يوسف عبد العزيز
(فلسطين)
yazan-yousef@maktoob.com

بِجَدائِلهِ البَيضاءْ
و عباءَتِهِ الفضيّة
كانَ المَوتُ يَدورُ على الحاناتِ ،

رأى في إحدى المرّاتِ
فتىً أسمَرَ
قالَ لهُ : تذكُرُني ؟
ثُمَ دَعاهُ إلى كأسٍ ، في زاويةٍ
معتمةٍ في الحانةِ .

" لا أتذكَّرُ " قالَ الشَّاعرُ
في هذي اللحظةِ
حَطَّ غُرابُ الذِّكرى …
مَرَّتْ في البالِ سَمواتُُ بيضاء ،
مدنُُ نائيةُُ
و شتاءُُ كَهلُُ كانَ يُغَنّيُ
و يرشُّ الأشجارَ بِسُكَّرِهِ النَّاعمِ
يا حوذيَّ الثَّلجِ
إلى أينَ ستأخُذُني
في هذي الليلةِ ؟
يا حوذيَّ الثَّلجِ تمهَّلْ
لأرى أُمّي
قبلَ السَّفَرِ الموحشِ في الغاباتِ
… ثلاثةَ أطفالٍ كُنا نَلعبُ بالمَوتِ
و كانَ المَقتولُ هوَ الفائزَ
………………
………………
تَنْفجرُ الموسيقى
فَتطيرُ الأجسادُ كَرَفِّ الحَجلِ المَذعورِ
أحبُّكِ و أُجَنُّ بهذا العُنقِِ المعجونِ
بأزهارِ السَّوسن ،
و أحُبُّكِ
هلْ تبصرُ سيّدتي نحلَ دمي
وهوَ يصيحُ
قريباً من شفَتيها ؟
و أُحبُّكِ
هَلْ نَذهبُ يا سيّدَتي للرّقصِ الآخرِ ؟
كانَ الرّقصُ الآخرُ
طَقساً وَثنيّاً
تَحتَ قبابِ الجسدِ العالي
و أنا كالبوذيّ أضمُّ يديَّ
على الحَجرِ الأملَسِ
أكتمُ بالصّمتِ المُطلقِِ
شَهَقاتِ الجنّياتِ ،
وأصواتَ الغجرِ الثّملينْ .
و أُعلِّقُ خاصرةَ الأرضِ
بِخيطِ حليبِ التينْ .

" تَذكُرُني " ؟
انْتبهَ الشَّاعرُ
حدَّقَ في وَجهِ الرَّجلِ الجالسِ
فَرَأى عَسلاً يَبْرُقُ في الشَّفتين
دماً أشْهبَ يَصعَدُ في العُنقِِ الشَّفّافِ
و أزهارَ السَّوسنِ تَرعُشْ
تَحتَ عَباءتِهِ الفِضّية ..

" نخبَك " ، " نخبك "
" تَذكُرُني " ؟؟
كانَ الموتُ المَخمورُ يقهقِهُ في الحانةِ
و يَرجُّ الطّاولةَ بكفَّيهِ القاسيَتين
" لا أتذكَّرُ "
قالَ الشَّاعرُ
غادرْني أرجوكَ الآنَ
فلا وقتَ لديَّ
لِهَذا العبثِ الفاضحِ
نَهضَ المَوتُ
و ظَلَّ الشَّاعرُ في زاويةِ الحانةِ
يَشرَبُ و يُدخِّنُ
و يُخرْبِشُ فَوقَ الوَرقِ الأبيضِ
وجهَ الرَّجلِ المرأةِ .

 

ذئب الأربَعين

في رُواقِ الأربعين
جسدي زوبعةٌ حمراء
و المرأةُ طين

في رُواقِ الأربَعين
السَّماواتُ التي كُنتُ على قُبَّتِها
أشردُ كالنَّسرِ
استحالت
ورقاً أصفرَ في قبو السّنين

في رُواقِ الأربعين
تفتحُ المرآةُ تابوتاً لقتلايَ
و يمضي القمرُ الثَّعلبُ في إثري
إلى الحانةِ
و الليلُ يُعَلّي سورَهُ حولي
و يغتالُ الحنين

ما الذي يدبكُ في الرَّأسِ ؟
جرادُُ هائجٌ يقضمُ أعضائي
و ريشُُ ذابلُُ
يسقطُ من قلبي الطّعين
هيِّئوا لي الأَرضَ كي ألثُمَها
و أصُبَّ الولَهَ المرَّ على ركبتِها العمياءِ
موسيقا لأهذي
و أدقَّ الجسَدَ النّائي
بأقدامِ مجوسي الخاسرين

سقَطَت قنطرةُ الحُلمِ
و عضَّت عقربُ الفولاذِ عنقَ الماءِ
مرَّت عَرَباتُ الغجرِ الرُّحَّلِ للشَّرقِ
و ناحَ الشَّجرُ المذبوحُ في الوديانِ
هاجَرنا إلى المحرقةِ الكبرى
و قدَّمنا على مذبَحِها عائِلَةَ اللهِ
و كنَّا طيّبين

لم يَعُد في البالِ غيمُ امرأةٍ
يلعبُ بالقلبِ
و لا برقُ يدين
تبذرانِ الرّيحَ بالحُمّى ،
وهالِ النَّارِ
طاشَت وردةُ الأُنثى
على ماءِ الصَّباحِ الرَّخوِ
و الحبُّ بكى حينَ رأى صورتَهُ الصفراءَ
في المرآةِ :
ليلٌ أسودُُ تحتَ الجناحينِ
فراشُُ ميِّتُُ في قفصِ الصَّدرِ
و رمحٌ في الجبين

وحدَهُ في النَّفَقِ المعتمِ
ذئبُ الأَربعين
يملأُ الأرضَ عُواءً
و يشمُّ الميِّتين.

 

برج السَّرطان

في مِرآةِ الثًّلج النّائمِ
تحتَ غبار الشّمس ، أرى في الثًّلجِ
ثلاثَ كوى سوداءَ

تُرى
هل كانت أجسادَ نجومٍ بَرَدَت ؟
أنقاضاً لبراكينٍ بائدةٍ ؟
أوكاراً لأفاعٍ عملاقة ؟

مِن كتفِ النَّجمِ
إلى أبعدِ قاعٍ في العتمةِ
يهوي كالباشقِ
برجُ السَّرَطان.

سيرة ذاتيّة

حَفنَةُ تبنٍ أيّامي ، قالَ الشّاعرُ
و حياتي تلهثُ خلفي كالكلبَة

مرتبكاً ، و وحيداً
كان يُقلِّبُ أوراقَ الماضي
فيرى خمسَ نساءٍ هرماتٍ
في الإرشيف ،
حقلَ زجاجاتٍ يترجرجُ فيها الهَذَيانُ
و سلَّةَ أخطاء

كانَ العُمرُ الوغدُ يمرُّ كشحّاذٍ
معتمرٍ فوق الرأس حذاء

في الغرفةِ
حاولَ أن يكتبَ شيئاً
فتَحَسَّسَ بهدوءٍ صندوقَ الصّورةِ
أغمضَ عينيهِ
فانسَكَبَت جرَّةُ موسيقا
و اشتعلَ الوردُ على الجدرانِ
و رفرفَ سِربُ شفاهٍ قُربَه

ما جدوى ذلك ؟
قالَ الشّاعرُ ، و رمى
مِن نافذةِ الغرفةِ قلبَه .

كتاب الشّك

الليلةَ
صادفتُ العزلةَ في البيتِ
و قد لبست أجملَ قمصاني ،
كانت تشربُ مِن قَهوَتي المُرَّةِ
أيضاً
و تدخّنُ تبغي،
و تقلّبُ ما يشبهُ مخطوطاً لي .
كانت تجلسُ في كرسيِّي
مِثلَ الملكاتِ
و بين يديها
غيمٌ مجنونُُ يتطايرُ …

مُتشحاً برؤايَ وقفتُ قريباً منها
كنتُ هناك أرفُّ كغصن الليلِ
و أهطلُ بالأسئلةِ
المُرَّةِ :
- ما المرأةُ ؟
- في أيّةِ عاصفةٍ يمكنُ
أن يلعبَ قلبي ؟
- أين دفنتُ النار ؟!

و كأنّي خاتَمُ إصبعها
لم تبصرني ،
لم تبصر ظلّي المتيبّسَ قربَ البابِ
و واصلت العزلة
لعِبَ الدّورِ السّاخر
أخذت تُمسِكُ أوراقاً
و تمزّقها من ذاك المخطوط ،
فكنت أراني مقذوفاً لبرارٍ عمياءَ
أصيحُ
أمامي طابةُ ماءٍ
تعلو في الرّيحِ ،
و فوقي قمرٌ يتشقّقُ
و يحطُّ كرفِّ فراشٍ مقتولٍ
قربي

لا بُدَّ لخاتمةٍ
تنهي هذي الملهاةَ صرختُ
فحدّقتِ العزلةُ فيَّ بعيني ظبيٍ
كانت عينيَّ
و ألقت نحوي
بكتاب الشّكّ فكانَ كتابي

ملاك رجيم

ما الّذي سوفَ تفعلُهُ
حشراتُ السّماءِ المضيئةُ
حين سأهوي عليها بمكنسةِ الرّيح ؟

إنّي سئمتُ نثيثَ الرّمادِ الذي
ظلَّ يسقط منها على ياقتي
و يُغبِّرُ مِفرقَ شَعري .

ما الذي سوفَ تفعلُهُ الرّيحُ
حين سأغرسُ في صدرها خِنجري
و أُمزّقُ مبتهجاً قلبَها المطريَّ ؟
لقد كانت الرّيحُ مربوطةً
بحبالِ اللصوصِ تطيرُ و تجري
إلى كلِّ منحدرٍ دونَ أمري .

ما الذي سوفَ تفعلُهُ الأرضُ
شاةُ السّماءِ الضّريرةُ
حينَ سأخمشُ كالنَّسرِ لحمَ التُّرابِ
و أرمي بِهِ لكلابِ المجرَّة ؟
هذهِ الأرضُ خانت يديّ
و فرّت إلى قاتلي ألفَ مرّة .

ما الذي سوفَ يفعلُهُ الشِّعرُ
حينَ سأُنزلُهُ من قصورِ السّماءِ
إلى وجعِ الطّينِ
حيثُ أسمِّمُهُ بالمحبةِ ثمّ أقولُ لهُ يا نديمي
ابتهجْ بدمي
و تعمَّدْ بخمري!

موسيقى

في الغرفةِ
ثمَّةَ أزهارٌ هائجةٌ ، و ترفرفُ ،
كرسيٌّ يقفزُ قربي
و امرأةُُ تدخلُ في المرآةِ

لقد غرقَ البيتُ بمطرٍ هستيريٍّ
أيضاً

و أضاءَ على شفتيَّ الذّاهلتينِ
كلامُ الله .

الحظيرة

لمّا رجعتُ لمنزلي متأخّراً في الليلِ .
عادَ لِيَ ارتباكي
مثلَ كيسِ الرّملِ كانَ المنزلُ الحجريُّ منبطحاً ، و كنتُ أرى نوافذَهُ المضيئةَ كالثُّقوبِ ، و كانتِ الأزهارُ فوقَ السُّورِ ترفعُ في الظّلامِ رؤوسَها كأصابعِ الأعمى.
اقتربتُ فمالتِ الجدرانُ نحوي ، و ارتجفتُ كأنّني أهذي ، كأنّي خارجَ الحجرِ المرتّبِ في نشيدِ الصَّمتِ أُطلِقُ مِن يدي طيرَ الحواسِّ و استفزُّ النّارَ تحتَ رمادِها .
حرَّكتُ رأسي في فضاءِ اللغزِ مثلَ الأرنبِ المذعورِ ، هذا البيتُ بيتي ، فيهِ أعجنُ من رمادِ الرّوحِ قلبَ الشِّعرِ ، أرفعُ بُرجَ أحلامي و أصعدُهُ لكي أطأَ السَّحابَ الرَّخوَ ، هذا البيتُ بيتي ، غيرَ أن السَّقفَ يوشكُ أن يطيرَ ، و يوشكُ الشُّباكُ أن يهوي عليَّ مصفِّقاً كالنَّسرِ ، هذا البيتُ بيتي ؟ السّورُ نفسُ السّورِ ؟ لا قد صارَ أعلى ، و الحجارةُ فيهِ تبدو مثلَ أسنانٍ مهرّأةٍ .
دفعتُ البابَ مُرتبكاً فأنَّت في ظلامِ الليلِ جثَّتُهُ ، و هبَّت باتجاهي الرِّيحُ مُثقلةً برائحةِ العفونةِ ، خطوةً و وقفتُ ، يا اللهُ أيَّةُ لحظةٍ تلقي عليَّ غموضها ؟!
ثورانِ مثلَ غمامتينِ ترنَّحا في البابِ ، روثُُ يغمرُ الأرجاءَ ، كانَ البيتُ نصفَ مهدَّمٍ ، و مضيتُ في حجراتِهِ ، غنمٌ و أبقارُُ على السِّجّادِ تلهو أو تنامُ ، على الأرائكِ تجلسُ القططُ الكسولةُ ، كانت الحمّى بألفِ يدٍ تدقُّ ضلوعيَ الخرساءَ و الأصواتُ تصعدُ في العروقِ و تضربُ الصّدغينِ ، حينَ مضيتُ إلى سريري كان قُرّادُُ يحطُّ عليَّ يلسعُني فأصرخُ صامتاً ، شَعرٌ غزيرٌ صارَ ينبتُ فوقَ أعضائي و حينَ نظرتُ في المِرآة لم أرَ ما يدلُّ عَلَيَّ ، كنتُ شبيهَ تيسٍ هائلٍ ، فذهبتُ صوبَ النَّافذة
و بدأتُ أثغو .@