عندما تمارس الكتابة، زمناً، تتكون علاقة خاصة وحميمة بينك وبين الأدوات التي تستخدمها - القلم، الورقة، الحبر، الرصاص، وتتشكل طقوس معينة، صغيرة وبسيطة لكنها أثيرة ومحببة إلى النفس، وهذه الطقوس تتكرر أو تتغير على نحو طفيف مع مرور الوقت.
مثل هذه العلاقة، ومثل هذه الطقوس، قد تتغير نوعاً ما، والى حد ما، عندما تنتقل إلى الكتابة عبر أداة أخرى أكثر تطوراً وأكثر أهمية.. الكمبيوتر.. وعلى الرغم مما يوفره هذا الجهاز من إمكانيات جمالية وسرعة في الإنجاز ودقة ووضوح، وغير ذلك من الإنجازات والمميزات العظيمة، إلا أنني شخصياً لا أشعر بميل إلى الكتابة عبر هذا الجهاز.. لا أعرف سبباً واضحاً لذلك.. فأنا لا أرفض التكنولوجيا، ولا أناوئ عملية التطور والتقدم، كما أنني - جوهرياً - لست رجعياً، بل أقف مع تجديد حياتنا وأفكارنا بكل الوسائل المتقدمة الممكنة.
لا شك أن موقفي من الكمبيوتر متخلف ولا يتواءم مع الألفية الثالثة، أدرك هذا لكنني أدرك أيضاً أنها ليست تهمة خطيرة تستحق العقاب.. ربما لأنني أنتمي إلى صنف من البشر يحاول جاهداً التشبث بمفاهيمه البدائية.. لقد كنت دائماً أشعر بأنني متخلف عن العصر الذي أعيشه، بأنني أتقدم خطوة وأتراجع خطوتين كلما مرّ عام، وبعد كل خطوة يستوقفني حنين موجع إلى أيام مضت.
هذه الطبيعة، وهذا التكوين النفسي والعاطفي، لا بد وأن يحدّد مستويات النظر إلى العالم، إلى الأشياء، والى أشكال التعبير أيضاً. كما أنه يرسم علاقتك بكل هذا، ويوجهها، ليس بالضرورة أن تنسجم مع أسس وسمات وعناصر هذا العصر، أو أي عصر، لكي تقدر أن تعيش فيه.
المهم أن تنسجم مع ذاتك، مع بواعثك، مع تكوينك الفكري والأخلاقي انك تبحث عن باعثك الأساسي للحياة.. عن معنى لوجودك.. وقد تجده في مكان ما.. قد تجده في الكتابة، مثلاً.. عندئذ تتمسك بهذا الشيء لأنه بالفعل يحقق لك المعنى.. من وجهة نظرك على الأقل، ولكي تعبر بالكتابة، تحتاج إلى أدوات معينة، بسيطة ومتاحة، مثل القلم، أو الآلة الكاتبة أو الكمبيوتر.. لكنها ليست أشياء أساسية في عملية الخلق الفني، فهي لن تملي عليك ما تكتب، بل أنت من يملي عليها.. بكل دواخلك، ومخيلتك، وذاكرتك.
الآن، لا تعنيني أدوات الكتابة قدر ما تعنيني الكتابة ذاتها، ما أريد أن أطرحه من رؤى وتخيلات وعلاقات وأشياء عبر وسيلة التعبير الوحيدة التي أعرفها: الكتابة.
أن تمسك قلماً أو تجلس أمام شاشة الكمبيوتر، فهذه أشياء يمكن تعلمها في فترة بسيطة، لكنها لن تخلق منك كاتباً ما لم تمتلك تلك الطاقة الروحية التي تحرك مشاعرك وعواطفك وأفكارك، وتدفعك بإلحاح إلى التعبير عنها عبر الكتابة.
لا أريد أن أخوض جدالاً لا طائل من ورائه، فأدافع عن أدواتي أو انتقص من شأن وقيمة الأدوات الأخرى. أعرف أن أغلب الكتاب صاروا يفضلون الكمبيوتر ويستمتعون به إلى أقصى حد.. أما عن نفسي، فكل ما أحتاج إليه: مجموعة من الأوراق البيضاء، قلماً رخيصاً، علبة سجائر، حجرة صغيرة متواضعة، ونافذة أحدق من خلالها سارحاً بين الجملة والأخرى، أو بين الفكرة والأخرى.