خيري منصور
(الأردن)

خيري منصور انها جهة من خارج البوصلة، منها تهب احيانا عاصفة تكنس كل ما تساقط من أوراق الخريف وما من بارومتر او ريختر يمكن ان يتنبأ بها لأنها تشبه الزلزال.
وصفها فيلسوف ألماني بأنها اللحظة الماكرة للتاريخ، وطالما حدس بها الشعراء لكن على نحو غامض، لعلّها جهة المستقبل الذي يعلن طلاقا بائنا مع حاضر رثّ، او لعلها الحلم المزمن بعد ان اوشك على ان يتحول الى كابوس. تلك هي جهة العصيان والركعتين في العشق اللتين لا يكون وضوؤهما الا بالدم، وما من قوة مهما عظمت تفك الاشتباك الخالد بين الثلاثة، العاشق والصوفيّ الذي خلع الخرقة وآخى بين الياسمين البكر والعتمة البيضاء والثائر الذي اجترحت قدماه طريقا في الغابة العذراء.. ثم مضى ليجترح أفقا آخر للصحراء ..
لقد ذبلت الابجدية وأغمدت اقمارها في سحابة من غبار، ولم يعد البدوي يخمش كالعصفور حبّة التين ثم يعفّ عن حليبها المرّ... لهذا نحن نمشي بهذه اللغة ولا نرقص بها، رغم انها مترعة بالنوافير، ولديها من طاقة التمرد ما لا تقوى لغة اخرى عليه، لأنها كما قال عنها جاك بيرك : لعلها الوحيدة بين لغات العالم الممهورة برسالة انطولوجية.
فهل انتقلت عدوى التدجين من الكائن الى لسانه بعد ان تحولت جمرة قلبه الى رماد؟ هي لغة بسعة امبراطورية مترامية الأرداف والاطراف معا، لكن من يرطنون بها من المستشرقين الذين ولدوا من صلبها بالانابيب حولوها الى معجم بحجم علبة كبريت، وغاب عنهم ان الكلمات تفكر لنا احيانا كما قال سارتر، وما ليس له اسم يصبح مشكوكا في وجوده، والعربية منذ جذورها حولت الوجود كله الى استجابة للنداء وهي الامنية على ما صدعت به النبوءة في صحرائها، ذلك النداء هو كُنْ ... فتكون، وبهذا المعنى تصبح الكينونة كلها مجرد صدى لكلمة هي التي كانت في البدء وفق الرؤى اليسوعية وهي التي اطبقت على صمت بليغ كشفتين هما سدرة المبتدى والمُنتهى!

* * * * * *

يكتب الشاعر والناقد 'إدمان' انه سمع ذات ضحى في مقهى في روما شبانا من العرب يتحاورون ولأنه لا يعرف العربية فقد اكتفى بالتناغم مع اصوات الكلمات وجرسها وايقاعاتها، فأحس على الفور بالحسد لشعراء هذه اللغة، فلا بد انها تعينهم على تعميق المعنى بالايقاع، لكن إدمان فاته ان كثيرا من شعراء هذه اللغة حرمهم المألوف اليومي من تداول لغتهم من الاصغاء الى ما أصغى اليه، لهذا فهم يمتطون المفردات للوصول الى المعنى، رغم ان الشعر كما حاول اودن ان يقدم تعريفا تقريبيا له لأنه يروغ من قبضة التعريف، جاء على شكل حوار سأل فيه الناقد شاعرا: هل لديك ما تريد ان تقوله شعرا؟ وعندما أجاب الشاعر نعم، قال له اود لو تحاول ان تطرق بابا آخر . فالشعر ليس مطيّة المعنى، انه المعنى ذاته!

* * * * * *

عندما قرر الامبراطور اغسطس نفي الشاعر الروماني اوفيد بعد كتابه الشهير 'فن الهوى' اختار له منفى من طراز يليق بالشعراء فقط، هو الجهة الخامسة بل الفصل الخامس من فصول السنة حيث لا شكل ولا ايقاعات ولا ما يدل على اي من الفصول الأربعة، ولعلّ اوفيد اهتدى الى مسخ الكائنات في تلك العزلة بحيث تشاركه اشجار الزيتون النائية اضرابه عن الحياة، فيتحول الزيت الى سائل كثيف بالغ المرارة، ليقول بعد ذلك ان راعيا بذيئا تعرّى امام صبايا يغتسلن على الشاطىء، فأفسد عليهن الغناء وحرية التعري والاستحمام في ضوء الشمس ...
الجهة الخامسة هي على الأرجح ما كان يفكر فيه 'غوته' عندما كتب روايته 'البلد البعيد' حيث البطولة كلها لحزن صبيّة تبكي طوال الوقت وهي تحلم ببلد بعيد، لم تسمع عنه ولم يقل لها أحد أين يقع!
كل ما في الأمر ان ذلك البلد الذي قد لا تكون له صلة بالجغرافيا كلها وبهذا الكوكب تحول الى ندّاهة، أفقدت الصبية واقعيتها لأن لديها من فائض الحنين الى ما هو غير موجود ما يكفي لأن تشعر بالاغتراب وهي في احضان أسرتها وذويها! وقد يكون الموت او ما بعد الحياة هو تلك الجهة الغامضة، خصوصا لدى من يولدون بسؤال وجودي لا ينقطع مع حبل سرّتهم، ولا يقنعهم ما يسمعون او يقرأون بإجابات شافية.. وقد تكون الجهة الخامسة هي المابعديات كلها، بدءا مما بعد الواقع وما بعد الجسد وما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ، لكن لتلك الجهة تُخوما لا يقوى على الاقتراب منها الا من تورطوا بوعي يجرح الحديد لصلابته، ويجرحه الهواء لفرط نعومته عندما يهجع في لحظة ما، وقد لا تصلح اللغة الداجنة التي توظف كمطية للمعنى للتعبير عن تجليات من هذا الطراز لأن للكلمات اجسادا تعانق وتُخاصر اذا حررت من تداول الثرثارين، وكان الشاعر ماياكوفسكي قد وصفها بنساء يخرجن عاريات أمام الملأ لأن الحمام الذي كنّ يغتسلن فيه قد احترق فجأة، هكذا يصف الشاعر كلماته وهي تخرج عارية من قلبه المحترق، لكن هناك من تتحول الكلمات لديهم الى اكياس من الفحم، بعد ان كانت ذات شِعر او اداء بريّ بكر غابات سوداء من شدّة اخضرارها!

* * * * * *

قد يكون الطريق الى الجهة الخامسة أبهى من الوصول اليها، تماما كما هو الحال في قصيدة كفافي عن 'ايثاكا' او قصيدة برخت عن مدينة 'بيلارس'. كفافي انحاز الى الطريق وليس الى الغاية منه وهذا احد تجليات العذرية اذا فهمنا بأنها تفرض على المصاب بها ان يفتعل العقبات كي لا يتحقق الوصال مع الحبيب. ورغم الافتراق في الهدف الا ان كفافي لا يبتعد كثيرا عن العذريين في عزوفهم عن الوصول، وهو ما عبّر عنه صراحة جميل بن معمّر، الذي قال بأن الهوى يموت اذا التقى بثينة، لكنه يعود ويتأجج اذا ابتعد عنها، لكأن الحنين في الحالتين هو المطلب والرجاء، وبلوغ الهدف يدمر هذا الحنين ويفرغه من سحره الآسر!
والمشترك الشعري قدر اقترابه من الجوهر يحذف الفروق بين الشعراء وتصنيفاتهم الفكرية والايديولوجية، فالشاعر والمسرحي الماركسي برتولد بريخت يشترك مع كفافي والعذريين العرب بهذه الهواجس، وقصيدته 'بيلارس' التي وعد الناس بأن يحققوا احلامهم اذا وصلوا الى عتباتها اصابها الزلزال لهذا يجب على الحالمين ببيلارس ان يواصلوا احلامهم ، لأن مقتل الرغبة والحنين هو في اشباعهما!

* * * * * *

كيف يمكن لمن توقف عن النموّ، كالفراشة او دودة القزّ عند طور العذراء، وفي الجهة الاولى ان يقترب من تخوم الجهة الخامسة المحرّمة؟
انها الجهة العصيّة على البوصلات والتي تهبّ منها الرّوح لا الرّيح!!!

القدس العربي
2011-05-20