القرن الحالي هو عصر التطور التكنولوجي الجارف بما تحمله الكلمة من معنى ، بل هو عصر الثورة على عدة مفاهيم كان الاعتقاد السابق بأنها ستظل مثل الثوابت لا يمكن أن تتغير . وفي اعتقادي أن الأديب كفرد مبدع يجب أن يواكب هذا التطور الذي يصاحب عصره وأن لا يظل جامداً أسير ذات الأفكار التي بدأ بها حياته .
هذا العصر هو عصر الإنترنت والثورة المعلوماتية والرقمية والعالم من حولنا يتسابق وراء اللحاق بالجديد والمبتكر في هذا المجال . الكل يلهث إلا معشر الأدباء والكتاب تصيبهم الريبة من هذا القادم الجديد مما جعلهم يخشون على أنفسهم وإبداعهم من سطوته . بل تراهم يتمادون عندما يبتعدون في تصنع عن استعمال جهاز الكمبيوتر ويجدون في الطريقة التقليدية القلم والأوراق أصالة وإبداع .
لم يكن تعاملي مع الكمبيوتر تعامل الحي مع الجماد فأنا أشعر بود خاص مع هذه الآلة الرائعة ولا أبالغ بأن العلاقة بيننا تقوم على الرغبة الحميمة داخلي في البقاء إلى جواره أطول وقت ممكن؟ من خلال تجربتي الحياتية مع صنوف كثيرة من البشر لم أجد أوفى من الكمبيوتر ولا أطول بالاً منه في التعامل مع بشر من نوعيتي يمتلك نزقاً من الصعب التكيف معه ومع رغباته المجنونة فعلاً . ما بيني وبين الكمبيوتر حتماً أشياء كثيرة لا يمكن التعبير عنها لكنها من المؤكد أكبر من الألفة وأعمق من المصلحة العظمى والتي تكون بالطبع من مصلحتي أنا كبشر؟
قد يكون ما أقوله ضرب من الجنون كما نعتني بعض الأصدقاء أو تفاهة أو فرقعة صحفية تخبو بعد النشر لكنها الحقيقة التي لا يحسها إلا من تعلقت حياته بهذا الجهاز وأصبح مثلي يقضي جل وقته محدقاً في الشاشة السحرية غير آبه بالإشعاع وضرره الأكيد على حدقة العينين . أقضي قرابة الثماني ساعات على أقل تقدير وهو وقت موزع بين واجبات العمل ، واهتماماتي الأدبية في البيت ، وهوايتي الرائعة الجديدة الإبحار في عالم الإنترنت وتصميم صفحاته المدهشة . بعد هذه الساعات الطويلة والشغف لاستكشاف الجديد والذي لا ينتهي إلا عند الخلود للنوم كيف لا تنشأ علاقة من نوع خاص مع جهاز الكمبيوتر تؤدي ولاشك لغيرة زوجتك واستياء أولادك ؟ كيف لا تقوم ألفة حتى لو كان الطرف الآخر مجرد آلة خرساء؟ المسألة أذن ليست تلاعب بالألفاظ أو تضخيم أجوف بقدر ما هو إحساس خالص تجاه ما أشعره وعرفان بالجميل لذلك الجماد الذي كان له الفضل الأكبر في حفظ كتاباتي في أحشائه ومن ثم خروجه للوجود أنيقاً بطباعته .
لدي طقوسي الخاصة في التعامل مع الكمبيوتر فهو الصديق الفعلي بعد ابتعاد أغلب الأصدقاء وتفرغي شبه التام لعملي وحياتي الخاصة والكتابة . قبل أن أبدأ وأثناء تحميل برنامج التشغيل " نوافذ " أكون قد مسحت على جوانب الشاشة اليمنى واليسرى بالتناوب كالأب يمسح على وجنات طفله؟ أما لوحة المفاتيح فهي المتعذب الأكبر بضرباتي القوية . عندما أتعب أو عندما أنتهي وأزيح لوحة المفاتيح لا أغلق الجهاز . يبقى مفتوحاً وهو يلهو مع حافظة الشاشة من مخلوقات بحرية أو فضائية . شكراً لشركات البرمجة.
هذا هو إحساسي مع الكمبيوتر ، الرفيق الذي لا أمل صحبته وأنا متأكد بأنه لم ولن يملني أو يتذمر مني إلا بالقدر الذي يمليه عليه عطل فني أو برمجي خارج عن نطاق تحمله، وغالباً ما أتسبب في ذلك العطل متجاوزاً حدود رحمتي مع هذه الآلة التي لم تعد في نظري آلة .
السؤال الذي يطرحه معظم الأدباء على أنفسهم وباستحياء شديد :
كيف تتواصل مع آلة؟ وهل يمكن لهذا الصندوق المعدني المحشو بالرقائق الإلكترونية أن ينقل الأحاسيس ويترجم مشاعرك الداخلية مع نفسك دون الرفيق التاريخي الورقة والقلم؟ هل تمنحك برودة المعدن وحرارة الإشعاع الدفء والأمان وقت البوح؟ هل تعتني الآلة بكتابتك أم أنها مكان جامد ، بارد يستقبل نصوصك مثلما تستقبل النزل الرخيصة رواد الطرق الغرباء أخر الليل المخمور؟
هناك تخوف غير مبرر من قبل أغلبية الأدباء ، وهناك شبه اتفاق على الولاء لسطوة الورقة والقلم ، عهد التدوين اليدوي غير الخلاق . وفي اعتقادي بأنهم نفر بعيدون عن التطور المذهل الحاصل الآن في كل المرافق التي تحيط بنا بدءً من التعليم وانتهاء بجميع الخدمات الحياتية اليومية من ماء وكهرباء ومعاملات تجارية ومصرفية ، فلماذا يبقى الأديب وهو المبدع الحساس بعيداً عن هذه التغيرات الحيوية والتي ستنعكس بإيجاب على كتاباته وتنقله إلى فضاء أرحب .
يشتكي الأديب العربي دائماً من القارئ ، من تكاسله ونفوره وانقياده خلف الاستهلاك في أبشع صوره ، والأديب محق في أغلب الأحيان . لكم أيضاً أن تتصورا بأن أشهر أديب عربي لا يبيع من كتبه أكثر من ثلاثة آلاف نسخة في بلد مكتظ بالملايين من السكان؟ يشتكي أيضاً من تكلفة الطباعة أو جبروت الناشر ويتذمر كثيراً من وسيلة النشر وفاعليتها . يكفي فعل الرقابة المتخلفة في خنق أي إبداع وفي القضاء على أعمال مهمة ومنعها من التداول بقرار إعلامي في أغلب الأحيان يصدر في غرف البوليس؟ ورغم كل هذه الاحباطات لا يفكر الأديب في خيار آخر غير الهجرة أو الكتابة بلغة أجنبية أو الترجمة على أبعد تقدير .
لا أدري لماذا يتغاضى الأديب عن البديل الذي قد يوفر عليه أشياء كثيرة غير التي ذكرناها . الإنترنت هي ثورة معلوماتية بما تعنيه الكلمة من معنى وتحمل خصوصية لا يمكن للكتاب أن يوفرها والعكس صحيح . هذا لا يلغي أبداً دور الكتاب الريادي في نقل المعرفة والتعريف بالثقافات ونشر الوعي الاجتماعي والسياسي .
لقد أصبح الإنترنت حلقة اتصال فريدة من نوعها تمكن الأديب من النفاذ بكل يسر وسهولة إلى القارئ العربي والأجنبي في كل أقطار العالم دون أن تمر تجربته الإبداعية على مقص الرقيب أو تصادر حريته الفكرية عصبة بوليسية ترهبه . ليس هناك ما يخشاه الأديب أو يتخوف منه . الإنترنت مثله مثل أي منتج حضاري حديث يحمل بين طياته الطيب والخبيث ، الجيد والسيء والأديب بتفكيره الحر الخلاق قادر على التفريق بين كل ذلك واستغلال المصلحة لفائدته ، ويجب عليه أن يفترض الشيء ذاته مع القارئ أو المتلقي في عملية الإنترنت .
مشكلة الأديب العربي أنه يخشى التغيير حتى لو كان للأفضل . لا يؤمن بجدوى المغامرة ، ولا يتحلى بروح التحدي . قد لا يدري معظمهم ما يمكن للإنترنت أن يفعله بالنتاج الإنساني عندما يكون عنصر جذب لعدد أكبر من القراء ، ومحور جميل للتواصل والحوار الخلاق بين الحضارات . لماذا التخوف إذن؟ لماذا الحكم التعسفي بعدم جدوى هذا المنتج الجديد بالرغم من أن العالم قد تحول بالفعل إلى قرية صغيرة تكون في تناولك وأنت جالس أمام جهاز الكمبيوتر تنتقي ما تشاء من الفكر أو التسلية أو الاهتمامات دون أن تبذل العناء الكبير؟ نعم هناك عزلة وهذه العزلة أمر طبيعي مارسه الأديب وهو يختلي بنفسه من أجل إنجاز عمل إبداعي أو وهو يتزود بالقراءة . ليست المشكلة في نتاج العزلة . أجد أن الخوف التقليدي من التكنولوجيا غير مبرر على الإطلاق وأعتقد بأن لكل مجال خصوصياته وتفرده وحالما يعي المتخلفون هذه الحقيقة ستنقشع الغشاوة من على أعينهم ، عندها سيكون القطار قد فاتهم واصبحوا وحدهم دون بقية الفئات يسبحون عكس التيار .
بالنسبة لي كان ظهور الإنترنت بمثابة الخلاص ، التوأم الذي أتحد مع جهاز الكمبيوتر وصرت لا أفترق عن أحدهما إلا بسبب ظروف قاهرة . تولدت لدي الرغبة في تعلم تصميم الصفحات وبالفعل تحقق لي ذلك بفضل الدروس المجانية التي تعج بها الشبكة العنكبوتية . أصبحت لي صفحة خاصة بي بعد مثابرة وجهد ليس باليسير قدر لي خلالها أن أطلع على الكثير من التجارب في هذا المجال وجدت خلالها حجم التجاوب ومدى فاعليته التي يمكن أن تعطى لصاحب الصفحة .
يفعل الإنترنت ما لا يمكن للكتاب أن يفعله . يدخل البيوت دون استئذان ويكون متواجداً في المنتديات الواقعية والافتراضية . تصل صفحتك المحملة بالإبداع إلى كل حلقات النقاش وتكون مستهدفاً من جميع الفئات لتكون محظوظاً بالتواصل من خلال منتداك الخاص بالصفحة أو كرسائل من خلال البريد الإلكتروني أو تواقيع في سجلك الخاص بضيوف الصفحة . فماذا يستطيع أن يفعله الكتاب بالمقابل؟ هذا ليس هجوماً على قدسية الكتاب الورقي بقدر ما هو تمجيد لبدعة النشر الإلكتروني .
ما لا يستطيعه الكتاب كثير بالمقارنة مع الإنترنت . الكتاب يحوي بين متنه النص الذي قمت بكتابته مع بضع بيانات بسيطة تتناول سيرة ذاتية شديدة الاختصار وبيان بمؤلفاتك السابقة ، وإذا كنت محظوظاً كأن تكون كاتباً مرموقاً ذي حظوة عند سعادة الناشر أو كنت تملك المال الكافي للبذخ على مؤلفك فأنك ستقوم بالعناية بالغلاف وألوانه والزج بلوحات ملونة داخلية توازي ميزانيتك التي تكون في الغالب متواضعة . في الإنترنت الأمر مختلف حيث تعج الشبكة بالمئات من المواقع التخيلية التي ترحب باستضافة موقعك مجاناً وتغريك بالعديد من المميزات التخزينية ومعدات التصميم حيث يمكنك تأسيس موقع مبتكر يوصل صورتك الحقيقية ككاتب دون أن تنفق فلساً واحداً .
قد يعكس الكتاب جزءً من شخصيتك وقد لا يفعل ذلك بحسب ما يطرحه النص من أفكار ورؤى ، بينما في الإنترنت تطل بكامل زهوك كما ترغب لنفسك أن تكون وكما تحب أن يراك الآخرون . قد تبدأ بسيرة مطولة عن حياتك وتتناول مؤلفاتك الإبداعية ومساهمتك الصحفية وما كتب عنك من نقد ثم تنتهي بعرض شيق لألبوم صور تحكي عن مراحل حياتك. وأهم الأشياء ، في اعتقادي ، ما يميز الإنترنت بصفته صفحة تطل بالكاتب على العالم هو حلقة النقاش ودفتر تواقيع الضيوف حيث يتعرف مباشرة على ردود الأفعال من زواره الذين يكونون في الغالب من مختلف الأذواق والأعمار . أنها مقولة صحيحة بأن الإنسان خرج من قبوه ، محيطه الضيق المحصور بموطنه أو إقليمه ليعانق الفضاء الكبير ويتفاعل معه . أنه نتاج الحضارة الإنسانية وهو نتاج خير بكل المقاييس إن أحسنا استغلاله وتطويعه من أجل صالحنا ، من أجل الكلمة التي نسعى لأن تنتشر إلى أبعد بقعة ممكنة . هذا أمر ليس له علاقة بالمشاعر أو الأحاسيس فالإنترنت والكمبيوتر ما هما إلا وجهين لعملة واحدة هي الوسيط الجديد الذي ينقل أحاسيسنا ومشاعرنا نحن كبشر إلى الطرف الآخر ، الحي مثلنا من العالم ، المتصل لنا هو الآخر بآلة.
E-mail: jkhayyat@hotmail.com
من خالد الرويعي
جريدة (الأيام) البحرين -2000