رحلة القبض على الزمان الهاربقد لا نستطيع التعبير عن الزمن،
سنلجأ لتثبيته في كوادر وإشارات نعلم يقينا أنها لا تستطيع تعريفه أو تحجيم محيطاته وتدفقها. سيظل لغز الزمن مؤرقا للإنسان مع امتداد وجوده. هذا الوجود الذي لا يقوم ولا يصبح له معني بغير وجودنا. بغير وجود الإنسان. سنظل عاجزين عن الإمساك بلحظة الحاضر، وممزقين بين أمل استرجاع الماضي والنفاذ إلي جوهر المستقبل الذي تحيطه هالة إلهية من الرهبة والجلال.. هذه الدراسة العميقة للدكتور عبدالغفار مكاوي أستاذ الفلسفة المبدع، كتبها كتعبير عن قلقه الوجودي، وقد ضمنها كتابه 'شعر وفكر .. دراسات في الأدب والفلسفة'، الذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب ومضي في صمت شأن أعمال كثيرة جادة فيها يحاول الإجابة عن سؤال الزمن والوجود والسرمدية وارتباطها بالإنسان من خلال التركيز على آراء هيد جر ووجهة نظر الشعر والأسطورة ومن خلال عشرات الإشارات التي وردت في أعمال فلاسفة ومفكرين وكتاب أرهقهم السؤال وألح عليهم في رحلة بحثهم المضنية من الإجابة، وفي سعيهم للقبض على اللحظة الزمنية من أجل الوصول إلي هدف أسمي، الخلود!

'الزمن الماضي والزمن الآتي
لا يتيحان إلا القليل من الوعي
أن تكون واعيا هو ألا تكون في الزمان
لكن في الزمن وحده يمكن للحظة في حديقة الورد
ولحظة التعريشة التي ينقر عليها المطر،
واللحظة في الكنيسة التي يسري فيها
تيار الريح عند سقوط الدخان
أن يتذكرها المرء متضمنة الماضي والآتي
عبر الزمن وحده ينتصر على الزمن
فقهر الزمان لا يكون إلا خلال الزمان
الحاضر والماضي
ربما كانا حاضرا في المستقبل،
وربما كان المستقبل طي الماضي.
لو كان الزمان كله حاضرا سرمديا
لما أمكن استرداد كل الزمان.
ألا أن ما كان يمكن حدوثه لتجريد
يبقي بمثابة الامكان الدائم
في عالم من التأمل دون سواه.
ألا أن ما كان يمكن حدوثه وما قد حدث فعلا
ليشيرا إلي غاية واحدة
هي حاضر سرمدي...'
ت. س. اليوت
ما لغز الحاضر الذي حير عقل الإنسان وقلبه، منذ أن عاش بين الطقوس والأساطير إلي أن أطلق مركبات الفضاء؟. كيف واجه سره الذي يتسرب منه كما يتسرب الماء من بين كفيه وكما يفلت الهواء إذا حاول القبض عليه؟!
انه يشعر في حياته وتجربته اليومية الزمن موجود. فمن منا لا يذكر ماضيه ويحن إليه؟!، من منا لا يحلم بمستقبله ويخطط له؟!
مع ذلك فهو دائم القلق من زواله، دائم البكاء على ضياع عمره ومجده، والشكوى من عبث كفاحه وتعبه. لو أرهفنا السمع قليلا، فربما هزتنا الأنات الآتية من أناشيد المغني الفرعوني الأعمى على قيثارته، وزفرات أيوب في العهد القديم ومن قبله 'أيوب البابلي' المبتلي ظلما في الألواح الأربعة التي حملت شكواه وعرفت باسم 'لدلول بيل نيميقي' سأمجد رب الحكمة، وحسرات سليمان وداود في المزامير، وبكائيات الشاعر الجاهلي على أطلال الأحباب، وأناشيد الجوقة في المسرح الإغريقي، ودعوة هوراس 'اقطف يومك'. ونقوش المقابر والمعابد، وربما انتهت إلينا لعنات أبي العلاء التي صبها على الزمان، مختلطة بآهات 'الخيام' و'دانتي' و 'ليوباردي' و 'هلدرلن' و 'اليوت'..
والإنسان يحاول منذ القدم أن يستمهل هذا الضيف العزيز الذي لا يزورنا إلا لكي يودعنا، كما يحاول أن يعرف طبيعته، ويحدد موقعه بين ضيف سبقه ولن يعود، وضيف سيأتي بعده ولن يقيم.
من منا لا يرثي أو يضحك للجهود التي بذلها المفكرون والفلاسفة لاصطياد اللحظة الحاضرة التي نحياها ولا نمسك بها، ونحاول قياسها وتحديدها فتفلت منا، وتسرع بها دورة الفلك وعقارب الساعة كالشبح الهارب، بينما تدوم وتتمدد في أعماق الشعور، حتى توشك أن تضم 'الأزل والأبد' في ومضة واحدة؟..
من منا لا يحن لهذه اللحظة المواتية العابرة التي دعا أحد حكماء اليونان السبعة (بيتاكوس) لمعرفة قيمتها والقبض على خصلات شعرها الذهبية المتدلية من جبينها قبل أن تعبر بنا ونحاول بعد ذلك أن نجري وراءها لنوقفها فإذا هي صلعاء الرأس من الخلف.
ومن منا لا يؤثر عليه سعي 'فاوست' الدائب إلي لحظة الخلود التي يستريح على صدرها حين يتحد بالمنبع الخالد؟ ومن منا لا يتعاطف معه وهو يراه يجد في البحث عنها في لحظة 'الحب' أو 'المجد' أو 'العمل النافع لشعب حر على أرض حرة'، فإذا به يتعثر في هاوية الخطيئة أو يسقط في حفرة الندم، بينما يتردد هتافه بها:
'تريثي قليلا فما أجملك؟!'.
ثم من منا لم يعش مع محاولات الفلاسفة لتثبيتها أو إنكارها؟!. من منا لم يدهش لمفارقات 'زينون' الايلي العنيدة التي تلغي الزمان والحركة لتثبت الأبدية؟ ومن منا لا يعجب لتساؤلات 'أفلاطون' عن 'الآن' وجهود 'أرسطو' لتحديدها وجعلها وحدة قياس الزمان، وحيرة 'أوغسطين' أمام سرها حتى هداه الله إلي أنها 'توتر النفس التي تستجمع الماضي وتتأهب للمستقبل' و 'مواقف المتصوفة' ومواجدهم وأشواقهم إلي جعلها بيت السرمدية، واكتشاف 'ديكارت' لضوئها الخاطف وفعلها الحدسي في يقين 'الأنا' وكل يقين مترتب عليه، وفي فعل الخلق والحفظ الإلهي المتصل للطبيعة والإنسان!!
ومن منا لم يهزه جدل 'كيركيجارد' المعذب، وهو يفتش عنها داخل الزمان فإذا بها لا 'تتكرر' إلا في 'الأبدية'، والهام 'نيتشه' المحير بلحظة 'العود الأبدي' التي صعد معها فكره إلي القمة الخطرة ووجدها في لحظة التصميم على مفترق الطرق إلي تحقيق الوجود الأصيل، وجمع فيها بين ماض كناه وعلينا أن نكرره فيها، ومستقبل علينا أن نصر عليه ونحققه فنحقق ذواتنا معه في وجه الموت المتربص المحتوم؟!
كلنا يحس سر الزمن. قد لا نتمكن من التعبير عنه، ولكنا نحسن بزمانيتنا في كل قول وكل تجربة وكل موقف نمر به. فالزمن قدرنا، والزمن ألمنا ويأسنا. وتجربة الإنسان بزمانيته هي تجربته الحزينة بزواله وانقضائه وتناهيه. فالزمان شكوى أزلية، وأغلب الظن أنها ستبقي شكوى أبدية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تسجل شواهد التاريخ والحضارة والدين والفكر والأدب هذه الشكوى المرة في صور مختلفة..
لم يكن البحث في سر الزمان عند مفكري اليونان قضية تفلسف مجرد، بل شعورا مأساويا ودينيا عميقا ترددت فيه أصداء الشكوى القديمة المتجددة. وألا فما الذي دفع 'أنكسماندر' في شذرته الوحيدة الباقية إلي القول بأن الأشياء ينبغي أن ترجع لأصلها وأن تكفر عن ذنبها وفقا لنظام الزمان؟! وما الذي دفع 'زينون' الايلي لإلغاء الزمان ومعه التغير والصيرورة؟ ألم يكن هو البحث عن ملجأ ثابت يتيح للإنسان السكينة في حضن الأبدية، وتجربة العناق بين الفكر والوجود الذي علمته الربة المجهولة 'أستاذة أستاذه بارمنيدز' أنهما متساويان وثابتان؟
وما الذي جعل 'أفلاطون' يقول 'إن الزمان هو صورة الأزل، إن لم يكن هو الفزع من الزمان؟! ثم ما الذي دفع أرسطو والمفكرين من بعده حتى 'برجسون' إلي 'تمكين' الزمن وقياسه، إلا أن يكون هو الخوف من عضة نابه والسعي إلي قيمة أخرى ترتفع فوقه كالفكر الثابت الذي يفكر في نفسه أو الأبد الساكن الذي يتعزى الإنسان به ويأمل فيه.
إن صرخة 'باسكال'، التي ترددت في 'خواطره'، ستظل تطرق أبواب قلوبنا بشدة:
'أري هذا الفضاء الكوني المخيف الذي يحيط بي، وأجد نفسي مقيدا بركن من هذا الامتداد الهائل، دون أن أعرف لماذا وضعت في هذا الموضع دون سواه، ولا لماذا حددت هذه الفترة الزمنية القصيرة التي قدر لي أن أعيشها في هذه النقطة بعينها لا في نقطة غيرها من الأزلية التي سبقتني أو الأبدية التي ستأتي بعدي.
لست أري من كل ناحية إلا هذه اللانهايات التي تحبسني وكأنني ذرة وظل لا يدوم إلا لحظة واحدة بلا عودة'.
وان 'كانط' ليقدم الزمان على المكان، فيصف الأول بأنه الشرط الصوري القبلي لجميع الظواهر بوجه عام، وهذا عكس المكان المقصود على الظواهر الخارجية وحدها، كما يحمل أحد الكتب المؤثرة على الفكر المعاصر هذا العنوان المهم: 'الوجود والزمان'. ومع أن مشكلة المكان قد لا تقل أهمية عن مشكلة الزمان، بل ربما كانت أشمل منها وأقدر على إلقاء الضوء على طبيعة الإنسان وماهيته التي تعلو على المكان والزمان جميعا، وان ظلت أسيرة لها ، على الرغم من هذا كله فان الحديث عن الزمانية كان على الدوام هو الحديث عن تناهي الإنسان الذي يظهر في صورته الحادة في زمانيته المنطوية على فنائه وزواله وموته. ولهذا كان التفكير في الإنسان من حيث هو كائن فان أو 'مائت' مساويا للتفكير فيه من جهة الزمان وفي أفق الزمان. ولهذا أيضا كثر الحديث في الفكر المعاصر عن كون الإنسان ملقي أو مقذوفا به في هذا العالم، أي في مكان وزمن محددين كل التحديد. وهو يعيش فيه وهذا هو أوضح تعبير وأقساه عن تناهيه دون أن يدري لماذا يحيا في هذا الزمن لا في زمن آخر. ولقد عبر 'بسكال' في ختام القطعة السابقة عن هذا أقوي تعبير حين أنهاها بقوله 'بلا عودة' معبرا بذلك عن واحدية البعد الزمني، وان اتجاهه لا يقبل أن يعكس. فالإنسان يشبه ظلالا يدوم إلا لحظة واحدة، بلا عودة.
إن السر الأول للزمان هو انه يلتهم كل ما فيه ويلقي به في قبره الذي لا يشبع. ولهذا ارتبط الزمان بالزوال والانقضاء. فالماضي لم يعد له وجود، والمستقبل لم يكن بعد، وإذا أقبل فسرعان ما يتحول إلي ماض. والماضي والمستقبل كلاهما لا وجود لهما في وجدان الإنسان إلا من حيث هما حاضر، أي في تذكر الماضي وتوقع المستقبل. أما الحاضر فلا وجود له في تجربتنا اليومية. كلما مددنا أيدينا للتشبث به، تسربت منها حبات رمال الزمن (أو 'أناته')، وكلما حاولنا أن نمد في أجل هذه اللحظة الخالية من الامتداد في لحظات الصفاء والحب والأنس، أو في لحظات الرعب واليأس روعتنا الحقيقة المحتومة التي تقول إن كل مستقبل يصبح فيها ماضيا، وان حاضرها حد وهمي أرق ملمسا من الحد الفاصل بين نقطة البحر والنقطة التي تليها، أو نسمة الريح والنسمة الرفافة في ذيلها..
ولهذا ربما عذرنا 'أرسطو' الذي أغاظه 'الآن' فأخرجه من الزمان ليجعله وحدة قياسه...
أنعيش إذا بلا حاضر على الإطلاق؟ أتكون حياتنا حلما؟ أنخطو على الطريق بلا أرض نقف عليها؟! أتكون حياتنا حياة الأسري المغلوبين الذين يتعثرون في الهاوية باستمرار؟!
اكتب علينا الزوال والانقضاء في كل لحظة من لحظات مدتنا المحدودة، بلا عودة ولا سبيل للرجوع؟!
أهزه هي نهاية المطاف في تفكيرنا في الإنسان؟! ألا يبقي أمامنا إلا الاستسلام للبكاء أو الوثوب فوق جواد الزمن إلي حظيرة 'الأبدية' لنلتمس فيها الخلود والبقاء، ونجفف على صدرها دموع السفر والشقاء، أو نتعلل بالسعادة والهناء؟
هنا نبلغ باب السر الثاني للزمن. فنحن زمانيون ولا نملك الهروب من الزمان ولا المكان . ولكننا في نفس الوقت لا زمانيون، لا بمعني الخروج من الزمن كما نري في لازمانية القوانين المنطقية مثلا ولكن بمعني أن الزمن هو المرآة التي نري عليها السرمدية... فنحن قادرون على المشاركة فيما فوق الزمن، أي في السرمدية ولو للحظات كالبرق الخاطف. ومفهوم السرمدية شيء مختلف عن الزمانية، كما يختلف عن الديمومة الزمانية اللامتناهية ويتفوق عليها. والأولي بنا أن نفكر. إن علاقة السرمدية بالزمان لا يمكن أن تتصور تصورا زمانيا، لأنها ترتفع فوق الزمان وتشمله بصورة ما.
 
وسر الزمن الثاني هو قدرته على أن يتلقى السرمدية فيه. ومادام الإنسان بطبعه كائنا زمانيا فانه سيكون كذلك قادرا على المشاركة في الأبد والسرمد، بل ربما كان من واجبه أن يسعى إلي هذه المشاركة حتى يكون إنسانا بحق... ولهذا يمكننا القول إن شوكة فنائنا هي خلودنا، لأن الشيء الفاني لن يؤلمه فناؤه، ولأن ما يمكنه أن يحيا فقط، سيمكنه أن يموت فقط. أما من يشعر أن كل شيء لابد أن يفني ذات يوم، فإن شعوره هذا يرفعه فوق ذاته وفوق الكل. كل شيء سينقضي ويزول: أنا وأنت وكل ما يحيط بنا، ولكن فيك وفي شيئا يزيد على الكل ويختلف عنه، وألا ما عرفنا عنه شيئا..
ولكن بأي معني نفهم قدرة الزمن على تلقي السرمدية ونفاذها فيه؟! بمعني أننا بغير هذه القدرة لن نجد أرضا نقف عليها، وأننا ونحن نندفع في مجري الزمان نفسه لن نجد الحاضر الحق، الحاضر الخالص الذي يهوي إلي وادي الماضي بمجرد وصوله من قمة جبل المستقبل.
إن الحاضر واقع نحياه دون أن ننتبه إليه في لحظات سنتحدث عنها بعد قليل ونحن نحياه في مجري الزمن وفوق الزمن، لأن السرمدية تنفذ في الزمن وتضفي عليه الحضور. كما أن الإنسان يمكنه بل يجب، عليه أن يستحضرها فيه. فالسرمدية حاضرة دائما، وهي سبب إحساسنا بالحاضر على الإطلاق. لولاها ما أمكننا أن نقول 'الآن'، فهي التي ترفع الآن فوق مجري الزمن العابر . ونحن لا نقصد هذا بالمعني الديني والصوفي وحده، بل نقصده بالمعني الفلسفي والحياتي، إذ يكفي إن نستغرق في الصلاة لحظات لنحسه، يكفي أن نطالع ما يقوله الكتاب الكريم عن الدار الآخرة، وما يقوله الإنجيل الرابع عن الأبدية، وما يشكو به المزمور التسعون (بالغداة كعشب يزول، بالغداة: يزهر فيزول، عند المساء يجز فييبس) من زوال بني آدم إذا قورنت حياتهم بأبدية الله.
يكفي هذا كله لنعرف السرمدية والأبدية، 'فألف سنة عنده كيوم، أمس' هي التي تعطي 'للآن' معناها وواقعها اللانهائي، 'وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون' ..
بهذا تصبح الفلسفة سعيا دائبا إلي الحضور الخالص وقهرا مستمرا للزمان والزمانية. وإذا كان أفلاطون قد علمنا تعريفين أساسيين من تعريفات الفلسفة عندما قال في أحدهما أنها التأمل الدائم للموت، فمن حقنا أن نغير هذا التعريف (الذي لا ينطبق إلا على مرحلة فايدون وما قبلها!) فنقول إن الفلسفة هي تأمل دائم للحضور الحي. وإذا كان قد قال في تعريفه الآخر الذي تبعه فيه فلاسفة العصر الوسيط من مسلمين ومسيحيين إن الفلسفة هي التشبه بالله بقدر الطاقة فبامكاننا أن نزيده وضوحا فنقول إن الفلسفة هي جهد دائب لكي يتشبه الكائن الزماني بالكيان السرمدي.
لن نقف عند هذه المعاني كلها بل سنتجاوزها إلي معني يتصل بوجودنا اليوم كأبناء أمة تسعي إلي اكتشاف هويتها وتحديد مكانها بين الأمم. أمة يعرف المخلصون من أبنائها أنها مهددة بالانقراض والانهيار إن لم تع حاضرها، وتؤد واجب لحظتها، وتستوعب قيمة ماضيها وتنهض، بأعبائها التي تفرضها عليها فلسفة جديدة حية للتاريخ، أي فلسفة للزمان. الذي لاغني عنه لفهم التاريخ.
ماذا أقول؟! أأقول إننا اليوم وأينما تلفت فسحب الإخطار تزحف وأهوال التحديات تنادي باليقظة للحاضر الذي ينبغي أن يكرر خير ما في، الماضي من تراث، ويتهيأ لخير ما في المستقبل من أمل وعمل.
أأقول إننا اليوم نعيش بداية انقراض تلوح نذره، أم نهاية انقراض، بدأنا نتخلص من آثاره؟!.. لن أستسلم للتفاؤل أو التشاؤم. حسبي أن أدعوك يا قارئي لواجب الحضور الحي وعبء اللحظة الخالدة. ليست دعوة صوفي، فأنا لم أبلغ أعتاب هذا الشرف، والعلاقة بين الوعي بالحضور الحي لزمانيتنا وبين السرمدية 'مقام مهيب غامض'، إنما هي دعوة إنسان يقدر قيمة اللحظة الحاضرة ويعلم أنها الفرصة الوحيدة للسرمدية، أو بلغة أقرب إلي واقعنا اليومي البائس هي الفرصة الوحيدة لكي 'نكون أو لا نكون'..
وإذا كانت الأسماء التي تكلمت عن الحضور في اللحظة الخالدة أكثر من أن تحصي أو تعد، وإذا كانت هذه الأسماء تزدحم بها شواهد التصوف والفلسفة والفن والشعر والأساطير والطقوس مما لا يجدي معه حصر للمراجع والنصوص، فلنختر أقصر الطرق وأشدها تواضعا، ولنكتف بالنظر في تأملات فيلسوف معاصر لم يمض على وفاته أكثر من عام، نتلوها بخواطر مستمدة من واقع آخر ومجال مختلف قلما ننتبه إليه وهو واقع الشعر والأسطورة والطقوس، لنختم هذه النظرات بسطور قليلة عن الحضور في اللحظة الخالدة، لحظة نفاذ السرمدية في الزمانية، اللحظة التي يتعانقان فيها في لمسة هي أشبه بوميض الشمعة أو لمح البرق فنؤكد وجودنا وحاضرنا في 'الآن'. ونعي ذاتنا حين نتشبث بصخرة اللحظة ونقاوم طوفان الزمان الصاخب، ونثبت إننا جديرون بالنعمة السرمدية حين نكون أوفياء للحظة، مستعدين لتحمل مشقتها ومسئوليتها استعدادنا لترقب نورها وبريقها.
 
لماذا ارتبط الزمان دائما بالوجود؟ ولماذا لا نفكر في أحدهما دون أن نفكر في الآخر؟! الوجود منذ فجر الفكر الفلسفي مرادف للحضور. والحضور يكون في أفق الحاضر ويتكلم بصوته. والحاضر في التصور الشائع يعد من الأبعاد الثلاثة التي تلازم تصورنا للزمن الذي يسير على طريق لا رجوع فيه من ماض إلي حاضر إلي مستقبل. والماضي في تصورنا الشائع أيضا هو الذي لم يعد له وجود كما أن المستقبل هو الذي لم يوجد بعد..
ونحن نذكر الزمان حين نقول: لكل شيء زمانه. فكل موجود يأتي عندما يجيء أوانه، ويذهب عندما يحين حينه ويبقي مدة الزمن التي قدرت له. ولكن هل الوجود شيء؟! هل يشبه الموجودات التي تكون في الزمن؟ وهل الزمان نفسه شيء، أم هو الذي يسع الأشياء والموجودات التي تكون فيه وتفسد، تولد ثم تموت بعضة نابه؟
عبثا نبحث عن الوجود نفسه بين الموجودات المحيطة بنا، فليس مثلها موجودا زمنيا. ومع ذلك فنحن نقول انه 'يحضر' في الزمان، يتحدد بكل ما يوجد فيه، يظهر بظهوره ثم لا يلبث أن يحتجب ويخفي عنا سره.
عبثا نحاول أن نلقي الزمان بين الموجودات والأشياء التي تتزمن به وتنتهي فيه. فهو نفسه ليس موجودا ولا شيئا. انه ينقضي باستمرار، ولكنه في انقضائه يختلف عن كل ما يوجد فيه. والبقاء عكس التلاشي، أي هو الحضور، والحضور هو أسلوب الوجود.
الوجود والزمان إذن يتحددان بالتبادل، ولكنهما يتحددان على نحو لا يسمح لنا أن نصف أحدهما وهو الموجود بأنه شيء زمني، ولا أن نتحدث عن الآخر وهو الزمان كما لو كان أحد الموجودات والأشياء.
هل وقعنا بهذا في شباك العبارات المتناقضة؟ هل نلجأ إلي ما تلجأ إليه الفلسفة في مثل هذه الأحوال من تصعيد للتناقض، والجمع بين طرفيه في وحدة أشمل، نسميها بعد ذلك وحدة جدلية؟! أليست هذه الوحدة التي تهدف للمصالحة بين العبارتين المتناقضتين عن الزمان والوجود، هروبا منهكا معا ومن العلاقة القائمة بينهما؟
وما الطريق الذي نسلكه كي ننظر في موضوع كل منهكا على حدة أعني في القضية التي يطرحانها أمام الفكر؟ فلنأخذ أنفسنا بالحذر الواجب، ولنواجه هذه القضية. بما يليق بالفكر من صبر وأناة.
نحن نقول على الدوام: الوجود يكون، والزمان يكون. فلنجرب تغيير الصيغة اللغوية لنقول: الوجود يوجد والزمان يوجد (على أن نفهم من كلمة يوجد معني الجود والعطاء الذي يجمع بينهما ويجود بهما.
إن الوجود يتيح للموجود أن 'يحضر' ويسمح له بأن يظهر ويكون. وإحضار الموجود بهذا المعني يساوي إخراجه من التحجب والخفاء إلي الانفتاح والجلاء، ومن ثم يكون الوجود نوعا من العطاء.
غير أن العطاء لا يزال ملفوفا بالظلام، كما إننا لا نزال نجهل كل شيء عمن يقوم به. لقد حاولت الميتافيزيقا في تاريخها كله، منذ بدايتها الساذجة عند طاليس وحتى اكتمالها في فلسفة 'نيتشه' أن تفكر في الوجود من ناحية الموجود، وتفسره باعتباره الأساس لهذا الأخير. فلنحاول أن نفكر فيه من جهة 'الحضور' والتكشف والظهور، أو كما قلنا الآن من جهة العطاء.
بهذا يتحول معني الوجود، ويصبح العطية أو الهبة التي يجود بها الكشف والإظهار من ثنايا التحجب والخفاء وبهذا أيضا يصبح هو الحضور. هذا الوصف للوجود بأنه حضور ليس بالأمر الذي نقرره من جانبنا أو نختاره بمشئيتنا. لقد تقرر منذ زمن طويل وليس لنا فضل فيه، والتزم به الإنسان منذ طرح سؤاله القدري 'ما هو الوجود' حتى 'حضر' هذا الوجود في تفسيره الأخير له على هيئة أقمار صناعية تجوب الفضاء وتدور حول الأرض، ومركبات تغزو القمر والزهرة والمريخ ... الخ.
لقد كان يحضر في كل مرة في صورة يعبر عنها الإنسان بالقوة والفكر، ويلتزم بها في الفعل والسلوك، ويراها ماثلة في الكائنات المحيطة به والأشياء التي يحيا بالقرب منها ويستخدمها أدوات في شئون معاشه.
هكذا تغيرت صور الحضور، واختلفت باختلاف المفكرين وتعاقب العصور فكان الحاضر مرة هو 'الواحد'، أو 'اللجوس'، وكان هو الجوهر والمثال والفعل، والمونادة، والتصور والإرادة، والروح المطلق، وإرادة القوة، وإرادة الإرادة في عودة الشبيه الأبدية..
هذا شيء يشهد عليه التاريخ، حتى لقد طغي الوهم بأن تاريخ صور الحضور هو تاريخ الوجود. غير أن تاريخ الوجود شيء مختلف عن تاريخ المدن والحضارات والشعوب، فتاريخية الوجود لا تتحدد إلا بكيفية حدوثه، أي بأسلوب عطائه الوهاب، وتكشفه في نفس الوقت الذي يتوارى فيه خلف حجاب. هذا العطاء نوع من 'التقدير' ، والوجود الذي يعطيه هو الذي نصفه بالمقدر.
كل التحولات في صورة الوجود المعطي هي مراحل في تاريخ الوجود، أو بالأحرى تاريخ حدوثه. ومن قدر هذا التاريخ أن تفسيرات الوجود عن طريق الموجود كانت تحجب 'قدره' الأصلي شيئا فشيئا، بحيث تواري معني الحضور والعطاء بالتدريج وأسدل عليه ستار بعد ستار.
إن الارتباط بين الزمان والوجود يشير إلي الأخير بوصفه حضورا، أي إلي طابعه الزمني. فلنفكر الآن في الزمان لعلنا نهتدي إلي حقيقته.
كلنا يألف كلمة الزمان ويستخدمها في تصوراته الشائعة على نحو ما يستخدم كلمة 'الوجود'. ولكن ما أسرع ما نكتشف جهلنا بهما عندما نتصدى لتحديد معنيهما.
وما أصدق عبارة القديس 'أوغسطين' عن الزمان:
'إن لم يسألني أحد عنه عرفته، وإذا طلب السائل مني أن أشرحه لم أعرفه'.
يتبين من كلامنا إذن أن الوجود في طابعه المميز مختلف عن كل ما يتسم به الموجود، وأنه في صميمه عطاء، والعطاء قدر تاريخي أعلن عن نفسه في صور وتحولات متنوعة.
كما يتبين مما قلناه أن ماهية الزمان لا توضحها التصورات الشائعة عنه، وأن الجمع بينه وبين الوجود ربما يقربنا منه: فالوجود كما عرفناه حضور أو هو بالأحرى إتاحة الحضور.
ونحن لا نكاد نذكر الحضور حتى نذكر معه الماضي والمستقبل، أي المتقدم والمتأخر بالقياس للآن.
غير أننا إذا أردنا أن نفهم الزمان من جهة الحاضر، فلابد أن يكون هذا الحاضر هو 'الآن' الذي يختلف عن آن الماضي الذي لم يعد له وجود، وأن المستقبل الذي لم يأت بعد، وإذا كنا لم نتعود على النظر إلي الزمان من جهة 'حضور' الحاضر، فالواقع أننا نتصور الزمان  أي وحدة الحاضر والماضي والمستقبل  على أساس 'الآن'. وقديما قال أرسطو أن 'الآن' هو ما يكون من الزمان أو يحضر فيه. أما الماضي والمستقبل فهما شيء لا وجود له  صحيح أنهما ليسا عدما، بل هما وجود أو حضور ينقصه شيء نصفه بأنه هو 'الآن' التي لم يبق لها وجود، و'الآن' التي لم تأت بعد.
وبهذا يبدو 'الزمان' سلسلة من الأنات المتتابعة، بحيث لا نكاد نذكر إحداها حتى يبتلعها لتوه ويطاردها على الفور.
هذا 'الزمان' هو الذي يقصده كانط بقوله: 'انه ذو بعد واحد فحسب وهو الزمان الذي يتألف من أنات متعاقبة، ونعرفه جميعا عندما نخضعه للقياس والحساب، وعندما نتطلع للساعة، ساعة الحائط أو ساعة اليد، ونراقب عقاربها قبل أن نقول مثلا: الساعة الآن الخامسة وعشر دقائق. نقول 'الآن' ونعني بها الوقت أو الزمن. ولكننا لن نعثر على الزمن نفسه مهما قلبنا في الساعة، وفحصنا آلاتها وفتشنا بين عقاربها!. بل لن نلمس له أثرا مهما حاولنا أن ندقق النظر في أجهزة قياسه الحديثة التي تسمي 'بالكرونومترات'. ولعلنا أن نبتعد عن جوهره الحق كلما أمعنا في هذا البحث.
أين الزمان إذا؟!. أهو موجود؟ آلة مكان يحل فيه؟ أهو وعاء يضم الأنات والمكان الذي شبهه أرسطو بوعاء يسع العالم؟!
من الواضح أن الزمان ليس عدما، فكلنا يذكر اسمه، ويشعر بخطاه. فلنجرب أن نظر إليه من جهة 'الوجود'. الذي وصفناه بالحاضر أو الحضور. ولنعلم أن حضور هذا الحاضر مختلف كل الاختلاف عن حضور الأبد، بحيث لا يمكن أن يفهم هذا ابتداء من الآن. بل تفهم الآن وتحدد ابتداء منه'.
إذا صح هذا، فلابد أن يكون الزمان هو الحاضر بمعني الحضور، ولابد أن يختلف عن تصورنا المألوف له على هيئة سلسلة من الأنات المتعاقبة التي تخضع للقياس، وإذا صح ما قلناه أيضا من أن الوجود حضور 'تكشف وعطاء' أصبح الحاضر بقاء وتريثا في مواجهة هذا التكشف والعطاء، كما أصبح 'الإنسان' هو الكائن الوحيد الذي يتلقاه وينتظر ظهوره، وينفتح عليه ويستجيب له. ولم لم يكن هو الذي يتلقى على الدوام هذه العطية لما بلغت إليه، ولبقي الوجود محجوبا مغلقا عليه، بل لما أصبح الإنسان هو الإنسان.
هل ابتعدنا بهذا عن موضوع الزمان وانصرفنا إلي الإنسان؟!.
الواقع أننا لم نبتعد عنه كما نتصور، بل ربما ازددنا اقترابا منه. فطبيعة الزمان لا تتجلي إلا في الحاضر، بالمعني الذي قصدناه من الحضور، كما أن طبيعة الإنسان لا تتحدد إلا عن طريق التعرض لهذا الحضور وتلقي عطاء الوجود الذي ينجلي له ويتخفى عنه في نفس الوقت. صحيح أنه يخاطبه على الدوام. ولكن ما أندر ما 'ينتبه' لصوته، وصحيح أنه معرض لنوره الذي يظهر في هذا الموجود أو ذاك، ولكن ما أكثر ما ينشغل بظهور الموجود فيغيب عنه نور الوجود!
بيد أن 'الحضور' لا يكون بالضرورة في الحاضر وحده، بل قد يكون فيما انقضي وما هو آت، أي في الماضي والمستقبل. وإذا شئنا الدقة فأن العلاقة المتبادلة بين الآتي والمنقضي تتعانق في الحاضر، بل أن الثلاثة جميعا تسلم أيديها إلي بعضها البعض، بحيث تحضر في وحدة الزمن الواحدة.
ولكن ما الذي تسلمه إلي بعضها البعض؟!
إن هذا الذي تسلمه ليس إلا الحضور. وهذا الأخير هو الذي يلقي الضوء على ما نسميه عادة بالمجال الزمني. غير أن الزمن هنا لم يعد سلسلة من الأنات متعاقبة الحلقات، ولا مسافة فاصلة بين نقطتين آنيتين مما نقيسه ونحسبه عندما نقول على سبيل المثال: 'في مجال زمني يبلغ طوله خمسين سنة حدث كيت وكيت'. فالمجال الزمني الذي نقصده الآن هو الانفتاح، أو المجال المفتوح الذي تتحد فيه أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل الثلاثة في عناق الحضور والعطاء، بل هو الذي يسبق ما نسميه بالمجال أو المكان ويجعله ممكنا، كما يسبق كل قياس وحساب للزمن إلي نقط آنية تتابع في خط ذي بعد واحد.
في هذه الوحدة التي تتلاقي فيها أبعاد الزمن الثلاثي، يحضر كل منها على طريقته: الوافد المقبل الذي لم يصبح بعد حاضرا، والذاهب المنقضي الذي لم يعد حاضرا، ثم الحاضر نفسه. وقد يخطر على بالنا أن هذا البعد الزمني الأخير هو أقرب الأبعاد إلي الحضور وأنسبها إليه.
ولكننا بذلك تخطيء معني 'الحضور' الذي ينجلي في الأبعاد الثلاثة جميعا، حتى أن 'هيدجر' ليذهب إلي أن تبادل العلاقة بينها بحيث تناول العطاء إلي بعضها البعض هو نفسه البعد الرابع للزمن.
وإذا كنا نسميه البعد الرابع، فالحقيقة أنه الأول من حيث الموضوع والرتبة.. فهو الذي يحدد الحضور، ويشد الأبعاد الأخرى بعضها إلي بعض أو يباعد ما بينها.
ولهذا تقوم عليه وحدة الزمن التي نتحدث عنها ، بل أننا لنستطيع أن نسميه 'بالقرب': القرب الذي يقرب بقدر ما يباعد.
فهو يبقي على الماضي مفتوحا عندما يحول بينه وبين أن يصبح حاضرا، وهو يدع باب المستقبل مفتوحا ويهيىء الحاضر لتلقيه. وهو قبل هذا كله يجمع بين اتحاد صور الحضور المختلفة في الماضي 'الانقضاء' والمستقبل 'الوصول' والحاضر في وحدة واحدة.
علينا إذن ألا نتحدث عن كينونة الزمن أو جوده بل عن عطائه. هذا العطاء يتحدد بالقرب الذي يمنح ويهيىء ويضمن انفتاح مجال الزمن، يحفظ فيه ما فتح من الماضي وحيل بينه وبين أن يصبح حاضرا وماهيىء من المستقبل ليكون حاضرا. وهو بطبعه عطاء ينير ويحجب، يظهر الموجود من حيث يستر الوجود نفسه.
منذ بدأت الفلسفة وهي تتساءل عن الأصل في الزمن. وكان من الطبيعي أن تهتم في المقام الأول بالزمن المحسوب الذي يتتابع في أنات متعاقبة.
وعرفت الفلسفة منذ البداية أيضا أن الزمن الذي نحسبه مستحيل بغير النفس أو الروح أو الوعي، أي مستحيل بغير الإنسان.
ولكن ما معني هذا؟!. هل الإنسان هو الذي يعطي الزمان أم هو الذي يتلقاه؟!. وأدا كان التلقي هو الأقرب إلي المعقول، فكيف يتلقاه؟! هل يفعل ذلك 'صدفة' بين الحين والحين؟!
إن الزمن الحقيقي هو القرب الذي يوحد بين أبعاده الثلاثة ويسلم أحدها للآخر في وحدة حضور حاضر وماض ومستقبل.
والإنسان يصبح إنسانا بقدر ما يتعرض لهذا القرب وينفتح عليه، وبقدر ما يعايشه من داخله أو يواجهه من خارجه.
ليس الزمن من صنع الإنسان، ولا الإنسان من صنع الزمن، فليس هنا مجال للصنع أو الصنعة، وإنما هو عطاء بمعني التسليم المنير الذي يتيح كل حضور في مجال الزمن المفتوح.
قلنا الوجود 'يوجد' كما قلنا الزمان 'يوجد'. وفهمنا الفعل بمعني الجود والعطاء. والمعطي في الحالين واحد، ولعله شيء متميز، ولكنه يظل غامضا غير محدد، كما نظل إزاءه في حيرة 'فعبثا نحاول أن نفسر العبارتين على أساس القضية العادية المؤلفة من موضوع ومحمول، عبثا نفتش عن المجهول في العبارة الأصلية التي تنطوي على فاعل لا وجود له'.
وخير ما نفعله الآن أن نفهمه من ناحية عطائه وأسلوبه في العطاء على نحو ما تجلي في 'قدر' الوجود و'تسليم' الزمان بالمعني الذي أشرنا إليه. فالعطاء قدر، والعطاء تسليم منير، وكلاهما متصل بالآخر من حيث أن القدر يقوم على التسليم. والذي يجمع بينهما ويحفظ لهما ماهيتهما هو ما يسميه هيدجر بالحدث الذي يتم ويحتجب في نفس الوقت من خلالهما.
أيكون هذا الحدث هو المعطي الذي تعبنا في البحث عنه؟! لنؤخر هذا السؤال قليلا بحيث نجيب على سؤال أسبق منه: ما الحدث؟! ولنعلم قبل الإجابة أن 'الحدث' هنا لا علاقة له بالمعني المألوف للكلمة، لأننا لن نفهمه إلا على ضوء ما قلناه عن الوحدة الجامعة بين 'التقدير والتسليم'، وكلاهما أسلوب عطاء. بهذا نكون قد اقتربنا من الهدف الذي أخذنا ندور حوله منذ البداية: تحديد الوجود عن طريق الزمان.
وبهذا نأتي إلي العبارة الحاسمة التي اجتهدنا في إلقاء الضوء عليها: 'الوجود حدوث'.
هل انتهينا إلي تفسير جديد للوجود يضاف إلي التفسيرات العديدة التي قدمتها الفلسفة للوجود على أساس الموجود، كالمثال والفعل والتصور المطلق والإرادة؟!
أنكون بهذا قد خطونا خطوة أخرى على طريق 'الميتافيزيقا' الذي أردنا أن نحولها عنه؟! لن نخشى شيئا من هذا لو فهمنا الوجود بمعني الحضور، وفهمنا 'الحدوث' بمعني العطاء الذي يكلفه قدر الحضور.
فسوف يكون الوجود أسلوب حدوث ولا يكون الحدوث أسلوب وجود.
ولكن ما معني أن الوجود حدوث؟!
معناه أن الوجود والزمان كليهما يحدثان، والحدوث عطاء مقدر، والعطاء كما رأينا مرتبط بالتقدير والتسليم، وهذا بالحفظ والحيلولة والتهيئة. 'على نحو ما رأينا عند الكلام عن أبعاد الزمان الأربعة'.
أي أن الحدث في نهاية الأمر مرتبط أيضا بما يسميه هيدجر هنا بالتمنع أو التراجع وما يسميه في مواضع أخرى 'بالتستر والاحتجاب'.
ولما كان الوجود  بوصفه حضورا  إنما يعني الإنسان ويخاطبه، فان جوهر الإنسان يقوم على الاستجابة له والإنصات لندائه، كما يعتمد على الدخول في المجال الزمني ذي الأبعاد الأربعة الذي يتم فيه الحضور، أي يتحقق العطاء والتسليم.
ومعني هذا أن الإنسان مرتبط بالحدوث  إذ فيه وحدة يعطي الوجود والزمان. بل هو الذي يعيد الإنسان إلي ماهيته وحقيقته، ولابد له في سبيل هذا أن يتلقى حضور الوجود لأنه يعنيه وحده، وأن يدخل كما كما قلنا في مجال 'التسليم' الذي هيأه الزمن الحقيقي الموحد ذو الأبعاد الأربعة.
هكذا ينتمي الإنسان انتماء أصيلا للحدث، ففيه وحده يعطي الوجود والزمان. ولأن هذا الانتماء يعتمد على ما يقوم به الحدث من تأصيل 'أو توحيد' فان الإنسان يتصل بالحدث عن هذا الطريق.
بهذا يؤكد هيدجر إننا لن نستطيع أن نضع الحدث كما لو كان شيئا يواجهنا مواجهة الشيء أو الموضوع. ولن نستطيع أن نتصوره كما لو كان هو الشامل المحيط بكل شيء. ولهذا أيضا يعجز العقل المفسر عن بلوغه، كما يخفق القول المعبر بالقضايا المألوفة عن الوصول إليه.
هل استطعنا أخيرا أن ندرك طبيعة الحدث؟ هل ساعدنا النظر إلي الوجود 'وقدره' والزمن 'وتسليمه' على بلوغ معناه؟ هل اقتنعنا بما يفرضه على الإنسان من واجب ومسئولية؟ أم تمخض الأمر كله عن بناء فكري كسائر الأبنية التي يزخر بها تاريخ الفلسفة؟ وأن هذه الأسئلة جميعا تفترض أن الحدث لابد أن يكون موجودا كسائر الموجودات. والتسليم بهذا الفرض المعكوس أشبه بمحاولة اشتقاق المنبع من النهر!
إن الحدث ليس 'موجودا' فأقصي ما يمن قوله عنه انه يحدث. قد تبدو هذه العبارة مجرد تحصيل حاصل. ولو حاكمناها بمقاييس المنطق لما قالت شيئا. حتى إذا جعلناها موضوع التفكير والتأمل تبينا أنها لا تقول جديدا، وإنما تعبر عن شيء قديم قدم الفكر الغربي نفسه، شيء منطو فيما اصطلح الإغريق على تسميته 'الأليثيا' أي الحقيقة بمعني تجلي الوجود وتكشفه من طوايا التستر والاحتجاب، والتأمل في هذا المعني الأولي لا يزال يلزم كل تفكير جاد.
بهذا يكون هيدجر قد حاول التفكير في الوجود بعيدا عن الاهتمام بالموجود، بعيدا عن الميتافيزيقا التي ما فتىء يبذل المحاولة تلو المحاولة لقهرها وتخطيها لكي يمهد للتفكير في الوجود نفسه. ولعله في هذه المحاضرة المتأخرة عن 'الزمان والوجود' قد نفض يديه من الميتافيزيقا وجرب أن يفكر في الوجود نفسه 'وحدوثه' أو حضوره وظهوره في الزمان. وهكذا وجد نفسه مضطرا للتخلي عن أرض الميتافيزيقا وطرح لغتها، والبحث عن لغة أخرى تعذب في تطويعها للتعبير وعذبنا معه!
لقد أخذ يزيح العقبات عن طريقه وبقيت العقبة الكبرى التي لم يقو عليها: إذ اضطر للكلام بالعبارات والقضايا التقليدية عن موضوع لا تصلح له ولا يصلح لها. لأنه ليس في الحقيقة موضوعا بل هو الأساس لكل موضوع!

عرضنا فيما سبق رأي فيلسوف معاصر، لم يمض على موته أكثر من عام، عن الحاضر والحضور. ولاشك أنه متصل بفلسفة صاحبه عن الوجود، كما ينطوي على قدر غير قليل من التعسف والغموض، وهو لم يصادف على كل حال ما يستحقه من عناية واهتمام لاسيما من أصحاب العقل الذين يعولون عليه في شئون الحساب والقياس والتقدير.
لقد آمنت الأجيال السابقة كما يؤمن الجيل الحاضر بأن العلم الطبيعي والفلسفة المرتبطة به هما وحدهما القادران على الكشف عن جوهر الأشياء وتحديد امكانات التجربة، أي أن العقل الذي يحسب ويقيس هو وحده القادر على كشف معني الواقع، ولاشك أن معهم الحق في هذا ما بقوا في مجال العلم والعمل وتصريف شئون التقدم والمعاش.
غير أن الإنسان كان يحس على الدوام بعالم آخر مختلف تمام الاختلاف تحرك شخصياته وصوره الوجدان، ويضفي على الوجود كله كرامة وجلالا ومجدا يعجز عنه البحث العلمي ولا يكاد يعرف عنه شيئا.
ذلك هو عالم 'الشعراء' وعالم 'الأساطير' و'الطقوس' عند الشعوب القديمة والشعوب الفطرية.
فلنحاول أن نفسر ظاهرة الحضور من وجهة نظر الشعر والأسطورة والطقوس تفسيرا جديدا.
ترددت شكوى الإنسان الدائمة  كما رأينا  من زوال وجوده وتناهيه وانقضائه، وليس من المحتمل أن تتوقف هذه الشكوى، وما ينبغي لها كذلك أن تتوقف. فليس من قبيل الصدفة أن يقول المتنبي:
'صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
عناهم من أمره ما عنانا'
ولم يكن من قبل الصدفة كذلك أن تتردد شكوى الزمان على السنة الحساسين من الأدباء والمنشدين في الحضارات القديمة، غير أن شكوى الإنسان كانت تقابلها على الدوام معرفته بما لا يزول أو ينقضي، وإحساسه بالأيدي غير الزمني، وشعوره بسكينة مقدسة، أشبه بصخرة تتدافع حولها أمواج الزمن والصاخب وتحطم عليها.
وقصيدة ليو باردي '1798  1837' التي جعل عنوانها 'اللامحدود' تعبر عن هذه المواجهة بين الأبدي والزماني:
'غاليا على نفسي كان على الدوام هذا التل الموحش
وهذا السياج الذي يسد منافذ الرؤية
من كل جانب من جوانب الأفق البعيد
غير إنني عندما أجلس وأنظر،
تتمثل لفكري الأماكن الشاسعة هناك
والصمت وراءها يفوق قدرة البشر
والسكينة العميقة العميقة،
فيوشك قلبي أن يتزلزل من الرعب
وكلما سمعت الريح تعصف بهذه الأغصان
وجدتني أقارن بين الصمت العظيم هناك
وبين هذا الصوت،
وأتفكر في الأبدي،
في الأزمان التي ماتت ولا تزال الآن حية
وفي الصوت الذي يتردد منها.
وهكذا يغوص فكري في اللامحدود.
وأشعر بعذوبة الغرق في هذا البحر'.
الإنسان إذن يعيش في الزمن والأبد معا، 'فالروح لها عينان' عين تتطلع للحاضر وتحن الأخرى للأبد' كما يقول أشهر شعراء التصوف عند الألمان، وكلما ازداد حنين عين للأبدية، ازداد تألم العين الأخرى لانقضاء الزمن وزواله، ازداد عذابها بيقين الموت المحتوم' فحتى الجميل يتحتم عليه أن يموت كما يقول 'شيلد'! إن الزمان يعيد إلي قبر الماضي كل مولود يولد، بعد أجل موقوت وحضور عابر.
ولقد حرك هذا الشعور  كما رأينا  وجدان الإنسان منذ آلاف السنين، وأراد الكثيرون أن يحولوا أنظارهم عن الزمن كي يتطلعوا إلي الأبدية وحدها.
وتنافس الدين والفلسفة في سلب كل قيمة عن الزمني والمنقضي، والبحث عن الحقيقة والوجود في الأبدي واللازمني، ولقد شعر البعض بالراحة وتنفسوا الصعداء عندما قدمت لهم فلسفة 'كانط' الدليل تلو الدليل على أن المكان والزمان لا شأن لهما بوجود الأشياء ذاتها، وإنما هما من شأن الطبيعة البشرية، صورتان قبليتان للحدس أو العيان قائمتان في وجدان الإنسان.
ومهما يكن من قوة هذه الأدلة أو ضعفها، فقد احتجت التجربة الحية عند أصحاب الرؤية من الفنانين والشعراء أشد احتجاج على ما قاله 'كانط' عن مثالية المكان.
أما مشكلة الزمان، فيبدو أنها كانت ولا تزال أقرب لوجود الإنسان وأغني بالألغاز.
وهل هناك أشد إيلاما من اليقين بأن كل ما حولنا، ونحن أيضا، سنغوص ذات لحظة في الماضي لنصبح 'خبر كان'؟ أي شيء أبعث على الحزن من العلم بأن 'الميت' في هذا العالم يزيد ملايين المرات عن 'الحي'، وأن وجودنا الذي يمتد الآن بجذوره في الماضي يسرع دون توقف نحو اللحظة التي سيتلاشى فيها؟!
أليس من حق الإنسان أن يلتمس العزاء في حقيقة خالدة لا تمتد إليها يد الفناء، وأن يعد الزمانية من علامات النقص في وجوده الأرضي؟!
ألم يعمد الإنسان منذ القدم إلي وصف أربابه بالخلود، في الوقت الذي كان يتبين له فيه عجز كل ما هو بشري وتبدده كالدخان!
غير أن هناك نظرة أخرى للعلاقة بين الزمن والسرمدية: إن السرمدية نفسها تحضر في الزمان، وأبعاد الزمن الثلاثة يمكن أن تصبح كلها حضورا سرمديا في أزلية الماضي، وأبدية المستقبل، وخلود اللحظة الحاضرة.
بل ربما وجدنا من 'الشعراء' من يقول بأن 'الإلهي' نفسه في سرمد يته محتاج للرمانية وللإنسان، وأن للزمني كرامته ومكانته وثراءه بالوجود.
لن تنقطع الشكوى إذن من الزوال والانقضاء ولكن لا ينبغي لهذه الشكوى أن تتحول إلي اتهام، فيعمي المتهم عن معجزات الوجود التي يمر بها مرور العابرين، وتغفل عينه عن الحضور الذي يناديه من أعماق 'النهر' الذي 'مضي' ومن وراء 'البحر' الذي أوشك أن يظهر السفين، ومن قلب الواقع الذي يكشف الأقنعة لكل من يريد أن يري وجهه الخاطف البريق.
وماذا يكون حال الوجود أن خلا من جلال الماضي، وانتظار المستقبل، ونشوة الحاضر؟ هل يمكن أن تنعكس عليها جميعا روعة الحاضر؟
يقول الشاعر 'شيلر' في حكمة على لسان 'كونفوشيوس':
'ثلاثية هي خطوة الزمان:
مترددا يأتي المستقبل على مهل
وفي سرعة السهم طار الآن
والماضي ساكن سكون الأبد'
عرف الناس في كل العصور والبلاد أن كل شيء يسرع إلي قبر الماضي، وأن الحاضر عابر والمستقبل مجهول. وتنطق العرافة 'كاساندرا' بلسان الغيب فتحذرنا من عبث الوجود الأرضي، وذلك في قصيدة 'شيلر' عيد النصر.
'غدا يتهدم كل كيان
غدا سيرف رفيف الدخان
وتبقي من الأرض أمجادنا
وتبقي على الدهر أربابنا
مخلدة تتحدي الزمان
وحول الجواد ورأس البطل
تحوم الهموم، وحول السفين
ستمضي الحياة ويذوي الأمل
فهيا نعش يومنا يا صحاب!'
ولعل 'شيلر' كان يردد نفس الدعوة التي عبر عنها قبله شاعر الرومان 'هوراس' عن رغبة الناس في الاستمتاع بيومهم قبل أن يتحسروا عليه:
'بينما يمضي الوقت في الكلام
سيولي العمر الغيور بالفرار
لهذا أقطف يومك'.
ومع ذلك فقد كان الإنسان يشعر على الدوام بأن الماضي لا يزال موجودا وأن يكن كل شيء قد انقضي. وكانت تجربته العريقة تعلمه إن الماضي لم يزل له وجود 'من حيث هو ماض لا من حيث النتائج التي ترتبت عليه'.
والأهم من هذا أن الإنسان جرب الخلود وعرف الأبد في هذا الماضي. لم تأت تجربته أو علمه من عالم آخر أو قوة أخرى بل جاءت من الزمان نفسه. فاللزامني أو الخالد ليس غريبا عن الزمن كما نتصور، بل كلاهما متعلق في وجوده بالآخر، وكلاهما ينبع من الآخر باستمرار.
وخطوة الزمن الثلاثية التي ذكرها 'شيلر' في حكمته الشعرية تؤكد لنا بالصورة الموحية ما تعجز مفاهيم العقل على إيضاحه: 'إن أنواع الوجود الثلاثة في خطي الزمان تكشف جميعا عن اللازمني أو السرمدي.
كان يقين الموت المحتوم ولا يزال هو الشاهد القاسي على أن كل شيء يمضي، وأن كل وجود على الأرض يفني ويزول. وترددت أقوال الأدباء والمفكرين التي لا يجدي حصرها عن أن 'ساعة الميلاد هي ساعة الموت'، و'أن الطفل يولد شيخا ناضجا للموت' 'ولما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد...'
وعبر 'هيجل' عن هذه الأفكار أفضل تعبير حين قال على طريقته:
'إن وجود الأشياء المتناهية، من حيث هو كذلك، ينطوي على بذرة الفناء يوصفها وجودها في ذاته، فساعة ميلادها هي ساعة موتها'.
وسرت نقمة الوجود للموت في فلسفة الوجود المعاصرة مسري النار في الهشيم، تغذيها فظائع حربين عالميتين، وأخطار حرب متوقعة في كل لحظة، وأهوال الظلم والعسف التي تثقل على صدر عالمنا البائس'.
غير أن هناك صوتا قديما لم يقدر له الارتفاع فوق هذه الأصوات الناعية المكتئبة، وأن لم يكن أقل منها حرارة ولا صدقا، صوت لا يوافق على أن الموت هو الرعب الجاثم فوق صدر الطبيعة، ولا يملأ القلوب بالقلق والقتامة. ولا يزعم أيضا أن الموت هو المحرر الأكبر الذي يفتح لنا أبواب السعادة الأبدية. فليس الماضي في رأيه عدما، ليس شيئا فات وانقضي إلي غير رجعة ولم تبق منه  أن بقي شيء  سوي آثاره، وإنما هو عنده كيان مقدس، لا يقل في الوجود عن الحاضر أو المستقبل.
انه يعبر عن تجربة القدماء والأسلاف بأن الأجداد حاضرون في الأحفاد، وأن الماضي ترفعه الذكري وتصفيه وتعلى قدره.
فالموت وكل ما مات يبعث في النفس الخشوع، وربما صور لنا العلم أو ما نتوهم انه علم إن ما نسميه بعبادة 'الموتى والأسلاف' شيء تفسره حاجة الإنسان وعجزه وخوفه ووحدته في هذا الكون. ولكن الشهادة التي يقدمها تاريخ الشعوب من آلاف السنين أقوي من كل دليل. فكم من أساطير وكم من عادات وتقاليد عريقة قامت على وجود أولئك الذين عبروا بوابة الموت، وهو وجود رفيع القدر لا يقاس به وجود الأحياء.
صحيح أن الأسلاف عند من نسميهم بالشعوب البدائية أو الفطرية قد ماتوا وذهبوا. ولكنهم كأموات لا يزالون موجودين وجودا واقعيا يفوق كل وجود. أنهم يرجعون إليهم في كل احتفال، ويهيبون بهم في كل موقف تكشف فيه الحياة عن أعماقها الأصيلة: في الموت والميلاد والزواج، في الزرع والحصاد، والخصب والجفاف. هم الغائبون الحاضرون على الدوام، وجوههم تطل عليهم، وأصواتهم تباركهم وتشد أزرهم، أو تلعنهم وتحذرهم.
هل نحن بحاجة إلي شواهد عن هذه العقيدة الأصلية التي تستند إلي التجربة الأولي للإنسان؟ هل يكفي أن نذكر أسماء الأبطال وهم حالة واحدة من حالات الفناء الذي يسري قدره على كل الأشياء وينقلها إلي وجود آخر هو الذي نسميه الماضي؟!
أليس هذا وجودا ساميا رفيع القدر، يصل عند بعض الشعوب إلى رتبة الوجود الإلهي نفسه، وان لم نكد نفهم عنه اليوم شيئا نحن الذين نحيا على السطح ونلهث وراء المنفعة، ونكبر من شأن العقل الذي يحسب ويقيس ويغفل عن نبض الواقع الذي اتصل به قلب الإنسان منذ القدم؟!
إلا يكفي إن ننظر لحياة الفلاح المصري والعربي، وحياة الكادحين في بلاد النهرين لنري كيف يحددها ويسيطر عليها وجود الآباء والأجداد والأولياء بل قبورهم التي لا يكفون عن زيارتها والتبرك بها؟
عرفت أساطير الإغريق عالم الموت السفلي، ونسب شاعر الاوذيسة للأموات وجودا في 'هاديس' اقرب للظلال وان يكن وجودا على كل حال، لان الحياة الحقة عنده وعند سائر اليونان هي الحياة تحت الشمس.
ولكن أقدم أساطيرهم وعقائدهم الشعبية تكرم الموتى وترفعهم إلى مصاف الإبطال، بحيث أصبحت صورة البطل الإلهي جزءا لا يتجزأ من الديانة الإغريقية.
والعهد القديم يصف 'صمويل' الذي بعث حيا من بين الأموات بأنه 'الوهيم' أي بنفس الكلمة العبرية التي تدل على الله.
إما الرومان فكانوا يحعلون من أمواتهم آلهة، حتى طغت هذه العقيدة على تقاليد الموت عندهم فالأسلاف الذين ماتوا كانوا حاضرين دائما في كل احتفال بدفن الموتى، وكان المألوف إن يحمل بعض الممثلين أقنعتهم وشعاراتهم وهم يسيرون خلف جنازتهم بل إن اللغة اللاتينية تصف الأجداد بأنهم 'العظماء'.
الماضي موجود إذن في عقيدة الإنسان وتجربته الأصلية، بل انه ليتحول في ذاكرة الأحياء ذلك التحول الذي تصفه اشنودة 'ارييل' في مسرحية 'العاصفة' لشكسبير، وهي الأغنية التي نقشت كلماتها على قبر الشاعر الغريق 'كيتس' في روما:
'لاشيء منه قد ذوي أو شحبا
بل استحال تحت البحر عجبا
أبهي من الكنز سنا واغرب'.
والأعجب من هذا التحول نفسه هو ما تمخض عنه، وهو الكلمة كان الشعر هو الثمرة التي ازدهرت على شجرة الماضي المقدس، كانت الكلمة هي ابنته المقدسة. وهل كان في مقدور الروح إن تبتدع ما أبدعت من روائع القصيد لو لم يكن للماضي وجود اقوي من كل وجود؟! الم يكن الشاعر القديم  في أدبنا وأدب غيرنا¬ يفتخر بقدرته على إن يمنح بغنائه الخلود لمن يشاء، وينزل أللعنة الأبدية على من يشاء؟!
أكان من قبيل الصدفة إن تعتز القبيلة العربية بشاعرها الذي يشيد بأمجادها وان يرفع الروما من شأن شاعرهم الذي يصفونه بأسم 'الفاتس' أي الرائي أو الملهم والعراف؟
أيرجع الفضل في هذا الغناء لموهبته الشعرية، أم لقدرته على استقبال الماضي والاشتغال به؟! ألم يكن هذا الماضي في انتظار من يخلده لا ماضي بطل فرد مات، بل الماضي نفسه الذي أصبح له نوع من الوجود الإلهي؟ ولماذا أصبحت ربات الفن 'الموزاي' عند الإغريق هي أصوات الحقيقة، ولماذا أطلقوا على اسم أمها 'المينموزينه' أي ربة الذاكرة والتذكار، وجعلوها اشد الأرباب قربا من زيوس رب الأرباب؟! صحيح إن 'الموزاي' تتغني ايضا بالحاضر والمستقبل الإلهيين، ولكن واجبهن الاسمي هو الارتفاع بالماضي إلى بهاء الخلود. ولهذا لم يعرفن شيئا عن ظلمة الموت وجهامته. ولهذا ايضا نري الشاعرة 'سافو' تعلم ابنتها إن النواح حتى على الأموات غير مباح في حضرة ربات الجمال:

'فالبيت تعبد فيه ربات الجمال
لا يستباح به النواح
لان هذا لا يليق ولا يقر به السماح!'
ونخطىء لو تصورنا إن الشاعر الحق يتغنى بالجميل والجليل ويخلده لأنه شيء فريد فحسب، فعالم الماضي كان يتشابك بإلحانه العديدة في أغنية الشاعر التي نتعلم منها معني الخلود.
في وجود الماضي، وفيه وحده يسطع نور السرمدي، هنا ايضا نجد أصلا من أصول الخلود الأبدي، وهو شيء مختلف كل الاختلاف عن اللازمانية أو لانهائية الزمان.
إن طقوس العبادة لدي الشعوب القديمة هي في صميمها طقوس تذكر وتكرار دقيق لما قامت به الآلهة نفسها في الأزمنة السحيقة من أعمال. صحيح إن هذا جانب واحد من حقيقة هذه الآلهة التي تنجلي كذلك¬ كما سنري فيما بعد¬ من جهة الحاضر والمستقبل، لكن الحديث عن الرب الخالد منذ الأزل وتسميته بالأب القديم أمر عرفه الإغريق والرومان 'الذين وصفوا الآلهة القديمة بالآباء'، كما هو معروف عند الشعوب الفطرية حتى يومنا الحاضر، مما يؤكد إن التفكير في الألوهية وفكرة الخلود نفسها مرتبطة بالماضي بأوثق رباط.
وليس من قبيل الصدفة أيضا إن تصف المسيحية الله بأنه 'الأب'، ولا إن يجمع شاعر اوروبي حديث هو 'جوته' بين هذا التصور المسيحي وبين أقدم الأساطير والمعتقدات في قصيدته المشهورة التي تذكر الإنسان بالحد والاعتدال، وتحذره من أن يقرن نفسه بالآلهة:

'عندما يبذر الأب المقدس الموغل في القدم
بيده الساكنة من السحب الدوارة
بروقا مباركة فوق الأرض.
أقبل طرف ردائه
تجرفني رعشة طفل
تتملك مني الصدر
بالرهبة والتحنان
إذ لا يخلق بالإنسان
إن يقرن نفسه بالأرباب
فان ارتفع بنفسه
وبهامته لمس الأنجم
لن يثبت كعباه المرتعشان
في أي مكان
بل سرعان
ما يصبح لعبة
في كف السحب وكف الريح'.
هذه الملاحظات التي سقناها عن الشعوب التاريخية القديمة، أو شعوب ما قبل التاريخ، تبين لنا إن الإنسان كان يحيا في الماضي ويغترف من نبعه الأصلي بمقدار ما يزداد قربه من الطبيعة الأم. من هنا استمدت الشعوب القديمة ثباتها وصمودها.
لم تكن آلهتها تبشرها بالمستقبل أو تحمل لها الوعود، بل كانت تهيها الحقيقة وثراء الأصل.
إما الاتجاه الحاسم للمستقبل فهو شيء جديد وطارىء. لم تعرفه أوروبا إلا في مطلع العصر الحديث.
لقد ظلت تحلم بالمستقبل وتصوره في 'يوتوبيات' 'مدن مثالية' على لسان أدبائها ومفكريها منذ عهد أفلاطون وربما قبله إلى يومنا الحاضر. ولكن هل عاشت في حضور المستقبل الذي ينجلي في السرمدية، أم ظلت تحلم بحالة مقبلة تبدو عليها الأشياء في صورة أكمل سواء أكانت دنيوية أو لاهوتية، علمية أو اقتصادية؟
لقد بدأ الحلم بالخلود مع أواخر عهد الديانة اليهودية وتبعته الرؤى المخلفة عن الكايروس أو لحظة الخلاص عند نهاية التاريخ أو بدئه من جديد كما تبعته رؤاها عن نهاية العالم، والحساب الأخير، والخلق الجديد.
فلما تبددت هذه الأحلام ولم ينته العالم ولا اكتمل.. ظهرت من جديد في صورة فكرة التقدم التي تحولت أشكالها منذ فلاسفة التنوير حتى المذاهب الفلسفية والاقتصادية المعاصرة. وابتعد الإنسان عن الطبيعة وأوغل في الصنع والتصنيع، وفقد القديم خلوده، وزالت عن الماضي قداسته.
رأينا من تجربة الإنسان الأولية في الشعر والأسطورة والحس الفطري إن الماضي لا يزال حاضرا، وان حضوره يتخذ صورة الوجود الذي يحوطه الشرف والجلال. ونفس الشيء يمكن إن يقال عن المستقبل فهو حاضر على الدوام في وجود عجيب يظهر في أشكال وظواهر لا حصر لها، تفطن أعين البشر إلى بعضها، ويختص قليل منهم بكشف السر عن بعضها الآخر. ولقد عرفت الشعوب القديمة إن العلم بالمستقبل يحتاج لموهبة أو إلهام مخصوص، فراحت تغدق على أصحاب الرؤية ألوان التكريم والتعظيم. وهدتها الخبرة الطويلة إلى أساليب مختلفة للملاحظة والتفسير والكشف والتنبؤ بما تأتي به الأيام.. ومراقبة أسراب الطير 'زرقاء اليمامة!' وظواهر الخسوف والكسوف والرعد والبرق وأحشاء الذبائح والأضاحي والأوبئة والحروب والمجالات... الخ عند العرب والإغريق والرومان اشهر من إن نتحدث عنها. والدور الذي يشغله الكاهن والمتنبىء. والعراف والمنجم والساحر والرائي عند هذه الشعوب أو غيرها ولا يزال يحتل مكانه في أعماق شعورنا اشهر من التعرض له. ومهما يكن من أمر التفسيرات والشواهد فأنها جميعا تقوم على هذه الظواهر الأولية أو هذه التجربة الأصلية: للمستقبل علامات وإشارات تسبقه، ولا يستطيع فهمها وقراءة حروفها إلا الموهوبون من أصحاب الرؤية والبصيرة وحتى ظواهر 'الكشف' المختلفة التي يدرسها اليوم علماء النفس تشهد بأن المستقبل حاضر بالفعل وقد ترك آثاره حولنا، مهما تكن ضآلة هذه الآثار.
إن تجربة اللقاء بالمستقبل تثير في النفس شعورا عجيبا. ليس من الضروري إن يكون هذا المستقبل المتوقع خطيرا، ولان إن يحمل في أحشائه النعمة أو النقمة فالمهم إن يصبح حقيقة حية. وكلنا يشعر إن فرحة الانتظار اصفي وأجمل من سعادة التحقيق. وكلنا يدعو الله في سره إن يحميه من ألم الرغبات المتحققة، ويحييه على أمل الوعد والرجاء..
وسعينا الدائب إلى المعرفة يستمد حرارته وإخلاصه من وجود المستقبل.. والأمل في العدالة والسعادة والمحبة والخير، تجربة يعيش عليها الأدب والفن والفكر والحياة اليومية لأن الإنسان بطبيعته حيوان أمل، ولو فرض إن تحققت هذه المثل والقيم والآمال لتوقف الزمن وامتنعت الحياة. وستظل كلمة الأديب الناقد الألماني 'ليسنج' تتردد في الآذان ككل الكلمات الصادقة:
'ليست الحقيقة التي يملكها إنسان أو يتصور انه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذله في التماسها والسعي إليها. فليس تملك الحقيقة هو الذي ينمي قواه وطاقته، وإنما البحث عنها هو الذي يعمل على تفتحيها، وفيه وحدة تمكين قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولا ساكنا مغرورا ولو إن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وترك الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه، ومد نحوي يديه المضمومتين وهو يقول: 'اختر بينهما'! لركعت أمامه في خشوع وهتفت وأنا أشير إلى يسراه، رب! أعطني هذه ! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك'!
غير أن وجود المستقبل لا ينطوي على الأمل والوعد فحسب، بل قد ينذر بالهول والدمار. هنالك يسيطر على كيان الإنسان بحيث يصبح بصورة من الصور هو هذا الوجود نفسه. كذلك كان العرافون والعرافات 'السبيلا' والمتنبئون وأصحاب الرؤية، بل كذلك يكون العبقري الذي وصفه 'هلدرلن' في أنشودته عن 'روسو':

'فروحة تطير كالنسور
لتسبق الرياح والأفواء
معلنة عن موكب الأرباب
وكذلك يكون المنشدون 'والمقدسون' الذين عبر عنهم 'هلدرلن' في قصيدته المعروفة 'خبز ونبيذ' فحرفتهم هي سبق الزمان ولهذا يسبقون الأقدار العظيمة ويحيون في خدمتها وطاعتها. ولهذا ايضا يستمعون في حياتهم الحاضرة إلى صوت المستقبل:

'الحكمة في شرعتنا أغنية المهد
تغطي العين بليل أقدس
لكن ما أكثر ما يتوهج
بين السحب الرنانة
صوت اله الزمن يحذر'.
قد يكون صوت المستقبل متوعدا أو واعدا، قد يكون وجوده رائعا أو مريعا، فإشارات المستقبل على الدوام تلفها هالة إلهية، ولهذا كانت وستبقي محفوفة بالرهبة والجلال. وهي تحمل على كل حال أثرا من آثار 'معجزة الأصل' و'تجربة المنبع' ولكن هذه المعجزة وهذه المعجزة وهذه التجربة ليستا سرا غيبيا لا يفهمه إلا الصفوة. أنها ماثلة في الطبيعة المحيطة بنا، وان كانت تحتاج إلى العين المندهشة لتراها خلف سطوح الأشياء:
في الطفل المولود الذي يختبىء فيها المستقبل وكل ما يحيط به من رهبة ورعشة وأمل وخوف، في ابتسامة الأم الشابة التي تبتسم لوليدها فيرتفع بها صفاء الابتسامة من المرأة المحدودة إلى الأصل الراسخ البعيد، إلى المرأة والأم والربة إيزيس والأرض الأم التي ولدت ابن السماوي وتصبح الأم الصغيرة رمزا للميلاد الخارق الذي سجلت به الأسطورة وشعائر الطقوس القديمة رؤيتها للمستقبل في مولد البطل الرب، أو الرب البطل، هكذا تحدث المستقبل منذ القدم للإنسان، هكذا كشف له عن وجهه الرهيب أو وجهه الحبيب.
في كل هذه الرموز والأحوال 'يحضر' المستقبل نقف منه موقف الحب والشوق كما وقفنا من الماضي وقفة الخشوع والإشفاق.
صحيح إن شوقنا إليه أو إشفاقنا منه لا يخلو من الحاجة أو المنفعة، والرغبة أو الرهبة، ولكن الشاعر الحق هو الذي يملك الرؤية الخالصة ويتحدث إلى المستقبل حديثه لوجود لا محدود يحس دبيب خطواته ويشعر بنبضه وينفتح على وجوده ويعين القلوب على الإحساس به. فالشاعر يسكن سكنا شعريا فوق الأرض، وهذا الشاعر الذي اقتبستا بعض أبياته منذ قليل هو الذي يختتم قصيدته إلى العروس بهذه الأبيات:

لا أيها الأحباب!لا! إني لا أحسدكم
فالشعراء يعيشون دون أن يؤذوا أحدا
كما تعيش الزهرة على النور
وتطيب لهم الحياة على الصورة الجميلة
حالمين، سعداء، مساكين.
لكن هؤلاء الحالمين المساكين هم الذين يحيون في ماء النبع الأصلي. وهم الذين يعيشون تجربة الحضور. سواء أكان حضور الماضي الرهيب أم حضور المستقبل المحبوب. وليس هذا مقصورا عليهم أو على واحد منهم ذكرناه، فالإغريق كانوا يحتفون بالربة 'خاريس' ويعدونها ربة النعمة الماثلة في كل ما يزدهر ويوسي بالأمل.
عرفوا أنها هي الروح التي توقظ الغناء، لا بالماضي وخلوده¬ ومنه يتدفق كل شعر عظيم¬ بل بالحب والمعرفة بالمستقبل. بحضوره غير المحدود. وليس من قبيل الصدفة إن كان للعراف والعرافة في أدبهم كل هذا الشأن.
أراد 'زينون' الايلي أن يؤيد فلسفة أستاذه بارمنيدس بكل وسيلة، فراح يثبت بمفارقاته العجيبة أن الزمن يتألف من أنات. وعبثا حاول 'ديوجينس الكلبي' أن يفند مهزلته الحزينة عندما فك عقدتها برجسون والرياضيون المحدثون¬ كالصخرة العنيدة التي يتحطم عليها كل سفين. وبدا كأن الناس لا تجرب حياتها إلا في أنات تعقبها أنات، وكأن صاحبنا القديم قد جمع أبعاد الزمن كلها في هذه 'الآن' لكن الواقع يشهد بأن الإنسان يقضي حياته في الماضي أو في المستقبل، وان تجربة 'الآن' من التجارب النادرة في حياته، فإذا أراد أن يجرب الحضور الحق في اللحظة فلابد أن تنبهه الأشياء وتوقظه بقوة، ولابد إن يملك القدرة على رؤية الأعماق الكامنة وراء السطح والكشف عن الأقنعة التي خلقتها العادة: هنالك يكشف الواقع عن وجهه الملكي أو وجهه الإلهي.. ولهذا لن يدهشنا أن نجد المتصوفة من أصحاب الرؤية في الشرق والغرب على مر العصور هم أول من يحدثنا عن تجربة' الحضور الكامل' وعن اللحظة الخالدة أو تجربة 'الآن' الخارج عن الزمان.
الطبيعة كتاب مفتوح لكل من له عين. وكلما ازدادت العين حدة والنظرة نفاذا تفتحت لنا الطبيعة وأعطتنا كل كنوزها غير إن الإدراك الحسي لا يكفي، وأعضاء الحس لا تمكننا من إدراك اللب والجوهر، ولاغني لنا عن رؤية الروح كي نتأمل نشاهد ما لا نراه بعين الجسم.
ولابد إن يرتفع وجودنا نحن كي نلمس حقيقته، وكلما ازداد حظنا من العظمة، كشف لنا العالم عن عظمته. فاللحظة التي تنكشف فيها روعة الواقع هي نفس اللحظة التي ترفع وجودنا إلى السمت، هنالك نتطلع برعشة السعادة المجهولة إلى المجهول الرائع وجها لوجه. قد يكون شكلا من أشكال الطبيعة، حادثا عاديا مما يجري في حياة العالم أو حياة الناس، فسيعلن اللامحدود عن نفسه في كل مرة، سندرك الكل بنظرة واحدة، سيتجلى الإله في كل ما هو أرضي، سيطل علينا في اللحظة السرمدية: اللحظة التي يتوقف عندها الزمن، أو التي أوقفت الزمن حتى يتم اللقاء بأنفسنا والأخر..
عندها نجرب الحضور الكامل، الحضور السرمدي. عندما لا يعود 'الحاضر' شكلا من أشكال الزمان ولا بعدا من أبعاده، بل الخلود اللازمني الذي أتيح لنا أن نقبس لمحات من برقه ونلمس ومضات من ناره.
إن كل ما قلناه عن الماضي والمستقبل، وما نقوله الآن عن الحاضر تؤكده تجربة 'جوته' في شيخوخته بعد أن بلغ الثمانين من عمره وكتب أحدي فصائدة الفلسفية المتأخرة بعنوان 'وصية' '1829':
'النعمة بين يديك، فمتع نفسك بالقسطاس
وليكن العقل رفيقا لا يتخلى عنك،
حيث تسر حياة بحياة
عندئذ يبقي الماضي ويدوم
والمستقبل يصبح حيا قبل أوانه
واللحظة تصبح بيت الأبدية'.
إن الحاضر الحق يشبه دائما إن يكون كيننا ينظر للإنسان، عينا تصيب وجوده وتغوص به في أعماق وراء أعماق. ولابد أيضا أن تكون أقصي درجات الحضور هي درجة 'الجذب' أو الوجد¬ أو ما شاء أن يسميه أصحاب الرؤية من أفلوطين إلى اليوم! حين يتم حضور الواقع الحق وتتعانق 'الأنا' و'الأنة' بحيث لا يبقي في النهاية إلا الوجود اللانهائي.
ليس من قصدنا أن نطرق باب هذه الحضرة بكلمات اللغة وتصورات الفهم العاجزة بطبعها عن ولوجه ولن نتخذ موقفا من الخلاف بين أهل البصيرة حول هذا اللقاء: أهو إثبات للأنا أم اتحادها في الآخر وتلاشيها. فكل ما يهمنا هو أن نشير إلى معجزة الحضور في اللحظة الخالدة، حيث يجد الإنسان نفسه ويكون لقاء الانا مع الانت هو في نفس الوقت لقاء الانا مع ذاتها.
في تجربة اللحظة الخالدة يكتمل وجود الإنسان كما يكتمل الوجود نفسه. تبقي نظرة عين واحدة¬ كالشمس¬ تحاول أعيننا أن تتملي فيها حيث نشارك في الابد الخالد أو نصبح نحن الأبد الخالد، وليس أقدر من 'الحب' على التعبير عما نعجز عن التعبير عنه. وشواهد الحب ماثلة في حياتنا اليومية مثولها في قلوب المحبين الخالدين فلننظر إلى ما يقوله الشاعر 'جوته' على لسان الحبيبة في قصيدته 'الحبيبة مرة أخرى':

'هكذا وقفت أمامك، كي أتطلع أليك،
ولم أقل شيئا، وماذا كان لي أن أقول؟
كان كياني كله قد اكتمل في ذاته'.
لقد اعتاد الناس أن يمروا ببعضهم البعض مرور العابرين دون أن يري أحدهم الآخر رؤية حقه. ويظل الحال كذلك حتى تصيبهم النظرة الخالدة، ويسطع الحاضر سطوع البرق، 'تجربة الحب الحقيقي عند المحبين الحقيقين!' وقل نفس الشيء عن لقائنا المعتاد بالسماء والأرض، بأشكال الوجود المختلفة، بالأحداث الكبرى والصغرى: فكلها يمر بنا ويعبرنا، وإذا التفتت إلينا أو التفتنا إليها، نظرت إلينا من خلف قناع. وبينما نحن تاتهون عنها في حلم أو كابوس لا نفيق منه، إذا باللقاء يتم فجأة، تشرق الحقيقة، يتفتح الوجود، ندخل تجربة الحضور. فإذا توافر للتجربة العمق، ولعين الروح الدهشة والصدق، بدا كأن إلها يمعن النظر فينا من خلال لقائنا بالأحباب والأعزاء ومختلف الصور والأشكال والأحداث¬ مهما تكن ضئيلة أو تافهة الشأن في عين الحياة اليومية والعملية.
'كن نفسك'! تلك هي الحكمة التي لم يكف عن ترديدها الحكماء، وفي 'المواجهة' و'اللقاء' يكون الإنسان هو نفسه، وحين يفني في الأخر يكون بكليته. والعكس صحيح.
'من عرف نفسه فقد عرف الله'. هكذا يقول الحديث الشريف.
'كوني أنت نفسك أكن لك' هكذا يخاطب الله نفس الإنسان على لسان 'نيقولا الكوزاني' '1401 163' وعندما يري الإنسان بحق ويخاطب بحق، أي عندما يري الإنسان بحق ويخاطب بحق، أي عندما تصيبه نظرة الآخر أو كلمته في الصميم، يصبح هو نفسه. عندئذ يتحول الجسد والروح إلى كيانهما الخالد، يستجيبان محضة. عندئذ يتحول الجسد والروح إلى كيانهما الخالد، يستجيبان لحضور كيان رائع. يجد الجسد نفسه فيرقص استجابة لمعجزة الحضور 'فينطلق بالغناء المعبر عن روعة الكيان الذي حل فيه وتملكه كما نجد في الشعر الغنائي عند كبار المحبين عندنا أو عند غيرنا'.
كذلك يخطو الإنسان الذي مسته روح الإله وهو يؤدي الطقوس أو بالأخرى يتركها تؤدي نفسها فيه. ويصبح هذا الحضور الكامل علامة على حضور الإله، بالخطوة الخفية، والإشارة الرائعة، والإيماءة المهيبة ، بوقفة التعظيم والإجلال. هنا مهد الدراما والشعر البطولي، فلم يكن كلاهما سوي الترحيب بالإله.
وأخيرا نقول إن الحضور ليس مقصورا على الطقوس وحدها. انه يمتد إلى أشكال الوجود وكل مواقف الوعي الحاسمة في تاريخ الإنسان: في فعل الخلق المبدع، في لحظة حسم ثوري، في كل لقاء حق، ساعة يولد طفل أو يحتضر الشيخ، في لحظة العلو فوق الكلي، ولحظة التحدي للفناء والزوال، في لحظة القرار والاختيار، لحظة استغراق في فضاء الكون الظاهر أو الباطن، في خيبة الأمل أو نشوة النصر، فيما نسميه اليوم بالمواقف الحدية... الخ.
ولقد عبر الأدب العظيم ولا يزال إلى اليوم يعبر عن أشكال الوجود الأصيلة التي تجسدت قديما في الأسطورة والطقوس.
وكان الشعر وسيظل اقدر من غيره على التعبير عن تجربة الحضور السرمدي التي يكشف عنها الماضي والحاضر والمستقبل، وتصبح 'الخطوات الثلاث' التي تغني بها شيلر ثلاثة وجوه للخلود والسرمدية. أنها لتفقد أشكالها الزمنية التي طالما اختلفت حولها العقول، وطالما اختلفت حولها العقول، وطالما حاولت قياسها كما يقاس المكان، ومدت لها حبال الديمومة في التذكر أو الانتظار، ولو التقي بها الإنسان كما ينبغي أن يكون اللقاء لأصبحت كلها حاضرا ممتدا في وعيه، ولأصبح وعيه الباطن هو وعاء الحاضر السرمدي 'فأن تكون واعيا معناه أن تكون خارج الزمان، على حد قول اليوت في رباعياته الأربع.. عندئذ يعي الموجود نفسه، كما يتم وعيه بالآخر وبوجوده هو نفسه وكيانه. عندئذ تتكشف له معاني كلمات نسمعها كل يوم، يثرثر بها معظمنا ويسعى أقلنا إلى فهمها والعمل بها. كالحرية، والتفتح، والشخصية، والمعني، والواجب، والمسئولية، والخلق، والإبداع، والقلق، والشجاعة، والحب، والتفاني، والصدق، والاصالة.. الخ.
عندئذ ترجع النقطة إلى البحر الذي انبثقت منه، أو قل تصبح هي البحر، يصبح ماضي العالم والإنسانية ومستقبلها حاضرا حيا في اللحظة.
عندئذ تكشف كل الأقنعة ونسكن بيت الأبدية ، نلمس نور البرق الخاطف أو يلمسنا.. نحيا اللحظة أو تحيانا.
عندئذ تصبح هي الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين إن يحملنها وحملها الإنسان.
وعندئذ نلمس السرمدية أو نكون نحن جزءا من السرمدية،، في لحظة وعلى فوق الزمن.

أخبار الأدب
الأحد 16 من مايو 2004