فرج بيرقدار
(سوريا)

فرج بيرقدارلا صهيل ولا حمحماتْ.
أغمض الله عينيه
وارتدّ عن رمله النخلُ
وارتدّ عنه السرابْ.

كان يهذي صديقي على رِسْلِه
ذات ليلكةٍ
أسلمتْ سهدها للبياض الذي
لا ينامْ.
كأن المكان يميلُ
إلى ذئبةٍ
والزمانَ
إلى ظبيةٍ
والمرايا إلى نفسها.
تلك ذاكرة مُرّةٌ
تشبه القهوة العربية، أمَّ المآتم
يا ابن المعاني التي لا يحيط بها غيُرها
فالمعاني نجومٌ مرجّمةٌ
لا سماء لها
والمعاني التي لا تعاني
يباب.

* * *

لا خيول لكي أتهجّى سنابكها
وأمشّط أعرافها بالزغاريد والولولاتْ.
لم يعد أحد يشتهي
أن يكون نبياً!!
وهل تستطيع النبوّة أكثر من طائرٍ
خارج من رماد جناحيهِ؟
هل يستطيع الخريف سوى ورقٍ
ذاهل عن شمائلهِ؟
والسجينُ سوى وردةٍ من حديد القيودِ
وأغنيةٍ من حرير العتابْ؟

كان يهذي
وكانت جنازيره لغةً صعبةً
تشبه الوشم حيناً
وحيناً زنابقَ من حجرٍ ناعمٍ وغشيمٍ
ولكنها أبداً تستحيل تواشيحَ دامعةَ
اللحنِ والكلماتْ.
كان يأسَ إلهٍ وحيدٍ
رأى - فجأة - عرشَه نعشَهُ
فتبرّأ من نفسِه
معلناً أنه غيرُهُ
فالألوهةُ مشبوهةٌ
والطغاةُ ركيكون
والحب لا يشبه الحبّ!!
هل كان يهذي تماماً؟
تساءلت بيني وبيني
لعلي أحاول تأويل هذا الدم المتهدّجِ
في غرغرات السحاب.

* * *

لا رداء إذن أرتديِه
ولا أصدقاءَ
ولا ما يضيء سوى الظلماتْ.
كنت آخذ من رئتيها شهيقي
وأزفر ما يجعل الروحَ
رنّةَ كأسين
كأسِ المحب الذي يشتهي أن يموت
وكأسِ الحياةْ.
أنت أدرى بأن أعز النساءِ
جميعُ النساء
وأدرى بأن أقلّ رهاني الجنون
إذا ما خسرتُ بلاغةَ قلبي.
ركيكٌ هو القلب
من غير أنثى
ولكنني يا سليلَ قوافيك
ماذا لو ان قتيلاً من الشِّعرِ؟
قلتُ "قتيلاً"؟!
ستغفر لي
كنت أعني "قليلاً" من السحر والجمر والصلوات.
يا إلهي!!
لماذا تشتّتني.
شبهاتٌ تبرّئني من شكوك رفاقي
وأهلي؟
علام تحدّق بي هكذا
يا صديقي اللدود؟
أتحسب أني تخيّرت نهراً بديلاً؟
أيأخذك الظن بي نحو نفسي؟
معاذ الهوى أن يضلّ الطريقَ
إلى ضدهِ.
فاعرفي سواي لأبكي عليَّ
كما الأمهات اللواتي
بكين على غير أبنائهنّ.
اعرفي سوايَ
لأقرأ هذا الخفوق الذي
يستحمّ بأسرارِه
أو لأعرف كم طعنةً
أدركتْ أختَها في ضلوعي
وأمْلَت عليّ تفاسير ما سوف يأتي
كتاباً وراء كتابْ.

كان يهذي ويهذي...
أيعرفُ أن صديقته سرّحتْ بحرَها
واستراحتْ على شاطىء
من رمال الظنون المهيضةِ؟
هل كان ظلهما واحداً؟
أم تخدّد بينهما كوكبٌ لا بروجَ له؟
ذاك شالُ الحنين الذي
سوف يبكي طويلاً
فما من قطوفٍ ترامُ
وما من بروقٍ تشامُ
وما من ظعونٍ وما من حداةْ.

كان ينأى وعيناه مظلمتان
وكنت أكفكف أغلاله
وأبدّدُ وقتاً شديدَ البلاهةِ...
ينأى وعيناهُ ذاهلتان
فماذا تقول البداياتُ غيرَ نهاياتِها
يا شتيّ الغيوب
وماذا تقول النهايات؟
دعني من الحشرجات التي تخنق الآن
أصدافَنا
وأضىء لي صليباً
بحجم اثنتين وعشرين عاصمةً
كي أعلّق أهلي عليه.
أضىء لي دليل الضلال
أضئني.
ستأوي الطيور إلى شجر الحزن
آمنةً من فضاءاتها
والليالي إلى أسودٍ
آمنٍ من غوايات أكفانها
واجتهدْ في الغياب.

* * *

تقول: اجتهد في الغيابْ؟!
يا جنونَك ماذا تقول؟!
ثلاثة آلاف منفى
وراء الطلول التي لا شروح لها
غيرُ ما في دياناتها من عبيد وآلهةٍ
وعبيدٍ وآلهةٍ
وعبيدٍ - إذا شئتَ - تعبد آلهةً
من عبيدْ.
ثلاثة آلاف ندّاهةٍ
خلف ظهري.
ثلاثة آلاف عرّافةٍ لا تريدُ
لكي لا أريدْ.
لقد بلغ الماءُ ما بلغ الدمعُ
والدمع ما بلغ الدمُ
والدم ما بلغ المستحيلْ...
فسبحان هذا الإله الذي ورّث الأرضَ
للندماء الطغاةْ.
وخسران من قال لي:
كلُّ حلم رحيلٌ
وكل رحيل ضريرٌ
وكل ضرير يرى ما يرى
فالرؤى لا تتوبُ
ولا تشتهي جَنّةً لا تخالطها لعنةٌ
من ترابْ.

كان يهذي
وكان الغناء العراقي يبكي
على العالمين
فلا يستردُّ صداهُ
ولا يتعزّى بغير الحروب المريبة والورسِ والزعفرانْ.
يا ابنتي حاولي فهمنا.
كيف نبسط ما لا يسمى بأسمائِه؟!
أين تمضي العواءات آخرة الليل؟!
مَن دوره في الصباح ليشهد
أن القتيل فداءٌ قليلٌ لقاتلهِ؟!
ولماذا إذا دارت العربات بغيلانها في الممرات
تستبسل الأسئلة؟!
حاولي فهمنا يا ابنتي.
قد نكون غداً أصدقاء وقد لا نكون
فما بيننا...
هل أقول: الزمانُ؟
المكانُ؟
الأساطيرُ؟
يأسُ النبيينَ؟

يا ليتَها كلّها يا ابنتي.
ليتها الجلجلةْ.
هل أبالغُ؟
لا أقسمُ اليوم بالدم والخبز والبيلسانْ.
يشبه الموتُ أدنى الذي بلغتْ روحُنا
في الزنازين.
خلّي جهنمَ تدمرَ في حالها
وخذي الأمثلةْ:
1- "شبقوا" واحداً من يديه ورجليه
قالوا: بمن تستجير؟
فقال: بربي
وهمّ ببسملةِ الموت
لكنه يشهد الكفرُ
والدّكةُ الحجريةُ
لم يكمل البسملةْ.
2- شتموا أمَّ آخرَ
فاحتجَّ
للحق ما احتجَّ.
هم قرأوا في ملامحه أو نواياهُ
شيئاً من الاحتجاج.
أَحَسَّ بهم - يا لَقلبِ السجينِ -
فأغمضَ عينيه مستسلماً للمصير الوشيكِ.
لقد كان يمكن أن يمهلوه قليلاً
ولكنَّ عفوك يا ربُّ ما أمهلهْ.
3- خيّروا والداً أن يموت بنوه ويبقى
أو العكسَ
فاختار ما ينبغي لحنان الأبوةِ
فامتثلوا عندما علّقوهُ
ولكنهم أكملوا السلسلةْ.

كان يهذي شبيهي
ويلعن ما يتيسر من شجرِ النسبِ العربيِّ
ليفتح نافذة في جدار الزمانِ
"ويهشل" نحو أغاني الرعاةْ.
فمن يشتري صوتَهُ؟
لا أحدْ.
ومن يشتري موتَهُ؟
لا أحدْ.

يا بني كلِّ ما في قواميسكم من سِبابْ.
يا بني محنةِ الكاف واللام والميم والنونْ.
هل نخلّيه نخلاً وجيعَ الحُداءاتِ
ظلاً ومعنى؟!
يضفّر أسئلة التيهِ عند الضحى
فإذا ازدلف الليلُ
راح يفخّخ تلك الرموز التي
لا يقينَ ينضّدها
لا يقين سوى الارتيابْ.

* * *

حسنٌ... كل شيء حسنْ.
لم تصل رقصة الغيب بعدُ
إلى منتهاها
ولم تكتمل قصةُ الغائبين.
إن تكن أمتي يمّمتْ
غير ما يمّمت لغتي...
وتقول الهداهدُ لي: يممتْ.
إن يكن زغزغ الميتون النوايا
بشأن توابيتهم...
وتقول الهداهد لي: زغزغوا.
إن يكن راوغ الزعماءُ
ولو وردةً أو سجيناً
ولو دمعةً أو شهيداً
ولو نخلةً أو غزالاً
تدق الهداهدُ فوق المناقير أنْ:
راوغوا راوغوا.
يا بني أمهاتٍ سوى الأمهات اللواتي ادّعيتمْ
لماذا إذن تولمون المدائحَ
للحاكم العربي الذي باع خمسة أسداس حكمتِهِ
ليكون بسادسها حاكماً؟!
إن تكن بلبلت بابلُ الخلقَ بالأمس
ألسنةً ولغاتٍ
فماذا ترجّون في آخرِ الوقتِ
من غمغماتِ دهاة دمشقَ
ومن وارشيها؟
وماذا ترجّون من خطرات أبالسة القاهرةْ؟
كم من الذلّ والحيف
والحزن والصمت
في النيل أو بردى!!
كم من الشوك والآس والهذيان المقدّسِ
في نهنهات النواعيرِ
أو وهوهاتِ الفراتْ؟!
وكم لعنةٍ - ها هو الجفرُ - دارتْ
وسوف تدور طواحينُها بغزيرِ الدماءِ
ولن تُغلَق الدائرةْ!!
يا لمجد الخراب إذن
يا لمجد الخرابْ.

كان يهذي وأهذي
وما بيننا غيُر قوس من النارِ والذكرياتْ
يقول: هزائمنا لا تُحدُّ
أقول: الهزائم يا صاحبي عاقرٌ
ومواسمنا لا تعدُّ.
يقول: إذا هرم الوعلُ
ضاقت عليه المسالكُ
واستفردته الجهاتْ.
أقول: تضيق الفيافي
ولكنني لا أضيقْ.
- وماذا تبقّى لك الآنَ
غيرُ جناح من الشعر يرثيكَ
في شجر قصَّفتهُ الرياحْ؟
- تبقّى الكثيرُ من اليأسِ
والأمل الذاهبَين إلى غدِنا
وتبقى الطريقْ.
- أتقنعني أن شمسك لا بدّ مشرقةٌ
في الصباحْ؟
- بل أردُّ عليك وشاحاً من الظلمات التي
لو أردتَ لها أن تضيءَ
لما بَخِلتْ بالبروقِ
فإن عزّت استنجدت بالحريق
أتعرف ماذا يقول الحريقْ؟
- يقول رماداً.
- إذا كان جمرك أدنى من الجمر
- أرجوك يكفي.
- كأنك أدركتَ أن القناع شقيقُ الفضيحةِ...
- ويلكَ...
من أين تقبس هذا الكلام الممضَّ
وما في النقائض من شبهٍ موجعٍ؟!
- منك حين تكونُ سواكَ
وحين يكون غناؤك أدنى إلى الخوف.
- أشهد أنكَ...
أن القصائدَ تشبه ورداً رجيماً
فهل يجرحُ الورد؟
- يجرح حتى الوريدْ.
- يا قناديل أمي...
وماذا يراد لقلبي؟!
- يراد له أن يجدّدَ معناك فانهضْ.
على بُعدِ حلمٍ أسيرٍ
على بُعد طيرين في مستهلّ الزفاف
على بُعد بضعِ مآذنَ عاشقةٍ
تترامى سهولٌ من القمح والأمنيات...
كرومٌ من الحُبِّ...
والعنب الأنثويِّ...
خيولٌ من الريحِ والغيمِ والرعد...
حريةٌ لا تؤوبُ
وما من ذهابٍ إليها
إذا لم نراهن على الرملِ
حتى يبللها بالسرابْ.

* * *

لم يعد من سبيل إلى الهذيان...
توحَّدَ بي ومضى
تاركاً ما يلائم خاتمةً للقصيدةِ
مكتوبةً بدمٍ يانعٍ
ومعلّقةً في الفراغْ:
"قد يطولُ الطريق إلينا كثيراً
وقد نتوسّد أغلالَنا
وننام غمامةَ إطلاقِ أسر غزالٍ
وقد نتردد شاهدةً واثنتينِ
ولكننا في النهاية لن نتوسل غير خطانا إماما.
لأن الحمام بغير هديلٍ
يحاول ألا يكون حماما.
لأن الكلام الذي لا يضيءُ
ولا يُرهفُ النصلَ بين الفواصلِ
أحرى بألاّ يكون كلاما.
على أننا ما بدأنا لكي ننتهي.
فلماذا تبدل آياتِها كتبُ الوجدِ؟
يا صاحبي وعدوي.
لماذا تبدّل أمٌّ بنيها؟
لماذا تبدل آناءَها الغاشياتُ
لندخل فيها؟
وهل بين ضدٍّ وضدٍّ سوى الضدِّ؟
هل بين سجنٍ ومنفى
سوى رايةٍ من عدم؟
يا إله الصدى والندى والظلالْ
لم نقل بعدُ آخرَ ما عندنا
من حروف الهجاءْ
ولكننا قدرَ ما نستطيعُ
وما نستطيعُ
وما نستطيعُ
هتكنا الحجابْ".
صيدنايا 2000

ملحق النهار - الأحد 24 آب 2003

***

الشاعر السوري
فرج بيرقدار، خرجَ.. وقرأ شعراً

في عام 1979 أصدر ديوانه الأول وما أنت وحدك ثم أصدر بعد ذلك بعامين ديوانه جلسرخي فبدأ يشغل مساحته في وجداننا ومشاعرنا ووعينا كما في المشهد الأدبي آنذاك.
لكن سرعان ما سرقته أصابع الغياب.. الغرف الضيقة الموصدة التي لا شبابيك لها، والليالي التي نزعت أقمارها.. وليس هناك من يشعل الأنجم في سنوات الغياب.
كان عليه أن يكتبنا على أوراق تجلبها الرياح.. كان عليه أن يعاني أربعة عشر مخاضا، وأن يجتاز أربع عشرة بوابة للموت، وكان على أشعاره أن تتسلح بأجنحة من نور الأنثى لتجتاز أربعة عشر سورا. وكان ديوانه الحمامة المطلقة الجناحين 1977 أخيرا.. فنال جائزة رابطة القلم الأمريكية بالتعاون مع هيومن رايتس دوتش، وفي العام نفسه صدر كتاب في باريس بعنوان من أجل فرج بيرقدار وشارك فيه خمس وثلاثون كاتبا وإثنان وعشرون رساما عربيا وعالميا منهم محمود درويش، عبداللطيف اللعيبي، تريستان كابرال، فانسيس دومنيك، يوسف عبدلكي.
بهذه الكلمات الحميمة التي تختصر عذابات عمر قدم الكاتب والمسرحي طلال نصر الدين زميله الشاعر فرج بيرقدار في أمسيته الشعرية التي نظمها المركز الثقافي الروسي مؤخرا بدمشق، حيث ألقى الشاعر عددا من قصائده التي لم تنشر بعد، بدأها بقصيدة تشكيل أبجدي ثم أتبعها بمجموعة من الومضات الشعرية والقصائد المتوسطة واختتم بمطولته النهر.

فاضت الأبيات بألم شفيف، ألم ذات خبرت اللاءات والقيود وسياط الجلادين، لكنه ألم لا يشكو ليستدر شفقة الآخر بل يبوح ليرسم مرآة مرحلة بكل تفاصيلها المرعبة وأحلامها المكسورة ومناطق النور التي لم تمحوها بعد طلول الظلام:
"بعد لم تكتمل. مراثي القرن. لم تشرح دما/ فاض من الشعر.. وطبيعي حين يشتد الحصار وتنغلق المنافذ كلها على بياض الياسمين أن تستشعر الروح عزلتها وغربتها وتنزف قلقها وأحلامها المستباحة وسط الخرائب، طبيعي أن يصبح الشعر ملاذا وسبيلا للخلاص ومنادمة الروح: نخلة ضلعي/ وروحي فرس سمراء/ والذكرى خيامي/ فلمن أترك رحلي/ ولمن أوصي بشوقي.
وإذ تستقر الذات في ذاتها لتحمي كينونتها من التلوث والتقزم والانحناء، تتسع مساحات التأمل والحوار في الأعماق، وتعيد قراءة التجربة بوعي أشمل ورؤية أدق فتكتسب القصيدة أبعادا وظلالا وحساسيات جديدة أعمق وأجمل بكثير مما حملته لنا تجربة فرج السابقة:
(كم من إله
كتبناه
ثم قرأناه
ثم عبدناه
حتى رأيناه يشبه أيامنا
فقتلناه/ ثم بكينا عليه)

وفي هذا الحصار والخواء العميق تنبثق صورة المرأة لتمنح الحياة ألوانها وتقاوم أشكال الموت اليومي التي يعيشها الشاعر، وإن كانت الصورة لا تبدو حانية دوما:
(هزيمة مظفرة
كالصرخة
في مواجهة الصمت
كالطعنة
في مواجهة الخوف
كالزوبعة داخل نفسي
وقد هزمتني
مرة
مرتين
ظلال امرأة)

لكل لغته وماذا يفعل فرج وقد تحول وجوده إلى لغة تحيا على شفير اللغات ورموزها و: ليس هناك من لغة تقول/ ولا تخون.. سيواصل دربه التي اختارها محملا بالألم والقلق والهواجس وشهوة الحياة، متسائلا عند كل مفترق طرق وخيبات: عشرون زوبعة/ فكيف أخيط روحي.. إنها لعنة الشعر والاختلاف.

البليان الثقافي الأحد 24 ربيع الآخر 1422ه 15 يوليو 2001 - العدد 79