رشيد منيري
(المغرب)

1

يوجيف أتيلافي أحد أروقة الكتب القديمة بالرباط، صادفتُ ذات صيف ديوانا للشاعر المجري يوجيف أتيلا بعنوان "قصائد مختارة"، كنت أنوي الذهاب رفقة صديق إلى مقهى فرنسا لنشرب قليلا و بدا من المؤنس أن يصاحبنا ديوان شعر. و مع أني لم أكن من قبل أعرف هذا الشاعر فقد اقتنيت الديوان تمامَ السطر الثالث. لم يكن ثمنه يتجاوز الدراهم الثلاثة، و لم تكن هنالك أية إشارة إلى دار النشر أو المترجم. فقط، الديوان عاريا إلا من رسمة حزينة بالأسود، و في الغلاف الخلفي صورة للشاعر بنظرة حزينة ثاقبة و شارب أسود على الشفتين الصارمتين.
هكذا التقيت يوجيف أتيلا و أنا في الطريق إلى شيء آخر، قابعا بين عشرات الكتب الحزينة التي لم تجد قراء في حينها أو التي باعها أصحابها لأسباب أو لأخرى. تذكرتُ - في الطريق إلى مقهى فرنسا- قولة رامبو: "
اسكروا بالشعر أو بالخمر..و لكن اسكروا". و بدا لي بعدها أن هذا اللقاء بشاعر المجر العظيم كان لائقا تماما، لأن أتيلا لم يكن شاعر الواجهات و
الرفاه..كان شاعر الطرقات و حواشي المدينة:

" هناك على حافة المدينة،
حيث أعيش...
تطير ذرات السخام...
كالخفافيش الصغيرة."

2

و لد أتيلا في بودابست عام 1905 من أسرة تدين بالأرثوذكسية، و غادر أبوه البلاد و هو في الثالثة صوب رومانيا. لتعيش الأسرة حياة البؤس، معتمدة على القليل مما تجنيه أمه بربالا من عملها كخادمة و غسالة ثياب. كان أتيلا يساعدها ما استطاع، يبيع المياه في دور السينما، ويسرق خشب الوقود و الفحم من محطة الشحن، ويعمل حمالا في السوق... و قد حاولت الأم التخفيف من بؤس ولدها و شقيقته إتيلكا Etelka ، فجعلت إحدى الأسر تتبناهما عام 1910 لكنهما عادا إلى بودابست بعد سنتين من ذلك. و في العام 1919 توفيت بربالا ، المرأة التي احتفظ لها أتيلا في أشعاره بالحب و الذكريات الحزينة:

"كانت ...أمي و ماتت صغيرة
فأعمار غاسلات الثياب قصيرة
قدم الغسالة يرجف من حمل الأثقال
و الرأس تصدعها المكواة"

كتب أتيلا شعرا يشبه ما عاشه، كما بدت حياته امتدادا لشعره. كان ذاتيا و هو يكتب عن شعبه الذي تصهر أيامه في البؤس و التعب. فالمساحات بين اوجه العالم تكاد تنمحي عند هذا الشاعر، فيبدو شفافا و هو يكتب عن كل شيء في الآن نفسه،عن الحب و الذكريات الحزينة،عن الفلاحين و شاطئ الدانوب، عن أمه و الرفاق و ليالي الشتاء ..

" و أراها تتوقف، و بيدها المكواة
و الجسم الهش و قد حطمه رأس المال
فازداد نحولا...
لا تنسوا ذلك أيها الكادحون"

3

في المجر أكثر من ثلاثمئة شاعر حي و مئات رحلوا، و أغلب المجريين يحفظون قصائد شعرائهم الكبار و يرددونها، و تحتفظ قصائد أتيلا بمساحة هامة في هذه الذاكرة المجرية اليومية. ربما لأن الأدب المجري عموما و الشعر منه خصوصا كان دائما مرتبطا بمحيطه، فالانعطافات السياسية و الفكرية و الاجتماعية، هي انعطافات شعرية أيضا. فحين كانت المجر تخوض معاركها المريرة من أجل الإستقلال من حكم العثمانيين، ثم من الإحتلال النمساوي، ثم من الحكم الستاليني القسري..كان الأدباء يخوضون إلى جانب حضورهم الفعلي في الأحزاب من أجل الحرية، صراعا من أجل بناء اللغة المجرية المحلية و ربط التواصل بالثقافة الأوربية و العالمية عبر الترجمة من أجل بناء ثقافتهم القومية.
كذلك كان أتيلا شاعرا ملتحما بهموم شعبه، يخوض في السجالات السياسية بنفس الحماس و الإنتماء الذي يخوض فيه في الجدالات الأدبية الرائجة حينها، و مع ذلك لا نستطيع القول أنه كان شاعرا اشتراكيا، كان اشتراكيا شاعرا، لم تمنعه خلافاته السياسية مع بعض فصائل الحركة العمالية و مع الشعبويين من أن يواصل كتاباته عن الفلاحين الفقراء العمال الذين تصهر أيامهم بين الآلات و الدخان:

" حتى الصباح-بينما توقف العمل-
ظلت الآلات
تغزل و بتموجات ناعمة
أحلام عاملات النسيج"

يمتلك يوجيف أتيلا مقدرة فريدة على تأليف الشعري من المفردات اليومية، وجعل الألفاظ الصاخبة تقول الرقة. كأنما تؤكد أشعاره كل مرة أن ليس هناك موضوع شعري أو كلمة شعرية، فقط ثمة الحياة و الشاعر، في عمق كل منهما الآخرُ، و بينهما ينمو الشعر كالحشائش و الأطفال و الكآبة..

4

كنا نقرأ في حمأة الثرثرة بعضا من قصائد الديوان و نحن نجرع كؤوسنا الباردة، ونعري أحلامنا رويدا رويدا (هل بسب الشعر أم الكحول؟) في الوقت الذي كان أتيلا بين طيات الديوان يسخر:

" الشعراء الآخرون ما الذي
        يهمني من أمرهم؟
هم يخبطون ثم يغرقون في الحمأ
دع كل شاعر يزيف النشوة
        ...بالكحول
و المجاز المختلق..! "

في الرباط أحيانا تبدو الحياة قاسية، ، ربطات العنق سافرة، و سراويل الجينز لاصقة أكثر مما تحتمل المسام، لكن مقهى فرنسا غارق في الثرثرة، كأن شيئا لا يعنيه..لهذا لابد في مساءات الرباط من مقهى فرنسا. أقرأُ:

"في أشكال المجتمع القاسي
صهرتنا المادة
في و حشية
في عنف و حرارة
كي نصمد من أجل البشرية
فوق الأرض الأزلية"

نحس أن يوجيف أتيلا هذا المساء يقترب منا. نحس في شعره حرارة الحياة و الأدب، و الصدق الذي يذكرنا بأشعار السياب و الماغوط. الثلاثة تشابه حيواتهم بأشعارهم، إنهم طينة من الشعراء الكبار يكون الشعر طريقتهم الحياة، و لا تشكل الكتابة إلا ملمحا من ملامح و جودهم الشعري، مع أنها-في الأخير- و حدها تجعل العالم يصدق أنهم مختلفون! يكتب يوجيف في قصيدة "فن الشعر":

" يطيب الإستحمام في الغدير
الإرتجاف و الهدوء..يتعانقان
و ينبثق من الرذاذ
فيض حديث شيق".

5

في العام الأخير من حياة يوجيف أتيلا القصيرة، تقدم للإلتحاق بعمل كتابي في مؤسسة خاصة، و لما كان لا بد من أن يُرفق بطلب الإلتحاق نبذة عن حياته، كتب قطعة نثرية جميلة. اختصر فيها حياته الأليمة قبل أن يموت بشهور. "نشرتْ مجلة الغرب، بعضا من قصائدي التي كتبتها في سن السابعة عشرة، و اعتبرتٌ طفلا معجزة، مع أني في الواقع لم أكن سوى طفل يتيم".هكذا بدأ أتيلا حياته العلنية في الأدب، كانت مجلة الغرب(نيوغات) من أشهر الدوريات في المجر. استمرت في أداء دورها الريادي لعقود، حتى أن الأدب المجري في مراحله الذهبية كان مرتبطا بمجموعة من الشعراء العظام ممن كانوا يعرفون بجيل نيوغات. غير أن أهمية المنابر التي نشر فيها أتيلا في حياته المبكرة لم تجعله في منأى عن سخرية زملائه في إحدى الأبناك التي اشتغل فيها، "كان كل واحد منهم لا يكف عن القول: أنا أيضا اعتدت أن أكتب شعرا عندما كنت في سنك". لكن الفتى كان قد قرر أن يصبح كاتبا و أن يجد عملا يرتبط بالأدب، فالتحق في سبتمبر 1924 بكلية الآداب لدراسة الأدب المجري و الفرنسي و الفلسفة ليتمكن بعد ذلك من التدريس في ثانوية. في هذه الفترة كان قد تحول من عامل معدم إلى شاعر مفلس: " أصبحتُ الآن قادرا على أن آكل بانتظام، و أن أدفع إيجار مسكني من المكافآت التي أحصل عليها من نشر قصائدي".
لكن آمال أتيلا تلك انهارت عندما استدعاه ذات مرة أستاذ اللغة المجرية و في يده نسخة من مجلة "سيجيد"، لوح بها و قال :"ذلك الشخص الذي يكتب هذا النوع من الأشعار لا يجب أن يعهد إليه بتعليم جيل المستقبل".
و من سخرية القدر أن القصيدة المنشورة في مجلة سيجيد التي لوح بها الأستاذ، أضحت واحدة من أشهر قصائد أتيلا و هي التي جعلته يُعرف قليلا قبل و فاته:

"لليوم الثالث لم أطعم
شيئا يذكر...
أعوامي العشرون هي القوة
سأبيع الأعوام العشرين

****

فإن لم يردها أحد
لا بأس، سيبتاعها الشيطان
بقلبي نقي سأسرق
و إن يك لا مناص فسأقتل..

قصيدة " بقلب نقي " وُصفت بعد ذلك أنها الوثيقة التي يقدمها جيل ما قبل الحرب إلى عصور المستقبل، كُتبت عنها سبع مقالات، و اتُخذت أنموذجا للشعر الحديث. و حتى الآن، تحتفظ هذه القصيدة المكتوبة عام 1925 بكامل عمقها و راهنيتها:

و سوف يأخذونني، و يشنقونني
و يغمروني بالثرى المبارك
و تنبث الحشائش المسمومة
فوق قلبي الجميل..!

بعد هذا الحادث بقليل نشر أتيلا مجموعته الشعرية الثانية "لست أنا من يصرخ". ورحل إلى فيينا حيث التحق بالجامعة هناك، وراح من جديد يقاوم كي يعيش و يكتب، يكسب قوته من بيع الصحف أمام إحدى المطاعم، و القيام بأعمال النظافة في المعهد المجري. لكنه استطاع أن يترقى قليلا بفضل مدير هذا المعهد الذي عرف بذلك فكفل له وجبات الطعام بالمؤسسة، و مكنه من القيام ببعض الدروس الخصوصية : " قمت بالتدريس لولدي "زولتان هاجدو" المدير العام للبنك الإنجليزي النمساوي. و انتقلت من الحي الفقير المخيف في فيينا حيث بقيت أربعة أشهر لم يكن لدي حتى ملاءة، انتقلت رأسا إلى"هاتفان" ضيفا على أسرة هاتفاني في منزلهم".

6

كنا لا نزال في حضرة الأصفر البارد اللذيذ، نقرأ و نحن نستعيد تلك القبيلة من الشعراء العظام، إلوار و لوركا و الماغوط و نيرودا... لقد قاسى الشعراء المجريون غربة لغتهم(اللغة المجرية فصيلة نادرة، تنتمي للفرع الفنوغوري من اللغات الأورالية)، لهذا لم يأخذ يوجيف أتيلا مكانته اللائقة في الشعر العالمي ، بالكاد في السنوات الأخيرة بدأت ترجمات الشعراء المجريين إلى اللغات الأوروبية تتواتر، و إن كان حظ جوزيف أتيلا منها وافرا بالقياس إلى الأدب المجري (إضافة إلى شاندور بتوفي 1823-1849)، فإنه ضئيل بالقياس إلى ما يشكله شعره من إضافة نوعية للشعر في العالم.

7

في أحد أيام ديسمبر 1937 ألقى يوجيف أتيلا بنفسه على سكة الحديد في بودابست، ومات منتحرا في المحطة نفسها التي شهدت بؤسه حين كان يشتغل طفلا ليساعد والدته. وقتها فقط عرفت المجر أي شاعر فقدت.
قيل أن أتيلا انتحر بسبب خيباته العاطفية، و قيل أنه فعل بسبب خلافاته مع مناضلي الحركة العمالية، لكنه- أيا كانت الأسباب- رحل مخلفا وراءه قصائد من أجمل ما كُتب بالمجرية. و اليوم تحتفل المجر في التاريخ الذي يوافق ميلاد اتيلا باليوم الوطني للشعر..تكريم متأخر، و لكن..هكذا غالبا يكرم الشعراء.

القدس العربي
04/10/2005