جوزيبي أرشيمبولدو، أيها الأب السوريالي ما أجل غرائبيتك

محمود الزيباوي
(لبنان)

لمع اسمه في عصره، إلا أنه دخل النسيان بعد رحيله. اكتشفه السورياليون بعد أربعة قرون، ورأوا فيه أبا من آباء مدرستهم الجديدة، فأعادوا الاعتبار إليه، غير أنه بقي خارج كتب تاريخ الفن التشكيلي. كثيرون يعرفونه اليوم، وهو في الذاكرة الحية الرسّام الذي صوّر وجوها بشرية معتمدا في تكوينها ثمار الأرض وخضرها وزهورها وأعشابها. هو الرسام الإيطالي جوزيبي أرشيمبولدو، نشأ ودرس فن التصوير في ميلانو، وعمل في براغ حيث أصبح رسّام البلاط في أمبراطورية بوهيميا، أي تشيكيا القديمة. برع في تصوير أكابر القصر الامبراطوري، واشتهر برسومه الغرائبية التي لا تشبه شيئا مما هو مألوف. في تظاهرة هي الأولى من نوعها في أوروبا، يقيم متحف حديقة لوكسمبورغ في باريس معرضا استعاديا يؤرخ لمسيرة هذا الفنان الذي يصعب تصنيفه. يستمر المعرض حتى الثالث عشر من شهر كانون الثاني، ويضم إلى جانب زيتيات أرشيمبولدو الذائعة الصيت أعمالا تُعرض للمرة الأولى.
نشأ جوزيبي أرشيمبولدو في كنف عائلة من نبلاء ميلانو تضم الكثير من الرسامين، وتتلمذ على يد والده بياجيو. أقدم ما وصلنا من أعماله رسوم تحضيرية أُعدت كمشاريع زجاجيات لكاتدرائية ميلانو حيث عمل إلى جانب أبيه. تعود هذه الرسوم إلى عام 1549، وأنجزها صاحبها وهو في الثانية والعشرين من عمره. بعدها بسنتين، اختاره فردينان الأول كرسام خاص يعمل في قصره، فانتقل إلى بوهيميا حيث استمر في العمل لسنين طويلة عاصر خلالها ثلاثة أباطرة تعاقبوا على العرش. حظي الرسام بالجاه والمجد في ظل فردينان الأول، وحافظ على المكانة التي وصل إليها في زمن مكسيميليان الثاني، وكُرّس معلّما كبيرا في عهد رودولف الثاني. لا نعرف الكثير اليوم عن تلك الحقبة الفنية الطويلة، ويعود السبب إلى صعوبة تحديد هوية الرسام حين يتعلق الأمر بأعمال كلاسيكية من نوع البورتريه لا تحمل توقيع صانعها. يعرض متحف لوكسمبورغ بعض الأعمال التي يُجمع الباحثون على نسبتها الى أرشيمبولدو، وأعمالا أخرى اختلفت الآراء فيها. على الصعيد الفني لا تحمل هذه الصور أي جديد. الأسلوب كلاسيكي بامتياز، واللوحة شهادة توثيقية، لها هنا قيمتها التاريخية في حفظ ملامح أعضاء الأسر التي حكمت بوهيميا.

ملك وإله

في زيتية تعود إلى عام 1567، يظهر مكسيميليان الثاني مع قرينته ماري وأطفالهما الثلاثة آنّا ورودولف وأرنست، في تأليف تقليدي يخلو من أي لمسة "إبداع". استدعى الأمبراطور الرسّام الإيطالي إلى فيينا وكان من أشد المعجبين بفنه، فأكرمه وقرّبه منه طوال فترة حكمه الذي استمر حتى عام 1575. في زيتية أُنجزت في أواخر القرن السادس عشر، نتعرّف الى الأرشيدوقة مارغريت. وفي زيتية أخرى من الحقبة نفسها، نلتقي بأرشيدوقة سمراء البشرة اختلف البحاثة في تحديد اسمها، فمنهم من قال إنها هيلانة ومنهم من جزم أنها بربارا، والمرأتان اشتهرتا بالسحنة الإسبانية المميزة. تكمن قيمة هذه الصور في موضوعها لا في خصائصها التشكيلية. تجذب المشاهد مائية من مخطوط يظهر وارث العرش رودولف الثاني وهو في السادسة من عمره أمام عملاق متوحش يكسو جسده الشعر الأسود، من إنتاج ستينات القرن السادس عشر. تتحوّل الصورة جذريا في واحد من أشهر أعمال أرشيمبولدو، وفيه يظهر الأمبراطور رودولف الثاني في هيئة فيرتومن، إله الفصول الأربعة الذي عبدته قديما شعوب الأمبراطورية الرومانية. تعود هذه الزيتية إلى عام 1591، وتمثّل وجها بشريا يتكون من فواكه وخضر مرصوفة بمهارة فائقة. الأنف إجاصة، الجبين شمّام، والشفة السفلى حبّتا كرز. خلف إله الفصول القديم يتراءى وجه رودولف الثاني، "أمبراطور الأمبراطورية المقدسة، ملك بوهيميا، وملك المجر" الذي جلس على العرش عام 1976 واستمر في الحكم ستة وعشرين عاماً اضطرب فيها أمن البلاد بفعل الحروب المحتدمة بين الكاثوليك والبرتستانت. عُرف الحاكم بعشقه للثقافة وولعه بالخيمياء، وهذا ما دفع الرسام على الأرجح إلى تصويره بهيئة فيرتومن، إله التحولات وحامي العارفين بالكيمياء القديمة وبأسرار المعادن.
في الأعوام الأولى من حكمه، استقر رودولف الثاني في بلاط فيينا، وانتقل بعدها إلى براغ وجعل منها مقرا للسلطة في عام 1586. ازدهرت الحركة الثقافية في المدينة التي تحولت إلى عاصمة أوروبية تجذب العلماء والفنانين من كل صوب. كان الأمبراطور حاكما ضعيفا لا يملك أي حس سياسي ثاقب، غير أن التاريخ يذكر انجازاته الثقافية العديدة، ونقل الرواة عنه أخبارا وحكايات عجيبة، وتحدثوا عن هوسه بالعلوم الباطنية، وعن متحفه الخاص الذي ضمّ مجموعة غنية من الغرائب والعجائب نجدها موثّقة في مجلد يعود إلى عام 1600 محفوظ في مكتبة فيينا. واصل أرشيمبولدو عمله في البلاط الأمبراطوري، ويبدو أن نشاطه لم يقتصر على الرسم، إذ عُهدت إليه مهام أخرى منها تنظيم المراسم والاحتفالات، وانتقاء التحف القديمة والاختراعات الحديثة، وتبويب الكتب والأبحاث العلمية، وهذا ما يجعل منه شخصية موسوعية خلاّقة لم تلق إلى اليوم الاهتمام الذي تستحقه. في عام 1587، سمح الأمبراطور لرسامه الخاص بالعودة إلى موطنه الأول، وبعد ثلاث سنوات، منحه رتبة الكونت الملكي، وهي رتبة النبيل الأوروبي الأرفع شأنا. بعدما أمضى ما يقارب الأربعة عقود في بلاط بوهيميا، ترك أرشيمبولدو فيينا ليمضي ما تبقّى من عمره في ميلانو بعيدا عن الأضواء، وتوفي هناك في عام 1593 وهو في السابعة والستين من عمره. واصل المصوّر عمله في سنواته الأخيرة، ومن أشهر أعماله في تلك المرحلة لوحة عنوانها "فلورا" تعود إلى عام 1591، وتمثل امرأة حسناء تكسو الأزاهير وجهها وتكلل رأسها.

الفصول والعناصر

في لوحة "رودولف الثاني في هيئة إله الفصول فيرتومن"، نشهد اختمار تجربة الرسام في تكوين وجوه بشرية تتألف من مختلف أنواع النبات. تأتي هذه اللوحة بعد سلسلة من التجارب الجريئة في هذا الحقل، أشهرها "رباعية الفصول" التي وصلنا منها نسختان. النسخة الأقدم تعود إلى عام 1563، محفوظة في متحف الفنون التاريخية في فيينا. أما النسخة الثانية، فمن إنتاج 1573، وهي في متحف اللوفر في باريس. وجوه الفصول المؤنسنة كلها جانبية، وفيها يواجه الشتاء الربيع، كما يواجه الصيف الخريف، وهي في تجاورها تشكل صورة رمزية تعبّر عن مراحل عمر الإنسان. الربيع وجه نضر يتكوّن من ورود وأزاهير، والشتاء شيخ عجوز بشرته شجرة يابسة، والصيف رأس من خضر طازجة تنعقد سنابل القمح من حول عنقه، والخريف رجل ملتح تكلله عناقيد العنب المتدلية. ويبدو أن الفنان عاد واختزل هذه الوجوه في وجه واحد في لوحة من مجموعة خاصة في نيويورك، تُعرض للمرة الأولى في معرض عام. كما أنسن الفصول الأربعة. جعل أرشيمبولدو لعناصر التكوين الأصلية وجوها ناطقة، وأنجز في عام 1566 رباعية أعجب بها الأمبراطور مكسيميليان الثاني أشد الإعجاب، وعلّقها على أحد جدران غرفة نومه. كوَّن الرسّام وجه الماء من اثنين وستين نوعا من أنواع الأسماك والحيوانات المائية، وجعل من النار رمزا للسلطة الأمبراطورية حين لفّ حول عنق شخصها عقدا ملكيا وجعل شعر رأسه شعلات من الذهب. بدت الأرض كتلة من رؤوس لكواسر وبهائم تآلفت في وجه بشري، وتجسّد الهواء في صورة طيور من أصناف عدة خرجت من خلف طاووس احتل وحده القسم الأسفل من التأليف.

أنسن أرشيمبولدو فصول السنة، وجسّد عناصر الطبيعة الأولى، وجعل لأصحاب المهن الكبرى أشكالا جديدة خلقها من الأدوات الخاصة بكل منهم. أشهر أعماله في هذا المجال لوحة تمثل رجل القانون في هيئة مسخ يرتدي معطفاً من الفرو، أنفه فرخ لا ريش له، وذقنه ذيل سمكة. تغيب ثمار الأرض وأزهارها وتخضر من جديد لتتشكل في وجوه أخرى، وتشهد كل مرة لبراعة الرسام في ابتكار صور بشرية تجمع بين الإنسان والنبات في تكوين واحد. اشتهر الرسام الإيطالي في امبراطورية بوهيميا بهذا الأسلوب، وحصد المجد والجاه والتكريم، إلا أن اسمه سرعان ما دخل دائرة النسيان بعد رحيله. بدت أعمال أرشيمولدو في نظر مؤرخي الفن التشكيلي أشبه بالنزوة العابرة، فأسقطوا اسم صاحبها من كتبهم وأهملوه. جاء السورياليون في مطلع القرن العشرين وألقوا الضوء من جديد على هذه الأعمال التي أدهشتهم بغرائبيتها، غير أنهم لم يفلحوا في إعادة الاعتبار الكامل إلى صاحبها. يأتي معرض متحف لوكسمبورغ اليوم ليقدم للمرة الأولى صورة شاملة لمسيرة هذا الفنان الذي يخرج على كل ما هو سائد. تحيط بزيتيات الرسام أعمال لفنانين عاصروه، إلى جانب تحف وأدوات خرجت من متحف رودولف الثاني الخاص. يكتمل المشهد بعرض مجموعة من الوثائق التي تعتمد تقنية الحفر والطباعة، وكلها من إنتاج عصر أرشيمبولدو، هذا العصر المنفتح على المدهش والمستحيل .

المستقبل