ولدتْ قبل الميلاد، بسنوات كثيرة، كانت تعجن أسطورة اسمها مع العجين اللدن المطواع الضاحك الفاتر المخلوط مع الدارشين المطحون وصفار بيضة واحدة لامعة زنخة وخيال ناريٍّ قادم من خيال أبيها؛ كانت تعجن مع إسمها اسم ميتان، وهي تنتظر أن يأتيها، هذا الأخ الغريب قريباً، ليأكل من تلك الكعكة الأميرية، الكعكة الرقيقة مثل جرح، أو مثل رجل من البرونز، أو مثل جرح في البرونز؛ كانت نوروز تعد المائدة بقلق، وتتمتم:
ـ سأحتفي به هذا القادم الغريب، قائد الوسيمين مثله، من قرون بعيدة وصعبة، أعرف أنه سيجلب لي أشباحه التي رافقته، وسيجلب لي عقداً من الخرز الأزرق الحي، وأعرف أنه سيكون زعراناً، وسيظل يتردد مابين المطبخ و"واشوكاني"، أعرف أنه سيتأفف من السويد، سيتأفف من العجين الذي طهوته له على نار الحياة التي تبعثرتْ، مثلما تبعثرنا ـ نحن أبناء ذلك الصامت الحيران ـ، أعرف. وأعرف أن البضعة من العجين الذي صنعته على شكل وعل، سيفرُّ من بين يدي، وأنا أسمع صرخة أخي ميتو.
كانت نوروز، تعجن اسمها عصر يوم الأحد، في عام 1993، عندما جاءت إلى غوتنبورغ العظيمة، فسمعتْ صرخةَ أخيها ميتان:
(ـ نوروز، أين أنتِ، ياأختي؟).
ـ لقد انتظرتكَ قروناً، بين يدي العجين اللدن، أصنع لك أحصنةً ودراجاتٍ ولأصدقائك الجحوش الضاحكة، لتضحك، ياأخي. لتنامَ ياأخي. أخي الأوقيانوس الذي لم أعد أراه، ياأوقيانوس العجين.
لقد جهزت سماط الأكل لك، ولمرافقيك المغبرين، الوسيمين مثلك. تفضلوا وكلوا.
***
خلعوا نعالهم التي من جلود العجول المذبوحة وهي لما تكمل عامها، صقَّلوا حناجرهم المعذَّبة بماء الأخت الأسطورية، ورموا بستراتهم البنية المهفهفة على الدكة في الحوش، ومن زمزمياتهم رشوا الماء على أصابعهم الخشنة المتشققة، تأملوا الأفق البرتقال ـ فقد وصلوا في أول المساء ـ، شطحوا مع قائدهم "ميتان"، نحو أختهم، نثروا على عتبة الباب بذور تاريخهم الجسور، وتلك المواجع وأولئك اليتامى والبتلات الخشنة المجففة وظلالهم العذبة وأرقهم ونشوتهم وماضيهم وسطورهم بلغتهم الكردية الترابية وحنينهم وأقمشتهم الخشنة المصبوغة بدم تلك العجول والمعطرة بدم الورد في "واشو كاني".
ـ سنأكل من طهوكِ، أختي نوروز.
ردد ميتان الأسطورة، وهو يبوس أخته نوروز الأسطورة. فضحكتْ له، مررتْ بيديها الحنونتين على شعره البني الفاتح المجعد، ضمته إلى ثدييها الصغيرتين الشفيعتين؛ سقطت من عينيها ثلاث ساعات وخمس دقائق، انحدرتْ من وجنتيها على شَعْر أخيها القديم.
سقطتْ سنتان وثلاثة أشهر من عينيها البنيتين الحنونتين، على أخيها ميتان، الذي غاب عنها، بقوة العماء.
***
في غوتنبورغ ولدتْ، وفيها، اشتاقت، وفيها أينعت مثل رمانتين، ومثل سطرين من الألم، كانت ترى العماء القادم ـ عماء الانتظار:
ـ متى سيصل أخي ميتان، أيها الأب الحيران؟.
***
لحمٌ خاروفٌ، قطراتٌ من إلية خاروف، سمّاق مجفف مطحون، توابل ذهبية، ملح، فلفل أسود، فلفل حار أحمرُ، رشة من بهارات ماوراء البحار، شهودٌ على الغدر، غمامٌ سويدي، حمىً الذبيحة وأنينها ـ الخاروف، قطرات من نبيذ إسبانيا، بصل ذهبي، وبقدونس مبارك، وزقزقة الطير ـ الشاهد، الطير بقنزعته التي تشبه التاج، وبذيله الذي يشبه لاشيء، حفنة صغيرة من الخبز الأسمر المدعوك بين أصابعها الرقيقة النحيفة الطويلة، غواية الدهن وهو يتقطر على الفحم، غواية الأسماء الأسطورية، من قرن إلى قرن، ومن عجلةٍ خشبية، إلى عجلاتِ المترو في غوتنبورغ.
لحم مفروم بقدرة الأخت صاحبة العينين البنيتين الكليمتين:
ـ لقد غاب أخي ميتان عن عيني؟.
تسائل نفسها، وهي تعجن قدَرها مع قدر أخيها، فقد ولدا على أرض واحدة: الفايكنغ.
بقدونس مفروم بخشونة، بصل أحمر مفروم بشرائح رقيقة تشبه شرائح العماء، سماق قطيعة، ليمون مجفف، أو عذاب، ملح، قلق، حنين، وأغنية ظلت ترددها نوروز لأخيها الضيف:
way li min, tu birê min
way li min, tu Mitanê bavê min
أغنية خلطتها مع جناحيها الرهيفتين، ومع الفحم الثقيل بذاكرته المشتعلة، أوقدت لأخيها الزيز الزعران انتظارها له منذ قرون.
لحمٌ، تقطر منه الدهن الكثيف اللزج، الذي يشبه ماء الأنثى الشبقة، التي تريد.
سَلَطةٌ عشواءُ، سلطة مملحة بمقادير العلماء والرسل والهراطقة والمنفيين والموسيقيين والنجارين وأصحاب العلوم الاثني عشر المندثرة والحقيقة.
أكل الضيوف، ومسحوا أيديهم الخشنة المتشققة بأردان عباءاتهم الخفيفة من وبر الماعز، وتمتموا لأختهم الكبيرة بلغة المديح:
way li min, tu birê min
way li min, tu Mitanê bavê min
***
ـ لفَّ رجليكَ على رجلي الصغيرتين، بابا، وترجم كل هذا البرد القادم. تقول نوروز. وتقول نوروز:
ـ على جبيبني، غبار المحاربين، وغفوتك البعيدة، ونسيانك، وحنينك، وقرنفلتك التي أضعتها، في انتظار أخي الشقي "ميتان"، على جبيبني، وداعتك التي شاحبة، عندما ذهبت؛ فلم تعد رجلاك تحتضنان رجلي اليتيمتين، مثلما كنتَ تفعل في موسم الكرز والخيار والشمام والبطيخ والنعناع واليانسون والباذنجان والكوسا والألم وزهرة الشهداء والبامياء وزهرة عباد الشمس الدائخة المتعبة آخر المساء، وهي تركض وراء الشمس،
على جبيني قهرك، بابا.
يأتي موسم، ويذهب موسم، وتظل نوروز المشعشعة، تنتظر أخاها الميتيُّ القديم، فلا يأتي، فلايصل؛ لقد غدر به وبرهطه الكليمين، الوقتُ والغدرُ. كانوا يُذبحون: ميتان العظيم ورهطه النورانيين.
ـ ضعْ رجليكَ العابثتين بدون حساب، على رجليَّ النحيفتين الغارقتين في النعاس مثلك، ياأخي ميتان. ضع تاريخك القليل مع تاريخي القليل:
ـ سنتان، وثلاثة أشهر، ياأختي نوروز. يرد الميتيُّ على أخته التي نامت قبله، على سرير السويد ـ المنفى؛ سرير غطس الاثنان في دِعته ووبره وخيانته وريش بطاته وجلبة الماء الحار، وهو يسلق لهما البطاطا والبيض الأحمر والتدابير الصباحية الحزينة والأقلام والولادة في المنفى، فهما ـ الأخ الشقي، وأخته الشقية ـ، وُلدا في غوتنبورغ.
سرير، غطسا فيه، كل منهما يبتسم للآخر، ويؤنب الآخر:
ـ ميتان، نَمْ.
ـ نوروز، نامي.
فلاينام الاثنان. يقتسمان السطر المتوتر في حياتهما، يقتسمان القوس التي تكسرت، والنبال التي بقيت مرمية على الأب. تكسر السرير أيضاً.
ولدت نوروز.
فقرأ لها الأب يوسف سعيد، الشاعر السرياني والسريالي، دعاء المقدسين؛ وجمَّلها بهدوئه، ومسح بيديه النسّائتين على بكائها، في ذلك الفجر الذي حليب الأمهات:
يرتل لها أبونا من صلواته السريانية:
"لقد اكتمل يارب وعد رحمتك الذي وعدتنت به ـ يكرر ـ، إسألوا تعطوا، إطلبوا تجدوا، إقرعوا يفتح لكم. الفعل خير من القول، والعمل من الوعد. ليس فقط للحكماء والفهما، أُعطيتْ مواهبك، وفُتح بايُ مراحمك، لكن أيضاً للآخرين الذين هم في بداية عمرهم وضعهم جنسنا في خانة الجهلاء. ومنهم هؤلاء الطفال الماثلون أمامك، الذين اختارتهم نعمتك في شبكة الحياة".*
كانت نوروز المؤتلفة الوديعة، نائمة بين سعوط الأب يوسف سعيد وقصائده ورسوماته ومخطوطاته السريانية التي كانت غارقة في حبر القديم ـ الهجران، نائمة، وتبتسم للأب الشاعر، ولاتفهم:
ـ لستُ سريانية، أبونا، أنا من سلالة الميتانيين.
ـ خذي خبزي، ونبيذي، وحكمتي، وهدوئي، وأجراسي القديمة في كركوك. خذي أن تحبي أخوتك المنهوبين، ومعهم، خذي هذا الخبز من الخورية العجوز، ياابنتي نوروز.
مرَّ فصلٌ بعد فصلٍ، وهذا الكتاب لن ينتهي، كتاب التوابل للخمسة الذين يشبهون الحدائق الخمس في الفصول الخمسة، في الشؤون الخمسة لجرح الزعران الذي جرحته الظلال؛ وجرحته السكين الخفية، وهو يكشط بالسكين السويسرية الزرقاء المشرقة تخوم عامودا الخمسة: الأبناء.
نوروز العذوبة. نوروز التي طبخت لأخيها ورهطه الحمى مع لحم العجل مع الغضب وبعضاً من الكزبرة الخضراء.
ـ ياأبي، سيصل ميتان، جائعاً، ياأبي، سأفرم له البصل والثوم والبقدونس وبعضاً من خيالك الحنون، وأنيناً، وحديداً من زهرة القنبيط، ولزوجة الياقوت عندما يموت، وسأفرم ضجري وضجرك، وضجر الغد الذي لن يأتي. سأفرم لميتان ورهطه المنفي، ياأبي، لوعتك.
***
كان ميتان الأسطورة، ينام بجانب الأسطورة نوروز.
***
يغلي ماء الطنجرة.
بيض مسلوق، وبرغل مسلوق، وتاريخ مسلوق، ورحلة مسلوقة.
يفور الماء والحياة والنبيذ والحجل والثمرة الحامضة للخيانة والأجنحة القوية التي ترفرف على سماء المنفي.
ينام الاثنان، كل قبل الآخر. وتظل الأغنية الجارحة تدور على نفسها، بالقرب من المخدتين من ريش البطات:
way li min, tu birê min
way li min, tu Mitanê bavê min.
نفسها، الأغنية، التي بدأت تدور على الخزّافِ القلقٍ: سيبان.
- عن صفحات، بعنوان: طقس سرّ العماد المقدس، كتبه مار إيشوعياب البطريرك الحديابي، وأعاد تنظيمه مار إيليا الجاثاليق البطريرك. كنيسة أم الله ـ ساوثفيلد، 1997.
- الصورة المرفقة نوروز، إبنة الشاعر، الزخرفة الكتابية حول الصورة، من عمل خليل عبدالقادر.
إقرأ أيضاً:-