قاسم حداد
البحرين

قاسم حدادبهذا المعنى يمكنني النظر إلى أدوات الكتابة، فعندما يستخدم الملك قلما ذهبيا مرصعا بالجواهر والأحجار الكريمة فانه لن يستطيع كتابة قصيدة باهرة وخالدة كالتي كتبها الشاعر السومري فيما يبدع لنا قلقامش الذي كان ينقش كلماته بالأزاميل على سطوح الأحجار. في حين أن ملك الصعاليك عروة بن الورد (من غير ما ريشة ولا دواة) ستخفق معه كل أفئدة صعاليك كل العصور فيما يقول:

(أقسِّمُ جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ)

لذلك فان القلب الموصول بأداة الكتابة هو البوصلة الصادقة التي تحسن القول وتبدع جماله. فالكلام عن الأداة بمعزل عن القلب، بمثابة وصف النوم دون الاكتراث بالأحلام.

وبالتالي فكل هذه الأدوات المستحدثة سوف تكون فعاليتها مرهونة بالقلب العامر بالحب والمخيلة، وآلا فلن تعني كل هذه المخترعات شيئا في تاريخ البشرية.

والذائقة الجمالية التي تصدر عن كل هذا التراث الإنساني الكثيف بالتجربة والموهبة، ستظل ذائقة مصقولة بالخبرة والمعرفة وتطمح نحو المزيد من الجماليات المتصلة بأدوات التعبير التي تشكل وسيلة (حية) من وسائل الجمال البصري للكتابة.

وجهاز الكمبيوتر أحد أهم المبتكرات التي أنتجتها المعرفة والذائقة البشرية في سبيل جعل الكتابة ضربا من المتعة في حد ذاتها ومشحونة بالخصوصية.

وقد شكل القلم (في شتى تجلياته) أداة جميلة وطرية من أدوات وصف الحياة بوصفها حلما، هكذا طوال الوقت، حيث كانت الكتابة استباقا لنفي الموت عن أشياء الحياة في تاريخ الإنسان منذ قرون طويلة، بل أن القلم (كمفهوم وآلية) ساهم - في مراحل ذروة الذائقة - في بلورة جمال الخط الإنساني وحسنه الذين يشكلان إضافة نوعية للنص (لكي أقول الحياة) كمضمون، حتى أن أحد العرب قال بأن الخط الجميل الواضح يزيد الحق سطوعا.

نقول الحق هنا لكي نعني الحب، ولكي نعني خصوصا الحياة. وفي الثقافة العربية أصبح فن الخط عنصراً من مكونات المعرفة والأدب العربيين. ولعل التنوع الكبير في فنون الخط وأشكاله وصنوفه وتحولاته القائمة على جماليات النحو والصرف والتنوين، (لكي أقول أيضا درجات الخيال) جعل من العربي يرى إلى الكتابة بالقلم (الذي كرمه القرآن بالذكر) شيئا مقدسا يضاهي العبادة، وبما أن (العادة عبادة) كما يقول العرب، فمن غير المتوقع أن يتحول الكاتب العربي بسهولة إلى استخدام أداة جديدة ومختلفة تماما عن أداته القديمة (من القصبة حتى القلم). فالأمر يحتاج للوقت يكفي للخروج من الغمد إلى الغيم، لأجل أن تكون الذائقة العربية مستعدة لاكتشاف الجماليات التي تقترحها الكتابة بالأدوات الجديدة، وهي جماليات تحتاج هي الأخرى لضرب مختلف من الحساسية، حساسية تتصل بالمتعة البصرية التي لم تألفها الثقافة العربية طوال تاريخ كثيف احتاج لقرون للانتقال من الشفوية إلى الكتابية، وبالتالي فهو، ربما، بحاجة لزمن أقل (قياسا لإيقاع الحياة الجديدة) من اجل أن يقتنع مجددا للانتقال إلى مرحلة الكتابة ذات الجماليات البصرية. وبالضبط الكتابة بشهوة العين، أو بعون كبير من حاسة طال تعطيلها.

العرب، أكثر من غيرهم، سوف يصادفون صعوبة في التكيف مع الأدوات الجديدة للكتابة. خصوصا عندما يتعلق الأمر بالأدباء والكتاب. ففي الغرب ظل معظم الكتاب، في العصور الحديثة، يكتبون مباشرة على الآلة الكاتبة. مما يجعلهم أكثر ألفة (من الوجهة التقنية) مع الكمبيوتر، ولكن من التجربة أعرف حالات عربية عديدة ما أن يقدم الكاتب على التعرف على فكرة الكتابة على الكمبيوتر، وبخوض التجربة لبعض الوقت، سرعان ما يقع في حب هذه التجربة. وهذا يعني بالضبط أن الفجوة التقنية بين الكاتب العربي وجهاز الكمبيوتر ناتجة عن التردد الموروث إزاء كل جديد خصوصا فيما يتعلق بالآلة، بمعنى أنها فجوة وهمية من الوجهة العملية. وعندما يكتشف الكاتب العربي الإمكانات العملية والجمالية التي يتيحها هذا الجهاز، سوف يتأكد بأنه قد أضاع قسطا كبيرا من عمره بعيدا عما يوفر لديه الوقت والجهد والمتعة، وهذا ما جعل الروائي الكولمبي (ماركيز) يقول انه لو اكتشف جهاز الكمبيوتر مبكرا من المحتمل أن يكون قد كتب ضعف عدد الروايات التي أنجزها حتى الآن.

ليس قليلا أن ينتقل الكاتب من التعامل مع الكلمات والحروف الثابتة المرقومة على الورق، في شكل كتل لا حراك فيها إلا في الخيال، إلى عالم من الأدوات يجعل الكلمات والحروف نفسها كائنا منطلقة مثل طيور حرة في فضاء من زرقة باهرة بإمكان الكاتب أن يحركها كيفما يشاء ويمحوها ويعيد كتابتها وتشكيلها والتصرف في حجمها وتطويعها ومنحها الأشكال بلمسات خفيفة بالأنامل على مفاتيح ناعمة حميمة بصورة تضاهي الخيال تقريبا.

كل ذلك بسرعة ورشاقة، وبدون أن نستخدم ممحاة أو غير ذلك من الأدوات التقليدية التي يحتاجها الشخص كلما أراد أن يجري تعديلا بسيطا، هذا التعديل الذي ربما يستدعي تمزيق الورق وإعادة كتابة النص مرة ثانية وثالثة إلى مالا نهاية. أكثر من هذا، فمن المحتمل أن تكون بعض هذه المسودات، التي لا تحصى، عرضة للضياع والفقد بصورة لا تعوض. وبالفعل فان الوقت الذي سوف يستغرقه كل ذلك الجهد من شأنه أن يتيح للكاتب فسحة إضافية لتجويد نصه أو للمزيد من الكتابة. والذين لازالوا يقفون على الضفة القديمة من هذه التجربة، أو حتى من يقفون في الحياد مترددا، يحرمون أنفسهم من وضع القلب والعقل في مهب الحياة اللذيذة بصحبة هذا الجهاز الساحر.

بقي أن أقول أنني لست ممن يقول بأن الجديد يشكل نفيا للقديم أو الاستغناء عنه، لذلك فاستخدام جهاز الكمبيوتر للكتابة لا يشكل نفيا أو إلغاء للقلم أو تقليلا من جماليات الكتابة بالقلم أو خاصيته المميزة في حياتنا. على العكس فثمة حاجة تظل حاضرة ومحتفظة بطبيعتها تجعل القلم صديقا لا يستغني عنه الإنسان عموما والكاتب خصوصا. فأنت مثلا لا تستطيع الكتابة على الجهاز في كل الأوقات والأوضاع والأمكنة، خصوصا إذا كنت من المجانين الذين (أعرف واحد منهم على الأقل) لا تحلو لهم الكتابة إلا في السرير، أحيانا في ظلمة الليل. أعني دائما بعض الأدباء الذين يستجيبون لرغبة الكتابة في الأوضاع غير المألوفة. هؤلاء سيظلون يشعرون بحاجتهم الطبيعية الدائمة للقلم. وهذا أمر طبيعي، ما دمنا نؤمن بأن أشياء الحياة يجري ابتكارها لتناسب تحولات الحياة وتنوعها وغنى عناصر الحركة فيها.

غير أن تجربة الكتابة بواسطة جهاز الكمبيوتر هي واحدة من التجارب التي اعتقد بأن الكاتب العربي سوف يتأهل بها للدخول في القرن الجديد، لئلا يصاب بالمزيد من الصدمات فيما تحاصره بقية المكتشفات الموغلة في الخيال. وعليه أن يصدق أن الأحلام التي حلم بها أسلافنا من الأدباء والفنانين السرياليين خصوصا، هي الآن قيد العمل ومتاحة من اجل أن نكون مخلصين لأحلامهم، وقادرين على صياغة الجديد من الأحلام، وبما أن الأدب والفن هما ضرب من الأحلام، فان الكمبيوتر بكل البرامج والأدوات التي يقترحها علينا، هي من معطيات أحلام الأدباء والفنانين. فلو أن السرياليين الأوائل، تأخروا قليلا لتيسر لهم تطبيق معظم الأفكار والأعمال التي يجترحها هذا الجهاز، ولعل ما يحدث في حقل الفنون البصرية (بكل أصنافها) هو الدليل على صحة ما أقول، فمع تطور وسائل التعبير وأدوات العمل الفني، ومع توسع علاقة الفنون التعبيرية وتداخلها بالصورة الباهرة التي تحدث أمامنا يوميا، سيكون من المحرج للكاتب والأديب والفنان العربي هذا التخلف والتردد والغياب عن هذه التجربة، وبالتالي مواصلته للحرمان الذاتي من جماليات لا حدود لها من شأنها الإسهام في بلورة وتطوير التجربة الأدبية والفنية العربية. علينا أن نعمل على اختزال هذه الفجوة التي تحجب عنا شهوة المستقبل وجماليات الأفق الوشيك. ففي ذلك نوع من علاج المسافة، فما على الكاتب إلا أن يضع قلبه في أصابعه، وينشط في تشغيل مخيلته، وليترك لنفسه حرية اكتشاف الكمبيوتر..

علاج المسافة

( 1 )

يبدو أن وسائل الاتصالات التي تتطور بسرعة مذهلة، وأهمها (حاليا) شبكة الإنترنت، تثير أهمية إعادة النظر في مفهوم (المسافة) ليس فيزيائيا ( المكان والزمن) فحسب، ولكن ثقافيا واجتماعيا وروحياً بشكل خاص. ومن أسف أنه سوف يحتاج المتصلون بالشأن الثقافي والإبداعي في واقعتا العربي بعض الوقت (حيث تتضاعف الخسارة) لكي يكتشفوا أن ثمة ما يمسّ شغاف أصحاب المخيلة النشيطة يحدث على مقربة منهم فيما هم يختلجون بالتردد الفادح أمام دخول هذه التجربة. فبين المسافة الزمنية التي تستغرقهم (ببطء السلاحف، مهما تميزت بالحكمة) والمسافة الافتراضية التي تخترقها شبكة الإنترنت، ما يمكن وصفه بالمعجزة التي أتلف الشعراء والمبدعون زهرة أعمارهم وتجاربهم من أجل تخيلها، ناهيك عن تحققها في الواقع. وأعني به معجزة اختراق الفجوة بين النص والآخر، ليس بوصفها حالة استهلاك متاحة بيسر، ولكنه باعتبار الفكر والإبداع أصبحا الآن مرشحين (بوسائط غير تقليدية) لكي يحققا تجربة غير مألوفة هي تجربة : الحركة في الفعل. بنوع مغاير من مفهوم المسافة بين الاثنين.

( 2 )

أحب أن أسمي أشياء تجربة الاتصالات الإلكترونية بما يقاربها من الشعرية. ففي فكرة الإنترنت شيء من الشعر. لأن ما يتحقق فيها من أسلوب التعامل مع فكرة المسافة، هو ذاته ما يمس شهوة اختزال العالم في الشعر. ليس بوصفه واقعاً ولكن باعتباره خيالا محضاً يتجلى في صورة مشحونة بالعاطفة واحتمالات الحلم. يتوجب أن يكون الذين ابتكروا فكرة الإنترنت على درجة عالية من الخيال، وهو ما يقربهم من أحد عناصر الشعر. وأظن أن أهم العلماء في تاريخ البشرية كانوا حالمين أكثر من غيرهم. ونماذج المكتشفين في حقلي الضوء والصوت ما يدعم هذا الكلام، وهما المجالان الأبرز في ما يتعلق بفكرة المسافة كفلسفة يقوم عليها فعل اختراق الزمان والمكان.

( 3 )

فالمسافة التي وصفت فيما سبق أنها (مسافات لا يمكن السيطرة عليها) وهي خصوصا المسافة الجغرافية، أصبحت الآن بحكم الحلم الناجز، حيث صار بإمكان الإنسان العادي أن يختزل هذه المسافة بأكثر الوسائل يسراً وسهولة وسرعة وأماناً أيضا. أكثر من هذا ، فإن قطع المسافات الطويلة أقل كلفة أحيانا من قطع المسافات القصيرة. هذا في مجال السفر والانتقال. وسوف يكون الأمر أكثر سهولة ويسرا في حقل الاتصال، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار التطور الهائل الذي يحدث يوميا في صعيد تحويل المادة الإلكترونية إلى ما يشبه الجسر الناري المتأجج الحيوية، بفعل اختزال فكرة المسافة إلى خيط ضوئي غير مرئي لكنه سريع الانتقال بمجرد الملامسة. في كتابه (مستقبل الجمهور المتلقي)، الذي ترجمه محمد جمول، يذكر (و . رسل نيومان) مثالاً من السيطرة على المسافات يتعلق بنظام كمبيوتر في السويد ( أوائل الثمانينات تقريبا) يستخدم لإعطاء إدارة الإطفاء معلومات عن عدد ساكني بناء ما وتكوين هذا البناء عند تلقي إنذار بوجود حريق في ذلك المبنى. حيث يقترح بنك المعلومات أقصر طريق بين المحطة ومكان الحريق، من أجل عدم تضييع الوقت. المثير في الأمر، أنه عند تصميم النظام، وجد السويديون أن المعلومات الأقل كلفة وأكثر كفاءة وموثوقية كانت تأتيهم من شركة أمريكية مقرها في كليفلاند في أوهايو بالولايات المتحدة. وهكذا حين ينطلق رجال الإطفاء من ثكنتهم عبر أقصر الطريق نحو موقع الحريق في وسط مدينة ستوكهولم، كانت المعلومات تصلهم قبل ثوان من قلب كليفلاند فيما سيارات الإطفاء تغادر ثكناتها.

( 4 )

وقياسا لهذا المثال ـ(القديم) يمكننا أن نورد مئات الأمثلة الجديدة التي تمكنت من تحويل مفهوم المسافة بصورة تجعل الفكرة بمثابة الحلم قيد التحقيق يوما بعد يوم. فلم يعد (الآن) مفهوم المسافة (فيزيائيا) كما هو عليه منذ بدأت وسائل الاتصال الإلكترونية. ثمة تحول جذري (يستعصي على الوصف) يحدث لفكر المسافة على كافة الأصعدة. وسوف يمسّ هذا التحول بالطبع المعنى الاجتماعي للاتصال. فعندما يتساوى فعل الاتصال، واقعياً، بين الغرفة المجاورة في نفس المبنى وأبعد نقطة في الكوكب من حيث السرعة والسهولة والوضوح والأمان، سيكون علينا إعادة النظر في المعنى الإنساني لأن يكون الشخص حاضرا بالمعنى الروحي (حضوراً افتراضياً حسب المصطلح الإلكتروني) في هذا الفضاء الشاسع في الوقت نفسه الذي يتوجب عليه إدراك المسافة كما لو أنه تأملٌ في قبضة الكف. بمعنى أنه يمكن أن يختزل الزمن والمكان اللحظة في لحظة واحدة. وهذا من شأنه أن يضع المعلومة (بوصفها حركة الإنسان في الحياة) تحت اختبار طاقتها على الاحتفاظ بضرورتها بقدر ما تحققه من سرعة ذلك الاختزال : للمكان والزمان في آن واحد.

( 5 )

مفهوم المسافة هنا سوف يطال كذلك الكلفة المادية لعملية الاتصال، ففي حين يمكننا التوصل بالمعلومة النائية (بوصفها معرفة) ونحن في غرفتنا سوف يغنينا هذا ليس عن الانتقال والسفر للبلاد الأخرى في سبيل الحصول على تلك المعلومة، بل أن الجريدة التي سوف تنقل هذه المعلومة في اليوم التالي (لكي نكون متفائلين) لن تكون مجدية ولا تسعف حاجتنا الملحة، ففي ثوان معدودة (إذا تميزنا بالبطء) ستكون تلك المعلومة، لحظة توفرها في أي مكان من العالم، تحت تصرفنا على شاشة الكمبيوتر عبر شبكة الإنترنت، فأقل من هذا سيجعل المعلومة قديمة. هذا الواقع (الذي سيسميه البعض افتراضيا، لالتباس في المفاهيم) سوف يجعل المعرفة في كل منطقة من العالم متاحة للجميع بصورة لم يعهدها المجتمع الإنساني قبل الآن. وبطبيعة الحال سوف يتصل المفهوم الجديد للمسافة بالمفهوم السائد للسلطة، حيث يجري الاختزال لمفهوم السلطة بصورة تجعل الأجهزة التقليدية للسلطة عبارة عن متفرج يجلس خلف شاشة الكمبيوتر لتلقي المعلومات ذاتها التي يستقبلها كل من يتصل بشبكة الإنترنت في اللحظة.

( 6 )

المسافة (فيزيائيا) هي إذن مفهوم قيد إعادة النظر، على صعيد الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والثقافة، وبالضرورة في المجال الاجتماعي الذي يستدعي استعدادا روحياً جديداً لفهم ما يحدث، ليس بوصفه اقتراحا خارجياً يهدد سلوكنا الحضاري، ولكن باعتباره إسهاما إنسانيا نحن بحاجة لتفهمه كشرفة تطل على المستقبل، حيث السلطة تتجاوز طبيعتها السياسية المباشرة، لتصبح مفهوما شاسعا يتصل بالمعرفة، لا تتمكن القوة على اغتصابه بأنانية الامتلاك، ولا تقدر الثروة على اقتنائه كمادة استهلاك. المعرفة هي الآن سلطة المستقبل. وكلما تهيأنا لأن ندرك هذه الاختزال المتسارع لمفهوم المسافة، تيسر لنا مجابهة مهماتنا الحضارية بصورة تجعلنا قادرين على تفادي موقع المتخلف التابع لما يحدث حولنا من تحولات جذرية على صعيد الواقع ومفاهيمه و أدوات فهمه التي يقترحها على الإنسان. فكل ما توغلنا أكثر في معرفة المكونات العلمية وحاجاتنا الإنسانية لوسائل الاتصال، تأكد لنا أن المستقبل (الذي يحدث بأسرع مما نتخيل) لا يستطيع انتظارنا فيما نحن نتردد أمام مقترحاته الشاسعة، بعيدة الأفق، وهو يختزل المسافات.

( 7 )

ترى كيف سيرى المبدعون العرب إلى الفكرة المتحولة للمسافة، وكيف سيعالجونها لئلا يخترقهم البرق في محطات انتظاراتهم ؟ وقبل ذلك، متى سيكترث المثقفون العرب، المبدعون منهم خصوصاً، بهذا الحقل الذي لم يعد بمقدور الإنسان (العادي) تفادي ضرورة العلاقة الجديدة به؟ وقبل ذلك أيضا، بأي معنى سوف يفهم المبدعون العرب الحداثة (فيما يتحدثون عنها) إذا لم يكن بمقدورهم الاتصال (الأسرع) بمواقع تلك الحداثة و آلياتها الحضارية في اللحظة ذاتها التي تولد فيها؟ وقبل ذلك أيضا وأيضا، بأية وسيلة يمكن للمثقفين والمبدعين العرب أن يعيدوا صياغة منظوراتهم وطرق تفكيرهم وأدوارهم في الحياة، إذا هم لم يكترثوا بالدور الخطير الذي تلعبه المعرفة في العالم، ليس بوصفها استيراداً واستهلاكا، بل بوصفها خلقاً وابتكاراً يومياً يجعل من الفعل المعرفي طاقة جديدة، أكثر حرية، تتجاوز الحدّ السياسي والأجهزة السلطوية. وظني أن على المثقف العربي أن يتحصّن بحرياته بحق الاتصال بالمعرفة ليفرض استقلاله الحقيقي عن أشكال السلطة، هذه السلطة التي أصبحت (في عالم وسائل الاتصال الجديدة) مخترقة وغير ذات معنى كلما حاولت أن تحقق حضورها بوصفها أداة مراقبة ومصادرة. المثقف العربي الآن في مواجهة الدور الجديد الذي يتوجب صياغته بمعزل عن أوهام السلطة ومشاريع أملها اليائسة. ربما لأن هذا الشكل سوف يتيح لنا فرصة الكفّ عن تردي فكرة غياب المثقف العربي عن دوره وانغلاق الآفاق أمامه مساهمته في مسائلة الواقع وصياغة المستقبل. للمثقف الآن فرصة صوغ شخصيته المستقلة (بالمعرفة كسلطة) عن السلطة. أقول هذا وأنا أرقب الفجوة الفادحة (تتفاقم يومياً) بين الكلام عن الحداثة وتفاديها في نفس الوقت. فالحداثة أن تمتلك رؤيتك لها بمعزل عن قوانين التفكير التقليدية التي يصدر عنها الفكر السائد. فليس من المتوقع أن تدرك هذا الاختزال الهائل والباهر لمفهوم المسافة بين الإنسان وطاقته المكنونة (والمكبوتة في السياق العربي)، إلا إذا تهيأت باستعداد حقيقي لإعادة النظر في مفاهيم الحداثة، من أجل التحول إلى حق الإنسان في المعرفة خارج سلطة الماضي (بكل تجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية)، وحقه في أن يعرف ويرى ما يراه هو ، وليس ما تريد أجهزة إعلام السلطة أن يراه ويعرفه. بهذا المعنى تكف المفاهيم التقليدية لمصطلحات مثل الديمقراطية والحقوق المدنية عن السيطرة وكبح خيال الإنسان : في النص والشخص.

( 8 )

لأمر غامض وضعت لكتابي الجديد عنوان (علاج المسافة)، وكنت صادفته ذات سياق روحي في أحد مصادر التاريخ الإسلامي. و ها أنا أعيد اكتشافه مجددا في ضوء سياق معرفي آخر. يقيناً أنه ليس ثمة صدفة هناك، فكل عنوان هو قدر.

وتلك قصة أخرى لا أعرف كيف أرويها لنفسي.*

لا أتذكر بالضبط الكاتب الذي قال، أوائل هذا القرن، بأن ( العالم قريتي ).

وهو قال تلك الكلمة صدوراً عن جموح المخيلة التي يتميز بها المبدع، لكي يتصل بأبعد الكائنات في الكرة الأرضية، معبراً عنها وذاهباً إليها. وتلك المخيلة الشعرية، إذا كانت قد أسعفت ذلك الأديب، فإنها ستبدو الآن، في نهاية القرن، في مواجهة أكثر وسائل الاتصال (شعرية) ، حيث يتجلى لنا قدرة العلم ( الذي لا يختلف عن الشعر إلا في النوع) على تحقيق أكثر الأحلام توغلاً في المستحيل.

لذلك ، يمكنني الآن القول مجدداً ، بأن (العالم غرفتي).

فمن خلال شاشة الكمبيوتر الشخصي، في غرفتي الصغيرة، في بلدتي الأصغر في العالم، يمكنني أن أتصل (ليس بالمخيلة فقط) بأبعد الكائنات في .. / ليس في الكرة الأرضية فحسب، ولكن في حدود المجرة التي تتجاوز حدود الأرض. لكي أتابع ما يجري للمركبة الصغيرة التي ذهبت إلى سطح المريخ للتعرف على الوضع هناك وتصفه لنا، تمهيداً للسفر إليه. باعتبار أن الحجز على الرحلات التجارية الذاهبة إلى القمر قد بدأت الآن، استعداداً للإقلاع بداية القرن الوشيك، كل ذلك يحدث الآن عن طريق (الإنترنت).

إن مجرد فكرة قدرتنا على الاتصال بكل من يجلس أمام جهازه الشخصي في أية غرفة صغيرة، في أي منطقة من العالم، هي فكرة تتصل بالشعر كثيراً، الأمر الذي يؤكد يوما بعد يوم بأن العلم هو ضرب من الشعر بطريقة أو بأخرى. وإذا كان أمام الإنسان في ما مضى أن ينتظر أياماً طويلة من أجل استلام جواب رسالته من شخص في أقاصي الأرض، فإنني تمكنت في ليلة واحدة أن أزور عدداً من مواقع شعراء في مناطق مختلفة من العالم. وأتبادل معهم المعلومات، وأقرأ طرفاً من أشعارهم (بعد ترجمة آلية سريعة). أكثر من هذا، فإن نوعاً من البهجة شعرت بها وأنا أتأمل في موقع مواطن عربي يعيش في باريس منذ سنوات طويلة، عندما لاحظت أنه (وهو المتخصص في حقل علمي) قد وضع في موقعه نصوصاً لشعراء عرب مثل نزار قباني ومحمود درويش وفدوى طوقان. الأمر الذي ضاعف عندي الشعور بأن النزوع اللاشعوري لدى الإنسان، وهو يتعرف إلى (الإنترنت)، يتجه دائماً نحو فيض الشعر فيما يتعامل مع هذا الأفق اللانهائي.

( 2 )

من جهة أخرى ، فإن الكم الهائل من المعلومات (في شتى الحقول) التي تتوفر لديك من خلال هذا الفضاء المفتوح، يجعلك أمام واحدة من أجمل معطيات العلم الشعرية. فعندما طلبت (مثلاً) معلومات عن الفنان الهولندي (فان جوخ)، توفر بين يديّ (خلال عشر ثوان بالضبط) ما يزيد عن ثلاثة وثلاثين ألف صفحة. من طرف متصفح واحد فقط. ويمكننا القياس على هذا، باقي الحقول التي سوف يتضاعف عندها عدد الصفحات التي ستكون على استعداد لتزويدك (والتعاون معك أيضاً) بما يساعدك ويسعدك. وبهذا يتحقق لك نوع من الإحساس بأن ثمة كائنات إنسانية هي على استعداد دائماً لتجاوز وحدتها وحدودها لكي تتصل بك بالشكل الذي يروق لك ويحقق حضورها معك في العالم.

( 3 )

أتعرف على عالم (الإنترنت) يوماً بعد يوم، وأكتشف الآفاق التي يفتحها، متجاوزاً الكثير من الأوهام التي كرستها السلطات (بشتى صورها) طوال السنين، وأعود متأملاً ما يستقر (باطمئنان فادح) على أرض الواقع العربي من انغلاق وكوابح، ينتابني نوع من الشعور بعبث ما يحدث.

ففي حين تطرح الحضارة أمام الإنسان الوسائل اللانهائية للاتصال، نرى أجهزة الرقابة العربية وهي تمعن في إثبات درجة من التخلف والغباء لا توصف، ليس بسبب عجزها عن السيطرة على حركة الحياة من حولها فحسب، ولكن (وهذا هو الأخطر) بسبب كونها لا تريد أن تدرك المتغيرات الجذرية التي يتطلبها الإنسان في هذا العالم. وبالتالي حاجة هذا الإنسان، الذي يتصرف كما لو أن (العالم غرفته)، إلى الشعور بالأمان وهو يتصل بالمعلومات المتاحة أمامه بما لا يقاس. فليس كافياً أن يكون لدينا حرية وضع جهاز الكمبيوتر في الغرفة وفتحه على العالم، لابد لنا من الشعور والثقة بأن هذه الغرفة ليست هدفا لأجهزة السلطة، في محاولة لمنعنا من الذهاب إلى أبعد من الحدود (والمتوهمة) من قبل السلطة. فمن العبث (لئلا أقول من العار الحضاري) أن تتذّرع السلطات العربية (بشتى الحجج الأخلاقية والسياسية) وأن يتصرف النظام العربي مع الآخرين كما لو أنهم كائنات قاصرة تحتاج دوماً لمن يفكر بالنيابة عنها.

( 4 )

ما يثير عندي هذه الهواجس ، هو ما أرقبه يحدث في ممارسات الرقابات العربية في حقول مختلف. فماذا يعني منع تداول أخبار محلية أو عالمية، في الوقت الذي يمكن أن تصلني بطريقة أخرى لا تطالها يد الرقيب؟ أليس في هذا نوع من التخلف العقلي غير المعلن ؟

وعندما أرى الرقابة في منطقة تمنع نشر كتاب هنا وتجيزه رقابة في بلد مجاور، أحاول أن أعرف دلالة (حضارية) واحدة، تميز هذا البلد عن الثاني فلا أجد، خصوصاً إذا لاحظنا أن بعض هذه الإجراءات من شأنها أن تجعل هذا الكتاب الممنوع أكثر انتشاراً بعد منعه، وأكثر من هذا فإن ثمة وسائل جديدة خارقة يمكن أن يلجأ إليها الكاتب لنشر كتابه .

إن بعض ممارسات الرقابة تدفع الإنسان إلى الشعور بالخجل لكونه ينتمي إلى عالم يزعم التحديث وحريات التعبير. ويغيب عن بال أجهزة الرقابة إنهم ، بمثل هذه الممارسات، يؤكدون بأن الأوهام التي يسعون لترويجها لا تصمد أمام حقيقة واحدة من حقائق العلم والحضارة التي باتت متاحة أمام الجميع بلا قيود، بلا أوهام، وفي عالم مفتوح.

( 5 )

أستغرب من السلطات التي تبذل ملايين الدولارات للصرف على أجهزة مضادة لفرض الرقابة على فضاء شاسع مثل (الإنترنت). أستغرب، لأنهم بهذا السلوك إنما يعيدون مجدداً مفارقة الذهاب إلى الحضارة بشروط التخلف، وهذا ما لا يستقيم مع إنجازات الإنسانية. تماماً مثلما كان الأسلاف الذين عندما عمدوا إلى ترجمة الفلسفة اليونانية عملوا على تغييب جوهرها الفكري القائم على الجدل والحوار والشك وتعدد الآلهة. وهذا ما يجعل تعاملنا مع الفعل الحضاري غالباً ما يصدر عن وهم الانتقاء، حيث نأخذ ما لا يمس بنيتنا الذهنية القائمة على الاستقبال واليقين المنجز والحقائق التي لا يأتيها الباطل.

( 6 )

ليس سهلاً على الإنسان أن يكتشف ما يقترحه الإنترنت (بوصفه نظام مفتوح على الأفق) ، دون أن يصاب بصدمة المفارقة التي يجتهد النظام العربي في تفاديها أو تقنينها وتحصين المواطن العربي ضدها. فكلما تقدم العلم خطوات، نلاحظ أن سلطاتنا العربية تتخلف خطوات مضاعفة، مستعينة بأكثر الأساليب بؤساً. ويكفي أن تتخيلوا رقابة عربية تفرض حدوداً على نص أغنية بسبب كلمة هنا أو تعبير هناك، في حين أن بوسع الشخص أن يتصل بأكثر النصوص تطرفاً في العالم. أليس في هذا السلوك إمعان في احتقار عقلية المواطن وتبسيطه إلى درجة الحيوان. ففي هذا العالم بات من العيب أن نفرض على الإنسان وصاية تطال خياراته في ما يقرأ ويستمع ويشاهد ويفكر، والتعامل معه كما لو أنه كائن يقصر عن إدراك ما يحتاج وما يفيده وما يضره.

لقد بالغت أجهزة الرقابة العربية في عدم احترام عقل الإنسان، وعدم الخجل من سلوك أصبح خارج التاريخ. فبعد كل وسائل الاتصال الحديثة التي تتحقق كل يوم، كان على هذه الأجهزة أن تكف عن أكثر الأدوار تخلفاً. فمن المضحك أن تفكر هذه الأجهزة بالوقوف في وجه التطور الطبيعي للحياة.

( 7 )

لكننا إذا تأملنا المشهد بصفته طريقة حياة، سنلاحظ أن ما يحدث في هذا المجال هو ضرب من الفضيحة غير المعلنة لمجمل المنظومات العربية. فضيحة تعرّي الواقع الحقيقي لحياتنا العربية. فهذه العقلية الرقابية هي قرين بنيوي لطبيعة المصادرة الدائمة للحريات، حيث الدولة هي المعنية بشروط المنع والمنح، كما لو أن الإنسان لا يزال بحاجة لمن يسمح له بالتنفس والحلم. إن شعوراً بالخيبة سوف تطال الإنسان العربي عندما يرقب سبل الحرية تتنوع، فيما يقع هو تحت وطأة أنظمة تصرف الثروات في ابتكار وسائل حجب هذه الحرية.

( 8 )

يمكننا تقدير المسافة (الحضارية) بين فكرة الرقابة وما يقترحه علينا فضاء (الإنترنت)، بما يعادل ثلاثة قرون ضوئية، ليس بمقدور وسيلة معروفة أن تختزلها في صالح العودة إلى الوراء. ويبقى على الرقيب العربي إذن أن يشرّف غرفتي.*

في مستقبل الكارثة

من المتوقع أننا لن ندرك تماما ما يحدث في العالم من تحولات عميقة على صعيد البنى الهيكلية وعلاقاتها (صراع المصالح)، دون أن نتابع ما يطرحه محللون مختصون في مستقبليات الصراع الكوني. و آلفن توفلر ، أحد هؤلاء المؤلفين المختصين في سبر المشهد الكوني من داخله وتحليل عناصره العلمية (على الطريقة الأمريكية) التي وإن تميزنا بالحذر -النفسي تفادياً لرعب الصورة- فإن كلامه يترافق مع قدر كبير من المعلومات التي تدفع إلى إعادة النظر في الإنشاء المتواصل فيما نقرأ عادة. بعد سلسلة مهمة ن المؤلفات (صدمة المستقبل / الموجة الثالثة / تحول السلطة ) يأتي كتابه الجديد ( أشكال الصراعات المقبلة) لا ليكشف أحداث الثمانينات والتسعينات فحسب، ولكنه لكي يضع أمامنا صورة لا تقل رعباً عما يمكن أن يحدث لكوننا (في مجال الحروب الكونية) حيث الإلكترون سيد أشكال صراع، من أساليب تكنولوجية غاية من التطور. خصوصاً بعد الانفراط التاريخي لما كان يسمى تعادل القوى بين المعسكرين التقليديين. "فالانتقال التاريخي المنتظر - يقول توفلر- من عالم منقسم إلى جزئين، إلى عالم منقسم إلى ثلاثة أجزاء يمكن أن يطلق صراعات هائلة على السلطة في الكرة الأرضية، إذ سيحاول كل بلد أن يرسي موقعه في البنية الجديدة ذات الطبقات الثلاث والتي ترتسم. وهذا التوزع الثلاثي يحدد السياق الذي ستنشب داخله معظم الحروب. وهذه الحروب لن تشبه في شيء تلك التي يتصورها معظمنا". ولابد للقارئ أن يعود للكتاب لكي يتعرف على مشهد الصراع المتوقع الذي سوف يقوم على درجة متقدمة من التقنية، لن تكون آليات حرب الخليج الثانية سوى يروفة مبسطة لطبيعتها المعقدة والتدميرية في آن. ليس من باب المبالغة الكلام عن خطورة ما يحدث في خلفية الأحداث من حولنا. فالتطورات الهائلة التي تحدث على صعيد صياغة المستقبل (تكنولوجيا) من قبل الدول الكبرى المتصارعة على مواقع الثروات والأسواق، هي تطورات تمسّ ما يمكن وصفه بمستقبل الكون قاطبة.

ولعل المسافة الرهيبة التي تفصلنا عن جوهر تلك الأحداث والتطورات، سوف لن تتمثل في قدرتنا على المعرفة أو الوصول إليها، ولكنها للأسف تتمثل في عمق أكثر جوهرية، لا يزال الواقع العربي يزحف ويلهث في سبيل تأكيد (مجرد تأكيد) حقه في الحصول على هذا الحق، وأعني بالضبط حقه في حرية التمتع بالمشاركة في طرح أسئلة المستقبل وصياغة أجوبتها. هذه هي المشكلة الدائمة التي أجد أننا نصطدم بها دائماً عند الحديث عن كل ما يتعلق بحياتنا في هذا العالم وفي الواقع العربي خصوصاً. فليس ترفاً القول أن خطورة ما يحدث في الجانب الآخر من العالم هو أمر يقع على مستقبلنا، وأن حق الذين يعيشون هناك في مناقشة مستقبلهم لم يتحقق بمحض المصادفات. لقد تحقق ذلك بفعل التحول الجوهري في المجتمع. أما نحن، في هذا الركن (القصي) برغم مركزيته الاستراتيجية (اقتصادياً) لا نجد في الأفق ما يشير إلى بصيص أمل طبيعي للانتقال إلى القرن الواحد والعشرين بقدر معقول من الحرية. تلك الحرية التي لا يجوز للإنسان أن يزعم أنه كائن حديث ومعاصر بدون أن يتمتع بها.

عندما كانت آلة الحرب (إعلاماً وأسلحة) تشتغل على تجهيز وإنجاز حرب الخليج الثانية، كان الجميع منشغلاً بما يمكن أن يحدث (الآن/ آنذاك)، كنا في انتظار من يحل لنا ذلك المشكل فحسب. ولم نتوقف لحظة لمعرفة كيف يجري حل ذلك المشكل وإلى أين سوف يأخذنا ذلك الحل. أكثر من هذا، لا يستطيع أحد الزعم بأننا كنا ندرك بأن الحرب التي سنذهب ضحيتها جميعاً هي ضرب من التدريب الكوني على صراع غاية في التعقيد من أجل الاستعداد للسيطرة على المستقبل كاملاً. فكلما تورطنا أكثر في صراعات لا نعرف كنه هندستها، أصبح تدهورنا الحضاري أكثر إمكانية وجدارة. فمهندسو الحروب لا يكترثون بمن لا يكترث بحقه في المعرفة، وفي السياق العربي، اعتاد الآخرون على عدم اكتراثنا بحقنا السياسي والاقتصادي، فكيف يمكن أن يتوقعوا منا المطالبة بحقنا في المعرفة. هذا الحق الذي لا ينتظرنا الآخرون لكي نطالب به، والمعرفة لا تأتي إلينا بالمطالبة، علينا فقط أن نذهب إلى انتزاع تلك المعرفة انتزاعاً، بوصفها الحق الأكثر جدارة بالنضال في سبيله. مع ملاحظة أن المعرفة في هذا العالم باتت متاحة أكثر من السابق، لولا أن العقلية السائدة لا تزال تفكر في الرقابة والمصادرة قبل أي شيء آخر.

كلما توغلت أكثر في قراءة ما يصوغه الآخرون في حقل المستقبليات، تأكد لي أن الوهم بأن العالم يعمل ضد العرب خصوصاً، هو وهم من شأنه أن يفتك بنا ببطء يليق بالجثة الكسولة. فثمة اعتقاد بأن العالم لا شأن له سوى التخطيط ضد العرب. في حين أنك فيما تتابع تفاصيل الاستراتيجيات التي تصاغ على مستوى الكون، ستجد أن أمماً أخرى كثيرة مستهدفة بلا استثناء. وعندما لا نتوقع من الآخرين الرأفة بنا، يتوجب أن نبادر بالرافة بأنفسنا على الأقل. والكلام الذي يدور في السنوات الأخيرة عن الذهاب إلى المستقبل بجدارة الحضارة الحديثة، يجب أن لا يقف عند حدود الأوهام. "فالاعتقاد بأن وصول حضارة جديدة إلى كوكبنا يتم بسلام وسكينة - يقول توفلر- ما هو إلا غاية السذاجة الاستراتيجية، إذ أن لكل حضارة متطلباتها الاقتصادية، وبالتالي السياسية والعسكرية". مشكلة هذا كله أن الحديث المتواصل عن السلام في العالم، لم يكن ساذجاً في أي وقت من التاريخ مثله الآن. وبعد قراءة ما يكتبه توفلر سيكون ذعرنا من المستقبل مفهوما ومبرراً، ولن يكون كثيراً علينا أن نقضي باقي حياتنا محرومين من حقوقنا في الحريات، مادمنا قد أمضينا القسم المنصرم بدون تلك الحريات، وأخشى أن يأتي علينا وقت نقبل فيه بمجرد العيش (مثل الحيوانات الأخرى) بمأمن من أتون الحروب الماثلة. "قليلون أولئك الذين يفهمون إلى أي حد ستكون مختلفة حروب المستقبل، وإلى أي حد يمكن لهذا التنوع المتزايد أن يعقد الجهود الرامية إلى إرساء السلام في المستقبل". ليس صدفة إذن أن يضبط شاعر نفسه متلبساً بالذعر مما يحدث حوله. ذعر يتجاوز الخريطة الصغيرة (التي تتضاءل دائماً بفعل التحولات الكونية) ويصل إلى الأفاق التي يتوهم الشعراء إنهم يذهبون إليها تحت تأثير مخيلتهم الإبداعية. "ففي حين أن شعراء ومثقفي المناطق المتخلفة اقتصادياً يؤلفون أناشيد وطنية، يتغنى شعراء ومثقفوا دول الموجة الثالثة بفضائل عالم (بدون حدد) و الاصطدامات التي تنتج عن ذلك، مثل حاجات متباعدة جوهرياً للحضارتين المختلفتين جذريا، يمكن أن تتسبب في السنوات المقبلة بأحد حمامات الدم الأكثر كارثية".

ما معنى أن نكتب شعراً قبل النوم وبعده ؟
ولماذا لا نستطيع تفادي الشعر في عالم يتعرض لما لا يقاس من الكوارث ؟
في السنوات الأخيرة، أحب دائماً أن أطرح هذا السؤال على نفسي.
وأحب دائماً أن أتفادى القبول بالأجوبة العابرة . أحب أن يظل السؤال سؤالا دائماً. *