(إلى بسّام حجّار)
أيّها العابرُ على جسرٍ من أثير
مُتأبطاً وَهْمه، حائراً بقدمَيْه
مُذْ انتهى الطريق
ولم ينتهِ بعيدٌ إلى البعيد
ولا قريبٌ إلى القريب.
ألهذا رحلت يا مَنْ اكتفى مِنَ النارِ بسُنبلة
ومن السموات براحةِ يَد،
ألأنكَ تعبت من مادةٍ يقيسونَ بها الأَبَد
وحَرَكةٍ يتوهّمُها المَوْج فيما يتجمّد قلبُه.
الرموزُ ستبقى بلا مفاتيح
ذريعتنا الأمثل لحياةٍ أقلّ ضجراً
وإنْ ارتقينا السلالمَ نفسها
إلى القَفْرِ نفسه
وبالبردِ نفسه آخينا المطرَ
والحريق.
منذ سنين وأنا أراكَ خفيفاً تمشي
مُطْرقاً لا تلتفت
حتى حين سألتَني مرّة عن إسمي
وداهمَنا مطرٌ ممزوجٌ بخيوطِ الشمس
فمدَدْتَ يدَكَ ومدَدْتُ يدي
أَزِنُ بكَ الحُلْم.
تحت جلدِكَ كانتْ رمال
صمتٌ يبتلعُ صمتاً
ولا سفينة في القاع ولا حبال،
ومع ذلك،
كانت لِلَيْلِكَ شقوقٌ
بعضُها يتّسع لجُرْح
وبعضُها لغُبَار،
وكان لألمِكَ رمادٌ
ذاكرتُه تُحْفَظُ تحت اللسان.
الآن وإنْ استحال صمتُكَ ضِياءً
فلكي يُمْعِنَ في السرّ؛
كأنْ يمّحي الماءُ وما امّحى فيه،
كأنْ يَغْسِل موتُكَ يَدَ الموت،
إذ لا أَثَرَ لفَمٍ يحفرُ أرضاً
فيها صمتُكَ أعمقُ من موتِك؛
صمتٌ لا يخترقُه لَمْس
لا طائرٌ في قفص
حتى ولو فَضّ الحَجَر
حتى ولو صَمَت.
من خلفِ زُجاجِ المقهى
رأيتُكَ مرّة تحملُ حقيبةَ يدِها،
والمرأةُ إلى جانبِك تسيرُ بأجنحة،
وحين زُرتُك في بيتِك
المرأةُ نفسها سمعتُها تحدِّثُك عن حُلْم
عن قطة سوداء وجُرحٍ غامض.
كان عليّ أن أرشفَ قهوتي على مَهْل؛
أضعُ شفتين من طِين على شفتين من أثير
لكي أحفظَ توازني على خيطِ الظِلّ.
طيفٌ آخر سيخطو بين تُحَفِ المنزل
وما سينكسر سينكسر بصمت وبلا حُطَام.
زائرُ الليل سيعرفُ الليل بكلماتٍ أُخرى
والبلوّر بحواسّ أُخرى،
ولن يكونَ الشخصُ ليكونَ الغريب،
فقط ستكونُ الكأسُ وأعقابُ السجائر
شاهدةً على أنّكَ بغيابين
وطيفٍ واحد.
هكذا كانت حياتُكَ بطعمِ الحَجَر
مهنتُكَ نديمَ الحَجَر
وما أقساها مِهنةً وَهَبْتَها رِقّةَ ظِلِّك.
تُقَلِّبُ الحَجَرَ بين معاني يديك،
تحكُّه بقلبِك
فيتوهّجُ بأحزانِ حِجارةٍ ذاكرتُها أَقْدَم
- كنتَ تعلم، البشرُ زائلون وليس حجارتهم -
حجرٌ ربما يراك مثلما تراه،
حجرٌ قاسٍ ولعلّه يَشْفي
صامتٌ ولعلّه يُشْجي،
حجرٌ... ومَنْ يدري ما هو الحجر؟!
ورغم أنّنا تقاسمنا العُزلة،
سُكْنى المياه القاتمة،
ومثلكَ اكتفينا بنافذة،
ظلّتْ أشياؤنا قاسية ولا تقبلُ القِسْمة:
البردُ، الصمتُ، الهواءُ القليل،
وحزن
حزنٌ كثير.
ورغم أنّنا تقاسمنا العَتَبَة،
عواصفَ المِلح في الذِكرى،
ونارَنا الأجمل حين يُراقُ دَمُ التيه،
ولكنّ البياض
آهٍ البياض؛
ما تهدّمَ في عينيكَ
لحظةَ فاضَ الضوء
من حَجَرِ الغريب.
(أوهايو، 18/02/2009)
الحياة - 26/02/2009