منذ إنشائه في عام 1971، يقيم متحف دولاكروا عروضا فنية تلقي الضوء على تجربة هذا الفنان الرومنطيقي الكبير. آخر هذه التظاهرات معرض عنوانه "دولاكروا والصورة الفوتوغرافية"، يشكل مدخلا الى دراسة هذه العلاقة الملتبسة التي نشأت بين الريشة والكاميرا في القرن التاسع عشر.
شكّلت الصورة الفوتوغرافية منذ ولادتها في القرن التاسع عشر، تحديا صارخا للفن التشكيلي في العالم الغربي. من عصر النهضة إلى بدايات عصر الانطباعية، عرف الرسم تحولات عدة، غير أنه بقي أمينا لمبدأ نقل المنظور والبحث عن المحاكاة والشبه. منذ زمن ليوناردو دا فنشي إلى زمن دولاكروا، سعى الرسامون إلى تصوير عناصر المرئي بأبعاده الثلاثة. على مدى قرون من الزمن، كان محترف الفنان أشبه بمختبر علمي يضع الواقع على مشرحته. في فضاء اللوحة، تتشابك الخيوط العمودية والأفقية وتلتقي عند نقطة واحدة في صدر التأليف. يجد الضوء مركزه المحدّد ويبثّ من خلاله تموجاته وظلاله على الوجوه والأجساد التي تحضر بثقلها الطبيعي. التزم الرسام منهج العالِم الذي لا يؤمن إلا بما يراه ويتقصّاه من حقائق. تأمل ليوناردو بواقع الطبيعة وخصائصها وجعل من محاكاتها طريقا لمعرفة حقيقة الفن التشكيلي. أعلن أن هذا الفن "قضية ذهنية" ودعا إلى العودة الكلاسيكية الرومانية الأولى التي نبذتها المسيحية في القرون الوسطى. اختصر معلّم عصر النهضة هذا المبدأ الأساسي بقوله: "لا شيء جميلاً سوى الحقيقي، وحده الحقيقي آسر". الحقيقي هو الآسر، وكلما اقترب منه، اكتملت صورته.
تخلى الفنان الغربي عن الكثير من القيم التي قام عليها عصر النهضة، لكن إيمانه بمبدأ المحاكاة لم يتزعزع قط. في القرن السابع عشر، كتب المفكر الفرنسي بلاز باسكال في بحثه عن جمالية الفن: "باطل هو الرسم الذي يثير الإعجاب بنقله وجه الشبه لأشياء مادية لا نملك أمام حضورها الخام أي إعجاب". اختبر الرسامون طرقا جديدة تحوّلت إلى مذاهب ومدارس تشكيلية، لكن الأساس لم يتغير. في منتصف القرن التاسع عشر، تحرّر الرسام من المواضيع "الإنشائية" من دون أن يتخلّى عن السعي إلى الشبه. بعيدا عن القوالب الجاهزة التي قامت عليها المدرسة الأكاديمية، سعى الفنان التشكيلي إلى نقل الصورة الطبيعية التي ترتسم على قماشة عينه، وتعددت طرق هذا "النقل" من دون أن تحيد عن منطق المحاكاة. في هذا الخضم، وُلدت الكاميرا وجاءت الصورة الفوتوغرافية كوجه كامل لهذه المحاكاة. من هنا، ظهرت المنافسة بين عدسة التصوير وريشة الفنان، وبدأ الجدال حول خصوصية الفن التشكيلي أمام هذا الواقع "الجديد". في كتاباته النقدية، وقف شارل بودلير مطوّلا أمام ظاهرة صعود الصورة الفوتوغرافية وانتشارها السريع، لكنه أبقاها خارج معترك الفن واعتبر مقاربتها من الفن التشكيلي "شتيمة لعمل الفنان المقدّس"، واصفا إياها بـ"ملجأ الفنانين الفاشلين". في المقابل، كان أوجين دولاكروا يستقبل الصورة الفوتوغرافية كإنجاز حرّر الفن من قيود عديدة وأمّن له حرية أكبر. استخدم رائد الرومنطيقية الفرنسية الصورة الفوتوغرافية في محترفه واعتمدها في أبحاثه، تماما كما فعل العديد من كبار الفنانين الذي عاصروه، وأبرزهم أنغر وكوربيه وكورو.
الجسد والوجه
يقدّم معرض "دولاكرا والصورة الفوتوغرافية" رؤية توثيقية متكاملة لهذه التجربة الجديدة التي اختبرها الفنان في مسيرته التشكيلية الخصبة عبر ثلاثة أبواب مختلفة. في القسم الأول من المعرض، نشاهد صورا فوتوغرافية من مقتنيات دولاكروا، وهي لأعمال بعض من رواد الفن التشكيلي الكلاسيكيين. قبل ولادة الكاميرا، لم يكن للعمل الفني صورة غير اللوحة "المنقولة" بأمانة الناسخ، أو الرسم المنجز بتقنية الحفر والطباعة. جاءت الصورة الفوتوغرافية لتسدّ هذا الفراغ الكبير، وباتت النسخ الفوتوغرافية للوحة وسيلة تسمح للدارسين بدراستها عن قرب بسهولة. تشهد كتابات دولاكروا لهذا التحول بشكل جليّ، لكنها تشير إلى عجز الصورة عن نقل "روح" العمل التشكيلي. يختصر الرسام موقفه في خاطرة دوّنها في يومياته عام 1853 حيث يقول: "هذا الفن الآلي لم يسد لنا سوى خدمة كريهة، فهو يفسد لنا الأعمال الكبيرة من دون أن يلبي حاجتنا بشكل تام". ويمكن الجزم بصحة هذا الحكم، فصور القرن التاسع عشر تبدو "بدائية" للغاية عند مقارنتها بالتقنيات العالية التي وصلت إليها الكاميرا في القرن العشرين.
في القسم الثاني من المعرض، نتعرّف الى الأسلوب الخاص التي تبنّاه الفنان في تعاطيه الذاتي مع الصورة الفوتوغرافية في مراحل متعددة من حياته. في مرحلة أولى، استعان دولاكروا بصور التقطها كبار مصوّري عصره، وهي في مجملها صور تمثل عراة من الرجال والنساء. تلعب اللقطة الفوتوغرافية دور الموديل الحي، لكنها تظل "ناقصة" بحسب الرسام. هنا صورة "متكاملة" بدقتها لامرأة عارية التقطها لويس كميل أوليفييه، وهنا رسم خطّه دولاكروا انطلاقا منها. يجهر الرسام برفضه للصور "الجيدة" التي تعوق مخيّلته المبتدعة ويعلل تفضيله للصور "الناقصة" غير الدقيقة التي تسمح له بالابتكار. يقول في كتاباته إن العين تستريح لهذا النقص التقني الذي يتيح لها رؤية أكبر. من هنا، يدخل الرسام في مرحلة ثانية، تجربة مثمرة مع مصوّر يُدعى أوجين دوريو. نزولا عند طلب الرسام، يقوم هذا المصور بطبع الصور التي يلتقطها بطريقة "ناقصة" تلقي عليها وشاحا ضبابيا يذكّرنا بأسلوب الانطباعيين. تشكل صور العراة مادة أولية يستند اليها الرسام في دراساته التخطيطية السريعة. اقتنى دولاكروا من دوريو ألبوما يضم أربعاً وثلاثين صورة فوتوغرافية استعان بثلاثين منها في مختبره التشكيلي تاركا أربع صور هي الأكثر "دقّة" بحسب العرف الفوتوغرافي. يقارب المعرض بين لقطات المصوّر ورسوم الفنان التشكيلي بشكل توثيقي، مما يسمح للمشاهد بتلمّس أسلوب دولاكروا الحر في التعامل مع المادة الفوتوغرافية. ينطلق الرسام من صورة لعارية "مجرّدة" ليرسم لوحة زيتية تمثل جارية من جواري الحريم في مخدع شرقي، على مثال لوحته الشهيرة "نساء الجزائر". تشكّل هذه الزيتية حجر الثقل في المعرض كونها غير معروفة، وهي من مجموعة خاصة لم يُفصَح عن اسم صاحبها. من جهة أخرى، تشكل صور الرجال العراة أساسا لمجموعة من الرسوم التخطيطية السريعة تأخذ طابع التقاسيم التشكيلية المرتجلة.
يجمع القسم الثالث من المعرض بعض الصور الفوتوغرافية التي تمثل الفنان في السنين الأخيرة من حياته. نخرج من عالم الجسد العاري لندخل عالم البورتريه الشخصي. بمعزل عن قيمتها الفنية، تبدو هذه الصور "تعريفية" بامتياز، ذلك أن دولاكروا لم يرسم نفسه إلا نادرا، وأشهر وجوهه الذاتية زيتية تعود إلى عام 1837. التقط كبير مصوّري القرن التاسع عشر نادار صورة للفنان يعرفها الكثيرون، والتقط ليون رايزنر مجموعة كبيرة من الصور تمثل دولاكروا في وضعيات مختلفة، والمعروف أن رايزنر من عائلة الرسام، وهو من الرسامين الرومنطيقيين الذين عملوا في "الظل". عبّر دولاكروا بشكل غريب في كتاباته عن نفوره من هذه الصور وطلب من مصوّريها إتلافها، ويبدو أن رغبته لم تتحقق لحسن الحظ. كما في زيتيته الذاتية، يبدو الرسام في صوره الفوتوغرافية إنسانا سريا تغلب على ملامحه الجدية والكبرياء. نراه في لقطة تعود إلى عام 1842 وهو يرفع يديه إلى الأعلى في حركة مبهمة يصعب وصفها، محدقا بطرف عينه في اتجاه الناظر إليه. نتعرّف الى دولاكروا، هذا "الشاعر بالرسم"، كما كتب بودلير في عام 1846.
العلاقة الملتبسة
"دولاكروا والصورة الفوتوغرافية" معرض علمي بامتياز. صحيح أن الرسوم المعروضة لا ترتقي إلى أعمال الفنان الكبيرة، غير أنها تشكل مادة مثيرة لدراسة هذه العلاقة الملتبسة التي تربط الصورة بالرسم التشكيلي. بالتزامن مع هذا العرض الذي يقتصر على عدد محدود للغاية من القطع، شهد المتحف سلسلة محاضرات تتطرّق إلى تجارب أنغر وكوربيه وكورو مع العدسة الفوتوغرافية، إضافة إلى مداخلات أخرى تتناول موقف تيوفيل غوتييه من الصورة، وتقبّل الفنانين التشكيليين لهذه الوسيلة الجديدة في اسبانيا. يتبين من خلال هذه الدراسات أن الكاميرا لم تحظ بالاعتراف بها كفن مستقل إلا في العقود الأخيرة من القرن العشرين. هدّدت الصورة الفوتوغرافية الفن التشكيلي الذي صمد في وجهها حتى ولادة السينما. حظيت "الصورة المتحركة" بلقب "الفن السابع"، وبقيت "الصورة الثابتة" على الهامش، كأنها منافس رخيص للصورة التشكيلية الفنية. احتلت صور الكاميرا الفوتوغرافية دورها الكبير كضرورة ذات منفعة عامة في الحياة اليومية، لكنها بقيت خارج ساحة الفن الرفيع، واعتُبر "صانعها" حرفيا بارعا يجدد في مهنته، غير أن عطاءه ظلّ خارج خانة الإبداع
النهار
9 مارس 2009