محمد راسم "خالق المنمنمة الجزائرية"

محمود الزيباوي
(لبنان)

البحث عن الهوية الضائعة قلّما حظي فنان عربي بالإكرام الذي عرفه محمد راسم في الجزائر. هو في منزلة محمود مختار في مصر أو جواد سليم في العراق. أعاد مختار الحياة الى فن النحت إلى بلاد النيل بعد توقف لمئات السنين وكان أول مثّّال مصري تُرفع تماثيله في الميادين العامة. أما سليم، فقد أسس مدرسة فنية عراقية حديثة وترك أعمالا باهرة أشهرها نصب الحرية وسط بغداد. وقد رحل النحاتان الكبيران باكرا، في حين أن محمد راسم عاش عمرا مديدا. احترف الفن وهو في مقتبل العمر وعاصر أكثر من جيل. فاز بالجائزة الجزائرية الكبرى في الفن التشكيلي عام 1933، كما أحرز ميدالية الفنانين المستشرقين التي كانت تمنحها رابطة الفنانين الغربيين المقيمين في الجزائر لكبار الفنانين. كذلك، مُنح راسم العضوية الشرفية لجمعية الفنانين الملكية في إنكلترا. وقد دأب هذا الفنان على إقامة المعارض الشخصية حتى وفاته عام 1975. لم يترك أعمالا ميدانية فقد اختار منذ البدء المنمنمة وسيلة وحيدة للتعبير عن أحلام أبناء جيله وتناقضاتهم.
وُلد محمد راسم في نهاية القرن التاسع عشر ونشأ وسط عائلة من الحرفيين تمتهن فن النقش وحفر الخشب. بدأ رحلته الفنية باكرا وعرض رسومه الأولى في معرض للفتيان في بروكسيل حيث اكتشفه بروسبير ريكار الذي أدخله المدرسة المهنية للفنون التقليدية التابعة لجامعة الجزائر. في الرابعة عشرة من عمره، وجد نفسه حرفيا عاملاً، وظيفته نقل التشكيلات الزخرفية من السجاد والنسيج والنحاس والمحفورات الخشبية، وذلك لتوثيقها كنماذج ثابتة في المشاغل الحرفية الجزائرية. أتقن راسم فن الخط والزخرفة وتمرّس فيه، لكنّه بقي مشدودا إلى الرسم، فكان يصور كل ما يراه ساعيا إلى إتقان هذا الفن. في مكتبة الجامعة، وقعت يده صدفة على كتاب ثلاثة أشهر عبر خراسان ودُهش بما يحمله من صور لمنمنمات فارسية.


تفحّصها طويلا متأمّلا ما تحمله من تفاصيل زخرفية. كان أهل الفن ممّن عرض عليهم رسومه يعيبون عليه ولعه بالتفاصيل الدقيقة، فإذا به يجد أمامه فنا يجعل من هذه التفاصيل قيمة وأساسا له.

مرحلة التأسيس
بدأ محمد راسم مشواره مع المنمنمات من دون أن يقطع علاقته بما يُعرف ب لوحة الحامل ، فقد بقي الفن الغربي في نظره المثال الذي ينهل منه كل فنان حقيقي، شرقياً كان أم غربياً. في تلك الحقبة، التقى الشاب الجزائري بالرسام والكاتب إتيان دينيه، وهو مستشرق فرنسي أقام في الجزائر حيث اعتنق الإسلام وأضحى اسمه نصر الدين دينيه. اللافت أن هذا المستشرق بقي في فنه مخلصاً لمذهب الكلاسيكية الأوروبية: هام بالشرق، لكنّه لم ير في ميراث فن التصوير الإسلامي سوى طرق بدائية لن تتطوّر إلا متى أتقنت القواعد الأكاديمية التي قام عليها فن الرسم في أوروبا. اختار نصر الدين دينيه محمد راسم ليزخرف له الكتاب الذي وضعه بالفرنسية وعنوانه محمد رسول الله. دخل المزخرف محترف الفنان التشكيلي ليتعلّم منه ما يفيده كمصوّر للمنمنمات. سعى راسم منذ بداياته للتوفيق بين أسلوب المنمنمات وأسلوب لوحة الحامل وراح يصوغ لغة تجمع بين رؤيتين تختلفان وتتناقضان في التفاصيل وفي الجوهر على السواء. كما هو معروف، عرف فن المنمنمة الإسلامية الكثير من التحوّلات فتغيّرت أساليبه وتعدّدت من زمن العباسيين إلى زمن العثمانيين والصفويين. في كلّ تلك الأساليب، ابتعدت المنمنمة عن قواعد المحاكاة والتماثل، وهي القواعد التي تشكّل قوام لوحة الحامل من زمن النهضة في القرن الرابع عشر إلى عصر الإنطباعيّة في القرن التاسع عشر. في فن التصوير كما خبره المسلمون، يغيب الفضاء الحسي عن اللوحة وتنتفي الأبعاد المادية. ترفض المنمنمة المنظور المدرَك وتجرّد الشكل الظاهر للأشياء والكائنات لتؤلف لها صورا تسعى إلى تجسيد روحها وتجلياتها.
يأخذ راسم من المنمنمة ظاهرها، فيزخرف الإطار ويغرق في رسم التفاصيل الدقيقة على مسافة الورقة بحجمها الصغير. من جهة أخرى، يسعى الرسام جاهدا إلى تصوير العمق والأبعاد، وهو هنا يخرق القاعدة التي اعتمد عليها الرسامون المسلمون العرب والفرس والترك طوال قرون من الزمن. يقرّ الفنان الجزائري بأنه ينهل من مدرسة القرن السابع عشر الهندية، تلك التي تشكّل نهاية العصر الذهبي للمنمنمة الإسلامية. رأت هذه المدرسة النور في عهد الإمبراطور أكبر الذي سعى إلى الجمع بين الإسلام والهندوسية في ما دعاه العقيدة الإلهية ، وقد استقدم أكبر بعثة من اليسوعيين وافتتح لها مقرا في بلاطه عاهداً إليها مهمّة تعليم الرسامين الذين يعملون تحت رعايته أصول الرسم وقواعده. تتلمذ المصورون الهنود المسلمون على أيدي اليسوعيين فأتقنوا مبادئ المحاكاة اتقانا كاملا وسعوا إلى تطبيقها في حقل فن الكتاب. ويرى العالم ألكسندر بابادوبولو أن نتيجة هذه التجربة التوفيقية شكلت نهاية فن المنمنمة التي غدت لوحة غربية بريشة مسلمة تنقل مشهدا هنديا متخيلا. لم تؤدّ هذه الإشكالية الى إثارة الأسئلة في نفس محمد راسم. على العكس، يجهر الفنان بحبه للمدرسة المغولية الهندية، فهي بحسب قوله تنمّ عن تأمّل في الطبيعة لا نجد له مثيلا في المنمنمات الفارسية التي تخضع لمقولات ثابتة لا تتغيّر.

الإيمان والوطن
في منمنمات محمد راسم، تجد الكائنات في فضاء ينفتح على البعد الثالث. يقوم الفنان بتذهيب السماء ويحاول التخفيف من درجات التظليل، لكنّ التجسيم يبقى قويا وجليا. يصوّر الغيوم والمياه والعناصر بطريقة شبه واقعية تتناقض مع ما نراه في المنمنمة التراثية. تقود هذه الرؤية الملتبسة إلى أسلوب تلفيقي، فالسماء المذهّبة تفرغ المناخ من الهواء الحي الذي نتحسّسه في الأعمال الزيتيّة الكلاسيكية كما في المنمنمات الهندية المغولية، كذلك تبدو هذه الصور بعناصرها الطبيعية الواقعية خالية من النور الأثيري الذي يهب فن المنمنمات عمقه الروحي الخاص.

يختار راسم الموضوعات الإسلامية ويمجّدها، لكننا لا نلتمس في صوره شيئا من أسلوب الفن الإسلامي برؤاه الصوفية التي تلبس الموضوعات الدنيوية حلّة روحيّة صافية. ينمو راسم بين فرنسيين مستعربين وجزائريين متفرنسين، يحلم بالنهضة لكنه يبقى غريبا عن مقام الصورة في فن المنمنمات. إسلامه قومي الطابع، يشهد له إدخاله عبارة حب الوطن أعظم من الإيمان التي تحملها إحدى منمنماته. كذلك تعبّر عناوين الكثير من أعماله عن حنين مصوّرها إلى مجد الإسلام، ومنها معركة بحرية بين الأسطول الإسلامي والأسطول المسيحي ، نصر من الله وفتح قريب ، من الجزائر الإسلامية القديمة . ونجد هذه الموضوعات المختلفة مجتمعة في منمنمة من صفحتين أراد المصور أن يروي من خلالها قصة الإسلام . يحتلّ صدر التأليف كلّ من السلطان سليمان الفاتح على حصانه والخليفة هارون الرشيد جالساً وسط ابنيه. من حول هاتين الصورتين نرى الملاك جبريل أمام الرسول الأعظم، البراق طائرا نحو تاج المَلك، قائد حملة الفتح الأولى عقبة من نافع، الخليفة الأموي عبد الرحمن، الخليفة الجليل السلطان عبد الحميد والملك الهمام ابن سعود. كذلك يصوّر راسم الكعبة وتاج محال وآية صوفيا وقصر الحمراء، فهي معالم الإسلام الحضارية، وهي الشاهدة لإشعاعه في آسيا وإفريقيا وأوروبا الشرقية.

شوارع وأزقّّة
من جهة أخرى، تأتي المشاهد الجزائرية العامة التي طالما صوّرها الفنان كأنّها بطاقات بريدية سياحية، كما في حومة سيدي محمد الشريف و حومة سيدي بن عبد الله و شرفة على القصبة. تظهر الوجوه النسائية والمشاهد الحريمية كأنّها اقتباس حر عن اللوحات والرسوم لدى دولاكروا الذي أحبه راسم حتّى الإجلال. ويصعب الحديث عن واقعية الوجوه في هذه الشوارع الشعبية، فلن نجد هنا ما يعكس حال البؤس والألم التي ميّزت سنوات الجمر التي عرفتها الجزائر. لا تختلف أعمال راسم عن لوحات المستشرقين إلا بتقنيتها وحجمها وما تحمله من ظاهر المنمنمات. رغم دراسته المنمنمات الفارسية والعثمانية في متاحف باريس ولندن واسطنبول والقاهرة، بقي عميد الفنانين الجزائريين مشدودا في أسلوبه إلى لوحة الحامل التي كرّست نفسها مثالاً منذ عصر النهضة الإيطالية. من جهة أخرى، يمكننا الجزم بأن راسم الذي زار باريس وسكنها طوال أكثر من عشرين سنة بقي غريبا تماما عن كل ما عرفته العاصمة الفرنسية من تجارب تشكيلية جعلت منها مركزا للفن الحديث في النصف الأوّل من القرن الفائت.
سنة 1932 حيّت مجلّة الشهاب محمد راسم، الفنان المسلم الجزائري الذي رفع رأس الجزائر المسلمة العربية، والذي عرف كيف يصور أجمل صفحات الحضارة الإسلامية وأرفعها. بعد مرور أكثر من سبعين سنة، هل يمكننا وصف راسم بـ خالق المنمنمة الجزائرية ؟. في توجهاته وفي أحلامه، يشارك الرسام الجزائري معاصريه من الفنانين العرب هذا السعي الدؤوب إلى تأسيس لوحة عربية، وهو من هذا المنطلق رائد من رواد الحركة التشكيلية العربية. معه ومعهم يعود السؤال ويتردّد : أين التراث وأين المعاصرة؟ أين الهوية وأين التبعية؟ أين الذات وأين الآخر؟

النهار الثقافي