناخات مختلفة يتخفّف الشاعر فيها من الحمولة البلاغية والنشيدية للغة، فنقرأ مقاطع ينخفض فيها هدير المفردات لمصلحة قصائد قصيرة وأقل جلبة، إلا أن اللغة تظل متماسكة ومتينة، كما هي الحال في قصائد الحب. وفي النهاية، يُفــاجئنا الحرز بقصائد تُدير ظهرها للانطباع الذي رسّخته النصوص الأولى في أذهاننا، فنقرأ قصائد تحتفي بشذرات من سيرة شخصية. هل قلنا إن الحياة العادية غائبة؟ لنقرأ إذاً ما يُشككنا بذلك: «من شقٍّ في جدار متهالك/ منتظمةً في صفّ/ تخرج أوجاعي/ لا حذاءٌ يصادفها، ولا مبيدٌ حَشَري».
عن الاخبار اللبنانية
عدد الثلاثاء 2 حزيران 2009