تصوير الذات والحياة والعالم بشعرية الرنين المغناطيسي

سيلفانا الخوري
(لبنان)

أن تقرأ قصيدة عباس بيضون خارج قوانين اللغة العربية الصوتية والإيقاعية، تجربة لا تخلو من متعة الاكتشاف. اكتشاف كيف يمكن هذه القصيدة المستندة أكثر من سواها إلى علاقة جوهرية مع لغتها ونبض هذه اللغة، أن تتخلى عما هو ربما مكوّنها الأول وتتغرّب عن ذاتها من دون أن تفقد أصالتها لحظة واحدة.
في الانطولوجيا الشعرية الصادرة أخيرا بالفرنسية لدى منشورات "أكت سود" ضمن سلسلة "سندباد" بعنوان "مدافن زجاجية وقصائد أخرى"، التي قام بترجمتها كل من مادونا أيوب وانطوان جوكي وبرنار نويل، وتولى كاظم جهاد وجان شارل دو بول مراجعتها، نعثر على قصيدة مصقولة تماماً، ومصوغة في شكل ينجح في الحفاظ على خصوصية العبارة البيضونية بحيث لدى قراءة كل عبارة تعود قرينتها العربية لترنّ كمثل الصدى في الذاكرة. هذه العبارة التي تمارس عناصرها المختلفة في تعايشها مع بعضها نوعاً من التأقلم الصعب، ما يخلق جملة متوترة، متأهبة دوماً للانفراط لكنها لا تفعل. توتّر شبيه بالحقل المغناطيسي المُعادي الناتج من تقريب قطبين متماثلين، وحدها صنعة الشاعر تبقيه على ثباته.
مرةً أخرى اذاً نعيد اكتشاف هذه القصيدة الابوكاليبتية التي تقارب الذات والعالم بمشرط وشفرة، رغبة في تشريحه وإعادة تفكيكه والوصول إلى لحمه الحي، إلى ما بعد الفراغ الذي نربّيه على أجسادنا، كما يقول الشاعر. ورغم تبدّل تيماتها وذرائعها والحقبة الزمنية التي كتبت فيها ("مدافن زجاجية" 1985، "كفار باريس" 2000، "فصل في برلين" 2005، "لا أحد في بيت السيكلوب" 2005)، يبدو الشاعر في هذه القصائد كأنه يقوم بـ"محاولة أخرى لتقليد القيامة"، معايناً الكتلة الناشئة من انصهار الذات بالعالم حيث الواحد امتداد للآخر، كما لو أنها حيوان مختبري تشدّه إليه رغبة مجرّدة إلا من هجس شبه غريزيّ بالولوج إلى أحشائه. أو كأن الأمر أشبه بعملية مسح لا تكتفي بأن تكون خارجية وبانورامية تستند إلى الحواس وحدها. إذ الحاسة هنا ليست إلا جزءاً من تقنية لا أجد لها إسماً. قد تكون ربما اقرب إلى تلك التقنيات المستخدمة في التصوير الطبي. نوع من تصوير العالم بالرنين المغناطيسي ربما. ذلك أن العالم لدى بيضون يبدو مقروءاً من جوفه، والشاعر يجري مسحاً كاملاً لمختلف طبقاته بما تضمّه من عناصر وكائنات وأشياء ومعان ومفاهيم، لنصير إزاء سفر تكوين معاكس، أو "ريوايند" لعملية تشكُّل العالم.
في "مدافن زجاجية" (الأجزاء الثمانية الأولى منها ترجمة برنار نويل والبقية ترجمة مادونا أيوب) التي يتطرق فيها بيضون إلى تجربة اعتقاله في إسرائيل في 1982، يبدو العالم الموصوف (الممسوح؟) عالماً جوفياً، موبوءاً بذاته، مفتوحاً على لججه، غارقاً في حيض كوني، يعاينه الشاعر ككيميائي يقطّر في مختبره المواد ويفصلها عن بعضها: "العفونة التي هي ملح الأشياء/ الضوء والهواء رطبان عند الصباح/ متخثّران بعد هنيهة/ حتى أن مادة النهار تنفصل عن مصله"، يقول. في ما بعد، نجد صدى لهذه الصورة عندما يتحدث في "لا أحد في بيت السيكلوب" عن الحياة "كعملية تقطير طويلة"، وعن "قنانٍ كثيرة حيث الجنون يُحفظ كملح والغضب والغيرة يجففان. طاولات كثيرة حيث تُعزل الأفكار وخلاصات الندم الصفراء. لقاحات تُستخلص من الكآبات الفظيعة إذا أمكن مصل الأرق وفصد المخيلة".
في العودة إلى "مدافن زجاجية"، يبدو الجسد فيها مشدوداً إلى حيوانيته، منزوعة إنسانيته، يتماهى مع فضلاته بحثاً عن ذاته، ليصير جزءاً من عالم جرثومي ذي حدود كونية: "العفونة/ حيث وجه السجين يلمع فوق سطل البراز/ وحيث الشعاع ذاته/ يتوسّط بين كعك البراز وأهلّة الجلد/ والتفجرات الكوكبية للجراثيم/ حيث الألم والرائحة كيس الجسد/ الذي يوسع أرضيته/ حافراً الحدود الأولى للإسطبل/ الجسد الذي يعاود حرفته/ يدفن الفضلات وكأنها جريمته/ ينبش الفضلات وكأنها حقيقته". كأنما الإنسانية ترفٌ عابر والمدنية قيمة مضافة والجسد سريعاً ما يعود إلى التماهي مع ما يلفظه في حقيقة واحدة ووحيدة.
في "كفار باريس" (ترجمة مادونا أيوب)، هي المدينة هذه المرة تخضع لهذا المسح، سعياً للوصول إلى لحظة التكوّن الأولى، لحظة الـ"بيغ بانغ" الذي أيقظها من عدمها وجعل منها هذا الكائن الضخم الذي يتنفس ناسه ويتغذى بهم وبحركتهم في الشوارع وقطارات الأنفاق: "بذات الصورة المجهرية لقطرة الدم/ من قطرة منيٍّ أيضا/ بدأت هذه المدينة"، يقول بيضون، قبل أن يضيف: "يوم نما حجر حيّ/ كان الكوكب كله لا يزال حياً/ هكذا عثروا على الخلية الأولى/ للديناصور/ الخلية الأولى للمترو/ لكنهم لم ينبشوا كفاية/ في المراحيض/ وكان يمكن أن يجدوا فيها/ التخطيطات الأولى للصوامع/ والأضرحة/ قبل أن يخترعوا/ علب البريد والأستوديو/ إذا وجدوا حجارة كانت تحيض/ فلأن الأسرار تخرج دائماً مع الدم/ والكائن يستفرغ عظمه ولبّه اولاً".
وإذا كانت المراحيض في باريس هي "وحدها متاحفنا"، ففي "فصل في برلين" (ترجمة مادونا أيوب) "يعرفونك من قمامتك". فالقمامة هنا "سجلّ الخريف" لكنها خصوصاً قرين اللغة وصنوها: "للخادمة اسم آخر بالألمانية لا أعرفه: هي بالتأكيد تقول عن قمامتي أنها لغة لا تعرفها". يستمر في هذا القسم النزوع التشريحي والتفكيكي لدى بيضون ليولّد أحيانا قصيدة تعلن من حيث خياراتها الجمالية انتماء شبه كامل إلى فنون الـ"تراش"، على غرار قصيدة "محفورة غراس" حيث يقول الشاعر: "التراب على وجه غونتر غراس والفئران الصغيرة تتحسس خده لكنه يحدجها بعينه الوحيدة ويصغي إلى شيء آخر (...) الحشرات التي تسير على بشرته لا تأبه بأنفه الذي التهم ذات يوم فأرة ولا رأسه الذي يتحول أحيانا إلى ثعبان".
أما التماهي بين الذات وما تنتجه والحركة التي تولّده، فيشبه التماهي بين شايب ومنحوتاته، إذ نقرأ تحت عنوان "تماثيل شايب": "خشبيات شايب لن تشفى من الضربات السيئة التي تركتها بكماء إلى الأبد، ولا من رغبتها المكبوتة في رد العدوان. سيصاب النحّات باللعنة ذاتها وسيتخشب شيء في روحه وعينه. عنف يفوق الفن لذا يترك تشويهات شبه إنسانية. من القسوة الزائدة على الأشياء يولد عنف يشبع طبيعة البشر".
يذهب هذا "المسح" الما فوق حسي في "لا أحد في بيت السيكلوب" (ترجمة انطوان جوكي) إلى الحدود القصوى لرغبته التشريحية. ففي هذه القصيدة يجري الشاعر مسحاً لغرفة المنتحر محاولاً عزل لحظة الانتحار عما سبقها وما تلاها. لحظة الانتحار التي هي العدم الذي بين الإصبع والزناد، و"الفراغات التي بين ضربات البيانو. الميتات التي بين ضربات البيانو". أنها في الواقع اللحظة الصفر، تلك التي تفصل الوجود عن العدم، وتجعل العالم يعود إلى خليته الأولى قابلاً للولادة من جديد: "ولا تخيفنا إعادة الحياة إلى المختبر ولا البدء من السرطان أو من الرصاصة التي هي الآن خلاصة حية، أو هي خليتنا المعقمة النظيفة الجاهزة للابتداء".
بأيّ لغة كانت، تبدو قصيدة عباس بيضون قصيدةً يستبدّ بها قبل كل شيء سعيُ إلهٍ مضاد لإعادة كتابة سفر تكوين العالم... أو صفره بالأحرى.

"النهار"
23 آذار 2007

رجوع