'لم يعرف الهدنة في حياته'
هذه العبارة أطلقها أحد تلاميذ الفنان الكبير حسن سليمان، بعد سماع خبر رحيله.
هذه الجملة هي المفتاح للاقتراب من سيرة فنان بحجم الراحل حسن سليمان، الذي احتجب عن الناس منذ سنوات اعتراضا علي حال الفوضي التي تضرب الثقافة المصرية، التي كان ذات يوم أحد المشاركين فيها بقوة سواء بأعماله الفنية أو بتدريسه في الجامعة الشعبية، ومعهد السينما، وكذلك بتحويل مرسمه الخاص إلي مدرسة تعلم فيها عدد من الفنانين، معظمهم الآن يحتلون الصف الأول في الحركة التشكيلية المصرية.
حسن سليمان تاريخ وقيمة فنية يصعب الاحاطة بها في صفحات، لكننا في هذا البستان نحاول الاقتراب من رسم بورتريه له بأقلام نخبة من الفنانين: منهم من تتلمذوا علي يديه ومنهم من زامله، وذلك في محاولة لتقديم سيرة ذاتية له، خاصة انه كان دائم الرفض لكتابة هذه السيرة، قائلا: (لوحاتي وكتاباتي هي سيرتي الشخصية).
الفنان الكبير حسن سليمان، الذي رحل يوم الجمعة 15 أغسطس، توفي في ذات الشهر الذي ولد فيه، فهو من مواليد 25 أغسطس 1928 في حارة طه بك السيوفي بالسكاكيني، وحصل علي بكالوريوس الفنون الجميلة عام 1951 في مجال التصوير، وأقام منذ الخمسينيات وحتي آخر معرض له أقيم بقاعة الهناجر في 2008، 13 معرضا فرديا.
حسن سليمان رحل بعد أن ترك لنا تاريخا جديرا دائما بالرؤية والتأمل.
مثل العديد من الفنانين الكبار من قبله، واخرين سوف يأتون من بعده, ضرب حسن سليمان حوله في سنواته الاخيره سياجا من العزله, كبرياء وعزوفآ عن واقع يرفضه، وتشبث بقيم عاش حياته يؤمن بهاويجدها تنهار من حوله, مثل إنهيار جسده العليل الذي انهكته معركته الأخيره مع عدو خفي وشرس، يجيد فنون المراوغه ويأتيك من حيث لا تتوقعه.
وهنت العزيمه وإنطفأت الرغبه في الإستمرار, ولكنه مثل مقاتل عجوز عنيد كما كان يصف نفسه, إتخذ قراره الأخير, حانت لحظه الرحيل.
من بقايا ذلك الجيل الذي كان يضع القراءه والمعرفه في مصاف العباده, وذلك قبل ان تهاجمنا العولمه وجهاز إعلامها الباطش, ليسحق من تبقي منهم بدون رحمه ويستبدلهم بمن يجيدون فنون التسويق والإبهار واللعب بألفاظ جوفاء خاوية من أي قيمه.
الفنان إما أن يكون فنانا, أو لا شيء علي الإطلاق..وفي حالة كونه فنانا عليه أن يتحمل كل شيئ..وحدته..غربته..فتجربته ذاتيه ومستقله ولا يمكن لأحد أو لقوه التدخل فيها هكذا كتب في الثمانينات في كتابه الأشهر حرية الفنان.
مثل كثيرين غيري, عرفته قبل أن ألقاه, كان ذلك في أوائل الستينات عبر لوحة النورج المبهره في رسوخها. كتلتا البقرتين الثقيلتين تتضائل بجانبهما كتلة الشخص الذي يقود النورج والأخر المغروز في كومة القمح. ثم توطدت العلاقه عبر لوحات أخري من الأوز و الأواني الفخاريه و سيده علي ماكينة خياطه الي مقالات الكاتب. ثم جاء اللقاء في نهاية السبعينات, جمعنا صديق عزيز لكلينا, قلت له أريد ان استزيد من دراسة الفن معك, قال أنا لا أقبل أجرا وإنما أطلب الإلتزام والجديه فهل أنت علي مستوي التحدي؟ وقد كان.
عندما تكون مع معلم كبير فأمامك معين كبير من الخبرات والقيم وفنون الصنعه تنهل منها علي قدر طاقتك وقدرتك علي ألإستيعاب... إرسم صح ولون بتراب يقولها مرارا وتكرارا نقلا عن أستاذه بيبي مارتان ومعليا في الوقت ذاته قيمة أن تحتفي بمن تعلمت منهم . يقول يجب أن تعتبر المواجهه مع سطح اللوحه معركة حياه أو موت ثم يستطرد إحترم الأركان الأربع للصوره فهي حدودك والنافذه التي تطل منها علي العالم الذي ستخلقه وإبتعد عن الإستعراض فعمره قصير وإبحث عن نقاط الإرتكاز لكي ينضبط الإيقاع.
تبدأ في فهم شخصية حسن سليمان عندما تدخل إلي مرسمه, تدلف إلي عالم مركب شديد الثراء, لوحة لرفيق الدراسة الفنان شهده, قطعة حفر صغيره السجين لجويا, مستنسخ بالأبيض والأسود لإحدي وجوه رمبراندت, كتب في الأدب والفن مبعثره في كل مكان, إسطوانات موسيقي كلاسيكية في أكوام بدون ترتيب, قطعة نحت السمكه للفنان محمود موسي, أواني نحاسيه وفخاريه وزجاجية في بعض منها ترقد حبات من الفاكهه الطازجه النضره وفي البعض الآخرالثمرات الجافه شبه المتحجره. طنافس وسجاجيد عجميه وقطع من الأثاث العتيق الضخم التي تضيق بها محدودية المكان.
تلمح العناصر التي تراها في العديد من لوحاته, الكرسي الخشبي الهزاز الذي صور عليه الكثير من نساء لوحاته, والشرفه التي ظهرت في خلفية هذه اللوحات تتوسطها تركيبة من موتيفه إسلامية يعلوها هلال ضخم يداوم الظهور من حين لآخر في لوحات عديده وبأشكال شتي وكأنه اللحن الدال في السيمفونيه الخياليه لبرليوز, والمنضدة التي كان يضع عليها تكوينات طبيعته الصامتة وقطعة الخزف الإسلامي المعلقة خلفها علي الحائط.
عندما يرسم ينغمس في اللوحه بكل كيانه, يتوقف برهه ويقول عندما أرسم أفكر انني ما زلت تلميذا صغيرا يتحسس طريقه..أبحث عن ذلك الشئ الذي سيضفي علي اللوحه ذلك المغزي..ربما سيأتي مع بقعة الضوء التي تقول كل شئ, أو مع إلتفاتة الوجه ونظرة العينين. يعاود العمل كأنه مبارز يتحين لحظه تسديد الطعنة الفاصله ثم يعلن وقد إنفرجت أساريره
لقد بدأت الخطوط تغني.
سألته منذ أسابيع قليله ما الذي ستقوله بصورة مغايره لو كتبت حرية الفنان الآن ؟.. لم يجب علي السؤال ثم قال بعد فترة من الصمت.. هل قرأت ذلك الجانب الآخر إنه أفضل ما كتبت وسيأخذ مكانته التي يستحقها يوما ما.. بعد أن أرحل.
فقد الإبداع المصري فنانا وناقدا وشاعرا عميق الفكر واسع الثقافة وهو أحد أعمدة فن التصوير المصري الحديث منذ بواكير الستينيات هو الفنان حسن سليمان الذي تتلمذ في كلية الفنون الجميلة علي يد أحمد صبري 'وبيبي مارتان' من جيل الأساتذة الأوائل.
كان حسن سليمان شخصية ملحمية كالبطل الرومانتيكي كما أحب أن يسمي نفسه، فهو صاحب حساسية وسجية صادقة. وسيادة علي تقنية الرسم والتصوير، وكان مشحونا بطاقة عنيفة من الغضب والازدراء مع روح ساخرة.
كمصدر ورسام هو علاقة فارقة بين أجيال المصورين وأساليبهم وإن وقف الأمر عند هذا الحد، لأصبح رساما قديرا للبورتريه وللطبيعة الصامتة ولوحات الصالونات، أو أن يكون مدرسا قديرا في إحدي كليات الفنون محققا مكانة مرموقة في هذا السياق، ولكنه قد اختار بإرادته الواثقة ألا يكون هذا الرسام أو المصور القدير الواثق الرابح، ولا الأستاذ المرموق في قاعات التدريس، وقد كان لهذا الاختيار الرشيد أسبابه، أولها أن حسن سليمان كان مثقفا نهم القراءة يختار ما يقرؤه من عيون الشعر والأدب والفلسفة ومن علم الجمال والفلكلور بوعي وعمق، فلم يكن يقرأ للوجاهة والتباهي بالمعرفة في جلسات المقاهي والصالونات. إنما كان إيمانه بالقراءة مرادفا لإيمانه بالإبداع بالكتابة والرسم.
وقد كانت قدراته اللغوية علي القراءة السلسة والترجمة والكتابة والرسم عوامل حيوية في توجهه هذا. كما كانت البيئة الثقافية التي نشأ فيها، حيث جده، وخاله عالم المصريات المرموق أحمد فخري الذي كان يصحبه معه منذ طفولته المبكرة في رحلات الحفر والتنقيب عن الآثار المصرية، وأستاذه الأثير بيبي مارتان، وولي الدين سامح، ومارجو هربرت، ويوسف سبيع وألبيرقصيري والكاتب يحيي حقي.. كان لذلك كله وقع مهم في طموحه الثقافي وتعطشه المعرفي.
وعندما كان يحيي حقي رئيسا لتحرير مجلة 'المجلة' في ذلك الوقت من الستينيات، أطلق العنان لحسن سليمان يكتب ويحلل، ويرسم كما يشاء فظهرت رسومه الحداثية والجسورة بالحبر الأسود علي صفحات المجلة، ثم علي صفحات مجلة الكاتب، ليضع بذلك مقاما جديدا غير مسبوق للرسم المصاحب للنصوص الشعرية والأدبية والفكرية، رسوما لا تترجم النص ولا تتمسح فيه، ولكنها تضيف إلي النص طاقة موازية بصرية إبداعية، فتح حسن سليمان بتلك الرسوم ذائقة الأوساط الأدبية لتذوق الرسوم الخطية الجسورة التي تعتمد علي الاتقان والمحاكاة والتجميل الناعم المصطنع الذي كان مسيطرا علي الرسم التوضيحي في أوائل السيتينات وقبل ذلك، انطوت هذه الرسوم علي ترجمة حية لحركة سن الريشة المعبأ بالحبر الصيني، وقطرات الحبر التي تتساقط وتنتشر علي صفحة الرسم، كانت سجيته منطلقة تسبق حرفيته، لا ضبط، لا تحسينات، لا محو، ما تتركه الريشة المعبأة بالحبر علي الورق هو انفعال اللحظة، فليبقي كما هو.
من هذه الرسوم الجسورة الفورية.. اكتسب حسن سليمان حكمة الاختزال والزهد عن التنميق والتشطيب والزخرفة. حيث ترك للحظة الرسم ولمسة الفرشاة قدرها الذي لا يراجع، وانتقل هذا التوجه في لوحاته الزيتية التي اختار لها خارطة (ألوان بلا ألوان)، أطياف وتجليات الغامق والفاتح من درجات الرماديات الفضية إلي البنيات المحروقة.
الطبيعة الصامتة
في أعماله التصويرية تجلت رؤيته الفوتوغرافية لعلاقة الضوء بالظل، وكان من بين الاختراعات المعاصرة لنهاية الخمسينيات تجارب قام بها مصورون فوتوغرافيون حول معطيات تقنية من بينها تقنية الكوداليث Kodalith وهي نوعية من معالجة الصورة باستخدام أفلام بهذا المسمي (أبيض وأسود) تسجل الأسود الفاحم علي الأبيض بينما تتخلص من الدرجات الظلية المتوسطة والناعمة. وقد حققت تلك القضية مبتغي حسن سليمان في الحصول علي حس تجسيمي معبر عن البعد الثالث، والتورم دون اللجوء إلي تقنية (السوقوماتو' و'الكياروسكورو' التي توصل إليها ليوناردو دافنشي وأصبحتا من جيل مصوري عصر النهضة الفلورنسيين في التعبير عن الحجوم والأبعاد والفرغات بصورة أثيرية دون تحديد أو مبالغة في تباينات الشكل والأرضية، لإعطاء العمل حسا حالما نتيجة للنقلات الناعمة والمتماهية بين الشكل وخلفيته وهي التقنية التي سماها دافنشي تصوير ولا يمكن لمسه، فهو نوع من الإيهام بذوبان الأشكال في محيطاتها.
حرقت تقنية 'الكوداليث' وحرق معها حسن سليمان في لوحاته هذا الوهم الناعم لنقلات الظل والنور الخافت، واستبدلها بنبض مصادم ومتباين للأسود علي الأبيض ودرجات من الرمادي الفضي للتعبير عن التجسيم الحركي النابض حتي حينما يصور عناصر صامتة كالأواني والثمار والزهور الموضوعة علي سطحه المنضدة.
لقد كان 'بول سيزان' ومن بعده 'فان جوخ' هما اللذان حرصا علي التعبير عن مفارقة صمت العناصر المرسومة في لوحة الطبيعة الصامتة، وإيقاعها الحركي الناتج عن ضربات الفرشاة وثراء اللون واتجاهات الخطوط.
وكان 'موراندي' الإيطالي هو من اتجه إلي اختزال التفاصيل والعزوف عن الألوان في رسم الطبيعة الصامتة، مغلبا المحايدات من درجات الرمادي المشرٌب بروح الألوان عن استحياء.
وبينما كانت لوحات الطبيعة الصامتة عند الرواد أحمد صبري (1889¬1955)، وراغب عياد (1892¬1982)، وجورج صباغ (1887¬1951)، وشعبان زكي (1899¬1968)، ومحمد حسن (1892¬1956)، وأحمد لطفي (1896¬1966) واقعية وتأثيرية، فقد التزم فنانو الطبيعة الصامتة من الجيل الثاني بالنزعة السيزانية مع مسحة تعبيرية في أعمال حسين يوسف أمين (1904¬1984)، والواقعية في أعمال كوكب يوسف 1909، ومصطفي الأرنأوطي (1920¬1976)، والتكعيبية والتجريدية عند أدهم وانلي (1908¬1956)، والرمزية عند حامد عويس 1919، والسيريالية عند سمير رافع (1926¬2004)، والتعبيرية عند جاذبية سري 1925، وكمال خليفة (1926¬1968)، والزخرفية عند محمد عفيفي (1920¬1984)، والميتافيزيقية عند ممدوح عمار 1929، وزكريا الزيني (1932¬1999)، والتأثيرية عند صبري راغب (1920¬2000).. فإن حسن سليمان قد اتخذ نهجا مخالفا تماما، وشق لنفسه في مضمار تصوير الطبيعة الصامتة مسارا فريدا أضحي فيما بعد ذو تأثير حاسم علي معظم مصوري الطبيعة الصامتة من المصورين المصريين. ومن ثم فإنه يمثل علامة فارقة في تاريخ التصوير الزيتي المصري الحديث في هذا المجال.
البعد البيئي في أعماله
عودة إلي سيزان وبالنظر إلي تفسيره الفلسفي لأعماله، فإنه لم يكن يعير موضوع الرسم اهتماما كبيرا، لكنه (وهو ما أيده عليه النقاد) قد حقق هويته كفنان فرنسي يعيشي زمنا معينا من خلال أي شيء يرسمه حتي الطبيعة الصامتة.
وكان حسن سليمان نادرا ما يصور موضوعا مصريا، ولكن أعماله كانت مصرية المزاج كالنحت المصري القديم الغائر علي واجهات المعابد، يستقطب حدة ضوء الشمس ويعكسها بقدر شديد من التباين بين اللون الفاتح للحجر الرملي المصقول وحرقة الظلال التي تنحي كل الدرجات الوسطي والتمهيدية في اختزال معجز.
صور حسن سليمان في الستينيات لوحتان زيتيتان تعدان من روائع الفن المصري الحديث، يعبران عن موضوعات بيئية بوضوح، اللوحة الأولي تصور الثور يجره ثوران فتيان في حركة دائرية لتكسير أعواد القمح وفصلها عن الحب، وقد فاز بهذه اللوحة بجائزة معرض الفن والزراعة في النصف الأول من الستينيات نستشعر لفحة الشمس الحارقة بالرغم من غياب الأصفر والبرتقالي والأحمر، إنه فعل الضوء المبهر الذي يحرق الدرجات الظلية المتوسطة، وتقهره المساحات البنية القاتمة.
أما اللوحة الثانية وهي تمثل سرب الأوز، فتصور خمس أوزات فيستدعي عند المشاهد زاويتين من التراث المصري القديم، لوحة أوزات ميدوم الشهيرة مع اختلافها البين عن لوحة حسن سليمان من حيث كون الأولي مصنوفة زخرفية هادئة الإيقاع، بالمقارنة بحركة نابضة في لوحة حسن سليمان، حيث أوزاته الخمس مجسمة متحركة تلقي بظلالها أمامها، ويتحقق فيها وهم التجسيم بفعل تباين الظلال مع الضياء، وبالرغم من أن خلفية هذه اللوحة تبدو مسطحة، ثنائية الأبعاد إلا أن تجسيم الأوز فيها يبدو وكأنه يخرج من شاشة عرض سينمائي، تكاد تسمع إيقاع ضربات الأرجل واحتكاكها علي الأرض.
وتلتحم منطقة الظل في الأوزتين الأماميتين علي اليمين ليصبحا كتلة واحدة، ويزيد من إيقاع الحركة في هذه اللوحة اصطفاف الأوزات الثلاث الأمامية في نسق محوري من اللوحة ومن ورائهم أوزتان أخريان علي نفس النسق المحوري المائل مما يؤكد الحركية في اللوحة.
أما الزاوية الثانية من التراث المصري القديم في هذه اللوحة فتكمن في علاقتها بالظلال الشديدة الموزعة إيقاعيا علي الأشكال والرموز الهيروغليفية في النحت المصري الغائر في مواجهة ضوء الشمس. إن هذه اللوحة تمثل بعثا جديدا من نوعه للفن المصري القديم من حيث موضوع الرسم (أسراب الأوز) ومن حيث معالجة الضوء والظل الذي يمثل معالجة عبقرية الفنان المصري القديم لأسر أشعة الشمس داخل محفوراته الغائرة ذات الحواف الحادة. داخل أركانها وتجاويفها شديدة الغور علي جدران الحجر الجيري المضيء بفعل وهج الشمس وانعكاسها علي الرمال البيضاء.
وصور حسن سليمان في السيتينيات أيضا عددا من لوحات عن الحارة المصرية التي كانت موضوعا رومانسيا أثيرا عند مصوري جيله.
البورتريه والحياة اليومية
صور حسن سليمان عشرات الصور الشخصية (البورتريه) بأسلوبه المميز، كما صور الجالسات علي ماكينة الخياطة، والمطلات من النوافذ والملتفات في الملاءات والراقصات البلديات بأجسادهن الهائلة وحسيتهن الظاهرة معتمدا علي نفس المنطق التصويري في تجسيد التورم بتباين الضوء والظل، وإسقاط الخيال ممتدا لتأكيد سطوة الظلال علي التكوين ومحو التفاصيل لصالح التجسيد الكلي للنموذج.
لقد اقتربت من حسن سليمان في منتصف الستينيات حيث تكررت زياراتي له بمرسمه بشارع شامبليون الذي كان مكتظا بمقتنياته العتيقة والشعبية التي تنم عن رقي ذائقته، واستمعت إلي أحاديث طويلة بعضها يعكس مشاعره نحو فنه ونحو الناس وبعضها عن قراءاته وتأملاته العميقة الواسعة. وكان آنذاك صافيا مبتسما ساخرا ومسالما بدرجة كبيرة. وكنت أحيانا ألقاه علي المقهي المجاور لمنزله، ثم عاودت الاتصال به بعد عودتي من البعثة بأمريكا حيث كانت لنا جلسات حميمة وثرية مع عدد من الأصدقاء المشتركين ومن بينهم الفنان محيي الدين حسين.
حسن سليمان والفوتوغرافيا
وفي الستينيات نشر الفنان الراحل محمود السطوحي في جريدة الجمهورية صورة لغلاف مجلة 'لايف' الأمريكية تصور ضحايا حرب فيتنام، وقارنها بلوحة لحسن سليمان استقطع في رسمها تفصيلا من صور غلاف المجلة بكل وضوح وملامح الشخوص وتوزيع الضوء والظلال.
وكان هذا النشر بمثابة فضيحة تتعلق بمصداقية وأصالة الفنان الكبير، وتواتر اللغط حول هذا الموضوع.
كان ذلك تعبيرا عن فهم المجتمع الفني المصري¬ والعالمي¬ الذي يعتبر الصورة الفوتوغرافية لا ترتقي لمقام فن التصوير الزيتي، وبالتالي فإن الأخذ عنها يعكس من هذه الوجهة فقر الفنان وقصور خياله.
وعلي المستوي الدولي، وبالرغم من كون طليعة مصوري الفن الحديث اعتبارا من 'إيوجين ديلاكروا' مرورا ب'إدجار ديجا' و'بول جوجان' و'بيكاسو' و'ماتيسي' ضمن آخرين قد استعانوا بتقنيات وصور الفوتوغرافيا في أعمالهم، فقد كان ذلك بمثابة سر منيع عن النشر، والحقيقة أن الفوتواغرافيا ثم الصورة السينمائية المتحركة قد بدأتا من معطف فن التصوير الزيتي وظلتا في كنفه لوقت طويل، ولكن سرعان ما تطورا وأصبح لهما نفوذ وتأثير كبير في مفهوم وأسلوب الرؤية والتعبير الفني الذي أخذ به المجددون من مصوري القرن العشرين.
بيد أن فن التصوير الفوتوغرافي لم يحظ بالاعتراف الرسمي في أوساط الحركة الفنية كفن تعبيري وإبداعي قبل المعرض التاريخي الذي أقامه متحف الفن الحديث بنيويورك عام 1977 الذي قدم له (الكيوراتور) باعتباره اعتذارا متأخرا عن جحود الحركة الفنية والنقاد لإبداع الفوتوغرافيين، وتدشينا لهذا الفن ضمن مصنفات الإبداع البصري المعاصر.
كان حسن سليمان كما سبقت الإشارة يعتمد علي تقنية 'الكوداليث' لترجمة موضوعات رسمه إلي ما يشبه الظلال الشديدة علي سطوح فاتحة ولم يكن موضوع الرسم ذي قيمة تذكر عنده أثناء بحثه عن بلوره خصوصيته التصويرية التي طوت صفحات وفتحت صفحات جديدة في إبداع التصوير المصري المعاصر، وقد كان كالمؤسسة الفردية التي تتلمذ عليها عشرات الفنانين، ونقل عنها مثلهم. لقد كان نبعا ليس له روافد فيمن سبقوه من رواد التصوير المصري كما سبقت الإشارة. وقد أثري المكتبة الفنية في وقت جفافها بمؤلفاته في كيفية قراءة الصورة من خلال كتيبات عن سيكلوجية الخط، وسيكلوجية الحركة، وسيكلوجية الملمس. وكتاب عن حرية الفنان وآخر عن الفن الشعبي وآخر بعنوان ذلك الجانب الآخر فضلا عن عشرات المقالات النقدية والتحليلية والترجمات القيمة.
بين الستينيات وزمن الانفتاح
كان الفنان المصري في الخمسينيات والستينيات فدائيا يعيش حياة التقشف، حيث لم يكن هناك سوق لعمله، لا أحد يشتري وقلة من يزورون المعارض التي يقيمها، وربما يبيع لوحة في العام للجنة المقتنيات الفنية بوزارة الثقافة بسعر زهيد وهو وحظه العثر في الأغلب في انتظار فرص أخري.
من ناحية أخري كان هناك شح في الخامات وفي أدوات الرسم، حيث لجأ المصورون إلي محلات البويات التجارية وصنعوا خاماتهم مما تيسر فيها من خامات وأكاسيد وزيوت. وكانوا يرسمون علي لوحات من خشب (السيلوتكس) أو (الحبيبي) وهي مصنوعات من تدوير قش الأرز ونشارة الأخشاب مع مادة لاصقة تحت ضغط مناسب، أو يصنعون قماش الرسم من 'الدمور' أو 'التيل' وتحضيره بالغراء الحيواني المذاب مع اسبداج وقليلا من الزنك.
وكان الفنان بالكاد يحصل علي ما يمكنه من شراء تلك الخامات الفقيرة. ومن ثم فإن غالبية الفنانين قد التحقوا بسلك التدريس أو بالعمل في مهنة موازية، أو في إحدي المؤسسات الرسمية أو الأهلية، أو الرسم في الصحف والمجلات لتأمين معاشهم والصرف علي فنهم، ولكن هؤلاء الفنانين في معزل عن فرص البيع والشهرة والسفر كان حليفهم الطموح والإيمان بدورهم تساندهم حركة ثقافية نهضوية فتية خصبة.
وكان حسن سليمان من ندرة الفنانين الذين انقطعوا معظم وقتهم لفن التصوير دون توقف وللتثقيف الذاتي بهمة وطموح مدهشين.
وعندما دخلت مصر عهد الانفتاح الاقتصادي¬ أو هكذا سمي¬ اهتزت كثيرا مواقع المثقفين والفنانين، واحتلت معايير القيمة، وانفتحت فرص جذابة أمام الفنانين الذين أقبل عليهم الأثرياء الجدد وظهرت قاعات العرض التجارية النشطة في وقت إغلاق القاعات المهمة لعرض الفنون كقاعة باب اللوق الرائعة التي شهدت صولات وجولات في العروض والندوات الطليعية، صفيت لصالح مؤسسة مالية.
تسلطت إحدي قاعات العرض في وسط المدينة علي حسن سليمان حيث باعت أعماله بنشاط ونجاح، ثم استدرجته ليرسم أشياء أو أعمالا سهلة الهضم مضمونة البيع، وفي غمرة النجاح التجاري فقد الفنان إيقاعه الداخلي وطموح المغامرة وعناد الإبداع لفترة طويلة باعدت بينه وبين الحركة الفنية فانطوي علي نفسه وصار يكتب من وقت لآخر كتابات تتسم بالازدراء والغضب والنرجسية.
بيد أن هذه الحالة القبيحة والطارئة في مشواره قد انقشعت بعد مرحلة انقطاع طويلة ليعود إلي فنه وإلي كتاباته وقراءاته ليسترد سلامه النفسي ويعاود التوافق مع ملكاته الاستثنائية في تمايزها وعمقها، ولكنه كان قد انفصل عمليا عن الحركة الفنية وأصبح أكثر سخطا وعصبية وأطاح بعلاقاته بمعظم الأصدقاء القدامي، حيث أصابته حالة من (القرف) عندما عرف نفسه (بفنان من القاهرة في سنوات عجاف).
فقد شهد الأدعياء ومتوسطي المواهب 'الذين لا تمزقهم الوحدة، يتحدثون عن الحب والمشاركة الوجدانية، وعن النضال الجماعي، دون أن يلمسوا هذه الأشياء.. يعيشون حياتهم، يتحدثون، ويكتبون دون تجربة حقيقية. هم قاصرون عن أن تمسهم تجربة، حياتهم قاصرة، وتجاربهم قاصرة لا تمس وجدانهم ولا تقرب كيانهم. وعوا فقط سلبية الاستسلام والجانب السهل من الحياة، ألا وهو أن تأخذ ولا تعطي'.
ويقول: 'رقيق وزائف هو مدعي الفن، يضن علي نفسه بتجربة الحياة الأصيلة' ويقول أشعر ببلاهتي بجانب هذا النموذج، يبدو أننا نحن الفنانين قد قدر لنا إن أردنا صدقا وإخلاصا، أن نهدر تجربة حياتنا، دون شهرة، ودون مال، ودون حب.. دون سعادة'.
كان دائب الشكوي من الأكاذيب والادعاءات، ومن جهل الفنانين والمثقفين ومن خيانات الرفاق.
ولكنه لم يكن تلك الضحية، ولم يكن رفاقه أولئك الخونة، إنما تسلط عليه وباختياره حالة من العزوف والنفي الانفرادي عن الآخرين، وفي كتابه المدهش بعنوان ذلك الجانب الآخر الذي نشرته سلسلة أصوات أدبية بهيئة قصور الثقافة في أواخر التسعينيات شهادة مدهشة علي فيض ثقافته وعمق رؤيته اختزل فيها موقف الفنان والشاعر من الحياة ومن المجتمع ومن الفن ومن الرفاق، هي في واقع الأمر إسقاطا علي ذاته وشهادة علي حياته الملحمية وعلي فنه ومنهجه في الفكر والمعاناة والعزلة، يتحدث عن 'تأرجح الفنان الدائم بين المطلق والمجرد، بين لهيب الفن وجحود الصنعة'، وعن بكارة الفنان المتجددة وعن المرسم المفتوح ما بقي حيا، ويلخص حياته كالشاعر والفنان الحديث الذي هو 'استمرارية للبطل الرومانتيكي بكل انفعالاته المتباينة وتصرفاته الحادة وتصاعد عواطفه'. 'حيث كل شيء يضطرم في أعماق الفنان من السادية إلي الماسوشية'.
ويقول: يتولد لدي الفنان شعور بأن قوي غامضة ضده، وهكذا يتولد الحس العدائي، والرغبة في أن يمتلك كل غموض.
ويقول: 'لقد ألفت النظر إلي غرابة النزعة التي تصاحب البطل الرومانتيكي، أن يعذب ويتعذب، إلي حد أنها أصبحت علامة مميزة له'. وإن لم يستطع أن يمارس هذه الهواية فيطبقها علي نفسه. حيث يحس بالضياع والغربة وبعداء المجتمع فينحو للغرابة والشطط'.
ويفسر نرجسية البطل الرومانتيكي الجديد بأنها أصبحت جزءا من دائرة مغلقة، حيث يعيش علي مشاعره، يتمركز أكثر وأكثر حول ذاته حتي تصبح ذاته هي عالمه. تجربة لا يملك منها فكاكا أو وضع حد لها، فتبدو تصرفاته غير مقبولة من الآخرين ولكنه صادق¬ هو¬ مع نفسه.
ويري في الفنان الحق أنه مغلوب علي أمره، عاجز ولا مفر، مع الحب هو فاشل لا محالة، وكذا مع الحياة. ويختزل حياته كلها بقوله: هو المنتصر المهزوم في الوقت نفسه.
1
مات حسن سليمان علي ما يبدو وهو راغب في الموت.
ظل إستثنائيا، وحيدا في الكون يبني عالمه حتي ضاق عليه ،فتماهي فيه وجعل من هذا العالم قبره، ووجوده، وعدمه.
عرفته أول الستينات، وجمعتنا الصداقة بمسافات عدة. ولكنه كان يسألني كيف يجحْكِمج السرد في اللغة العربية. وكنت يومذاك أجالسه في مقهي الآمريكيين بناصية سليمان باشا ونتبادل معا المعرفة حول قيمة الحرف في الكلمة، وقيمة الكلمه في الجملة، وإيقاعها ،وعطفها ،ومجراتها. وكان يدهش لمحاوراتي، ويسألني: كيف تعلٌّمت هذا وذاك، فلا أحيد جوابا ،ولكن عيناه كانتا تلمعان وكأنهما الدقٌّاق في القلب.
يسكن كلانا في مربع واحد وسط القاهرة ،فهكذا كنا نلتقي في اليوم مرتين أو ثلاث ،وكنت أراقبه يمشي في الطرقات ،ويتوقف عند النواصي، ويتلفت يمنة ويسرة، وكأن هاتفا صاح به في صمت الطريق. فإذا فاجأته في أوقاته تلك يسألني عما إذا كنت قد رأيتها؟ فأعجب من قوله وأرد عليه سؤاله بقولي: من هي؟ فيقول لي أجحِبٌجها ، وقد أعطتني موعدا بمقهي 'لاباس' غير أنها لم تأت. ثم يفاجئني وهو مفجوع الفؤاد كيف تتعرفون إلي البنات؟ كيف لي أن أتقرٌّب منهن؟
كان سؤاله جادا ينم عن عتمة في القلب المتعب.
كان فنانا حقيقيا. أي أنه كان يعرف كيف يكون ذاته. وكان خطٌّاء ،ومتعجٌّلا ، وقاسيا في الحكم علي أصدقائه ومعارفه. كان يطلق عليهم أوصافا كمثل الطعنات الموجعة ،ويقول لي ونحن نزرع الطريق إلي المقهي: أليس كذلك؟ فكأنه كان راغبا أن أكون ذو ميل علي هواه.
2
لم يعرف الهدنة في فنه. أفضل ما عمله لوحته التاريخية: الجنٌّاز ،وفيها يبدو التابوت وكأن الوجود قد حشر بداخله. وكانت لوحتا الخياطة والعمل في الحقل من بين العلامات التي جعلت إسمه محفورا بين الناس. فلما مال في الطبيعة الصامته نحو موراندي ، وضعوه يومئذي فوق ميزان حساس خشية الوقوع عند الحافة.
وهو رسام بلا مثيل. وأظنه مّلّكّ القدرة علي التعبير الحق، واستفز الفضاء في الأسود والأبيض حتي منحهما النطق. وفي مجلة المجلة استطاع أن يصكها _في زمني قصير¬ بمستويات في أداء الصورة ما كانت لتوجد قبله في مجلة ثقافية. فلو كان هناك فضل فيما جري ،فليكن اعتبارنا ليحيي حقي الذي حفز المخفي في حسن سليمان، وجعله إذْ ذاك فصيحا.
هكذا هو وقع في أسر يحيي حقي. أحبه حتي النخاع ،وأخذ عنه لحظة السؤال عن غير الموجود. كان حقي يبادرك بهمهمة قصيرة وكأن روحا دهمته ،فيسأل عن شئ دون رغبة في معرفة الجواب. هكذا كان أيضا حسن سليمان وكأنه صار صنوا للمجعْجّبّة في يحيي حقي.
لم يكن عيبا كون حسن سليمان ليس كاتبا مقتدرا، ولكنه بقي إلي جانب فنه صاحب طروحات ، ومنتج لأفكار، ويملك ميزة تحليل البِنْية في العمل الفني. وبنفس القدر فهو يعرف كيف يفعل فعلته في الفن، وفي الموسيقي.
كم دعاني في الستينات لأستمع إلي اسطوانة كلاسيكية جديدة. وكانت عيناه تلمعان كطفل يختزن خبث العالم بينما هو يراقبني وأنا أستمع لكونشرتو الفيولينة لجوهان سباستيان باخ.
كان حسن سليمان يحب باخ ، وفيفالدي ، وهاندل وطريقة كزالس في العزف علي آلة التشيللو ،وأسلوب أوستراخ علي الفيولينة. وكان تصنيف مكتبته الموسيقية علي أساس مقام العازفين الإنفراديين.
3
وبنفس القدر اعتبر الطبيعة الحية والميتة وجعلها وكأنها موازيا لحالة وجودية.
كان يجمع الزلط ،والرمل، والأسلاك ،والأخشاب. ويحاول أن يقرأ بنياتها. رسمها وكأنه باحث في فضاء الصورة عن متعة الظل والنور. وهو كان إذْ ذاك يرسم بينما هو يعرف أن تلك ليست صورا للبيع ، وإنما هي للزمن الباقي. وقد اختلف الحال فيما بعد، وجرفته قسوة الشارع ، حتي بقي محاصرا في مرسمه من عزلة الصديق عن الصديق. غريبا حتي أنه كان يبدو ماشيا وكأني به أبا حيان التوحيدي الباحث عن قبره في الصحراء.
فإذا جلست في مجلسه عليك أن تتقبل السلطة والهيمنة أو تنفض يدك وتذهب. يحادثك طويلا ،محتجا ،وساخرا ،ومرٌّا ولا تعرف متي يفرغ ومتي يترك لك مجالا تختار فيه تّحرٌجفج الألفاظ.
تجذكٌّرني أحاديثه تلك ،بتلك المتواليات المنظورية التي أخذ يرسمها للآنيات. إذْ هو علي غير ما كان يعرف موراندي . كان يري أن الإناء رمز لوجود تم الكشف عنه مجددا. وكأن يري فيه الأشياء التي هي مجكْنةج هذا الوجود وجواهره. فإذا هو يرسمها من زواياها التي تخفي عجزها مرة بعد مرة ، وكأني به يدق فوق مقام واحد علي وتر من أوتار آلة القانون.
نعم كان مغاليا ،غير أن تلك كانت لسانيته المرٌّمزة التي تنسج بِنْية الصورة عنده.
4
منذ 42 عاما كتب حسن سليمان نصا حزينا عن البطة.
كان يدهشه الطير ، والحيوان ،والنفايات في الطروقات ،غير أن طائر البط البلدي ظل يتوقف عنده. يراه كما لو أنه علامة من مغارات العالم القديم. يباغته ذلك الضعف الكوني المتمثل في بطة بلدية مرسومة فوق لوح من الجص. فلا هي قادرة علي الطيران برغم جناحيها ،ولا هي قادرة علي النطق برغم ضجيجها. تبدو تلك البطة كمثل مأساة أغريقية، مكتوفة النفس والجسد. تغتسل في اليوم مرات وكأنها لا تعرف في وجودها سوي الطهارة من الإثم البشري. إذْ ذاك كان حسن سليمان يحسها ويشمها ويتملاٌها، وكأنها صنوه الحزين.
وفي الصفحة رقم 136 بالعدد 112 من مجلة المجلة، أبريل 1966، كتب حسن سليمان مسرده الحزين عن البطة:
ذات صباح كنت أسير علي غير هدي. تلقي بي الطروقات إلي مكتبة تشعرك بالسأم والملل. إلي أن التصق بصري ببطة حزينة لفنان مصري قديم. بطة وحيدة مطبوعة علي كارت بوستال. كتب علي ظهره كتابة هيروغليفية من مقبرة حتشبسوت.
ويواصل حسن سليمان قوله:
إن الفنان وهو يبدع عمله الفني إنما يتصرف من وحي عواطفه وأفكاره. وهذا هو الذي حدث بالنسبة لذلك الفنان الفرعوني وهو يكتب هذا الجزء ،إذْ نسي نفسه فلم يرسم لنا هذه البطة التي تستعمل كفعل ،بمعني يسمع ،وتجنْطّق وشا بمعني بطة. ،نسي نفسه فعبٌّرتْ لنا هذه البطة عن حالة حزن ،وأزمة نفسية يمر بها الفنان فجاءت أصدق وأبلغ ما يكون عليه العمل الفني.
بطة وحيدة يغرقها الحزن.
أليس أروع ما كتبه كيتس ،قصيدته ترنيمة إلي البلبل ،التي ابتدأها قلبي يتصدع من الألم .
5
في منتصف الستينات رسم حسن سليمان لوحته الرائعة لطائر الأوز ،فجعلها وجودا محضا يناظر غربته. إن الأوز الذي أحبه هو هنا معادله الموضوعي الذي ظل يلازمه.
فها هنا نضع أيدينا علي تلك الحياة الداخلية لفنان يملك ميزة التعبير. يبدو الأوز وكأن حسن سليمان رسمه بيده مباشرة مستخدما راحته فوق فضاء الصورة، فبدا اللون المينوكرومي من درجات السيبيا آسيانا محزنا. وتبدو اللوحة وقد غمرها تساؤل مهيب عن وجود محيٌّر.
فاللون يبدو متراوحا بين العتمه ،والخفوت ، والإفصاح ،وكأن حسن سليمان نسجه بغير عمدي ،فبدا كمثل جلد حي ،عصبي الوقع.
إن الأوز هنا ليس هو ذاك الذي نعرفه في الأسواق ،وإنما هو الطائر الإنسان. الطائر الذي لا يستطيع الطيران. طائر يكشف عن وجود مجرد. فلا لغة ،ولا زكريات ،ولا تاريخ ،ولا زمن ،وإنما هي الظلال وحدها التي تشهد علي حجم الجسد.
6
في عام 1965 أو نحوها قرأ حسن سليمان قصيدتي المنشورة بصفحة الأدب بجريدة الجمهورية يومئذي. كانت تحت عنوان مدينة الرخام فأعجبته ،وكان إذْ ذاك يحاضر في المعهد العالي للسينما ،فها تفني وقد قرر أن يقرأها علي الطلاب في مجال لصناعة الأخيلة في السيناريو. كانت القصيدة مأساوية تحكي عن عجز العالم. وأظنها تقابلت مع روح حسن سليمان الباحثة عن الحزن. وأما أنا فقد غلب عليٌّ اغتباطي لاختياره لقصيدتي تلك ،وفي بعض منها كنت أقول:
هذه رأسي تدحرجها الرياح إلي المدينة
والضوء يسقط فوقها ،
ويلجفٌجها ،
وأنا الغريب بجثتي
أنا الغبار
يتسلق العظم علي بياض الجبس
يخضر الجدار
وقد ظل حسن سليمان لزمن متأثرا بمدي هذا العجز البشري الذي أفصحت عنه القصيدة. ومنذ ذاك تبادلنا الأشياء معا وكأننا نصنع معا إناء واحدا.
7
اختلفنا معا وطال ابتعادنا أعواما حين عّرضْتج عليه عام 1977 أن أقيم لأعماله عرضا شاملا لتجربته كلها في قاعات الأدوار الثلاثة لمجمع الفنون بالزمالك (قصر علي باشا فهمي سابقا) _ولكنه رفض. ألححت عليه الرجاء ، واستخدمت ضغوطات الزمن السابق، فقال لي أنه لا يتعامل مع الحكومة! وبينما هو يتحدث معي زاد حنقه ،فاستشاط من غضب خفي، وأخذه الكِبّرج عليٌّ دون وجه حق. بعد ذلك عاودت الكرة ،وكانت سبع سنوات قد مضت ،فإذا هو يرفض مرة أخري.
إذْ كان يراني ساعتئذي حكومة
وبذلك ظلمني في طريقي وفي مبغاي ،ثم كففت عنه رغبتي حين رأيته يعرض في الهناجر.
8
أحب حسن سليمان كمال خليفة وكان يتأمل رسومه العاصفة في الأبيض والأسود ويراه فنانا ذو قدر ومكانة. وقد أحبه كمثل ما أحب يحيي حقي ،وقال لي: فتش عند كمال خليفة ،فقد كتب كثيرا ولكنه لا ينشر ما يكتب. وهكذا ذهبت إلي كمال خليفة الذي لم يكن يملك سوي حصيرة قديمة ،وبعض الأغطية ،وأدوات للشاي والقهوة علي الأرض ،ورأيت عيناه كمثل ما رأيت عيني حسن سليمان. كلاهما يريان الداخل بأكثر مما يريان الظاهر ،وكلاهما يملكان عينا فاحصة ومقتحمة ،وبصٌّاصة ،حتي أنك لا تملك أمامها سوي الإعتراف بالخبئ في النفس.
9
لقد تم استغلال حسن سليمان كفنان بصورة لم يسبق لها مثيل ،إذْ استولت بعض البيوت التجارية _الآرتيزانية¬ علي أعماله _مبكرا¬ منذ منتصف الستينات وقامت بتسويقها وبخاصة بين عدد من أنصاف الأجانب ،وبين السياح الموسميين.
أحد تلك البيوتات أخذ له مركزا نهاية شارع عبد الخالق ثروت ،حين اكتشف في شيئيات ذلك الفن الحاضر سببا للترويج له بثمن باهظ وبأي ثمن أحيانا _كان ذلك البيت التجاري الذي يتسم بعلاقات مع عديد من الأجانب داخل وخارج مصر قد قام بدور لا أظنه كان محمودا ،إذْ لم يكن يعنيه القيمة إلا بقدر ما يتيحه الكم المنمط من مكاسب.
لقد وجد حسن سليمان نفسه مكبلا بين الجموح والأحباط ، وبين التمرد والطوعي ،وبين الأنصياع والرفض _وبين الامتثال والعصيان ، ولعله في سنواته العشرين الأخيرة كان كمثل هاملت يبحث عن وجوديته في الموت المبكر، ويتوق إلي من يشهد عليه بين الناس ،ويجعله علي مثل ما بدأ عندما رسم الخياطة التي بلغت ذروة تطال خياطة فيرمير الشهيرة.
10
قبل عام زارني الفنان الكبير السوري يوسف عبد الكي وهو صديق قديم لحسن سليمان ،وقال لي أنه يعد فيلما عنه وعن حياته ،فباركت مبادرته تلك ،ولما طلب مني أن يري أعمال حسن سليمان في متحف الفن الحديث فتحت له الأبواب كلها عله يفعل لحسن سليمان ما لم يستطع هو أن يفعله من أجل نفسه.
فهل فعلها عبد الكي.
هل وضع اللمسات الأخيرة لفيلم حسن سليمان.
هل صوٌّره قبل الموت ،وبعد الموت.
وهل سجل طعنات الموت علي خصره.
هل سحب يداه وجعل من كل أصبع معني كما كانت تتملاه الريشة الحزينة.
هل ذهب إلي مواطئ القبر. ورأي هناك شاهده.
نعم ،لقد مات فنان قدير لا يعوض ،وكنت قد عركت صحبته ما يقرب من أربعين عاما ،فلست أدري ما إذا كنت قد عرفته حقا ،ولست أدري ما إذا كان هو بدوره قد عرفني _ولكني أدركت للتو أن موته بمثابة احتجاج علي ما جري في سنين العمر.
حسن سليمان فنان حفر في تاريخ الفن المصري المعاصر بصمة من بصمات الكبار، وهو من جيل جاذبية سري وادم حنين أطال الله في عمرهما. وجدتني أهدي إليه هذا الخطاب لحظة أن عرفت الخبر، أحني قامتي تقديرا لجهادك لحظة أن عرفت الخبر. أحني قامتي تقديرا لجهادك الفني، سنذكرك دائما بالخير، وآن الاوان لتوثيق واجب لأعماله ومسيرته، بداية لأبحاث جادة حتي لايندثر تاريخنا، وهو ما يحدث للأسف.
الغالي حسن سليمان
أحملك السلام..
أحملك السلام، وهو أمانة
لمن سيستقبلونك بالأحضان، والحب أحملك السلامة إلي أرض السلام الأبدي
سلامي إلي محمد جاد وجودة خليفة وسمير رادع وغالي شكري وغالب هلسا وسامي خشبة.. نبيل السلمي ويحيي الطاهر عبدالله وعبدالفتاح الجمل وعبدالحكيم قاسم وبدر الديب وكمال خليفة وحامد عبدالله وصلاح طاهر وعوني هيكل ووفيق الفرماوي ومحمود درويش ورمسيس يونان ومحمد عودة وصلاح عبدالصبور وصلاح جاهين وأحمد بهاء الدين وأمل دنقل ومحمد مستجاب وناجي العلي ويوسف مراد أحملك السلام إلي جميع من يستقبلونك بالأحضان، من أعرف ومن لا أعرف. من ذكرت ومن نسيت ذكرهم وإلي لقاء.
القاهرة 15/8/2008
كتبت منذ سنوات مقدمة للكتيب الذي تم توزيعه في المعرض التكريمي الذي اقامه المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب في الكويت لفناننا الباقي حسن سليمان، قلت في بدايتها، حسن سليمان واحد من قلة من الافذاذ الذين لم تصنعهم جماعات النقد ولا آلات الإعلام الأيديولوجية او السلطوية، ولا سطوة صالات العرض والترويج، ولم يغرقهم بريق الأضواء. إنه فنان صنعته موهبة أصيلة أذكتها الدراسة، واججها البحث، وأغنتها المعرفة، وعمقها الاخلاص للفن والانقطاع له بجدية قل مثالها، وبروح حرة لاتنحاز الا للحق والخير والجمال، وبذهن متوقد يوظف كل حواسه في خدمة رسالة الفنان التي حملها وانقطع لها، وبعين تري وتلمس وتسمع وتتذوق وتشم كل ما يحيط بها، بظاهره وباطنه، وجليه وخفيه، وبأنامل قادرة علي صياغة خلاصة تفاعل الظاهر والخفي مع الوعي والنبؤه. والجزء الكامل مع البصر والبصيرة في أعمال تتفق مبني 'ومعني' مع حرية الفنان التي هي هاجس حسن سليمان في رسومه ولوحاته وكتاباته، بل في مجمل حياته وعطائه.
كنا فتيانا نشتعل حماسا، وثورة، نتلمس طريقنا في الفن والحياة، حين وجدنا أنفسنا بعد عام من الهزيمة، وجها لوجه امام فنان ¬ كاتب كان قد حفر في اعماق نفوسنا أساسا، عميقا أثر تأثيرا كبيرا في بنائنا الفني من خلال كتاباته ورسومه في مجلة الكاتب. وجدنا انفسنا وجها لوجه مع اعمال حسن سليمان، مع شخصه وروحه الوثابه، كان في الاربعين من عمره، لكنه كان الاكثر حضورا بين المشاركين في المعرض والمؤتمر الذي عقد انذاك في دمشق، وجدناه يصعد علي الطاولة محتجا علي منطق الانشاء والمهادنة والتنفيس، واضعا الفنانين امام مسئولياتهم الفنية والوطنية، وعرفنا كيف يكون الفنان متسقا قولا وفعلا، قلبا، وقالبا، نظريا وعمليا منه وكما تعلمنا في اللقاءات القليلة التي جمعتنا آنذاك.
كان قد مضي علي لقائي بالمعلم حسن سبعة عشر عاما عندما قررت ان تصبح القاهرة منفاي الاختياري بعد سنوات من الغربة القسرية، وذهبت زائرا الي مرسمه، كنت علي قناعة انه لن يتذكرني، لكني فوجئت انه يتذكر اولئك الفتيان الذين التقاهم في دمشق بحماسهم واسئلتهم وشغفهم، وأخذت معرفتنا تتوطد لتثمر صداقة متينة مستمرة، غذتها رعايتها واهتمامه وتشجيعه ونبله، واحترام وتقدير واعتراف وتثمين مني لدوره وعطائه وشخصه وفضله وفنه ومواقفه.
كما فعل مع كثيرين غيري، وقف الباقي حسن سليمان الي جانبي في القاهرة، شجعني تشجيع المعلم الناقد الامين للفن، لم يجامل، ولم يثبط، ولم يبخل بالتوجيه، وقدم نقديا لعدد من معارضيه دون محاباة أو انتقاص. عرفني علي عدد من الكبار امثال الاستاذ حسين بيكار، والاستاذ يحيي حقي، ولم يجد غضاضة في سؤالي عن رأيي في الاعمال التي كان يرسمها، ولا في الاستجابة لبعض الملحوظات البسيطة.
وعندما طلب مني مساعدته في تجهيز مطبوعات معرض البحر تناقشنا في تصميم الدعوة والملصق، وطلبت منه ان يسمح لي بالتصرف، كان قلقا في البداية، لكنه بعدما رأي النتيجة، صار يترك لي امر تصميم مطبوعات معارضه وملصقاتها، كانت صداقتنا قد بلغت درجة من التفاهم جعلته يطلب مني ترجمة كتاباته التقديمية لمعارضه التي كان يكتبها باللغة الانجليزية قائلا : إنك تكتب ما اريده بالضبط بسلاسة ولغة جميلة، بعيدا عن ركاكة الترجمة، لماذا لا تترجم؟ فأقول له: إن لغتي الانجليزية متواضعة لكن المحبة هي التي تجعلني قادرا علي ترجمتك ونقل افكارك.
علي قدر وفاء المعلم الباقي حسن سليمان لمعلميه واصدقائه وفنه وقناعاته، كانت خيبته بأولئك الذين علمهم وفتح لهم مغاليق صدره وخبرته وأفكاره ينهلون منها، ثم تنكرون له، وعلي رغم ذلك لم يبخل بفنه وخبرته علي كل من اتاه ليتعلم منه، بل كان عطاؤه يتجاوز التعليم الي المساعدة المعنوية والمادية والنفسية، كان خيرا وكريما معطاء، لا ينتظر شيئا من احد.
ماذا أقول ايضا.. ثمة الكثير الكثير مما يقال دوم ان نفيه حقه، لكن غصة في الحلق تأبي ان تدعني أكمل.
رحل حسن سليمان في صمت، بعد ان نأي بنفسه في مرحلة تسيطر عليها الاصوات العالية للطبول الفارغة، واثر ان يستمر في عمله بعيدا عن الجعجعة والاعلام والاضواء الخادعة.. اثر ان ينأي بنفسه عن الفساد المتفشي في حياتنا الثقافية والفنية، وبقي حيا بعطائه وانتاجه ومثله وهو الذي لم يرض يوما ان يضع سيرة شخصية في أي كتيب من كتيبات معارضة قائلا 'لوحاتي وكتاباتي هي سيرتي الشخصية'.. انها حقا سيرته الشخصية، وهي كافية لتحفر اسمه عميقا في سجل الخالدين كما حفرت اسم يحيي حقي صديقه الاثير الذي أبي حسن سليمان الا ان يكون وفيا له حتي في موته الجسدي، فأوصي ان تقتصر مراسم وفاته علي الصلاة والتشييع وألا يقام له عزاء، كما كان يحيي حقي قد فعل، فلنعز انفسنا لغيابه، ولنكرم حضوره الخالد في أعماله وآثاره.
اخبار الأدب
24 اغسطس 2008