أظنهُ فعلها بهدوء.هكذا يمكن أن أذكر ذلك اليوم القاحل: شخصٌ يفتحُ باب الثلاجة .ثم يضع المنزلَ والدراجةَ الهوائية والكبدَ وقطعانَ الكتب والثعالب والأحجار البركانية للذكريات والتلفاز وكيس البرغل واللابتوب وقميص الكتاب بأشجاره المائلة للخريف وتماثيل الموتى وعلب التبغ والجبنة والتون وصورة دافنشي في المجمدة.بعد ذلك يغلقُ على الزمن بأسنان تمساح،ثم يطلقُ تسريحة الثلج على رأسه ،ويهبطُ من أرض النصوص إلى شوارعَ تفورُ في أوردتها الخمورُ والدراهمُ والعجلاتُ والبغايا واللصوصُ والشموسُ الموروثةُ وأفكار الريح وهي تدبغُ جلودَ المدن بالمدفعية الثقيلة. هل كان مجرد توتر في بنك الذهن ؟ هل كانت فرصة لرجل يرغبُ بصيد نفسهِ في حوض للقلق البيولوجي. أظنهُ كان مخلوقاً مُشتتاً ،يعتقدُ أنه يلبسُ لحماً من الرمل المتحرك.شخصٌ لا تنهضُ من تربته نمورٌ لأيدولوجيا الافتراس التي ربما تفاقمُ فاقة العقل.لا مؤشرات على ذلك الثراء الخرافي لخراب الذات.الأمكنةُ تفيضُ بالعزل وبالعزلة .بالأضرحة .ببراميل الدم. بفلاسفة تكرير وحي الآلام الرعوية .بالكراسيّ التي لا تُفكِك مساميرَها الحروبُ.
من العصر الطباشيري إلى العين الممتلئة بالثدييات ذات الريش. أهي هجرةُ سمكٍ أم دمع؟ بلدانٍ أم ديناصورات تحاول استبدال مدافنها القديمة بمجاري الأنهر النائمة في العقل؟حلقاتٌ تتكسرُ.حلقاتٌ تستعيدُ طفولتها من مشيمة الغبار.وبشرٌ يحملون المدافنَ على الظهور ،موغلين في قِدمِ شهوات هائجة في أكياس نار.
يقولُ حاجبُ الأرض:الإيروسُ معدنٌ أولُ .والذاهبون غطساً في التربة الحرام،سرعان ما يستبدلون قطع غيارهم جرياً للعادة.ثم يمضون في النسوةِ حبواً ،باحثي عن لذةٍ لا ينقطع لها حبلٌ في سرير.
قبل أن تجف غصون الزمن وتسقطُ أرضاً..قبيل أن تظهر عظامُ الأقدام من نهر اللحم المتضخم بمياه المبازل المالحة وأطلال الغرقى والأشكال الميكروسكوبية حافظة الطحالب والأصداف والمحار.كان كبيرُ قدامى المشاة يستذكرُ أيامَ الزحف والحنجلة ومشي العضلات .ثم بعد ثم بعد ثم بعد الخطوة الأولى بعد تعبيد الطرق بالنظرات،يأتي فصلُ ما بعد الخريف و الشتاء و الربيع والصيف.كأن يمكن تسمية ذلك بفصل القيامة الافتراضية. أو فصل الأقدام الأكولة للأرض.ثم بعد ذلك الاختصابُ بالخيال الجيولوجي ،حيث يصبح الركضُ ربّاً لتحديث الأرض.لانتزاعها من قرصنة الجفاف والحشرات وآفات التلوث.
الآن ..
نركضُ تحت أشجار الصنوبر
لا غيوم فوقنا
ولا تلال رملٍ في جيوبنا .
نركضُ ..
نركضُ خارجين من شيخوخة الكراسيّ
من كتب الديزل و التراثٍ من الأقفال وربع الغرام
من الدنانير المسبوكة من الذهب
أو تلك التي تشبهُ الزجاج.
نركضُ حفاةً ..
وأشجارُ الصنوبر على امتداد الضفتين
تضربنا غصونُها مخربطةً
تسريحةَ العقل بمقص الهواء.
الآن نركضُ..
الركضُ إلى الأمام
بأقدام مياه.
الركضُ في العراء
بأحذية شديدة الصلع.
نركضُ
نركضُ على السبورة النائمة
في الطفولة.
نركضُ نهباً للشوارع وضواحي التاريخ
نركضُ غير مكترثين بالحافلات .
بلهث الحشاشين.
بباصات نقل ركاب الدجاج أو الأوادم.
بدراجات سعاة البريد أو بشاحنات
شاه بندر التجار.
نركضُ
نركضُ
أظننا قراء سراب.
وملتهبين كحصى النيازك.
نريد أن نصلَ دون حقائب أو بطاقات مشفرة
وكذلك لا نريد الوصول .
ليس كمثلنا من المبتهجين
الضالين المشعوذين الشيطلائكيين.
نحن نركض.
كما كانت تفعلُ أقدامنا في العصور
الغابرة.
نركضُ دون هوادة.
نركضُ
الحذاءُ بتسعين حصاناً
ويقدر على سباق الضاحية
وقفز الموانع والحدود
على إنتاج التشرد والكهرباء
والطرقِ واليانسون دون كاربون
أو مخلفات.
نركض الآن.
نركضُ..
الزفير يرتفعُ من مداخنَ الجسدِ..
وما تزالُ أقدامُنا مشحونةً بالطين
المنبعث من زنزانة الأرض.
نركضُ.
تلك المباني ستكون أطلالاً بعد مرورنا.
تلك النساء الملثمات سيتناولُ البعوضُ
الكثير من زهورهنّ دون اعتراض.
نركضُ
أشجارُ الصنوبر فوق رؤوسنا.
ربما تكون هي الآن نائمة.
ربما توشك على تهدئة نزلاء غصونها
من أصحاب الأعشاش .
نركضُ
نركضُ
قد نرى أحداً في الطريق صراخاً:
أين وصلتَ في الركض أيها السندباد
الأرضي؟
البيتُ أقرب على الغداء من القطار.
والليلُ أمتنُ على السرير من الأرجلِ
الممتلئة بفقاعات التعب.
هل تراكَ تركضُ الآن في سفينة
أم في هُدهُد .
في نص جبلي أم في غزال مُقاوم
لظمأ الصحراء.
ماذا يمكن أن يكون الردُّ.
نركضُ..
نركضُ..
الأحذيةُ أسئلة هي الأخرى،
وقد لا تكف عن الركض في الوحل
أو على السجاد.
في الماء أو على المرمر .
لذا عليك أن تركض معنا.
اركض معنا أيها الواقف.
اركض.
فقط اركض.
الرُكبُ جسور قابلة للانهيار.
وقد يقعُ الزمنُ علينا
ولا نكون إلا من تلك الأضرحة المتناثرة
كالنمش على جلد التاريخ.
اركض ..
اركض..
ضع تحت قدميك قطعةَ ريحٍ
وانطلق.
نحن على وشك النهاية.
خطها الأخير هناك..
يكاد ينبلجُ.
خذ كأساً من النبيذ لو غامرك
التعبُ.
الركضُ في القلب السكران أمضى
من السهام المصقولة.
اركض
اركض
لا بأس أن ترشف لو كنتَ في الطريق
إلى الهملايا كأساً من أحمر
الشفاه.
ثمة نساء عابرة للقارات على ظهر
سور الصين.
فلا تنس الورد المنغولي ولا قصائد الهايكو
أو فتيات الجيشا .
اركض
اركض
فمثلما ارتفعت عقيرتك من الحبو نحو المشي
من الهرولة إلى الركض..
ستنمو في رأسك فكرةُ أن ترفرف رايةً
على طريق الحرير
ما بين الهند وحلب .
ما بين الورق وتلسكوب الشاعر.
ما بين قلوب تنامُ مع السردين
في علب الهجرة وبين البرزخ المكسور
كقلم من رصاص .
اركض
اركض
الركضُ هدمٌ للهواء.
الركضُ بئرٌ في نهاية القدم.
الركضُ هدرٌ للفراغ.
نحن نركضُ تعبيراً عن خلاصتنا في الأزهار
قبيل الذبول.
نركضُ امتناناً لمغادرة بلدان نائمة في أفواه
التماسيح
اركض
اركض
ما من أحد في الركض
ولا يتمنى تمديد قسطل من الأوكسجين
ما بين الفضاء ورئتيه .
نحن العداءون الأوائل من قدامى
الأفلاك.
أصابعُ أقدامنا رماحٌ تتكسرُ
في المدّ والجزر.
ومع ذلك لا ننقطعُ عن الركض حفاةً
أو بأحذية باتا أو اديداس.
ها نحن نركضُ
ها نحن نجتمعُ بعظام القدم والكاحل
وصابونة الركبّة في بيان الحركة.
الأحذيةُ جدرانٌ
طالما نتجاوزها بالسرعة.
الركضُ بالحدوة..
الركضُ بالسنابكٌ..
الركضُ بالبلدوزر..
نحن نركضُ
نركضُ نركضُ.
انظر طائرات البوينغ كيف تركضُ
بأحذية جنرال إليكتريك.
تذكر البواخر كيف تركض بين طبقات
المياه مثل الحيتان البيض دون ضجر.
اركض
اركض
انتبه إلى عمود الكهرباء النعسان هذا.
اركض
اركض من أجل أن تطيح الرئتان بالغبار والصدأ
والحشرات وصخور التبغ دون سأم .
اركض..
اركض ..
من أجل أن تبقى الأعينُ ينابيعَ هائجةً
تتدفقُ بالكريستال.
اركض.
الركضُ مفيدٌ للصحة
وكنا لا نتوقف عنه في شارع في سريرٍ
في ذاكرة في شهوة تمر بمصبات
النساء.
الصنوبرُ شجرٌ يركضُ معنا
في الحلم وفي اليقظة.
في الحقل أو في كتاب التراب .
ألا تراهُ.
أجل الصنوبر مثل قطعان غزلان مشتاقةٌ
لالتقاط
صورة بكاميرة من ماركة (نيكون) .
الضوء يُسرعُ معنا
وكأننا أخوة صنوبر وجبال وغزلان
في سباق شاق.
قلبي كأنه حصان ..
كل ركبّة منه حديد بحديد.
لا تأخذك الحماسةُ فتتهور.
دعكَ في المضمار.
السيارات هنا متوحشة.
والطائراتُ والسفنُ والقاذفات.
اركض
اركض
فالركضُ لا ينقطعُ عن الدم
أو على الطريق الزراعي .
نحن نركض ويغمرنا العرقُ
كما الندى على الأوراق العذراء.
نحن في اكتمال المشهد
الشمسُ تتدفقُ ونحن نتدفقُ ،
راكضين
ورؤوسنا تسريحةٌ كونكورد
على ارتفاع مليون قدم .
أرأيت.
كيف تحلقُ الأحلامُ
لتركض فوق أطلال القامات والمدن
والنصوص الوضعية وبساتين الحمضيات.
الركضُ لم ينقطع.
وأشجارُ الصنوبر لم تنقطع عن اللهث.
اركض
اركض
لا بد أن نبلغ الحبّ في مكان ما
نحن نركض لنتحرر من الجغرافيتكيا.
من الأحذية والأقدام والطرقات المتوفاة.
ربما بعد خطوات تقع السماء على رؤوسنا.
ولكن لا بأس
سنبلغ ما بعد أبراج الركض.
الركضُ ليس غايةً .
الركضُ ليس طقساً.
اركض
اركض
هم أيضاً..
عادةً ما يركضون خلفنا
مستخدمين أقدامنا الكثيرة المتناثرة
السائبة العريقة المقوسة المريضة
المشققة:
ركضاً في الحرب.
ركضاً وراء القمح.
ركضاً وراء أفلام الحرية.
ركضاً وراء إبلٍ تحملُ أرواحنا وتدخلُ
ربع الهوى الخالي.
لذا اركض
ركضاً نحو فتيات المدارس والأساطير ومنازل
القشعريرة.
ركضاً كما السلمون يتطاير فوق حدود الأنهر
شهوةً بالانتحار .
اركض
اركض
نحن نركضُ متعثرين تارةً بثياب الريح ،
وأخرى بعظام سيقانٍ كانت تساقطُ
من أجسادنا على وقع طبول
الملذات الصاخبة.
لم ننتهِ من تصوير أشجار الصنوبر بعد.
الركضُ طقسٌ.
والأصابعُ شفرات على رقعة الأفق
المخمور بالضوء .
ومع الريح ..
يأتي الركاضون حاملين الأغاني والرسائل
والعطور واللبان وقطعاً من ذكريات الكرز .
نحن نركضُ
نركضُ نركضُ
مقلصين المسافات ما بين القطبين
في سرير الكون.
لا تتعب.اركض.
لا تجعل الرئةَ فانوس على وشك
أن يجف الديزل فيه .
لا تفكر بالتعب.
اركض.
المحطاتُ فارغة إلا من الذباب
والمواقفُ تناولها الجرادُ الإيديولوجي على طاولة
العشاء الأخير.
لا تتعبَ
دعْ الأرجلَ تمتصُ الطريق
كما آلات ضخ البترول..
لا تتعب
خض في الطين .
الترابُ برئ من المهد إلى اللحد.
ألم نأتِ راكضين من الفردوس بعد كرنفال
التفاحة.
اركض.
حذار من التقاطعات.
بعض الذكريات ترفعُ ضغط الدمِ
دون طائل.
ومع ذلك سنركضُ
نركض
نركض
الساحلُ طويلٌ
والمياهُ تركضُ مغنيةُ
من مضيق لآخر.
ومن قسطل عتيقٍ لأنبوب من فولاذ
كربوني آخر.
نركضُ مصغين لهدير الدماء المتصادمة مع الحصى
في غرف الجسم وصالوناتهِ.
الأقدامُ مرةً أخرى
الأرضُ مرةً أخرى
والركض حركةٌ مناوئةٌ للضريح
لطقوس السأم المناوبة في الأعشاش
الساكنة.
اركضْ.
اركضْ
اركضْ.