أعدّها وقدّم لها
جهاد هديب

أُعِدَّ الكتاب خلال العام 2003م وكان الفراغُ منه في تشرين الأول من العام نفسه

إلى أصدقائي الشعراء أولئك الذين ذهبوا في أسباب العيش. إلى أصدقائي الشعراء ألئك الذين ما زالوا في الطريق إلى إيثاكا.
إلى جيل بأكمله وهو يتقدم بخطى حثيثة إلى الأربعين؛ إلى بهاء الخسارة ومحنة التجربة والماضي الذي ينوس فيه،الآن، ضوء كان يتقدّ.
.. إلى روح ماهر الأعرابي أيضا .. إلى أحلام علّقها أمامنا على المشاجب ومضى.

مدخل

((لا باب يبقى
وأبقى
أمجدني في العميق؛
وأرعى البهاءَ
وأرعى الأبد))
علي العامري

رغم أن اختيار أو انتخاب قصائد من الشعر، وفقاً لأساس أو قاعدة أو هدف أو على نحو من الانحاء، وتضمينها كتاباً بوصف ذلك تأليفاً أدبياً قد شهدته الثقافة العربية منذ القرنين الرابع والخامس الهجريين، العاشر والحادي عشر الميلاديين، إلا أن المعنى الدارج في الثقافة الغربية لا سواه قد درج في الثقافة العربية المعاصرة. حتى باتت كلمة (أنثولوجيا) المأخوذة مباشرة دون ترجمة تشير إلى فعل الجمع من المنجز الابداعي لجيل أو لحقبة أو لبلد، بينما اقتصر المعنى الدارج من كلمتي (منتخبات أو مختارات) على الاختيار من منجز إبداعي لشاعر واحدٍ في أغلب الأحيان.
ففي حين تتبادل كلمتا الفعلين: اختار وانتخب المعنى الواحد الذي يخصُّهما، فإن كلمة (Anthology) أو (Anthologia) تتحدد في أنها ((المُنتخبُ من الأدب في فقرات أو اقتطاعات)) مثلما تعني ((المنتخب من الأعمال الفنية التشكيلية أو الموسيقية))(1).
غير أن كلمة الجَمْع من الفعل: جَمَع، أقرب من سواها في مقاربة معنى (Anthology) في الانجليزية، حيث يرد في القاموس المحيط للفيروزابادي: ((إن الجمعَ كالمنعِ: تأليفُ المتفرق))(2).
وإلى هذا المستوى من الدقة في التعيين والتوصيف يطمح أن يصل هذا الكتاب؛ هذا التأليف للمتفرق فيلتئم متناً له.
وفي الأغلب فإن هذا الجمع تأليفاً للمتفرق قد يعبّر عن طريقة في القراءة عندما تكون في سبيلها إلى أن تتحدد في منهج أكثر مما أن القراءة قد حددت المنتخب وفقاً لمنهج نقدي بعينه. في معنى أن القراءة هنا فعل في صدد أن يتشكل عبرَهُ موقفٌ نقدي فيما هو يشتغل في ذاته على بلورة منهج قرائي تجاه منجزٍ شعري مختَلِفِ الاتجاهات ومتداخلِها، تشكلت بوادره وبشائره خلال الفترة من العام (1990م) حتى العام (2000م). وأكثر تحديداً فالذي حدث أن الجمع قد تمَّ بعد ما أمكن جمعُ الدواوين التي هي الأولى لأصحابها وطُبعتْ خلال العقد الأخير من القرن الماضي وما تلاها من دواواين، وجرى انتخاب القصائد منها وفيها.
وكانت قراءة المادة التي انتخِبَ منها متن الكتاب قد بدأت فعلاً بسيطاً يبحث عن اقتراحات أو تصورات تمنحها القصائد ذاتها، ثم أخذت تصير فعلاً مركباً شيئاً فشيئاً،و أخذت المستويات القرائية تتعدد كلما انحازت القراءة إلى ملاحظة فعل التخييل أكثر من انحيازها إلى موضعة جزء من المنجز الشعري التسعيني في إطار حركة الشعر الأردني.
وهنا من الممكن الإشارة إلى أن عدداً من الشعراء الذين لمعوا بقوة في المشهد الشعري التسعيني قد فرضت قصائدهم نفسها على المنتخبات، رغم أنه لم ينشر لأي منهم أي عمل أو اكتفوا بعمل واحدٍ فحسب، أو انسحبوا من المشهد بأكمله بعد قصائد تكاد لا يتجاوز عددُها الأصابع في اليد الواحدة. وذلك فضلاً عن البعض من الشعراء الذين انسحبت تجاربهم من الثمانينات إلى التسعينات، رغم أن ظهورهم كان في النَفَس الأخير من الثمانينات أو حتى في العامين الأولين من الألفية الثالثة.
أما التربة الحقيقية التي نبتَتْ فيها فكرة هذا الكتاب فتعود إلى هواجس شخصية محضة، من بينها أن هؤلاء الشعراء لم تحظ تجاربهم بنقد علمي صارم (يغربل) التجربة أو يحدد التوجهات المقبلة لمسارات الشعر في الأردن .. هذا الشعر غير مقطوع الصلة عن المشهد الشعري العربي في هذه اللحظة، إذا صدقنا أن أصحاب هذه القصائد يمثلون إحدى الروافع في مستقبل القصيدة.
وينضاف إلى ذلك أن الكتاب قد يوفِّر فرصة الكشف عن العلاقة التي تربط ما أنجز هؤلاء بما أنجز شعراء سابقون دون ميل إلى تحقيب أو تجييل، لذلك انتُزِعَتْ القصائد من الكتب وتم تأليفها من جديد في كتاب آخر يمنحها فرصة أن تكون مكتفية بذاتها وقادرةً على التعبير عن إمكاناتها الشعرية التخييلية والبنائية، وعن تجربة كاتبها بعيداً عن فضائها الأول الذي هو الكتاب، وقد ألَّفَ الشاعر القصائد وجمعها فيه على طريقة بعينها دون سواها، كي تمنح الديوان سمة الكتاب المصنوع المؤَلَّف تأليفاً .. أي أن هذا التأليف في الكتاب هو صناعة قارئ شعر وليس بناقده.
أيضاً ثمة غيْرةٌ فقد درج في عادة الأمم الحية أن تصدُرَ عن نقادها أو أكاديمييها منتخبات من الشعر المكتوب بلغتها بواقع خمس إلى ست (انثولوجيا) في العام الواحد، الأمر الذي يعني أن متابعة حثيثة لواقع القصيدة هناك ترصد التطور الشعري وما يجدُّ فيه، وتبحث في علاقة الشعر بماضيه مثلما تبحث عما هو مدار بحث شعري راهن، بل وتبحث في جدوى الشعر في ذاته. وذلك وفقاً لزوايا في النظر ومناهج أدبية، أو حتى غير أدبية، متعددة .. ما يعني أن القول الشعري يتعرض عند تلك الأمم إلى تَقَلُّباتِ أعين وخواطرَ وأهواءٍ وأمزجةٍ وفضولِ أشخاص أو متخصصين من الأكاديميات السائدة أو الكبرى ومن خارج هذه الأكاديميات.
وذلك كله فضلاً عن ترجمات لا تنتهي لمنتخبات لشعراء من العالم ومن أزمنة مختلفة وأمم مختلفة. في حين ما يزال هذا المعنى الكبير للفعل (انثولوجي) غائباً عن الثقافة العربية.

* * *

إن من بين ما تطمح إليه هذه المنتخبات أن تكون تعبيراً عن رؤية غير راسخة وغير مطمئنة في صدد الإجابة عن سؤال من نوع: ما الشعر؟ أيضاً: ما الذي جعل القول شعراً في الصوت الشعري التسعيني* وتحديداً في قصائد هذه المنتخبات.
غير أن الإجابة هاهنا غير نظرية، بل إنها مقتحرة تخييلياً ومأخوذة إلى ما يمكن أنْ تمنحه قراءةُ القارئ للقصائد من تجلٍ، بعيداً عن الظرف الذاتي والموضوعي لتلك القراءة، وبعيداً عن أية منهجية في تلك القراءة سواء عليه أحددَّها القارئُ أم الكتاب .. إنها اقتراحات تخييلية، كي لا نقول استراتيجية تخييلية، أساسها تجربة الشاعر الإنسانية والوجدانية، وتكاد هذه الاقتراحات تكون خيارات مختلفة تعددتْ بتعددِ الخبرات الجمالية والتقنية والأسلوبية في الصنيع الشعري لدى كل شاعر.
هكذا ربما يسع القارئ أنْ يلاحظ إلى أي حدٍ تتفاوت وتختلف أو تتجاور الخبرات الفردية في التعامل مع اللغة كخامة، وكذلك درجة طواعيتها في إحداث الشكل، في القصيدة كي يصير القول شعراً والشعر علماً.
ولربما عبّرت هذه القصائد في صيغة منتخبات عن مزاج وهوى شخصيين، غير أنّ تلك الصيغة قد تأثرت بالسعي إلى أنْ تتصل النتائج بمزاجٍ عامٍ ما أمكن، وينحاز إلى الجدَّةِ والتحديث في الصنيع الشعري عندما يعني ذلك الخروج بالشعر من ارتفاع الصوت والاشتباك مع الراهن، وفقاً للمباشَرة في المعنى وصراحته الخالصة، إلى مقاصد في المعنى أفرزَتْها (ذاتٌ) متأملة جعلت تلك المقاصد قابلةً للقسمة على غير تأويل بوصف ذلك موقف الصانع من العالم ومن المعرفة، بل ومن اللغة وبُناها التركيبية والنحوية أيضاً؛ وكذلك العنايةُ، في القصيدة، ببناء مشهدية متكاملةٍ وحْدَتُها الأولى صورةٌ شعريةٌ وما يستدعيه هذا البناء من تمظهر سردي يقول الحال أو المقام في غير اكتمال كي يستمر الأثرُ الذي يحدثه القول الشعري في التأويل أو في تقليب المعنى على أوجه عديدةٍ وبعيدةٍ عن الإفراط في غموضٍ لا يُعين القارئ على استكمال جانب من البنية النصية من طريق الخيال.
ومثلما أن ما سبق هو أساس أو جانب من أساس قد يكون أكثر (ديمقراطية) من سواه في انتخاب القصائد إلا أنه يمثل موقفاً من الكيفية التي يمكن للقصيدة عبْرَها أنْ تتعين في الكلام بعد ما صار القول قولاً شعرياً، ولكن بحيث يبتعد هذا الموقف عن الاشتباك النظري بين الأشكال الراهنة للقصيدة العربية، وهو الأمر الذي ربما تحقَقَّ إلى هذا القدْر أو ذاك.
ويقيناً إن ذلك من حق صانع المنتخبات وأمرٌ متاحٌ له، بل إنه موقفٌ له الحرية في اتخاذه تجاهَ مادة اشتغاله وكيفية تناولها، علماً بأنها لا تمثل موقفاً فريداً ولا وحيداً، ومن الزاوية ذاتها في القراءة يمكن لآخرين أن يأتوا بنتائج أفضل بالتأكيد.

* * *

قد يلاحظ القارئ أن الأكثر إثارةً للانتباه في بدايات القصيدة التي ظهر صوتُها أول مرةٍ مع مطلع التسعينات، وفيما هي مشغولة ببناء نفسها من مادة اللغة وايقاعاتها الخليلية، أنها قد نزعت إلى اقتفاء أثر ما أنجز الثمانينيون في القصيدة وما فجرّوه حولها من ضرورات الانتباه إلى مصادر شعرية ذهبت باتجاه الإرث الصوفي، شعراً ونثراً، وتقنيات الكلام وأساليب القول والموقف من اللغة فيهما، وكذلك بعض الاتجاهات الشعرية الغربية التي فرضت صوتها الخاص على القصيدة العربية على العكس تماماً مما سعى إلى إثباته د. غسان عبد الخالق في دراسته (الشعراء الشباب في الأردن - جماعة أجراس نموذجاً) عندما ذهب إلى أن ((التغير الرئيسي والجوهري الذي أحدثته جماعة أجراس يتمثل في القيام بانقلاب على صعيد المضمون الشعري بوجهٍ خاص، أما على الصعيد الشكلي فهي لم تفعل أكثر من مواصلة اختبار الامكانات التي تنتجها قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر مثلها في ذلك مثل كافة التيارات العربية الحديثة في الشعر))(3).
والحال أن القصيدة قد كانت أولى وابتدائية لدى (أجراس) حدَّ أنَّ بعضاً منها لم تشتمل عليه الكتب الأولى وما تلاها مثلما حدث مع شعراء آخرين ظهروا في الفترة ذاتها من أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات .. والحال أن القصيدة قد استفادت من المنجز الثمانيني وتحديداً لدى يوسف أبو لوز ويوسف عبد العزيز وزهير أبو شايب وطاهر رياض، هو منجز غير منقطع عن المشاغل الشعرية التي ظهرت عربياً في الثمانينات ولا زالت مؤثرة في الشعر العربي وهي التي طرحها بقوة ما يمكن وصفه بالتيار الأدونيسي -نسبة لأدونيس- والذي شهدت الثمانينات أقوى تأثيراته وأقوى نماذجه ربما، الأمر الذي هو مدار بحث آخر. فذلك "الانقلاب" الذي أحدثته جماعة أجراس كان مسبوقا بل يمكن القول أن ما أنجزته تلك المشاغل في الشعرية العربية قد منح لأجراس في الأردن ولسواها في الفضاء الشعري العربي المبرر والمشروعية لظهور مشروعها على أرض الواقع.
على هذا النحو يلحظ المرء شيئاً من المبالغة في عبارة ((القيام بانقلاب شعري على صعيد المضمون)) ففضلاً عن أن الموقف من اللغة بوصفها المادة الأولى في إنتاج الشعر كان مطروقاً دائماً، فإن اختلاف القصيدة لدى جماعة أجراس وسواها كان في مدار التجريب. أي في مدار سعي الشاعر إلى امتلاك خبرات في الصنيع الشعري ما جعل نجاح القصيدة في الإمساك بشعرية القول نجاحاً نسبياً دائماً، وهذا الأمر من طبيعة الصنيع الشعري اجمالاً.
وهنا يمكن القول إنه مع البداية المحتدمة للتسعينات وتأثيراتها في البنية الاقتصادية - الاجتماعية وانعكاسها على القيم الثقافية والسياسية قد سادتْ تأثيراتُ هجمةٍ من الخيبات والانكسارات العامة والخاصة، فتأثر بذلك بعضُ مزاج الشعر ثم انتقل إلى تلك المنطقة الممتلئة ظلالاً وكآبة والقريبة من (الذات) وما تشهده من صراعات وانقلابات وتناقضات جوانية معرفية وغير معرفية متسارعة في غير صعيد ومجال .. بل إن هذه الانكسارات قد قادت البعض من الشعراء إلى التساؤل عن جدوى الشعر ثم الذوبان المطلق في إثر اقتراحات اجتماعية- اقتصادية وتحديداً لجهة الاستجابة للضغط باهظ الأكلاف طيلة تلك الفترة إلى حدّ أنّها أيامٌ ما عادتْ تصلحُ للتذكُّر.
في مثل هذه الأجواء ظهرت القصيدةُ مشحونةً برغبات وذكريات تفيض بالمشاعر، فذهب أغلبها إلى الطفولة أو إلى الريف هرباً من انتكاسة عاطفية في أكثر مراحل هذه القصيدة نضجاً، وللسبب ذاته على الأرجح ظهرت القصيدة في بعض منها وقد نَحتْ إلى التاريخ كأرض صلبة عِوَضاً عن واقعٍ رخوٍ وصادم ومغلق الأبواب .. لقد ظهرت القصيدة فيما تقول أشياء كثيرة عن العائلة التي غالباً ما كانت عائلة ريفية والتي قلما تمحورت حول صعلكاتٍ وشيطناتٍ، إذا جاز التوصيف، هي تذكارات الجامعة والمراهقة المتأخرة فيكاد المرء لا يعثر على قصائد عاليةِ الصوت أو تقوم على شأن خارج الذات وخارج احساسها بالمحيطِ باستثناء نادر تعود كتابتُها إلى لحظاتٍ كادت فيها ذاتُ الشاعر أن تمسك بالعالم وتسيطر على مصائر الأحداث والبشر على نحو مثير للسخرية أحياناً وللشفقة غالباً.
إن تلك القصائد في أغلبها لا تطرح تصوراً كاملاً أو متكاملاً عن العالم، بل نَأَتْ عن ذلك لتعتمد في ارتفاع سويَّتها الشعرية على العاطفةِ الحارةِ واشراقاتها في العذاباتِ الخاصةِ والتنائي عن المحيط. ولم تخل هذه العاطفة من بعض الحدسِ أحياناً، لكنّ القصيدة إجمالاً ليست نتاج بنية فلسفية راسخة في النظر إلى الأشياء، فهي تكاد تكون نتاجاً ليقينيات راسخة متأثرة بالصنيع الشعري الثمانيني رغم ما اعتراها من قلق المعرفة الذي حكم إلى هذا الحد أو ذاك توهّج الشعر أو اقتراب الشاعر من الامساك بجوهره أو ما هو أقرب إليه. وهنا فإن النزوع الشعري غالباً ما انتجته مخيلةُ اللغة لا مخيلة المعنى، ونادرة تلك القصائد التي جمعت بين المخيلتين، وربما حدث ذلك لأن الإحساس الفردي بالعالم في ذات الشاعر قد ارتقى عن إنشاء مشهدٍ شعري أو صورةٍ شعريةٍ تخييليين يمكن للقارئ أن يعيد انتاجهما في مخيلته، وهو أمر تطور في اتجاهين: ذهب أحدهما إلى المفارقة التي تصنعها المُباشَرَةُ في المعنى، أما الآخر إذ يعتني باللغة ومخيلتها فحمل على عاتقهِ إنضاج ذلك الاتجاه على نحو يجعل المخيلة الشعرية من الممكن أن يتشاطرها القارئ وذات الشاعر معاً دون سطوة لأحدهما على الآخر. والحال أن المغامرة لا تزال قائمةً ونسبيةً أيضاً.
وهنا من الممكن الإشارة إلى أن صوت التسعينات الشعري ليس بجيل يحوي كل متناقضات الجيل الشعري على ما هو شائع عربياً أو على نحو ما كان سائداً حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي. إنهم أشتات وماشون فرادى في دروب وأجيال سابقة.. فالشاعر العربي منذ الثمانينات من القرن الماضي هبوطاً إلى الخمسينات منه، وتبعاً لما شهدته حركة الشعر العربي الحديث، كان يقول العصر الذي يعيش فيه أو يَنْشُدُه في خياله بتحفيزٍ من الايديولوجيا أو ينْشِدُهُ في شعره، وذلك مثلما أن شعراء بعينهم كانوا التعبير السياسي والاجتماعي والثقافي للعصر عن نفسه في المعنى الاجتماعي للكلمة حصراً.بينما حركة الزمن في القصيدة التسعينية هي حركة لا تدور في الذات استبطانا أو في الخارج تأملا بل حول الذات بحثا عن المشهد الشعري.

* * *

ولقد حدث وتأثرت الأوساطُ الأدبيةُ الشابةُ أواخرَ الثمانينات بأجواءٍ من الانفتاح الديمقراطي السياسي، فانضوى كثيرون من الشعراء الطلبة في الجامعتين الأردنية واليرموك في (جماعة الإبداع الشبابي)، التي امتازت بنظرة جمالية غلب عليها الطابع التعليمي الأكاديمي المدرسي في موقفها من الشعر العربي الحديث، والانقلابات التي حدثت فيه. ومع انطلاقة جماعة (أجراس) الشعرية صيف العام (1992) عبر بيانها الأول والأخير، الذي بمعنى ما أبّنَ جماعة الابداع الشبابي، انكسر إطار الانغلاق والأكاديمية وانفتح الشعراء على تجارب نافرة في المشهد الشعري العربي مثل سليم بركات آنذاك، أو بالأحرى مثلما جرى فهم سليم بركات آنذاك، وضَعُفَ الميل إلى التأثر بالقصيدة العربية الكلاسيكية، وانبعث تأثر ببداية السبعينات الشعرية وتحديداً منجز الشاعر عز الدين المناصرة والراحلين الكبيرين الشاعر والروائي تيسير السبول والشاعر محمد القيسي، وهو أمر يلحظه د. غسان عبد الخالق في دراسته تلك.
لقد جاء أغلب الشعراء الذين تشكل منهم الصوت الشعري التسعيني من طلبة الجامعات الأردنية وسواها والذين استمروا من بينهم هم أولئك الذين تميزوا بطور أكاديمي ناضج. ففي أعمالهم الأولى يلحظُ القارئ تأثيراً واسعاً للشعراء الحديثين الأبرز من الذين درسوهم على أيدي أساتذة الأدب العربي الحديث كالسياب والبياتي ودرويش ودنقل وسواهم.
وإلى ذلك هبّ في المشهد الشعري التسعيني، وعلى امتداد العقد، شعراء جاؤوا من خارج النطاق الطلابي الجامعي غير أن أكثرهم انجذب باتجاه الأجواء الأكاديمية، وذلك الجدل الذي دار فيها حول الشعر والابداع وكانوا قريبين من جماعة الابداع الشبابي.
غير أن هذا النوع من الشعراء ظل في هامش اللوحة التي جمعت تلك الجماعة ، وشاع أن القصيدة التي يكتبها البعض من هؤلاء متأثرة بترجمة رديئة لنماذج من الشعر الغربي لجهة بنائها وغموض القول الشعري فيها دون أن ينتبه أحدٌ إلى ذلك الأثر الكبير الذي ما زالت تتركه ترجمات الشعر الغربي إلى العربية في الشعر العربي منذ حداثته الأولى أواسط القرن الماضي.
في هذا السياق يعرف الأكاديميون، شعراءً ونقاداً، أن الأثر الذي تركه الشاعر الانجليزي ت.س. اليوت في الشعر العربي آنذاك أوسع مما ترك في الشعر الانجليزي، وذلك فضلاً عن شعراء غربيين آخرين جاءت ترجمتهم إلى العربية لاحقة وعلى أيدي شعراء تلك الحداثة .. فهل ثمة أبلغ من أن أدونيس قد ترجم الفرنسيَيْن سان جون بيرس وايف بونفوا ومثلما أن سعدي يوسف ترجم اليونانيَيْن قسطنطين كافافي ويانيس ريتوس، فليس الشعر وحده ما نقله أدونيس ويوسف إلى العربية وبالتالي إلى الشعر العربي الحديث بل نقلا أيضاً تأثرَهُما بما نقلا وليس بأدّل على ذلك سوى قراءة (احتفاء بالأشياء الغامضة الواضحة) لأدونيس و(حانة القرد المفكر) لسعدي يوسف.
إن ما قد تخرج به دراسة متأنية لمنجز تلك الاقتطاعة من شعر الصوت التسعيني، التي هي ليست واسعة أو مؤثرة في أية حال، قد تُرَجِّحُ أن الغموض في بنية القصيدة أو الغموض في المعالجة الشعرية للموضوعات ليست من فعل الترجمة الرديئة أو غير الرديئة وحدها أو أنها من فعل الأخطاء أو الجهل، بل ربما أنّ العامل الأكثر حسماً في ذلك هو أنّ الشعراء كانوا يستجمعون خبراتٍ خاصةٍ بالواحد منهم في تطويع الكلام بحيث تنصاع اللغة لإرادة القول الشعري واكتشاف إمكاناتها وحدودها من حيث أنها خامة أولية. ففي قصائدهم الأخيرة يبدو النضج في التعامل مع اللغة يتوازى مع التعدد في المرجعيتين العربية الموروثة وغير الموروثة والترجماتية.
في هذا السياق أيضاً يشار إلى أن أبرز إسهام لهؤلاء الشعراء قد جاء متأخراً عن سواهم فلم ينجز أحدهم كتاباً قبل الثلاثين، بل إن عدداً منهم لم ينجز كتاباً واحداً. وإذا كانوا قد بدأوا الظهور على الملأ بقصيدة النثر فقد شهدت التسعينات تراجع الكثير منهم عن الولاء لهذه القصيدة شكلاً فريداً في الكتابة الشعرية، فجمعوا بينها وبين التفعيلة في القصيدة الواحدة أو في الكتاب الواحد، والأغلب أنّ ذلك لم يكن إلاَّ من أجل انتزاع مشروعيةٍ ما لمنجزهم الابداعي أو انتزاع اعتراف بهم من الوسط النقدي الأدبي، الأمر الذي ما زال مشكوكاً في تحققه بالمعنى العميق للكلمة إلا فيما ندر.
ولقد دخلت مشروعية ما أنجز الصوت التسعيني في غير حيِّز ومجال واستقطاب ثم استقرت في الفصل بين الأشكال الشعرية للقصيدة تتحدد عبره القيمة الشعرية للقصيدة. ثمة انحياز واضح لنماذج متقدمة في قصيدتي التفعيلة والعمود وقسوة في التعامل مع منجز سواهما إنْ لم يكن الشاعر قد بدأ شاعراً في إحداهما ويتساوى في ذلك التسعينيون وسواهم عندما يتعلق الأمر بالنظر إلى شكل القصيدة.
ففي حوار مع الشاعر والأكاديمي محمد عبيد الله يرى أن ((قصيدتنا الجديدة ليست اتجاهاً واحداً ولا مناخاً متماثلاً، وإنما فيها تنوع وخصب، وفيها أصوات يكاد كل منها يمتلك نغمته وتنويعاته، وهذا إشارة إيجابية تؤشر على إخلاص الشاعر لتجربته وسعيه لأن يكون مختلفاً متميزاً)). إنه واحد من أكثر الآراء تسامحاً من بين الكثير من الآراء التي أطلقها التسعينيون في الصحافة المحلية كأنما يهادنون في ذلك أجيالاً سابقة في الكلام على الشعر فيرون ما يرونه ولا يعبرون عن جيلهم واختلافه في النظر إلى ما هو شعري. إن مختلف الحوارات الأخرى لشعراء الصوت التسعيني تتوطن في التطرف لهذا الاتجاه أو ذاك، فيلحظ المرء مغالاة في الأمر عندما يرى إلى ذلك التجاور بين الأشكال الشعرية خارج نطاق الجغرافيا الثقافية الأردنية في حين ما تزال أسئلة تدور في الساحة الأدبية في هيئة مواقف واعتقادات مسبقةٍ ليست سوى صدى لأسئلةٍ واعتقاداتٍ تنفجر مع كل أزمةٍ سياسية تعقُبها هزة اجتماعية وثقافية في الجوار العربي القريب، ثم تموت دون أنْ تُحْدِثَ أيَّ انقلابٍ معرفي على جاري عادة العقل العربي المعاصر.
غير أن ما أفضت إليه تلك الأسئلة والاعتقادات إلى شائعة من نوع أن ما أنجز الصوت الشعري التسعيني الأردني من شعر هو الأكثر تميزاً عربياً هو قولٌ لا يشتملُ على إفراط في عدم الانتباه إلى ما أنجزت أجيالٌ عربيةٌ جديدةٌ من الشعراء الذين ظهر صوتُهم في التسعينات فحسب، بل إنّ في ذلك إهداراً لطبيعة الحراك التاريخي للشعر نفسه.
وليس بعيداً عن الحقيقة القول بأنّ صوت الشعر التسعيني قد غاب عنه الناقد والدارس وحضر القارئ نسبياً وليس حضوراً كاملاً.. فليس هناك سوى دراستين أو ثلاث وسواها ليس أكثر من انطباعات صحفية مغرقة في المجاملة أو النصح أو النفي.
وفي حين أننا بتنا في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة فيمكن لقارئ أنْ يلحظَ القصيدة الآن وهي ((تجدُ نفسها مضطرة خلال هروبها من مستمع ما (أو قارئ ما) إلى أن تقترح لنفسها ولفن الشعر طريقة حقيقية لتناول الواقع))، وفي معنى آخر باتت قصيدةً تسعى إلى الهبوط على الأرض والمشي واقتناص المشهد من الحياة اليومية وتحويله إلى مادة شعرية. ولقد أصبحت السيرةُ الذاتية في هذا الشكل أو ذاك، ذريعة للقصيدة ما يعني انّ شعراء الصوت التسعيني قد تنازلوا عن بداياتهم في ذهابهم إلى الخاص والحميم والقريب الآني والراهن والحاضر الذي يعبّر عن تجربة مخيضة أكثر مما يعبر عن هواجس وأفكار. وربما بسبب ذلك حدثت الانتقالة في الشاغل الشعري من الاهتمام بشكل القصيدة وبنيتها الإيقاعية على نحو جذري إلى أن يترافق مع ذلك اهتمام بحضور السياق السردي للشعر، فهو الذي يحمل الآن في القصيدة ذلك (الانخطاف) على ما قالت المتصوفة، مثلما يعطي القول الشعري تأريخيته وزمنيته معاً. هكذا نضجت قصيدة الصوت التسعيني في محيطها وبيئتها المحليين فلا نفور عن ما سبق.
وإذا أمكن النظرُ إلى منجز الصوت الشعري التسعيني لا يجد المرء لديهم ميلاً إلى اختبار الامكانات الشعرية التي تتوفر عليها الفنون الأخرى. إنّ أقصى ما قام به الشعراء أنهم نقلوا بعض قصيدتهم إلى منطقة ما أنجز شعراء الثمانينات كالانتقال إلى التفاصيل والحياة اليومية، وظلت نادرةً تلك القصائد التي تُشاكل الفنون التشكيلية مثلاً، فلم ينجز شاعرٌ واحدٌ قصيدةً واحدةً في الحقل الذي يُعرف الآن بالقصيدة البصرية، بل إنّ المرءُ يشعر أنّ الشعر ينتظر أن تأتي إليه الفنون الأخرى فتأخذه إلى مناطقها في حين لا يخفي بعض الشعراء تجاهله تلك الفنون كالمسرح والسينما، مثلما أنّ الأغلب من بينهم لا يتقن القراءة في غير اللغة العربية وسيلةً واحدةً لاكتساب المعارفِ الشعرية وغير الشعرية على نحو مؤسف.
ولم يُقدَّر لكتابة قصيدةِ النثرِ التي تأثرَّ جانب منها بما كتب أمجد ناصر في التسعينات أن تصبح اتجاهاً شعرياً في الساحة الأدبية يتعايش مع سواه، كما يحدث في ساحات شعرية عربية مجاورة أو مهجرية، ولم يتبق سوى أصوات قليلة لا تحضر في الساحة الأدبية لأسباب الشعر الخالصة من أي شائبة.
ما زالت قصيدة النثر هنا في الوعي القرائي وفي أفق التلقي، رغم نتاجها القليل قياساً إلى التفعيلة مثلاً، مقروءة وفقاً للكسور التي أحدثتها في أوزان الخليل، وليس على أنها محنة خلق (شكل) القصيدة في بنية واضحة وراسخة في القول الشعري.
ويبدو هاهنا أنه ما من فارق بين قراءة التاريخ الجمالي للغة في الشعر والنثر الموروثين وبين النزاهة، بالمعنى غير الأخلاقي، في الولاء للشكل تحديداً، وأنّ الشكل فضلاً عن راهنيته بالنسبة للحراك التاريخي للشعر، ليس اقتراحاً تقدمه اللغةُ العربية إلى اللغات الأخرى ومخيلاتها؛ أي إلى العالم، بل إنّ الشكل جزءٌ من إمكانات اللغة العربية على منح التخييل بُعداً إنسانياً، وذلك من جهة أنّ الوزن الخليلي في آخر الأمر موسيقى خالصة هي خصيصة للغة العربية دون سواها، ومن الصعب نقلها إلى مخيلات لغوية أخرى وفقاً للوحدات الفونيمية الأولى للصوت في العربية نفسها.
اتكاءً على ما سبق فما من حساسية شعرية كبرى وواضحة طرحها منجز الصوت التسعيني، وذلك لو صحّ أن الحساسية الشعرية تنطوي على إحداث تنوع في البنية وتغيُّر في المزاج الشعريين وطرائق القراءة السائدة وليس الرغبة في تحقيق ذلك فحسب.
يلحظ المرء أن امتدادات الحساسيات السابقة تُدووِلَ بطرائق وأساليب. فإذا كان التعبير عن الاغتراب أو المنفى أو عن عذابات الذات في العالم أو المعرفة هي من تجربة الشعر العربي الحديث، إجمالاً وليس مطلقاً، فلم تأت قصائدُ صوت الشعر التسعيني بإضافات أخرى. كل ما هنالك هو وجود تجلياتٍ بارزةٍ لحساسيات موجودةٍ سابقاً.
وإذا كان المرء يحتاج إلى التدليل على ذلك فإن شعراء الصوت التسعيني لم يظهر من بينهم صوت شعري ساخر واحد، مثلاً لا حصراً، رغم العذوبة الهائلة في بعض القصائد وما فيها من دفق انساني جاء التعبيرُ عنه بشفافية عالية.
وإذا كان القلق المعرفي قد ملأ قصائد شعراء التحديث في التجربة الشعرية العربية منذ جاهليتها فما من شاعر في الصوت التسعيني قد عبر عن ذلك خارج ما هو مقروء من تلك التجربة. فلقد جاء نظام كسر بنية الموروث إلى الصوت الشعري التسعيني من أجواء أكاديمية محافظة إلى هذا الحد أو ذاك، وظل محافظاً على هذا النحو أو ذاك.
وفي المعنى العميق، ربما يصحُّ تأويل ذلك إلى هذه الدرجة أو تلك، بأنّ شعراء الصوت التسعيني اتخذوا من الشعر وسيلةً في النظر إلى العالم وتوصيفه أكثر مما أنّه موقفٌ من الشعر في عين (ذاته) باستثناء نادر تناثر في القصائد ولم ينتظم في كتاب، ولم يُشِرْ إلى صوت خاص لشاعر، علماً أنّ الصوت الخاص، أي اكتشاف طريق في الشعر لا يعني أنّ ملامح ما أنجز الشعراء غائبة تماماً عن منجزهم، فحضورُ ذلك واحدٌ من أقوى مبررات هذا الكتاب بل إن الحصيلة تمسح تسرعاً في الحكم من مثل ما صار شائعةً مفادُها انّ محو الاسم من ذيل أي قصيدة لشاعر من الصوت التسعيني وإلصاق اسم آخر لشاعر سواه لن يصنع فارقاً. فلقد اشتمل الصوت التسعيني على تجارب حقيقية يُنتظر منها الكثير.
ويلمح المرء في التجارب البارزة ميلاً كبيراً إلى صفاء الصوت؛ إلى خلاصه من مؤثرات البدايات ومؤثرات الآخرين .. ثمة الذي يتعلم ويستفيد ويبحث ويقرأ مدفوعاً بعطش المعرفة ليُعدّد في المصادر والمرجعيات، ولديه ممحاة كبيرة كلما كتب أو أعاد الكتابة.

* * *

أخيراً لقد تم انتخاب القصائد وجمعها من الكتب وسواها بما يشي بأبرز ملامح التجربة الشعرية فقط، فحدث أن قصائد طويلة لشعراء جاءت أكثر تعبيراً من سواها عن التجربة، وذلك على العكس تماماً من شعراء آخرين، ومن هنا كان الاختلاف في مساحة الشعر الذي تضمنته المنتخبات، مثلما تمّ ترتيب الأسماء أبجديا.

جهاد هديب

الهوامش

* الصوت الشعري التسعيني أو قصيدة الشعر التسعيني.. هما صفتان وليسا بمصطلح نقدي وبهدف تحديد الظاهرة مجال البحث دون تحقيب أو تجييل. ذلك أنّ الشعراء الذين برزوا في التسعينات من القرن الماضي أو نشروا أعمالهم الأولى خلالها أو الاثنتين معاً لا يؤطرون لوحة البداية في شعر التسعينات، فأكثر من صوت شعري كانت انطلاقته خلال الثمانينات غير أنّ إسهامه كان أبرز في تشكيل الصوت الشعري التسعيني الذي ليس مُنْبَتَّ الصلةِ بالفورة الشعرية التي حدثت في الثمانينات وكانت أرقى تجلياتها في التسعينات.

المراجع

  1. Websters (Collegiate Dictionary) Merriam-
    صفحة (49) الطبعة الحادية عشرة الصادرة في الولايات المتحدة عام 1998م.
  2. القاموس المحيط للفيروز آبادي.
    صفحة (14) الصادر عن دار الجيل في بيروت في طبعة بلا تاريخ.
  3. تقدم د. عبد الخالق بهذه الدراسة كورقة عمل إلى ملتقى عمان الثقافي الخامس الذي أقامته وزارة الثقافة في المركز الثقافي الملكي خلال الفترة ما بين الثامن والعشرين من أيلول وحتى الثاني من تشرين الأول من العام 1996.
    وحيث أن أعمال الملتقى قد صدرت في كتاب عن وزارة الثقافة فإن الكثرة الفاحشة للأخطاء المطبعية فيه تحول دون اعتماده مرجعاً علمياً تمكن الثقة فيه أو الاطمئنان إليه.
  4. 4- الشكلانية الروسية، تأليف فيكتور ايرليخ، وترجمة الولي محمد. الصادر عن المركز الثقافي العربي (بيروت- الدار البيضاء) الطبعة الأولى عام 2000م.

كان موتي إذن سيداً

أحمد الحشوش

((يا ليت لي قلباً فأخلعه
يا ليت لي وجهاً فأحتجبُ))

قال كلمةً ومضى. غاب وبقيت هي. تنتمي قصيدة أحمد الحشوش إلى قصيدة الالتماعات .. بين مساحة وأخرى من القول الشعري ثمة برق يصيب القارئ.. ثمة ما يستوقفه.

  • ولد في دمشق سنة 1971م.

صدر له

  • جمهرة الصمت.

جمهرة الصمت
- مقاطع -

ستجيءُ الحمامةُ، أسمعُ وقْعَ خُطاها منَ البعْدِ
سوفُ تركلني ثمّ تُطلقني لكآباتِها عارياً مِنْ
سؤالٍ يلحُّ:
تُراني أنا..
حينَ غيَّرْتُ شكلَ الحمامةِ غيرْتُ وجهي
وخارطةَ الشيءِ والضِدّ
أيقنتُ أن الحمامة
تعرفني حين أهرب مني وحين
أبعثرُ ظلّي
على حفنةِ الحبّ والجمر والزفراتْ
وأعرفُ أنَّ الحمامةَ ترفضني حينَ أنزعُ منْ وجعِ
الرِّيحِ سنبلةَ الرفضِ
أو احتمي بالشباك التي أيقظتني، وكنتُ إذنْ
غائماً حينَ ضيَّعتُ دربَ الحمامَةِ بيني وبيني
.....
وكانَ لها أنْ تعيدَ خُطايَ إليَّ
وكانَ لها أنْ تُزحزحَ عرشَ اليباسِ الذي حوَّلَ
الوطَن
إلى كومةٍ منْ ترابٍ
ثمّ جاءَ يراودني عنّ كلامٍ ضليل وشربة ماءْ
وكنْتُ تركْتُ الغناءَ وأوصدتُ بابي عليَّ
وكنْتُ تركْتُ دمشقَ قديماً، وأخفقْتُ في طلبِ
الشوقِ
حينَ تركْتُ لقلبيَ أنْ يتقَّيأَ أحلامَهُ
وارتجلْتُ البكاءَ على عتباتِ الخريفِ النحيلِ
الذي يرتدي قامتي ويمرُّ على عجلٍ، يستفزُّ
الحمامةَ حتى تؤمَّ دمشقَ:
تفتّشُ عنّي وتمنحني رقّةَ الموجِ أو غضبَ الملحِ، أو
كلماتٍ عن الحبّ والاغترابِ اللجوج الذي
ينزفُ القلبَ شيئاً فشيئاً....
تُرى ظلَّ شيءٌ من الأصدقاءِ فأسكبُهُ نورساً في
بحاري
وأطلقُهُ قمراً في فضاءِ الحمامة...!؟
أم ظلَّ شيءٌ من الشّعرِ يستنهض الذكرياتِ..
الكلام الجليلَ.. الفصام الذي يصطفي بهجة
الروح..
والمدن .. الترّهاتِ.. الشموسَ التي تكتفي بالأفولِ الرفيقِ
إلى لجَّةِ الوقت محفورةً بالجهاتْ
سأعترفُ الآن أنَّ المدى ضيّقٌ والمكان انفلاتْ
سأعترف الآن أنَّ المسافةَ ما بيننا في امتدادْ..
وعمّانُ نرجسةٌ لا تطالُ..
وقلبي على صدإٍ يستفيقُ، وقلبي على وجع ناهدٍ
مستفزّ ينامْ
سأعترف الآن أنّ الحمامة أصغر من غيمةٍ في
محيط الكلام
سأعترفُ الآن أن ليس لي ما يُبرِّرُني لا الغناءُ
ولا القمرُ الصاعدُ، لا الوطنُ الراعدُ المنتمي
للكآبةِ في لحظةِ الاحتضارْ.
سأعترف الآن أنَّ فمي عاجزٌ أنْ يقول أحبُّكِ
أنَّ الكلامَ تكاثفَ في رئتي واستحال رماداً
وأنَّ السفينة ما زالَ يجرحُها الألمُ النازِفُ ورداً
وماءً
وأني تكلفْتُ عشرين عاماً خطايَ
وأنَّ الحمامَ يهاجرُ في لحظةِ البوحِ
يتركني غامضاً مُغْمَضاً أتحسَّسُ وجهي ولونَ
عيوني
وأستشرفُ الانهيارْ

* * *

كانَ يوماً جميلاً مضى هيّناً ليّناً
كانَ يوماً أليما
تنهدتُ في غرفة الصفّ حدّثْتُهم عن نساءٍ يَمِلْنَ
إليّ ويَنْهشْنَ لحمي ويمضْينَ في رقَّةٍ وانحدارْ -
وكانَ المعلمُ أنثى-
وحدّثْتُهمُ عنْ رجالٍ -وكانَ المعلمُ خنثى-
بلون النهار
فعلّمني أنْ أموتَ مِراراً
- ((إلى أينَ تمضي بنا الريحُ؟)) قالَ
- إلى أين يُفضي بنا الانتصارْ؟

* * *

كانَ وجهُ المدينةِ ما زالَ طفلاً، وكانَ إذنْ صوتُها
خافتاً
حينَ مرَّتْ ذراعي وأتبعتُها قدميَّ استدارتْ إليَّ
وأعترفُ الآن أنّي تراجعْتُ، أرخيْتُ جفنيَّ
كي لا تَراني، تلبّسْتُ بالصمتِ كي لا يزلَّ لساني
وأعترفُ الآن أنَّ المدينةَ أفعى:
تحاصِرُني بالطفولةِ منْذُ الكهولةِ حتى اكتمالِ
الصبى
- كنتُ أنوي العبورَ إلى وحدتي فاستحلْتُ غزالاً
وأنصفني شارعٌ واستحالَ فلاةْ
- كان يكبرني السندبادُ بأعوامِهِ الأربعينْ
- إنّه الآنَ عشقٌ إلى آخرِ الموت ...
-لا تقتربْ، كلُّ شيءٍ يؤرجحُهُ المدُّ والجزرُ -لا
تبتعدْ-
والفضاءاتُ غصنٌ تكسَّرَ في الاحتفالِ الحزينْ
- إنّها رحلةُ السندبادِ الأخيرةِ عادّتْ بلا وطنٍ أو حنينْ
قالها شاعرٌ أعجميٌّ تمطَّى على شرفةٍ مِنْ نُعاسٍ -
وأطلقَ للريحِ أوجاعَهُ - واضحاً فاضحاً رعشةَ القُبرات
كأني الرحيلُ إلى أخمصِ الوقتِ يحملني شارعٌ
لا حدودً له
أو جهاتْ
تُراني تغيَّرْتُ؟
أطلقْتُ للبحرِ ما كانَ مِنْ صَبَواتْ؟
تُراني تعثّرتُ؟
أرَّقْتُ ما ظلَّ في داخلي مِنْ سُباتْ؟
تُراني الحياةْ؟

* * *

شدَّني ساعدٌ فاستدرْتُ إلى الخلفِ ألقيتُ وجهي
على وَهْمِها عَبْرَةً أو كلاما
أحبُّكِ ... أصغي إلى وشوشاتِ العصافيرِ قبلَ
المغيبِ ...
الخرير...
الخفيفِ...
الغناءِ...
البكاءِ الذي يعتريني ...
لكي تسمعيني
وكوني على شرفتي وردةً أو غماما
لأنّي تبعثرْتُ في أُفُقِ الصمت أغنيَّة وحماما
لأنّي تطاولْتُ في لحظةٍ واستحلْتُ رُكاما
لماذا تجيئين موسومَةً بالكمدْ؟
لما تريدينَ موتي على طَبَقٍ فضَّةٍ وتريدينَ أنْ
أنحني
للهبوبِ الجسدْ؟
كانَ موتي إذنْ سيّداً وبكائي مدىً يتثاقَلُ
نافذةً مِنْ زَبَدْ

* * *

تباعدّتُ عنّي قليلاً ونِمْتُ قليلاً
وكانَتْ سمائي حفيفاً وأرضي هديلا
وصارَ دمي جارحاً وفضائي عويلا
وأيقظني فارسٌ ليلكيٌّ ترجَّلَ للتو مِنْ جذوةِ
الشّمسِ
هدهدَ خوفي وأخبرني أنني في زمان نُحاسٍ
وأنَّ الملائِكَ لا تطلعُ مِنْ رحمِ الأرضِ
والخيل أرحبُ صدراً وأوسعُ بابا
وأودعني ضحكةً وذهولاً..

* * *

((والمغني وحيداً يغنّي)):
وطنٌ ضاعْ
وطنْ باردٌ كالشّعاعْ
وطنٌ جامدٌ في اندفاعْ
وطنٌ كاسِدٌ في ارتفاعْ
وطنٌ ناضجٌ والتياعْ
وطنٌ ضاعْ
دونما لفتَة أو وداعْ
وطنٌ ضاع
سينداحُ ضوءٌ وينداحُ عمرٌ
وينداحْ ....
-هكذا- في ارتياحْ:
كنْتُ يوماً مَنْ .. من .. من.. من..من..من..من
مَنْ يَراني يَرى علماً فوقَ نارٍ، مدائن من حِطةٍ
وارتفاعْ
عاعْ ..عاعْ..عاع..عاع..عاع.. عاع
((على الأرض ما يستحقُّ الحياةْ)) ياةْ ..ياةْ ..
ياةْ.. ياةْ.. ياةْ..
سوفَ تأتي الحمامَةُ مسكونَةً بالفواتْ
سوفَ تسألني عنْ بلادي
وتسألني عن نساءٍ أسرْنَ فؤادي
سوفَ أهوي وتهوي الحمامةُ
مَنْ يُخبرُ الأصدقاءَ الوحيدين أنّي أموتُ
وحيداً...؟

نوارس هاجعة تحلم بالبحر

أحمد كناني

((اللغات سفائن
سوف تؤدي إليك
حاملةً
جثَّة
البوصلة))

في قصيدة أحمد كناني صفاء تسعيني إذا صحّ التوصيف؛ إنه الأقرب إلى ذلك المزاج الشعري الذي بدأ مطالع التسعينات منذ الجامعة وظل يحفر فيه حتى كأنه أخرجهم جميعاً من أرضه. ففي شعره يتحدث عن الشاعر وخيبته الطازجة، ويقرأ المكان ثم يقوله ويسميه من جديد.

  • ولد في عمان سنة 1967م.

صدر له:

  • مرايا مُغْلَقَة

الشاعر

(1)

يتنكّر للإيقاع
يجانب
مجرى الفكرة
يهدم
أبنية المعنى
هب أنّ
الناقد لا يرضى؟
الشاعر أستاذ الفوضى
ممحاة
الهندسة الموروثة
هادم
سلسلة الأنساق
ومبتدع الرّفضا

(2)

يحفر
في النّص
ليبني ريبته
الأزليّة بالكلمات
قصّ
جناح الحرف
فحوّم طير الفكرة
ثانيةً
ثانيتين
فحطّ ومات
الشاعر
ملّ الأقلام
الموبوءة بالوصف
فكسّرها
وتحصّن بالممحاة

مساء

(1)

المساء
الذي طالما
أشعل القلب
بالذكريات الصّغيرة
سيرجع
هذا المساء
كشيخٍ
بطيء التذكر
ضاعت حكاياه
حين
توكّأ
فوق
عصاه
الكــ سيرة
مساءٌ
يليق بقهوتها
سوف أعبره
راكضاً كالمصابيح
أطرد
ذؤبان
هذا الظلام
عن الشرفات
لئلاّ
تخاف الأميرة

(2)

مساءٌ
حريٌّ بأنثى جديدة
ترتب
فوضى السرير
وقلبي
وتترك
فوق
الفراش
إذا غادرتني
قصيدة

نرجسة الماء

(1)

في الطريق المؤدي
إلى موعدي
في البعيد
رأيت
الغزالة تسعى
إلى
موعد الوعل
تحرسها
زنبقات الطريق
وعين التلال
التي لا تنام

لماذا إذن
يقنع العاشقون
بموعدهم خلسةً
حين تسكنهم
رغبة
في الزحام؟

(2)

وكانت
تحطّ على ساعديّ
كسرب حمام
تعدّ
خراف الحقول البعيدة
حتى
ترى النوم
يهطل من
غيمة الغيب
قبل
تمام الظلام
وكنت
أضفّر شعر الحكاية
كي لا تفيق
وكنت
أروّض كالنّهر*

بحر الكلام


* فتى
طيّب القلب
يسعى إلى
شرشفي الخشبيّ
بقامته الناحلة
كنت
رافقته مثلما أشتهي

من فرط الرغبة بالبكاء

أحمد النسور

((مات،
بعد حياة طويلة حافلة
بمشاهدة البرنامج العام للتلفزيون
لكنه كان حانقاً بدا حين لفظ نَفَسَهُ الأخير:
لأنه لم يعرف نهاية المسلسل المصري الطويل،
الطويل))

يمثل أحمد النسور ندرةً واضحة في الذهاب إلى مرجعية غربية كاملة كما لو أنه يكاد لم يقرأ تلك السلالة التي خرج منها.
غير أن للأمر جانباً آخر فالشاعر يستبطن ويعيد انتاج معارفه الشعرية على هذا النحو يقدم اقتراحاً.

  • ولد في السلط سنة 1959م.

صدر له

  • أين ستذهب الجدة الأحد المقبل

Paris- Caen

القطارُ الذي يمضي فوقَ قضبان الثلجِ
مؤدباً مثل مذنب بربطة عنق.
اخترق، بتوازٍ تام، جدارَ المقبرة
حيثُ كنا نلهث من البرد والقبلات الطويلة.

مؤدباً، حيّاناً بصافرتهِ وانصرف
ونحنُ لاهونَ عن الأضرحةِ والورود المتوارية
تحت الندف.
كالقلوب تحت المعاطف الثقيلة
تحيي بعضها، بأدب وانتظام (بام!، بام!)
كدقات ساعة محطة سان لازار.
ذهاباً، إياباً:
باريس -كاين مرّة في نهاية
الأسبوع.
وكافتيريا المحطة الغارقة بأنفاس المسافرين
النظرة المُواربة للصبية الجميلة
وغير الودودة للغريب اللامبالي
والقطارُ المؤدبُ كالأوسمة.
الرسمي كمتشردي الأنفاق:
ثقيلاً، مخموراً، ماشياً بأدبٍ لا يحيد
في ثلوج عام 48
بام بام
بام بام!.

السّلط

المداخن التي تنوءُ في السطوح
والثلجُ في مداخل البيوت
وفي الأزقةِ التي تنام في الضجرّ
تثاءب السكوت.
وها أنا والطاولة
وحفنةُ الأوراقِ والقلم،
مُراسلاً من غادروا!

باريس

وفوقَ سطوح المباني القديمة
في الغرفةِ المُفردَة.
تنامُ الفتاة الجميلة
وحلمي
وخيباتُ آمالي المقبلة.

لا صوت يعلو على صوت الموسيقى

الشفقة المعلقة على النوافذ
اكتشاف كرستوفر كولومبو اليائس
للموسيقى.
دون كيشوت يترجل أخيراً. ويُصغي.
والأشياء الأخرى التي نسيتها.
تأتيني، الآن، دفعة واحدة.
من أعطاك الحقّ بلوي أعناق الكلمات؟
المصطفة، نكرة. في الطوابير
المحشورة كالمواشي في الدفاتر والقواميس.
مثلنا تماماً.
ثم .. ماذا بعد؟

الحنين المتكوّر على نفسهِ
في ثنايا الإيقاع
يقولُ طويلاً عن صراخات وعويل أواخر
الليل، الذي لا يُسمع
كل هذا الطنين في سقوف وطيئة.
تطالبُ. الآن. بديونها التي استحقت.

أيها الضوء الذي ينسانا ويهبطُ في شفقة
أنواءً تتراقص في ضباب المطر
سهولاً تنقشعُ تحت شمسٍ رحيمة.
وأنا، مستنجد بالخراب الذي لا يجيء
أيتها الكلمة القديسة
رفقاً بانكساراتنا.
حيوات طويلة ضاعت في القواميس
دون الإمساك بشحنة حركة موسيقية واحدة.
مئات آلاف القصائد الجميلة.
عجزت عن رسم الحنينِ المتكور على ذاته
ضئيلاً ... ضئيلاً
في ثنايا الإيقاع.

حلمتُ بأني أقفُ على مطر ناعم

إيهاب الشلبي

((ماذا أقول؟
وفي سراب الحلم ضيَّعَني فمي
وأناخ صوتي متعبا
فوق المسافة بيننا..
ماذا سأكتب عندما
فِعْلُ الكتابة لا يقيني من دمي))

لا يخلو شعر إيهاب الشلبي من ألق، خصوصاً في قصائده الأولى التي فيها دفَقٌ بريء من الأحاسيس البسيطة .. فيما يميل الشاعر إلى التعرف على العالم فيكشف عن خبرات في التقاط العيش وتسميته في القصيدة.

  • ولد في أربد سنة 1966م.

صدر له:

  • إيلا تعد لنا المائدة
  • قبل حين من الورد

مدينة ملونة

الليلُ يسكبُ أوّلَ الساعات في كأسي،
ورأسي ...
بين قافيتين تقتسمان حقل الريح
فوق خريطة صمّاء
صخرٌ واعِدٌ بالاشتهاء
قفرُ واحدٌ ... والماء واجهة اليباب
ماذا أقول؟
وفي سراب الحلم ضَيَّعَني فمي
وأناخ صوتي متعباً
فوق المسافة بيننا...
ماذا سأكتب عندما
فِعْلُ الكتابة لا يقيني من دمي؟!
أهْذي ...
لكي أرتاح بين يديكِ
يا عمّان
أم أمضي
لأقرأ فوق شاهدتي دموعكِ
وهي تسقي موسمي؟
كم أستعيذ من احتراقي باللهاث
صدأٌ يكبّل باب أحلامي
ويسكب آخر الساعاتِ في رأسي،
وكأسي ...
بين نافذتين ترتعشان
في وهج السماء ...
رمّمي سقفي ليسكنني إكتراث
صدركِ العاري
يُلوّنُ رغبتي بالكبرياء
ويُذيبُ شمع خواطري
فوق السفوح المشتهاةِ
فلا يسيل على ارتعاشِكِ
مثل ماء
بل مثلما
ثلج تَحرّرَ من لهيب الأرض
فافترش السماء
عَمّانُ ... يا قزحية الأضلاع
تأتي في صباح الروح
أكثر ألفةً من طائر الدوريّ،
حيناً تحُطُّ على وساد القلب مهلى
أو تَحُطُّ على ذراع حبيبتي حيناً ...
وتأتي ... من شمالٍ للجنوب
ومن جنوب للشمال
وجهان يرتديان يوم العابرين
عمّان ... أكثر بهجة هذا المساء
من مهرجان الياسمين
وأدقّ من خصر ترنّح
والتوى ... في حضرة الندماء
فاجأه الحنين
والليل
الليل يسكب منتهاه على فمي
رأسي يُغالبها العناد
وفي يدي ... فأسي تلين

الفورمايكا

(1)

البلاد القاحلة
التي لا تنبت الهواء
يضيق أهلها بها
فيحَوّلون رئاتهم إلى أشرعة
وأيديهم إلى أجنحة
وعيونهم إلى أسئلة

(2)

ذات بلاد
كان طينها يشبهني قليلاً
مِلْتُ إلى السمرة ومالت إلى الغرب
وعندما كنت أجفِّف عرقي
ظلّ طينه ثملاً
وكنت انا أترنّح وجعي

(3)

مَنْ سيغفرُ لي زلّتي
لا أحبُّ البلاد التي تشبه المقصلة
كان وجهك يا حلوتي
كان آخر ما قد حلمت به
وما عدتُ أذكر مَنْ أوَّله
أرقصي طرباً
وارقصي ألماً
وارقصي تعباً
كي تذوب المدينة في خيمة الأسئلة

(4)

كأنني غير ما أشتهي
كنته مثلما قد أَحَبّ
كأنني متعبٌ خايرٌ
كُنته لا تعب

(5)

في بلادي
كثيرون تسحرهم الفورمايكا
إنهم لا يميّزون نوع الخشب
يعبجون بالأوجه المصقولة
ولا يأبهون بقوَّتي
وقدرتي على احتمال التعب

الشعر

الشِّعر هاتفٌ يرنّ دونما جرس
سحابة تلامس اليدين
أو وردة تطلُّ من نهدين
الشعر يا صديقتي فرس
أو طائرٌ من أضلعي يفرُّ
ودائماً يخالس الحرس

أكتفي بعيوني

باسل رفايعة

((أيها الماء
يا أبيضُ العدو
يا زوج كل النساء
أنا فضَّة الطين كالآدمي
أورث قهقهتي للخيول
أهيءُ تعويذتي لنشيد الخراب))

في الشعر لدى باسل رفايعة نقمة ضد العالم وغضبٌ يورثهما القارئ. وفي شعره طيبة أيضاً .. طيبة من جاء خاسراً من مكان قصي وكأنما عرف شيئاً .. وكأنما لذلك قد اكتفى بعيونه

  • ولد في الشوبك سنة 1967م.

صدر له:

  • خمسين الوطن

سوف أبدو بدوني

عالياً-
أيُّ أعمدة تهتدي للسقوف البعيدة
أيُّ كواكب تحمل أعشاشها للبعيد، وتهرب من فوهات
الحروب
وأيُّ بيوت تدلي شبابيكها للمحبين..
لتلويحة الكف للغمزة الماكرة ..
أيُّها الماء يا أبيض العدو يا زوج كلّ النساء
أنا فضة الطين كالآدميِّ
أورث قهقهتي للخيول
أهيءُ تعويذتي لنشيد الخراب

* * *

- عاليا
هل ترى كم أُصوب معجزتي
باتجاه الفضاء المحدب
أو كم أسلُّ شموسي
بما أشتهي من نساءٍ
نقشْنَ السفرجلَ حيث تدبُّ يداي
وأنشدُ ما رمزته الفواكه
والمعجزات التي
خضتها بشراري
ونعنعتها بهدوئي
فأين أقيمُ سفوحي إذا فاجأتني
دروعُ المآتم تلك التي لمستني
كأني أقيها شجارَ الأفاعي
إذن سوف أبدو بلا جسدٍ أو هبوب
إذن سوف أبدو بدوني
وأذهب كالنار في أخضر الريح
أو أتهدَّج كالصلوات ..

* * *

- عالياً
إصعدي يا فيجعةُ خلف غزال العويل
فإني أخذتُ الخليقة في غفلة الوارثين
وخبأتها في صراخي
- عاليا، رفرفي يا خرافةُ
بيني وبين اللغوز لكي لا تنامَ الخصومةُ
في باطن الكلمات
فمن لا يراني سأنقشه في القصيدةِ
متخذاً من بكائي دليلا
بلا أيِّ ذاكرةٍ أو صفير ..
أقولُ: الظنونُ أزاميلُ شقت صخور المدى
فتقولُ معي: ثلة من طيور وأحصنة وذئاب
فمَن كان مثلي يكيدُ لريحٍ تبخُّ تهاليلها
في احتفال الروائح
فليحترق كالبخور
ومن كان يجلسُ مثلي
على قرفصاءِ الكلام ويحزرُ أحجية الوقت
فليتشح بالهزيمة حتى يراني
أدقُّ المعاني على خشب الشعر
وليتخذني نبياً
يُدوِّنُ نسيانه في دخان بعيد
أقول ظنوني ولا أنحني
فالكتابة ترعى نجيل الفراغ ولا تنحني
والظهيرةُ تخبزُ قرصاً من الكهرباء
ولا تختفي في الظلال

* * *

- عاليا أيُّها اللهوُ
كانَ بوسعي رواية أشياء شتى
قراءة أسماء من رحلوا في المساء المرقّط
بالضحكات؛
وصية أمي ..
عجينتها في الصباح ..
وشهقتها حينما أوقعتني البهيمةُ فوق السناسل
كانَ بوسعي التنكرُّ في هيئة الجنِّ
حتى أرى عرشه يتمايل فوق
دفوف الرياح
فيا أيها العرشُ
كم كنت أنزل بالبطش فوق شراسته
وأديرُ عليه وقودَ الكتابة
حتى أراه يهجُّ هجيجَ الذباب

* * *

اكتفاء

أكتفي بعيوني
تدل طيورَ النعاس
على كوكب اليقظة.
أكتفي بغباري
يقود الغيومَ برفق مُريب
إلى حفرة في مهب الفضيحة.


أكتفي،
وعلى غير ما اعتدت
أن أنحني للسراب الغبي
كأن يدي خطاطيف
مأخوذة بالهباء.

نصوص

(1)

الشمس لا تقود النهار
إلى فضيحةٍ أخرى
كما تظن العتمة.
الشمس فقط تبحث عن
نافذة مفتوحة
وروائح جديدة.

(2)

لنرى أيتها السماوات
ماذا ستفعلين حين أنجح
في تهشيم شمسكِ بإزميلي
وأجعل من قبتك الزرقاء
مظلات صغيرة يحملها الأطفال

(3)

مزهواً بجنوني
وبيديَّ الجميلتين ...
أصفع هذا الهواء المغشوش بلا هوادة
وأصفعني
حتى يتوقفَ المارةُ
ويبعدوني عني

قرب مملكة النمل

تحسين الخطيب

((لستُ أنا الذي رَتَقَ الأشياء من الجهة الخطأ
ولكنه الذي قرفَصَ
كالجنين في أحشائي))

في قصيدة تحسين الخطيب جرأة عالية على الربط بين مفردات تأتي بمزاج خاص أكثر مما تأتي بخيالٍ ممكن أو محتمل. كأنما يكشف عن اللغة غطاء فيكشف عن عورتها. قصيدة النثر التي يكتبها بنثر خالص وليس خارج الوزن تقدم واحدا من نماذج فريدة يُكتب عبره القليل والنادر من قصيدة النثر ليس محليا فحسب بل عربيا .. ومزاج شعره سوريالي على نحو صاف يصوغها بتقصد ارتكاب هذا الشكل.

  • ولد في الزرقاء سنة 1968م.
  • دم النذور على حجر النرد ( مخطوط ).

الجنونُ الذي يفلقُ الجُمجمة

إنَّهُ الجنونُ الذي يَفلقُ الجُمجمةَ، إنَّها أسنانُهُ التي تَطحن ويداهُ اللتان تعصرانِ القلبَ، اقتربي يا عَيْنَ التَّرزِ الآنَ تحلَّلْ يا شَبَهَ النَّسيجِ وانْسَرِبْ، إنَّهُ اللحمُ الذي يَشَّقَّقُ والرَّغوةُ التي على المفتاحِ هَيَّا يا وَشَلَ الأعماقِ طائرُكِ الآن يخبطُ في قفصِ الصَّدْرِ واحشاؤُكِ التي تتقطَّعُ، قرطاكِ ضجَّةُ هذا اليَمِّ وركبتاكِ ضِفافُهُ انبثقي من حيث لا ريح تخنقُ الصَّوتَ ولا فيء على المسانِدِ إنَّهُ الرِّيشُ طريَّاً في العَتَباتِ وإنَّها السَّاعاتُ بلا وقتٍ على الجُدرانِ تقودُ الموتى في دهليزِ هذا الليل بَرْدٌ جارحٌ يُتْلفُ الأعضاءَ وخيطُ هباءٍ في ثوبِ الذي اختلطتْ بالماءِ بعضُ ريحهِ قُمْ يا عَتْمَ الأعماقِ واحرقْ خَتْمَ الفَمِ قُمْ تُرفرفُ الأرضُ مِنْ حولكَ وفي هاويةٍ تسَّاقطُ.

في الرّابعة والرّبع

ليسَ اللونُ الأزرقُ، إنَّهُ اللونُ البَرْدُ

-جوزيف برودسكي

لم ينبجسْ أبيضَ مِنَ الأمَّارة بالسِّوْءِ بلْ أزرقَ مرخيَّاً تحت العَجَلاتِ؛ ظَلَّ على الحافَّةِ، كأرنبٍ هنديٍّ؟ ظلَّ مفروداً بساطُ المشيئةِ وظلَّتْ، في الصَّدْعِ، رؤوسُ أسماكٍ تهنشُ النَّوْمَ في أعلى الجَبَل.

القناصةُ،
في أعالي الوقتِ؛
يُربّونَ كَبْشَاً أسود،
وفي مدارجِ الصَّحوِ.

لَمْ يكُنْ برد لفّ السَّماءَ على الشُّرفةِ بلَ جليدُ الرِّئةِ اليُمْنى.

لمْ تهدأ فئران الحقلِ، ولم يهدأ ثورُ الحرَّاثِ! ظلَّ، في آخر ليلٍ، يُغمضُ عينيه: واحدةٌ في عَيْنِ التُّرسِ تلمُّ البحرَ، وثانيةٌ في الدَرَجِ الهابطِ سردابَ فيضٍ أعمى.

رملٌ على توال

((ليست أنفاسُ المنسيِّ وما ظلَّ غريباً بلْ ريحٌ في الإفريز ...))
- توني موريسون

((لستُ أنا، لستُ أنا، ولكنَّها الريحُ التي تعصفُ فِيَّ!))
- دي. إتش. لورنس

ليست ريش مَسرَّاتٍ ولا أجنحة تنزلُ بالمُتطهّرِ بلْ إبرٌ مكسورة الرؤوس. لا خيطانَ تلضمُها، ولا ضجر تُطرَّزُ الياقاتُ بهِ.
مِنَ الليل المجاورِ، أطلَّت تحجلُ فوق رصيف، من خرز خزنتها، ومِنْ طباشيرَ مُلوِّنةٍ نومُ المفرودِ على النَّمَش.
بكَتْ كثيراً -وهْيَ، بلا ضغينةٍ، تلمُّ ضفائرها من دفترِ الإملاء.

(2)

لا ماءَ يسريْ في المخادعِ ولا أصابعَ تهوي بكريّاتِ الثّلجِ من أغصانها.
وحدهم، في قلاعَ مهجورة يُربُّونَ نعاساً كالفضَّةِ، أبيضَ مشغولاً، وينامونَ، قريري الأعينِ، كالدّببة.

(3)

كانوا بلا أحمال ولا أشباهَ لهم.
كانَ يَنْقطُ .. يطرقُ لينام.
لآخر مرَّةٍ؛ صَرَّتِ الأقلامُ ... وقامَ منَ الأجداثِ خلقٌ كثير.

بياض بلا قبر

تيسير النجّار

(( (اللا) ليست مشفى
إنها جغرافيا كافية للشحوب))

لا يكتب تيسير النجار الصورة الشعرية بل يرسم مشهداً يكاد يتضح في الفوتوغرافيا أكثر من القصيدة. إنه مشدود إلى أن يتخلص مما يشتبك في داخله ويود من فرط ذلك قول كل شيء دفعة واحدة، لذلك فهو أحياناً يفكر أكثر مما يتخيل.

  • ولد في عمان سنة 1970م.

صدر له:

  • خروج مؤقت

إضاءة الحال

لم أر الصباح كوحش نووي من قبل،
إلا عندما قرأت سورة ساقك اليسرى هوت بالكشف
عن سرّ البياض،
وهل البياض بجسدك خطفة غامضة تشبه:
البياض بالقصيدة، باللوحة، أم بالعين،
بياضك ألق لحظات النشوة ((ولوغاريتم)) اللحظة،
إنه بياضك وأنا لا أعرف ما الذي أفعله
بالمشهد!

-2-

حقاً ما الذي قاد وجهة وجهي الضال بالشتات
إليكِ لتعرفينه ... علّها دورة من دورات حياتنا الأخرى
والتي أوقفتني كخلية سرّية،
أنتِ مليكتها وأنا داخل مختبر للتجارب اختبئ بين حياتين:
- واحدة:
طريق للخروج إليكِ صوب أراض تحل فيها
الصورة بدل الكلمة، ورقائق الرؤيا بدل خبز هنود الحلم
الحمر!
- وأخرى:
لو قلبت بها تاريخ الأسماء والصفات رأساً
على عقب على ماذا أحصل بالضرورة ....
بالضرورة على بياض يشعله بياض/ لا بأس إذن
بالبياض يحل ويتساوى بكل حبر العالم .... ،
وما الضروري ليتساوى مرة الحبر ببياض الورقة
ولتتساوى العدالة معي -تماماً- ببياض جسدكِ.

-3-

بياض النبض قد يحفظ جميع حقوق موتنا في الذاكرة،
الذاكرة بيضاء حد الأعمدة الفقرية وهي تحاول
الهبوط عند أول قشعريرة، مشهد، فرصة، رجفة،

-4-

بياض بلا قبر، بلا اسم، بلا أتربة
بياضك يلوح بكرنفاله لعيني
كمجنونٍ ينظر لي
صامتاً أنا -فقط-
وأتخيل ما يحدث!

مدائن قلب

جعفر العقيلي

((لغة عمياء،
هذا يكفي
لأمزِّقَ قلبي
وأمرَّ على جسدي))

في شعر جعفر العقيلي جرأة في مكاشفة الذات. إنه يقف في المرآة كي يسوطها، ينأى عنها كي يراها من الجهات الأربع.

  • ولد في قرية بليلا (اربد) سنة 1974م.

صدر له:

  • للنار طقوس وللرماد طقوس أخرى

تابوت

ملعونٌ ...ملعونٌ!!
أحمِلُ ليلاً يتستَرُ، في طَعْمِ سكونْ ...!!
أحْمِلُ شوْقاً يتوالدُ
حلماً عُذْرياً، ....
وظُنْونْ....!!
لَكَأنّي .... في ظلمة دربي:
مصلوبُ القلبِ،
وكَفِّي خَضَّبَها إثمي
إثمُ العِشٌقِ.
وعِفّةُ أحلامي في زمني المُتْخم سفْكا
أترى ...
في حَمْلِي تابوتي إفْكا؟!
أم..
محض جُنونْ؟!

مرايا

حين تزولُ مراياكِ،
تبدين مساءً رقراق ...
تبدين توابيتاً أخرى،
تسعى نحو قبوري
تبدين عُرِيّاً،...
يزهو من فوق الساقْ ...!!
تبدين، ...
فؤادي الــ(ضّامِمنُي؟) في ظُلْمِ الأشواقْ
تبدين جَمَالاً،
ملحمةً أخرى ...
ملحمة الوجدِ،
ورعْشات العُشّاقْ...
وبقايا فجرٍ لم يصبحْ،
كابوساً يتحدّى الرّحْلةْ،
صَوْب مدائن قلبي ...!!

من طقوس العودة

ذاكــــــرة
(( ... لم أنْسَ ...!!))
... وتَصْهَلُ فِيَّ جراحاتٌ،
تَنْضَحُ من بركانِ الحُزْنِ، ...
وتقتاتُ من الوَجْدِ المكبوتْ!!
.... عاريةُ أيّامي أبداً،
لا رَتْقَ يُواري عَوْرَتَها،
... إلاَّيَ، ...
ولم يَبْقَ لها شيءٌ من وَرَقِ التُّوتْ ...!!
فتى الغابة
في الجُعْبَةِ مُتّسعٌ،
لنزيفِ فتى الغابة
والطّوفانُ،
مخاضُ اليأس ...
وعرْبدُة الكأسِ، ...
ظلالُ رتابة!!

فتى الغابة (2)
في الجُعْبةِ بعضُ شظايا ...
تتلّوى في صَخَبِ الصَّمْتِ...!!
ومِن زَغَب (الحَيْ/مَوْتِ)...
تُدَلّى مَرْثاةٌ ثكلى ...
تَسْكُبُ وحْدَتَها،
ترسمُ صورَتَها:
أنفاساً تلهثُ في جرحِ فتى الغابةْ ...!!

صوت/ حقيقة
يا أنت، ...!!
... وبعدكَ ...
لمْ تُزْهِرْ دنيايَ، ...
ولمْ تَبْقَ مساءاتي ينبوعَ قداسةْ
يا أنتَ، ...
.....
..... وَجُرْحُكَ نزفي،
ورؤاكَ مدادُ فؤادي،
فلماذا....
تُلْصِقُ بالحظّ طقوس تعاسةْ؟!!
ولماذا ...
يُثْمِلُكَ التَّيْهُ، ...؟!
تظُنُّ الدّربَ، وليدَ نجاسةْ؟!

نسيتُ ملامحَ وجهي القديم

جميلة العجوري

((منذ استطالت بذرة القلق الشقية في عروقي
أصبحت امرأتين، تختلفان في المعنى
وشكل الوجه، والذكرى .. وتختصمان
حول برد البيت أو دفء الطريق))

لا تقول قصيدة جميلة العجوري، هذه الشاعرة التي أصدرت مجموعة أولى وأخيرة ثم ذهبت في الخفاء، شيئاً بل تقول أشياء كثيرة لم يكن لقصيدتها أن تقوله. شاعرة كانت تقف على العتبة لكنها آثرت أن لا تدخل.

  • ولدت في عمان سنة 1969م.

صدر لها:

  • هكذا أنا

المغنّي

وماذا تريد السلاسل من عاشق
يداري هواه الذبيحْ.
إذا أنّت الريحُ - في هدأة الفجر- غنّى لها
وَأَسْكَن في جانبيه الجروحْ.
وحيدٌ كقلبي بهذا المساءْ..
يجرجر أحلامه المتعباتِ على
درج العمر.. يمضي ..
إلى ساحة من عناءْ.
يقولون: قصّوا جناح الحناجرِ
لكنه لم يزل موغلاً في الغناءْ.

إلى حادي النشيدْ

وحيدٌ تماماً..
كلحظة دمعٍ تمر فلا تتهيأ
لقطفِ السؤالْ
تلفّت حادي القصيدةِ يسأل:
من أي لحنٍ خفيٍّ يكون التماع الكلام..؟
ومن أي سوسنةٍ..
عمّدتني على صدرها يكون انبجاس الغمامْ..؟
تقول العتاب:
غماماً لسيّد هذا النشيدْ
وبرك صحوٌ، يقض انتهاء المزامير في ساحتينا
لكي تتوحّد فينا دروب القصيدْ
غمامٌ لصخرتنا في العروقِ..
تهزُّ مناديل هذا السكون ..
وتعلن أن الصدى مرحلةْ.
وآتي إلى قبس من دمي
أوزّعه .. فلّةً .. فلّةً
ويبقى الصباح وحيداً يغني على مَهَلٍ:
كأني حصادٌ وهذا المدى سنبلهْ..!

خمس خوابٍ

سأفتحُ خمس خوابٍ من عُمُري..
وسأسكب هذا البوحْ:
الأولى..
فتّح نوّار اللوز على الطرقاتْ
أبْيض كالسهو، برياً مجنوناً
وعفيَّ اللفتاتْ.
الثانيةُ:
عزيف الريحِ، دندنة مراهقةِ الأشجار
صخب المعنى، سور في البالِ ..نديف الأشعارْ.
الثالثةُ:
وجهك يغمر سهل الروحْ.
... يرتجّ الفانوسْ
وجهي .. يسقط في شَرَك المعنى ..
ويلوّح بالقاموسْ
الرابعة:
خيبة روحي وخداعكْ
فلتسقط آنية الحبر ..
لأني ألمحُ تحت الدمعَ قناعك.
الخامسة:
هل ينفع ندمٌ عن قلبْ ..؟
هل أكسر هذا الجسدَ الجسْر؟
هل أقلع قافيتي من حقل الزعتْر ..؟
هل أهرب نحو الربْ ..؟
لا أدري .. بل أدري قدمي
أوصلني هذا الدرب!

صورة

مختصر أوّل
بعد عشرين سنةْ..
ألمحُني ..دهشةً في إطارْ.
ما الذي غيّرني .. بعد ذاك النهارْ ..؟
خوفي المرتجلْ .. دمعتان ... وأمنية:
أن أرى جدّتي، وألمّ الصَدَفْ
أيها المنعطفْ..
بعد عشرين سنة .. ما الذي ضيّعني ..؟
باختصار
في بياضٍ من الخوفِ والارتباك
دهشْتي .. عَلِقتْ ..
في إطار هناكْ.
منذ عشرين سنة.

كمن يزدهي بالأفول

حاكم عقرباوي

((ما زال هناك
أكثر من سبب
كي نخرج من باب حديقتنا
المزهوة بالكرز الممنوع))

ينتمي حاكم عقرباوي إلى سلسلة شعراء قرويين. لقد أدار ظهراً للمدينة التي أحبها. إنه أيضاً جوّاب حزين. شعر يجيء من إحساس عميق بالغربة والخسارة بل والتشظي.

  • ولد في قرية المليح (مادبا) سنة 1970م.

صدر له:

  • وطن ما
  • صباح جديد

  • زوَجْتُكِ فوضاي

خُواء

لهذي المدينةِ
عاداتها في الدخولِ
البطيءِ
إلى جثةِ الوقتِ
دهرانِ لم تتعرَّفْ
على شبحي في الشوارعِ
لكنها كلّ عُرْيٍ
تُزيِّنُ أسمالَهَا
ثمَّ تسرقُ من جسدي
ما ادَّعتهُ الطبيعةُ
من عبثٍ لم يكنْ
غيرَ
هذا
الخواءِ
الجسورِ
أنا من خُواءِ أبي
حيثُ ورَّثني مُدُناً
لم تكنْ ملكهُ
وأنا
منن شقاوةِ أمٍّ
تحبُّ التمرُّدَ والفاكهةْ

كهف آدم

ما زالَ هنالكَ
أكثر من سَبَبٍ
كَيْ نخرجَ من بابِ حديقتنا
المزهوَّةِ بالكرزِ الممنوعِ
لذلكَ
وَدَّعتُ شياطينَ ستلحقني
فيما بعدُ، هِيَ السَّاعةُ لا ريبَ
وكانت امرأتي

باب توما

صبيَّات تُوما
هطلنَ على سروِ قلبي
عصافيرَ لا تعرفُ الهمَّ
مثلي
تطايرنَ لما تحرَّكَ
فيَّ الهواءُ
التقطْتُ عصاً تشبهُ الضِّلعَ
قلت:
أهشُّ على قَدَمَيَّ
تعثَّرْتُ قبلَ انزلاقِ المساءِ
بشبرينِ
ثمَّ رجعتُ بلا سببٍ
غيرَ أني
أرى سَبَبَاً واحداً
للحياةِ على باب تُوما
.....
.....
.....
.....
وها أنَذَا في (الحجازِ) (1)
ارتميتُ على حَجَرٍ
قِيلَ كانتْ سريراً
وضاجعتُ ظليّ
على بابِ تُوما
صهيلُ الفحولةِ لا ينقطعْ
خيولٌ تدقُّ حوافرَ رغباتها
في الهواء
تعودُ إلى وكرها في المساءِ
لتبحثَ عن رغبةٍ تستبدُّ بها
وأنَا
واقفٌ ها هنا
رغبتي أنْ أموتَ
على
بابِ
تُوما
شهيدَ انقسامات روحي

بقيت في الخفاء وحدي

حسن ساري

((سبب السماء
ليس من اقتصاص الشعراء
سبب الأرض
خلاف قديم بدا
بين ولد من برج النار
ورب العائلة))

قصيدة حسن ساري القصيرة تباغت قارئها لشدة كثافتها وكيفية المفارقة التي تصنعها.

  • ولد في اربد سنة 1966م.

صدر له:

  • غزيراً أهطل على نفسي

القتيل يسأل

سأعيش طويلاً
هكذا تقول خطوط يدي.
.. ..
إذا صدق الفتى يديه قليلاً
من يقول له:
متى؟!

طفل الخفاء

كُنّا صغاراً نلعب ((الغُمَّاية))
نبحث عن عتم صغيرٍ
يواري برق شقاوتنا،
حين، جميعاً، عادوا من اللُّعبةِ
وبقيتُ في الخفاء وحدي.
.. ..
فيا أصدقائي الواضحين
من يذكر الآن الوحيد الذي ظل في اللُّعبةِ؟!
من يدلُّ الحياة عليه؟!

ثلج

على وردة الوداعِ
على وَشَك الغامض في الأصابعِ
الوحيدانِ
ما الذي كانا سيفعلانِ
لو لم يهبط الثلج فجأةً
ويرمّمَ وجهيهما في اللّحظة المهدَّمةْ؟!

الشاعر

قبل ثلاثين عاماً
تعرَّفتُ، عليْ.
تركتُ أصابعي تجوسُ عتمها الطازجَ،
ركضتُ حُراً في ظلالي،
لكأنني خلَّفتُ الرّيحَ خلفي..
وغفوتُ تحت سدرة الأبجديةِ
حتى ترقرقَ نهرُ نفسي
ثم أفَقْتُ
وأرسلتُ عيوني إلى بئر الأسماءِ
... .... ....
قبل ثلاثين عاماً
فرِحتُ، بي
ولدٌ
ستمشي الينابيع خلف خطاهُ
ويغار من قامته السّروُ
يوماً،
ومن كفّيه ستقطُر .. نجمات خضراءَ
تُهرِّبها الطّير إلى أقاصي القرى!!
... .... ....
قبل ثلاثين عاماً
أشفقتُ، عليّ.
حين قالت عرّافة .. لا نعرفها:
هو ولّدٌ
سيطوف قلبه الدرويشُ
خرائط الأنثى
ويمدحُ موتهُ
بما تمنحُ الكروم من فانتازيا!
ولدٌ حزين جداً
لكنهُ سيغنّي حتى يُرتل الدمعَ
في عيون الجميلاتِ،
ولدٌ بَهيْ
لم يشبهْ يوماً، باقي الأولاد
في الأطوارِ
والصّفاتْ!
تُرى:
ماذا سأُصبحُ حين يمسي العمر
ويستعصي كثيراً لغز الوردةِ؟!
ماذا: يا جدّتي؟!
هل سأكونُ
((الشاطر حسن)) الذي لا يريد من كنوز البحار السبعةِ
سوى امرأة الماء،
عازفاً في الحانات البعيدةِ،
رَبّ عائلة مصاباً بالجنونِ،
موظفاً مريضاً بِربْوِ المكاتبِ،
خبيرَ زلازلٍ،
ذئباً يُغوي الغزالات بشَرَكِ الطبيعةِ
ويصطاد نفسه في العُواءْ،
كاتباً صحفياً بلا مستقبلٍ
كاللّصوصِ
وقتلى الأخبارْ،
عاشقاً تقوده الكحولُ
إلى غُرف التوقيفِ
وسجّلات الحوادث المروريةِ،
مناضلاً في ثورة تهرأَتْ عورتُها
من عدسات المصوّرينَ
في المصافحات التذكاريةِ،
يا إلهي:
كلّ ما قالت العرّافةُ
كلّ أحلاميَ
واحتمالات رأسي الصغيرَ
تحقّقتْ ..
وأنا بَعدُ في الثلاثينَ!
[اللَّعنة:
لقد أصبحتُ شاعراً]!

مديح الذين عاشوا و مرثاتهم

حسين جلعاد

((هل يصل الشوق إلى أمكنةٍ
لا تقرأ البريد))

ليس حسين جلعاد سوى شاعر طفولة. يأخذ قارئه إلى تذكارات وإلى ما كان قد ادخر في الأوعية. إنه ينبهه إلى ما قد غفل أو تناسى عنه. حميم وفيه قرب، والأفق البعيد للتجربة الإنسانية في القول الشعري يلتقي معه فيها هو والقارئ.

  • ولد في وقاص (اربد) سنة 1970م.

صدر له:

  • العالي يُصلب دائماً.

طفولة

أخطئ دائماً
إذْ أقرأ البشرْ
كأنني للتَّوِّ أبدأ الطفولَةْ.

مرثية المرايا

(1)

مختلفاً عن نفسكْ
تقرأك المرايا، معكوساً وبعيدْ.

(2)

ناصعة هذي المرايا
... وخرساءْ
وحين تعكس امتداد الشّمسِ
تطفئ النّظرْ.

(3)

المرايا امرأةٌ
يتناولها العابرون
من كعب الحذاء
إلى الضحكة المفجعةْ

(4)

المرايا رجلٌ
يمشي إلى الكونِ
... فتنتهي نفسه.

(5)

المرايا أمكنة
وسعَتْ كلّ شيءٍ
إلاَّ احتمالنا ونحن واقفين.

(6)

المرايا محطاتٌ
مرَّ بها الوقت ولم تلحق به
المرايا عناقٌ
جفّ على مقعد الراحلينْ
وفَرْقِ السَّعادة في زفرة عُمَّال التنظيفاتْ:
آه يا دنيا
عجِّلي بالغروبْ
أو قفي لننامْ
من يأخذ عنَّا خُدوشَ العمر، لنلهوَ -لو مرة- بسقوط المطرْ
آه يا ليلُ
بدرك نصفُ قمرْ
والنِّصفُ الآخر وجّه رغيفْ

سيِّد المنفى

أيُّها الشِّعرُ
يا سيّد المنفى وأمير الكلامْ.
خارجٌ عنكَ/عنّي/ عن امرأةٍ
كلّما جسَّرتُ الحنين إليها، تفتّق عنها نوح الحمامْ:
من سيُعلي لعينيك قلباً ومنديلاً
من سيفهم سرَّ السكينة فينا
وضحكتنا حين نحتار كيف سنقطع هذا الزّحامْ
يتشابك في الرَّكض قلبانا
والأصابع زنبقةٌ
ترتوي بالحنوّ .... وهمهمة الأفئدةْ.
أيها الشّعرُ
يا سيّد المنفى وأمير الكلامْ.
خارجٌ عن أبي
والنّيلُ مع الريح يمضي
مُطْرِقاً
في قراراته
قد يأتي النَّهر إلى بلدٍ
يرتويه، ويعمى عن سرِّ وحدته:
في السماوة كنَّا حين نمدُّ القلبَ فلا تمتدُّ يدٌ
نَسْتَكْنه ظلَّ العشب، فندرك أنَّ النَّهر تعكَّرْ
أو أنَّ بلاطَاً جديداً يبسط الأرجوانَ
ليتلو صلاته في بيزنطةَ أو روما
سبعون بلاطاً
مدَّ
السَّيفُ
على
هذه
الأرضِ
سبعين سبطاً بنوا
من رُهاب الأساطير هيكلهم
كم
سماءً
رفعتُ، وكم
قريةً أفسدوها.

صحراء يكتب تاريخها الملحُ

حكمت النوايسة

((في مجرى نهر الأردن
سكن إله الصمتِ.
لا صوت للماء
ولا تزغرد الضفادع
ما الذي يقوله للبراغيث؟))


كان القادم لديه أجمل دائماً، هذا حكمت النوايسة تهفو قصيدته إلى الوقوف في أرض تاريخية حتى صارت ميزة لهذه القصيدة .. قصيدة يشعر القارئ أنها تقف على أرض صلبة دون أن نفقد خيط التأمل، فالتاريخ من غير سطوة، بل في القراءة الأولى والدلالة الواسعة. على هذا النحو يمكن القول أن النوايسة خاصته في شعر التسعينات تذهب إلى الحار ولا تنزع ثوب التأمل عن كتفيها.

  • ولد في المزار (الكرك) سنة 1964م.

صدر له:

  • عزف على أوتار خارجية.
  • الصعود إلى مؤتة.
  • شجر الأربعين.
  • كأنني السراب.

الصعود إلى مؤتة

-مقاطع-

للصحارى تواريخ يكتبها الملح حيناً
وحيناً تدوّنها الأمنيات
للصحارى مفاتيح هذي الخليقة
فالرَّملُ معنى وجومِ المواويلِ في النَّهرِ
والملح معنى بكاء السنابل في الحقلِ
والحَرُّ معنى انتشاء البنفسج حين
يدوّخه الورد في حفلةِ الأزمنة

* * *

كلُّ عهدٍ له عادةٌ
والصحارى تعودْن أن تشرئبَّ بهنَّ النجومُ
إلى موسم من سجود
وحين يدغدغني اليأسُ أسأل:
كم من ثمود؟
وكم مَرَّ غيمٌ بها وأطال السجود؟؟
أذكر أني كتبت على غيمةٍ
ذات صيفٍ وصيّة جدَّي
فَخَرَّ الجدودُ
وعاث بي الصَّحوُ
زلزلني الكبْرُ
دفترني المارقون على أن يطيعوا اعوجاجي
فعجت بهم نحو موتي
وعاث بهم غثياني
فهبوا إلى مَضْغِ قاتيْ
هربتُ ولكنهم حبسوا الكلماتِ
وصرنَ أسارى الوحوشِ
وكلٌّ لهُ دربهُ في الغرامِ
وكلٌّ يضاجع منهنَّ من
تشتهيها المعارك أو يصطفيها خطاب السلامْ
وَمُذْ أمَدٍ ضاع منِّي الكلامْ
لَمْ أعُدْ صالحاً للغرام
لَمْ أعُدْ قادراً أن أمدَّ يدي نحو تفاحتين تَخيَّرْتني
في فضاء الزّحامْ
بيد أني الإمامُ لكلِّ المراجيح في موسم الصَّبينةْ
وجعٌ يعتريني
وأكرهُ زيتونتي فتضيءُ سمَائيْ
قمرٌ يصطفيني
وأُقسمُ أنّي أحرّم ما حللته السَّماءُ
لكي لا أُضيِّع وقتي بصفصافةٍ
لا تُحِبُ التكلُّمَ عنِّي

* * *

كان لي أصدقاء وقلت لهم أن لي قمراً
لا يراه سوايْ
كان نَبْضُكِ بي يفتِقُ الأوْرِدَةْ
بيدَ أنّي أسيرُك مُنذُ رحلت على غيمةٍ لا تحبُّ البكاءْ
تفرِّين من ليلتي مثلَ ماءِ يفرُّ من النَّبعِ
ألهَجُ باسمكِ
كيما ينامُ جنوني
وكيما أسامرُ صَحْوي
أنا دفترُ العشقِ فلتقرأيني بصمتٍ
وعُضِّني على الشوقِ إن أنا زرتكِ
لا تسألي الساحرينْ
أنا كلُّ طيفٍ أزور على غفلة من أشاء
وما شئتُ غيرَكِ
فامضي إليَّ على غيمة من بكاءٍ يرطّبُ هذا الصَّخَبْ

* * *

كم أحبُّ التمترسَ خلفَكِ
حين يراني القطيع
- وقد بعتُهُ بقماري على حقلِهِ
واجتهدت بأني سأسكبُ ألفَ ربيعْ-

* * *

ألوذُ ببردك حين يحرقني الرَّمْلُ
حين أمدُّ يديَّ إلى دفترٍ كان شخبط فيه أبي
عن صحارى يزمجرنَ بي للصّعودِ
وقلتُ: بأَنَّكِ تفاحةُ الأغنياءِ
فقالَ: سَتَفْنى النقودُ
وقلت: بأَنَّكِ نرجسةٌ في السماءِ
فقالَ: لمؤتةَ عهد يعودُ
فخلتُك نجماً دنا
أشرئبُّ لكِ الآنَ
أنقلُ خطوي سريعاً
بكل الطيور التي داهمتها الزوابع
كلِّ الصقور التي أرهقتها المضاجعُ
كلِّ المواجعِ
كلِّ المفاجعِ
أحرقني أملاً في لقائِكِ
أكتبني رقيةً
كي أحصِّن من بايعوكِ
وأُقسم شفتُ الخيولَ تداهِمُ هذي السَّهولَ
على عتبات لعهدكِ آتية
ورأيتُ الرَّبيعَ يزاحم ثغرَ السَّماءِ
وأقسم بالتِّين أني رأيت الزّيوتَ
تفرُّ من الزَّهرِ تختصرُ المعصراتِ
ولكنَّ سبعاً ينغصن حلمي
يجفُّ بهنَّ الرَّبيعُ
يبيع بهنَّ الرِّجال مواقعهم للبغالِ
وتعبُدُ فيهنَ هذي الخليقةُ آلهة من هباءْ
وأنت تطوفين بي أملاً لا يطالُ
وينهرني الصَّخْبُ
كفِّ الهوى يا غويْ
أضيعُ بكلِّ اللغاتِ
وتُسْعِفُني وردةٌ في الشمالِ
ويورقُ نجمُكِ في شفتي اعترافاً
وأعترف الآن أنّي على رأسِ هذا الهديرِ
من الصَّمْتِ
أحرقُ كلَّ العجافِ
وأُزْهِرُ في كلِّ صدْرٍ مليء بصوتي:
أنا نجمكم أيُّها المتعبونَ
ومؤتةُ قابَ ترفُّعكُمْ عن حليب الكلابْ
لست أطيلُ الهَديلَ بما أجبرتني عليه الرَّمادَةُ
فلتنطفي يا نُعاس القصائدِ
لي موعِدٌ مع دمي في الجبالِ
ولي سلَّمٌ من تحنظل هذا المدى
واكتناز الغيوم بجمري
سأرتفع الآن صوبي
أرشُّ المدى بانفعالي
ولتشهدوا أيُّها المتعبون:
الشراة مووايل عشقي
وليس يقطِّعُها أنَّ غولاً تغطّى بزعرتها
حينَ مَرْ
هذي قبوري
وإن كنت جندلت فيها غريباً
ككلِّ غويٍّ أتاني بكلِّ غزاة
فلتكف الشراةُ عن الصَّمتِ
مؤتة بيرقنا للدخولِ إلى حضرة الأرضِ
كم جعفرٍ سوف تنحتُ هذي العيون الحيارى
وكم جعفرٍ حين أفلقُ تفاحةَ الأرض عنكِ
تضعه العذارى
وأقسم شِفْتُكِ فوق مؤاب تمدِّين لي بيرقاً
للصُّعود
أعود إليك وينهشني الحبُّ
كم سأُحبُّ
وأنتِ القصيدة علًّقتُها كي أساومَ إن
بيدَرَ الدهر هذا الهُراء
وأنتِ على قمّةِ الكبرياءِ
سيعشقك المتعبونَ
وكلُّ الجبالِ ستعشقُ وردَكِ
لكنني جبلٌ ما انحنى حين ضيَّعَ كلُّ الرجالِ
معاولهم في الخدور
سأُشهرُ حلمي بوجه الوحوش التي أدمنت
أنْ تلص الدماء إذا ورَّدت في الحقول
بوجه العجول التي أدمنت أن تكون مطايا الغريب

* * *

محاولة في رثاء البحر الكامل

حدسٌ بما أسميته الزّيتون يغشاني فينكسر المنامْ
ما ثم جرحٌ كي أرعّف بهجتي في ما تكدسه السنابلُ من كلاميْ
ما ثمّ في الأفق وعودٌ غيرَ ما تَخِزُ المُدامْ
شيبٌ يساورني كطيف حبيبةٍ رحلت وغلَّقت الكلامَ على الكلامْ
واستأثر المعنى بها لفظاً وغطتها الشآم عن الشآمْ
ما بين ألفيّتين من أسف تعذّرت الطريقُ، وأوحشت سفني برملِ حليبها، وعثرتُ لا متعثّراً،و هَمَتْ وهِمْتُ وهامَ غيريَ في الهيامْ
دُلّي عليها يا سحائبُ، يا مجازُ، ومَرّري نوني على كينونتي، إني الرحيلُ إلى مقارفة الرّخامْ
وجعي يبعثره التوجّس، أيُّ عيدٍ سوف ينقلني إلى بسماتها الرّعناءِ
أيّة غيمةٍ كانت تظلّلني على وطن أخبئه عن المعنى فأوغل في الفطامْ
متفاعلاً مع كلّ ذي صمت على ريبٍ أقودُ رواحلي العطشى إلى بئر الخصامْ
في كل منعطفٍ أرتّب رحلة قلقي إلى قمم القصائد كي تنامْ
وأنامُ لا مستعطفاً حلماً وأحلمُ كي أفيقَ من الغرامْ
حلبٌ تحرضني على الفسطاطِ واليمن المرامْ
أرمي إلى زيتونة المعنى الذي نسل السّلامَ من السّلامْ
وحبيبتي وطن السّلام، بعشب عينيها أُسرُّ سريرتي، وأفيء من قلق
المحار بلجّة المعنى إلى عشب الصّهيلْ
وأظلُّ أفترعُ الغموض من الغموض، ورنّة التشويش في شوق المجاز إلى الوضوحِ، أسوقها زغباً إلى صخر الجزيرة ألف عامٍ، ما نما عشبٌ وما بكت السّهامْ
دلّي عليها يا سهام، حبيبتي ارتحلتْ إليَّ مشوقةً، وانا ارتحلتُ إلى مقارفة البكاءِ أطلّلُ الآتي لكي أبني القصيدةَ قاصراً لغتي على كافٍ يفارقُ نونَه، ليظل أهلي سادة وتظل ترتكب المدائح في الحروب، وفي الهروب، وفي مفارقة السّماء لشمسها، وأظلّ -شأن قصيدتي- عطشاً بلجَّة بحرها، عَطِشاً إلى الفوضى، وثغر حبيبتي، والشام، والمعنى، وذاكرة الطفولة، والظهيرة تحتَ سقفٍ متعبٍ، وأبي يقلّد حزمه، والنائحات بقبرِ جعفر، والمكاتيب البريئة عند مدرسة البنات، تفلني حمّى التَّذكّر حيث أفتقد الامامْ
متفائلاً أبني البكاء قصائداً عمري له درجٌ، وأصنعُ مثلما أبغي شآماً
للوسادة كي تنامْ
عطشٌ إليّ يقود قافيتي إلى عسل الحروفِ، أكذّب المرآةَ حين تشوفني
قلِقاً على شين الشآمْ
والشام ليست جنّةً طيناً ولكنْ حيرة المعنى إذا انتبه الكلامْ
والشام ليست جنّة طيناً ولكن قبلةٌ ضاعت على خدّ الوحامْ
والشام ليست حصّة في النرد لكن سهمةٌ للمستهامِ
الشام أهلي في الشروقِ وفي الغروبِ وثورة الزيتون في عطش الظلامِ،
وجفّت الأوراق في حبري وغادرني الثناء على الثناء، وكبلت همّي
همومي في الرحيل المرِّ وانتصف الإمامُ من الإمامِ، وضِعْتُ لا متخيّراً درباً ولكنّ الدروب بلا أمامْ
لا فوق تحتي، ولا ورائي خنجر الرّوميّ كي اهتزّ، لا سفناً، ولا حطباً فأحرقها، ولا ثغراً يرحب، لا عيون تحلّت الآتي، ولا أهلاً فأحرد
أو عدوّاً كاشفاً ناباً فأغضب، لا صديقاً كي أقاطعه ولا معنى لأختصر
المدائحَ، لا مدادَ سوى المُعاد و:
قف مكانك
صاحت الدنيا كأنّي شبّهت سفني لها، وصرختُ يا دنيا تمرأي في
الخيال ويا حمامةُ لا تطيري
إنني شُبّهتُ لي قرناً مضى وأرتّب الأوهام للزمن الجديد، كأنني قد
غبتُ في لججٍ من السّجف المخايلِ، لا سبيلَ إلى محار حقيقتي إلا
الصلاة على الوئامْ
عتبٌ على الدنيا الغرور إذا أغرعرُ في الفصولِ، أو انتبهتُ إلى النساء،
أو امتطيتُ سوى الغبارْ
عتبٌ على عمري، على صوتي الأبحِّ، على المحبّة والمسرّة،
والشكوك، على اليقين، على الصلاة، على العبادة، والتكبّر،
والحياة الوهم، والموت الموارب، وابتساماتي وحزنيَ، وانشغالاتي
وسهوي، واعترافاتي وسرّي، واحترامي الناس، إشفاقي عليهم
وازدرائيْ
حزني على الفادين، أفراحي بما جاؤوا، انشطاراتي ولّمّي
عتبٌ عليَّ إذا أفتش في مرايا الريح كي أجد السؤال وحين ينحرف
السؤال وحين يبتعد السؤال، وحين ينعدم السؤال على إجابة قصّتي
في القرن، فوضايَ التقيّة، واشتعال هواء غيري في هوايْ
ولديَّ مما أشتهي، نهرٌ من الشّهداء، والأحياء في وهم السفينة،
وانشغال الماء عن صبري وإيمانيْ
رحلت على زيف التدارك كلّ أشعاري، وقلتُ أجدّدُ التجديف خانتني الخريطةُ إذ شآميَ غيرُ شامي
وازورَّ من تعبٍ حصاني
((أنا غلطةُ الشعراء والإنشاء)) صاحتْ بيْ المدائنُ فانتبهتُ من انتباهي
أسهوتُ قرناً أم سها عني مكاني؟؟
أنها بهجة الشعراء، حزن الحالمين، رسالةٌ لهثت بصدري ألف عام إذ وصلتُ بلا بياني لا شيء أمنحه إذ انتقل الرسول على معاظمتي عظامي
دهرٌ مضى وأنا أنا،
طسمٌ تطلسم نهجها، وجديس ما زالت تقربنُ كل من بلغ الفطامْ
ويطولُ هذا الكامل المجنونُ في نقصي، ويبحر في هيامي
أرثيه أم أرثي القصيدة زادها سقماً سقامي

عاد الهواء الثقيل

حيدر البستنجي

((لم أعد
في غياب يديكِ
أضلُّ طريقي
طاف سهمُ الرماد على وحدتي
ورمى زنبقُ الماء
خيط الخريف على شرفتي
وتدلى دمي شاحباً
في .. القفص))

جاء حيدر البستنجي إلى الشعر من حقل معرفي آخر -يُذَكّر برومانسيي الشعر العربي- لكن بمزاج مختلف. يشعر القارئ أنه أمام شعر بنى ثقافته الشعرية من اختلاط الحياة بالثقافة إلى حد أنْ لا فصل بينهما في القصيدة.

  • ولد في الزرقاء سنة 1966م.

صدر له:

  • أبواب الإياب

مرايا لفراش المدينة

ضبابٌ على شارع الذكريات
غبارٌ تسوّلَ روحي
وعاد الهواء الثقيل
لتغفو شوارع ((عمّان)) بين يديه
تَجَمْهَر مثل براري الكلام
على شرفة العابرين
ويعدو على طرقات المدينة
صمت الخيول
ولا فجر إلا فراشٌ
يناغي أقاصي الضلوع
ويحمي العظام

-2-

تساقَطَ ملح الخريف
على باقةٍ من رذاذٍ خجولْ
تساقَطَ بين يديّ الجبال
فكيف سندخل نسغ الحقول
ومِن أيّ ثقبٍ سنفتح بوابة الريح
جمر يدينا
لنغفوا على باقةٍ من صهيل
وتعدو النوافذ بين يدي الفصولْ

-3-

صباح يعانق قاماتنا
بانتظار البريد
تفرد في وهجان الثواني
وراودَ خيطَ النجوم
على همسات المعاني
نديَّاً ..
له الورد عطر الأغاني
يئنُّ الفضاءُ بعينيه
لا ينثني للخراب البدائي
وَهناً..
تنام القصيدة فوق تراب المدى
ثم وهناً ..
تطارد فيه الخليقة أطفالها المتعبين
وعمان ..
جمع الجموع..
ليلٌ من العاشقين
وهَمُّ المرايا ..
حوارٌ بلا بدء أو خاتمة
فراشٌ..
فراشٌ..
فراشٌ..
لصهوة ريحي التي لا أغلفها بالكلامْ
لترعى الغزالة من عشبِ بسمانْ
وتعدو ..
عند الصباح
مرايا الرخامْ..

سفر على برق

خالد أبو حمدية

((وإني المُدْنَفُ المتروكُ فرداً
تعلَّقَ بالشذى
فالزهرُ زافا))

في شعر خالد أبو حمدية غنائية رقراقة، تطرب، فيمشي القارئ وقد تخفف من أشياء كثيرة. يمتلك موهبة عالية في ((الموسقة)) كأنما بدأ عازفاً. ربما كان ذلك من الأثر العميق الذي تركه التراث الشعري العربي على قصيدة خالد أبو حمدية.

  • ولد في اربد سنة 1966م.

صدر له:

  • كساح الغيم
  • دالية آثمة
  • شقاوة الأسى

هياكل الكلمات

(إلى أبي)

سَفَرٌ على بَرقِ التجاعيدِ القّديمةِ
قَدْ خَطاني
فاحتَميتُ بِشَهوةِ العَطَشِ المُخبَّأ في رحَى التُربِ
المُشَقَّقَةِ احتَميتْ
وهَمَستُ في أُذنِ النَواعيرِ الغَبيةِ
كيفَ حَجَّلَتِ المِياهَ
وأفْرَغَتْ جَيبَ الهواءِ مِنَ الزمانِ
وما مَشَيتْ
سَفَرٌ يُناحِلُ في الخَفافِيشِ الطَريَدِة عَتْمَها
ويَصُبُّ في حَدَقِ الخرائِبِ رَهْفَ أجنحةٍ
لها في رَفَّةِ النَزَقِ المُشَرَّدِ ألفُ بّيتْ
سَفَرٌ وألفى - من تباريحِ الهّوى-
في عَتْمِ أحجارِ القناطِرِ يا أبي
وأقامَ أعراسَ القصائِدِ في شقَائِقِ غُربَةٍ
وخرافةٍ فيها انكساراتُ الدموعِ إذا بكيتْ
سَفرٌ -وتحت ملاذَةِ الرمِشْ المُغَمَّسِ بالسوادْ-
يَرتاحُ حينَ يَرُدّ عن خَلَجِ النُفوسِ طُفولةً
كَلَّتْ على عَصَبٍ تَشَيَّبَ ذاوياً في قلبِ مَيْتْ
عَتبٌ ومَنْ يَدري بِمَنْ
إنْ أرجَفَتْ بِخُطاكَ روحُ الدربِ
وانْقَلَبَتْ على جَذْواتِ نَدهِتنا بَراري النَبْضِ
وانطفأَ الزَمنْ
قَد فُرْتُ عن قِدْرِ الفطامةِ يا أبي
لأزفَّ كلَّ قَصيدةٍ أرجأتُ ظلّي بَعْدهَا
وألُمُّ بَعضيَ ياسميناً تَحتَ شُبّاكِ الأحبةِ
ظَلّ سامرُهُ الشَجَنْ
يا نَجْمُ
دَرْبُ الراحِلينَ على حَشيشِ الأمنْياتِ تَحَرَّقَتْ
فانْصُب قَرابينَ الإيابِ
وَخلِّنا يا نَجْمُ غابَ المُؤتّمنْ
سَفرٌ ومَنْ
حجَّبتُ عن عَيْنَيهِ خَلْوةَ عابدٍ
ليَمورَ في لُجَجِ القصائدِ
- حينَ تَعتنقُ الفراشاتُ الشفيفةُ ثَوْبَها-
ويَغيب في لوزِ الحكايةِ
لا يُبارِحُهُ الوطَنْ
فافتَحْ لنا كلَّ النوافذِ يا أبي
هذي المنازِلُ لا تُطِلُّ على أحدْ
وانشُدْ بسِرِّكَ يا أبي
انْشُدْ بِسرّكَ حينَ يشلَحُنا الجَسَدْ
سَفَرٌ خطاني عن مُلِمَّاتِ الغيابِ فَناءَ لسعاً وانزَوى
ليَزُمَّ ما دَفَقَتْ مآذنُ مِحنَتي
وبذارُ عِقْد الشعر تُبرئ ما صَلَيتْ
وتَلفُّ فوقَ هَياكِلِ الكلماتِ أوردتي
لأكونَ شكلاً لا يُخالف صورتي
يَفتَّرُ عنها حين يَغْفَلُني
ويَكسوها بأعذبِ ما طَوَيَتْ
ابدأ صلاتَك يا أبي
واطْبَع على أرواحِنا شُعَبَ اليقينِ الراقداتْ
ابدأ صلاتَك كي نَرى
هذا الدعاءَ مكللاً بالضارعاتِ على القنوتِ
إذا نَويتْ.

* * *

سِفْر الشوق

ذَرني إلى حيثُ المعابدُ أنزلتْ
عن رِمْشِها
قِنديلَ مَن يَتَنسَّكُ
وهَوَتْ على سفَحينِ من ثَمَلِ الهواجِسِ
وهي تُلقي فوْقَ إكليل المرايا
ما حبَاهُ الليلكُ
ذرني: وبي شوقٌ إلى الأطيارِ
أسحَتُ عن رؤوسِ الليلِ
كلَّ جَديلةٍ سَفَحتْ صِبايْ
ذرني: على الصُلبانِ عاذِلَتي التي أسلَمْتُها فجراً
من النَبضِ البتولِ
- وما تَفَتَّقَ عن أديمِ الروحِ- محراباً ونايْ
هل كانَتِ الأُنثى حريقاً من بنفسجةِ القُبورِ
ترُدُّ عينَ الزائرينَ عن الضوى المكبوتِ من خَرَسِ التُرابْ
هل كانَتِ الأنثى على الأنداءِ زهواً من سرابْ
أو كانّتِ الأُنثى تَميزُ الرَحلَ
تُنْبئُ ما تَفَتَّقَ بالقصيدِ من السحابْ
ذَرني فما أبطأتُ راحلتي
ولكنْ ظلّ يجثو في رمادِ الموتِ وِرْدُ الاغترابْ

صوت العزلة

رانة نزّال

((....
مشدودة إلى صوت القلق،
فيا صحوتي))

رغم انفتاح القصيدة عند رانة نزال على الحداثة إلا أنها تبدأ من هناك. مما يثير المخيلة في لغة الموروث الأول والأقدم .. كأنما تعيد تدوير تلك اللغة في ذاتها كي تعيد انتاجها من جديد ومن سياق آخر.

  • ولدت في الطائف (السعودية) سنة 1969م.

صدر لها:

  • فيما كان

آنستُ ناراً

امكثوا ها هنا
فإِني آنستُ ناراً، سآتيكم منها بقبسٍ
هكذا قال،
ومضى
والفتوح تأنس بقربه.
هو سكرة الكونيِّ
لما أتاه صوتُ ربِّه أن اخلعْ نعليك
فإِنّك بالوادي المقدّس طوى.

ريحٌ شاحبة

شَحُبَ القلبُ
وتلفعتْ بالنُّواح ريحي
.. هكذا صَرخَ الذبيحُ
مرتِّلاً نشيدَ السكين.

صوت العزلة

تفسخَ العنبُ
وانفرطَ كرمُ الأبجديةِ
وهوى الهلالُ
رميتُ ثوبَ صوتي
على أريكةِ الصمتِ
وألفيتُني وحيدةً على ربوةِ الضّياء
.. يا لوحَشتي
يا لامتلائي
روحي حُبلى...!

مطر مؤجّل

يا حَسرتي على ما ذابَ من عِنبِ البَهاءِ،
وما انفرط مِنْ سُبحةِ القلب
فوقَ مصطبة المساء
حيثُ الدمعُ مدرارٌ
ولا ثمَّة مِنْ أحَد..!

حجرُ الكلام

أتنزّلُ من بين يديَّ
من مَسرةِ الصُلْح
وعقيق السَّماءِ
فيدخلُ الزيتونُ موتيَ بأجنحةِ المرمرِ
الشمسُ سريرُ العراءِ
ورحيلي فراشاتٌ
تطوفُ حولَ قنديل غرامٍ
كتبتُ على دمعِهِ حُلُمي

كلما ذُقْتُ نبيذها

زياد العناني

((يا سفيلون
أنا رجل شفوي ووحيد))

ثمة عفوية بالغة في شعرية زياد العناني. إن لم يكتب القصيدة بعد أن يعيشها فهو يذهب إلى الذاكرة والماضي معاً ويشاكل الموروث.

  • ولد في ناعور سنة 1962م.

صدر له:

  • خزانة الأسف
  • في الماء دائماً وأرسم الصور
  • مرض بطول البال
  • كمائن طويلة الأجل

قصائد

- مقاطع -

-1-

كُلَّما
طيرتُ اسماً
في الهواءِ
تمردَ أو طَغَى

-2-

كُلَّما
ذُقتُ نبيذها
تنهدَّ الكرمُ العجوزْ

-3-

واحدٌ فقطْ
يخترقُ البويضةَ
ويسقطُ
في خزانَةِ الأسَفْ

-4-

ما أكثرني
أنا من بيتِ الذراتْ
ما أجملني
النسوةُ قطعنَ قميصي.
النسوةُ من دونِ أصابعْ

-5-

معتادة روحي
على زيارة أجسامها
القديمة.
يحدث هذا
على ذمة النوم
الذي يهدهدني حتى تعود.

-6-

أعيش القصيدة
ثم أكتبها
وفي ظلي
جملة شعراء ماتوا.
ثيابهم
لم تزل عالقة في الخزانة.
أسنانهم
في علبة الماء.
أصابعهم
تؤكِّدُ أني دون أب
دون أب

-7-

مقطوعٌ
مقطوعٌ عني.
حتى الشجرةْ
حتى الشجرةْ
قالت: لم يقطعْ مني.

-8-

مثل - كان
مثل- إن
الأرضُ لها أخواتها
والعالمُ ليس وحيداً.

-9-

دائماً
تشرقُ الشمسُ من الشرقِ
ودائماً.
تمرُّ خيوطها الكسلى
بين الجثث
لتضيءَ محفلَ الدماءْ.
الشرق
الشرق
بلا مجاز
يتكورُ الآن
مثل مقبرةِ قديمةْ.

-10-

الحانةُ
تبحث عني.
تبتُ
تبتُ تماماً.
ها أنذا
أجلسُ في صدرِ الدارِ
متصدعاً
متصدعاً
من خشيةِ الكحولْ.

من علٍ

هنا
كونٌ
تدوره الفضيحة
من
علٍ
سميته: رأسي.

*

هنا
امرأةٌ
تضوع عطرها المائي
في روحي وأغرقني
هنا الأحلامُ كاملةٌ.
هنا نامت
هنا ارتعشت
هنا فارت معارجها
وقد
سميتها: جوعي.

تبريد الفكرة

في الثلاجةِ
كان أبي يخبئ
فكرةَ الثواب
والعذاب
مخافة
أن تداهمها الحموضةُ أو يداهمها العطن.

*

في الثلاجةِ
عاش أبي!!

لا وقت كي اكتبَ موتي

سلامة شطناوي

((يا اشتعال البياض بصفحة عمري القصير
يا اندياحُ الأماني الذي كان فيّ قريب
ما الذي يوصدُ الذكريات
أمام المحبة..؟))

شاعر جارح رحل مبكراً كان يقتفي خطواتُه هو.

  • ولد في النعيمة (اربد).

صدر له:

  • دوائر البوح

شجرٌ أقتفي خطواته

يسيل الهواء على جسدي
لغة يعتريني بها
أن أقول: الهواء
الهواء يمارس قصته
باتخاذي دوائر
في لهجة باردة
فأسقيه خمر ملامستي
ثم أحضنه بين
كتفيّ رأساً
اوزّعه حيثما
شاءت البادرة
وأسيل معه
نحو أغنية لم أجدها معي
مرّتين
مرّة حين خضت المياه
وأخرى وقعت بها عن سفوح الكلام
إلى التأتأة

أسيل
إلى حيث تستيقظ الأرض
أرتاب
أحمل كفي على الغوص
حتى تلامس
نسماتُ روحي الرطوبة
والجوف مشتعل
بهدير
يؤاخذني
فيطالعني شجر
أقتفي خطواته
كي يستحيل الهواء
صعوداً إلى مزجه بين عصف
أحك نواصيه
كي لا أسيل معه
وبين نزول
إلى درك لست ادرك
غير اصطدامي به
معلناً
أنه الهاوية
الهواء يسيل على جسدي
وأنا نبتة
والخيال سماء
هواء يسيل
إلى حيث لا ينبغي
أن أتابعه
غير أني تابعته باحتفاء
فازدراني
رجعت إلى حيث كنت
جسداً يرتمي بين أحضانه
الكبرياء
لغة وسماء

فراغ

يا اشتعال البياض بصفحة عمري القصيرْ
يا اندياحَ الأماني الذي كان فيَّ قريبْ
ما الذي يوصدُ الذكريات
أمامَ المحبّة ..
من قاومَ العشقَ فيها
ومن أحرقَ المستحيل؟

يا اشتعالَ البياضِ ومن أشعلك؟
يا اكتئابهُ
ماذا سلكتَ
لكي أقتلَكْ
.. كنتُ قبل قليل من العمرِ اكتب
لم ينزوِ المترسّلَ في خانتي
لم اكن سيّد الإنفعالات
أو قاتلَ القبّرات لأكتبَ
كانت حروفي
تهبّ عليّ
إذا ما صمتُّ

لتكتبني هائماً مثلها أتمرّى بِها
ثم تتُعبني ثمّ أتعبها
ونسيرُ معاً للفراشْ
آه كم كنت أرنو لأكتب نفسي نقياً
كما الماء مغلية
مثل نبع صفا وانتفى القول فيه
كنتُ سيّد حرفي
ولكنني سيد في الزمانِ
لهذا الفراغْ

أخذت من الحلم نصفه فاكتملت

سهير الداوود

((ما أجمل النسيان
لفّ يديه حول عنقي
ورحل))

شعر سهير الداوود أقرب إلى الاقتطاعات، يشعر القارئ أن ما من بنية نصية بعيداً عن اقتراح فواصل ونقاط وسواها للامساك ببنية تخييلية للقصيدة تفضي إلى المعنى أو الإحساس به على الأقل.

  • ولدت في عمان سنة 1967م.

صدر لها:

  • نعم، أنا آخر امرأة
  • فوق الماء ووحدك

عُدْ للوجد ثانيةً

أفتتحُ مدينتي
أحلقُ بأذرعِ الحنين
أحنو عليك
فتقسو راحلاً صارخاً
أودعتَ قلبَكَ غانيةً
واسترحت
كنتُ أصلي على ذلك الزمانِ
وأتمتمُ بصلاة اسمِك خشوعاً
وعلى مسافات الرمال
خلعتُ زيفي
وشهقتُ من أعالي الوجدِ أحبُّك
غارتْ غانيتُك من وترِ الحسّ
توجسّ وجْهكَ فأخافني
لا تخفْ
أنا من طواني الرحيلُ

امرأةُ اللهب

انفجري تحتَ قرصِ الشمسِ
حطمي جدارَ الموجودِ
فالليلةُ بألف ليلةٍ
ستبكين عن نساءِ الأرض
لتُخْرجي للآلئ الضياء
انفجري ......
فالليلةُ ميلادُ الوليد
تجمَعَ عند مائِكِ الأزرق
خمسةٌ أعمدةٍ مسروقةٍ
من أحزانِ اليتامى
وقهر المقهورين
لهبُ الشمعةِ الصامتِ
اخترقَ أنانيةَ الحزن
خلع جلدَك الهشَّ
وقفتِ تحدقين بابتسامة
تقسمين لحزنك الموعود
صائحةً صائحةً
أخترقني إخترقتني
واطفئي لعناتِ الأرض
امرأة الحزن ......
ستعودين خاليةً
لا تعرفي من الحب إلا الدموعَ
وكفَك المخضّب بالأنَيِن
نامي الآن
زمجري عندَ أقدامِك
وحيدةً كئيبةً خاليةً
تضاجعين رعب الآلام
وقصيدةً بلا رجلٍ

ماذا لو تتعرى؟

ماذا لو تتعرّى
من ورقٍ ذابل
وتسرقُ نصفَ الكلام
لقصيدةٍ خبّأَتْ وهَجَها
وارتدت ثوبَ أنثى
تزفُّ ظلَّ طفلِكَ
في الجزءِ المرتجفِ من جسَدِها
آهِ لستَ حرّاً
أخذتَ منِ الحبِّ نصفَه
ومن الحُلُمِ نِصفَه
وقلتَ اكتملْتُ.
يحرسُك الحياد
وامرأةٌ مؤجلة
ماذا لو تتعرّى.
أتعرّى؟
والريحُ ضائعةٌ في الدرب
بين رملي وشراييني

حيناً من الخوف

طارق مكاوي

((يا الطفولة
كيف تسحبني المجاهلُ
من ضمير الشعر))

لعل طارق مكاوي الأكثر وفاء من بين أقرانه إلى تجربة الكتابة التسعينية، يبدو لقارئه شاعراً نقياً من أجواء وأهواء أخرى غير تكوينه البكر الأول كما لو أنه لم يغادر مقعده الجامعي. كما لو أنه فيه يكتب ويتذكر.

- ولد في بيت لحم سنة 1966م

صدر له:

  • لم يكن كافياً
  • الرحيل داخلاً
  • أوشوش هذا الزقاق

لم يكن كافياً

((بيتنا عند الشجرة))

لم يكن كافياً كل هذا التراب
لم يكن كافياً وقتنا
لأضمّد عتمةَ ضوئي
كي يسقسق
عطرُ الهديل بذاكرتي
لرخام الحديث الفجائي
غَجَرٌ خيموا بالقصيدة
دهراً ثم ماتوا ... قليلاً
ارجعن يا غجريات إلينا
نحن حلمنا بطقوس الحمام على رغبة جائعة
لي زمان أفتح
فأرى
شاعراً شاخ
من الحب يرقِّع سنارته
ويصيد نجوم العصافير مرتدياً أصواتها
هادئاً في قطار الرحيلْ
يملك نزفاً شاحباً
... منديلاً للقاءٍ قتيلْ

ترتيب آخر

مساءً أرتب نصف سريري
وأفتح كرّاسة الشعر
كي لا تنام وحيدةْ
أحبك حين تدقين
شباك لوزي بماء يديك
وحين تلمين أجنحة الشعر عني
بمعطفك الجبليّ
فيجري القرنفل في الشارع العام
يجري
ليلقى الثواني الشهيدةْ.
كم الآن مرّ من الحزن سيدتي
كم من الليل
ناح سواداً
على شعرك الساحلي
وكم سقطت من شفاه المغني قصيدةْ
مساءً أرتب عينيك، فنجان قهوتنا
وأحاول ضبط الكمان
على ....
خفقان الطريق
ألون فوضى دمي
وألبس بوح الأماني الطريدةْ

قصائد

-1-

لم يعدْ لي
سوى أنني أتذكر عينيك،
قبل الرحيل....
وأحزنْ
لم يعدْ لي
سوى قطف تفاح أحلامنا
عن غصون ((فرندتنا))

الذابلةْ

-2-

وأدرك أنك لن ترجعي
لي
تراكض خوفٌ على عتبات الضلوع
فقمت بداليتي
وإليك يتوق التراب
يفرُّ ومن تحت جلدي الحمامْ
... أريدك بيتي الجميل
لكنّ عينيك بَينٌ
وأنت ازدحامْ

-3-

يتحرك عقرب ساعتها
نحو
الوراء
وعند مواتي
تقف التكتيكات المريضةْ

-4-

أتفاجأ بي
بوقوفي الحزين أمام فراغ البريد
بصقيع يديك اللتين
تضمان باقة غيم
بأني انتظرتك دون انطفاء
وأرخيت رفّ دموعي
لهذا الطريق اليتيم

-5-

الرحيل تفيأ بي
وهندس عني خيوط الكلام المسجى
وحيث وضعت يدي
طار طير صغير
وحطّتْ قصيدةْ

لا عشق دون رياح

عاطف علي (الفراية)

((موتي طويل
وهاجس حلمي ثقيل
وليست تهدهدني الشمس
ما زلت أصرخ يا أخت مدين
يا أعذب الجاريات
تثاقل فيَّ الظلام
فرُدِّي لقبري تراتيله))

يطل عاطف علي (الفراية) على مساحة تاريخية واسعة ولا يغادرها. هي أرض أقرب إلى التناص مع قصص الأولين، مُعادٌ انتاجها على نحو آخر؛ على نحو جريء.

  • ولد في الكرك سنة 1964م.

صدر له:

  • حنجرة غير مستعارة

رعاة على ماء مدين (1)

قال الراعي النرجسي:
هو الليلُ يغشى قلوبَ البعيدين عنك
ويأسر أرواحهم في النهار الذي ما تجلَّى ...
هو الحوت يبلعُ كلَّ الفوانيس ...
يبلع أقمارنا في المساء ...
ويبلع آفاقنا في الصباح
ويبلع أحلامنا العاريات
هي الشمس بنت شعيب
وتأفل في ماء مدين
أصرخ يا أجمل العاشقاتْ
تغيبين في حلمي الأزلي ...
فأهذي...
لماذا إذا اقترب الحلم من أفق الصحو
عانده القبر..
والتف حول الوسائد شيطان نومي
وداست سدول الظلام مرابع حلمي..
لماذا إذا زارني ملك الصحو تطرده الهمهمات...!
لأي هزيع من البرزخ السرمدي ...!
لأي الهواجس يمتد بعد المسافة ما بين
دهري ودهري ...!
طويل ألا أيها الليل فاصدع بسري
علامات صحوي من الحلم
أن تخرج الشمس من ماء مدين ...
أن يلد القلب ربته فأغني:
وداعاً ألا أيها الميت النرجسي
فتأتي الكواكب تهذي بشعري
أنا مارد الشعر لو أعتقتني القبور
لصرت على ماء مدين أسطورة للصبايا
أنا سيد الشعراء ... فلو قذفتني
ملائكة الصحو من قبر لوط ...
لصار غنائي على الدهر ترويدة للعذارى
أنا أجمل العاشقين سوى أن قلبي
(ينشفه) الملح ..
لا يلتقي الخافقان فهذا
أجاج ... وهذا فرات
أنا فارس للحكايا ... سوى أن خيلي
(يدوخها) البحر ...
تجثو لترفع حلمي فتخذلها القادحاتْ
أنا أنت يا قبر ...
موتي طويل
وهاجس حلمي ثقيل
وليست تهدهدني الشمس
ما زلت أصرخ يا أخت مدين
يا أعذب الجارياتْ
تثاقل فيَّ الظلام
فردي لقبري تراتيله
كي يصلي ...
ومدي لتوبة صدري يداً من وميض
فإني صغير ... صغير
تشيخ بجبهته الصبيناتْ
يحج إليك على صهوة الحلم دهراً ...
وفيه تنام جبال مؤاب سكارى
فأي الينابيع تسكب حباً ...!
إذا جفَّ مدين ...
أي الصوامع تمحو الخطايا...!
(قال الراعي الهارب:)
حنانيك ذنبي صغير ...
وما كان ذنبي سوى وكزة واحدة ...
وكزت الذي كاد يخنق شاة
فأوصى القطيع الذي
أدمن الذبح أني العنيد العنيد ...
ولم تك تملك كفي سوى وكزة واحدة ...!
وما كنت أعلم أن يدي
قوة الله ... كيف يقولون
إني قتلت ... وأن فؤاديَ
جبار هذي البلاد الوحيد؟!
لأن القطيع يرى أن صمت الذبائح قمح
إذا كان في صرخة الذبح ملح ...!
ودوماً يغنونها:
ذهبٌ صمته ... فضة بوحه ...
آه ... ما أقبح البوح حين يسن الحديد
لأن الذبيح يرى
أن في نصل قاتله عنعنات غضبْ ...!
إذا كان في عنق الشاة غصة ..
لأن الخناجر تكبر غضبتها حين تدنو
إذا كان في الحلق رعشة..
لأني وكزت الذي اغتال كل القطيع
فأصبحت في شرعهم أول القاتلين
على حذرٍ ...
وكأن السيوف تحز جنوني
ويأتمر القوم كي يذبحوني
فررت إليك ...
وجاءت على ماء مدين إحداهما
والحياء يغشى ظنوني
توليت للظل ... جاءت
على خجل ...
وكأن ملاءة وجه الملاك
أصابت حنيني
(قالت الراعية)
رماداً رأيتك ...
منذ تركت (سفينة نوح) (*)
وكنت أناديك ... أقبل
فلا عاصم اليوم.. أقبل
ستهوي الجبال ... فأقبل
فإني سأبقى مع الراسيات
توليت عني ...
وغشيت وجهك ثوب الفرار
إلى أن نعتك إليَّ الضلوع
إذا ما الفؤاد تشظى
سراباً رأيتك
منذ فررت من النار
والماء كان يفور كتنُّور جوفي
وأقلعَ غيم السماء ...
تشققت الأرض ...
والماء غيض ...
وتنور جوفك خوفاً تلظى
فررت .. وفاض بصدرك طوفان ذنب
وفاض بصدري طوفان صفح
فعد بعد عشر
وقل للقطيع يكفّ النواح
وأَلْقِ إليهم تراتيلهم كي يعودوا ...
على ماء مدين لا يحمل القلب
تثريب ذنب ...
على ماء مدين يرتفع الحب صرحاً
ويدمل كل الجراح
ويأتي الرعاة ...
وتسقي لنا أيهذا القوي الأمين
على ماء مدين يمتد عمر الصباح
وفي كل يوم ...
سنزرع عشقاً وليداً
ونرفع صرحاً جديداً
فإن هزت العاتيات براعمنا..
سنغني:
على ماء مدين لا عشق دون رياح
على ماء مدين لا عشق دون رياح

كم وقفنا على الجسر

عثمان حسن

((أنا
ملك الصَّدَف
كبيرٌ في التخفي
ظاهرٌ في الهمسات
والوساوس))

كأنما لا مشاغل لدى عثمان حسن سوى أنْ يصفّي فكرتنا عن العالم من الشوائب .. لا همّ له سوى أنْ يرقب كيف نتحرك وإلى أين نؤول كي يصنع من أخطائنا قلادة .. يا له من شاعر.

صدر له:

  • وردة الهذيان
  • كبرياء الصفة

صاحب الغواية

إلى ماهر الأعرابي
مما تزأر عيناك ....!
من هناك، أم من عمق الكأس؟
المدينة بسبعة أركان
ومئة ألف دزينة مضحكة ....!
أيها العتيق
حيتكَ الآلهة ....!

((ريما)) تفتش عنك في الضواحي
تمزق وجوه النظّارة
وتشلع الشجر ....!
يا صاحب الغواية
كم أكَلَنا الماء
وأصابتْنا الطفولة بالجفاف
كم وقفنا على الجسر
نحدّق في غياب الطين ...،
نفيرُ الصباح
حصانٌ مطفأ العينين
مُسرجُ لحراثةِ الورد ....!
للفجر مذاق آخر
أنت غاوٍ
وهو رقاصٌ لئيم ....!
فسلام عليك بين التبر والتراب
بين الفتنة والعبث
خلف مرايا الرفض
وسراب اليقين....!

الأرض

الأرضُ جدتنا الشمطاء ...!
جرة الماء المالح ...!
ضربةٌ واحدةٌ
وأخلع سدوم...!

* * *

الأرضُ
غجريةٌ
تحملُ القمامة لراعي الجبل
ولا تغتسل ...!

-1-

بين الآخرة واليوم
مملكةٌ من الدهاليز ...،
أرتالٌ من الحواس اللاقطة ...،
وامرأة شهية
تحسنُ ترتيبها ...!

-2-

أي مستقبل والألوان
كهولة الشياء ...،
نهاياتها
أسمالُ الطيور على
المرتفعات ...!

-3-

أحياناً
أجد في الدائرة ما يُنغّصُ
الكبرياء ...‍
فكيف تتسعُ السماء لنا
ونحن بداخلها ...‍

-4-

على أطراف الجبال
خدوش لصمت المرتفعات ....،
أعشابٌ من الذكرى
تلفحها شمس آب
وتبقى يانعة ...‍

-5-

أنا ملك الصَّدَف
كبير في التخفّي
ظاهرٌ في الهمساتِ
والوساوس ...‍

-6-

لم يكن سراً
حين خَفُتَ الظلُّ
وأصبح يتسوّل كلماتي ...،
برهةٌ عابرة
وأنا أودّع اندثارها ...‍

الخريف الآن مرآة الفصول

عبد الله أبو جامع

((أنت مجهول هنا..
وجناحاك تفاصيل الفراغ
تَمسحُ العالَم في لمحتك الأولى/ وتبكي
تمسحُ العالم في لمحتك الأخرى/ وتهذي
أين أنت؟
أين أنت؟ ))

لا يبدو عبد الله أبو جامع إلا قريباً . مع أنه بدأ شاعراً مبشراً ونائياً، فلم يقترب ولم يصل منه سوى ديوانه...، والتسعينات تغلق وراءها الباب. يشعر القارئ أن شيئاً كان سيقوله قد سبقه إليه الشاعر.

  • ولد في عمان سنة 1971م.

صدر له:

  • لمن تشتكي وخصمك السلطان

السبع العجاف

-1-

إنها الأيام تسترخي على هذا الهدوءْ
وعلى هذا البرود
وتضيء الآن دهليز المدى
مثل عرجون سيلفظْ
شهقة الزيت الأخيرة
أو كأحلام عجوزٍ
أقبلت تغزل سن اليأس قرب المدفأةْ
وتوسدْ/
راحتيها الظل تقرأ
ما تبقى من نهايات الأُديسه
بينما الأقمار تشرعْ ...
بالتثاؤبْ
ثم تسقطْ
واحد يتلوه آخرْ

-2-

إنها الأطلال تكتبْ
في الوصايا
زمرةً أشياءنا
فَتُرِثُّ الغصن شوكاً
غص في حلق القصائدْ
والنهارات الجميلةْ
عزلة بين الجدارْ
والجدارْ
أين خبأتِ الظهيرة؟ ..
وتقمصت نعيقات غرابٍ
فوق أعلى الردم ينعقْ
بالمراثي.

-3-

إنها الأشعار آخرْ
مُهرة بيضاء تعرجْ
سقف روحي
تأتي من حيث أنابتْ
وتطارد راحتيها الوقت روحي
يسقط القلب مُسجى
في يديها كالدوالي
ونسافرْ ..
في محيط برزخيٍ كالخرافةْ
حينها أتلو حُطامي
فالخريف الآن مرآة الفصول القادمةْ

-4-

إنها الأشجار شريان الحياة
وقميص الأرض ضد التعرية
ورغيف الخبز في تنور أمي
هاهو الشريان يقطعْ ..
هاهي الأجساد تعرى
هاهو التنور يهذي:

((يا سلاطين البلاط، خبزكم تاج الخديعةْ،
علم الجلاد طحن القمح في ظهري سياط،
ها أنا أخبز جراحي، حسبكم جوعي قصيدةْ)).

-5-

إنها الآلاف تكدحْ
كي تعيش ..
وتقاتل..
دون أن تبقي غياباً
خلف قفطان الكهوف السرمدية
هل سيهديها الظلام الأوسمةْ؟
أم ستبقى في التَّغَرب مدمنةْ؟
مثل أضواء الشوارعْ
وتسافرْ ..
رَغم أنفٍ في حياة الآخرين.

-6-

إنها الغربة جلاد الظهور
لا ناس سقطوا دون معنى
في الليل من رحم السطور
فتمادَ أيها الجلاد واضربْ

((لن يضر الشاة بعد الموت أعداد الكسور))

هذه الأجساد ماتت من قديم
ليس فيها الآن إلاَّ
ثوبها البالي الممزق
واحتمالات الحنين
هل يعودون؟
وأينْ؟

-7-

إنها العودة ياسوع الخلاص
من سدى الأعراف صوب الميمنة
يابن أمي!!
كيف نأتي
سالكين الدرب من هذا الأبدْ
والصحارى الآن لا تعبر بنا
خطوةً صوب الأمدْ
وهدير البحر لا يأتي إلينا
حاملاً إلاَّ الزبد
والفضاء الحر سورٌ ذو عمدْ
يابن أمي!!
كم ستفنى أمةٌ
إن تجسَّمْنا العبور
بانفعالات إلى ذاك البلدْ؟؟
مراجعة في الثلاثين
ثلاثون تعوي أمام اليباب كذئبٍ
وتحكي وراء الخراب كناي
ثلاثون عاماً، ..
أقيس مسافات عمري سرابٌ
وأرنو تجاه السديم
فتدمي فراغاً خُطاي
ثلاثون عاماً..
وجسمي قطارٌ، ..
ووجهي تجاعيد مكسوة بالحنين
غريبٌ
كأني عصيت فراديس ربي
فكان الرحيل قضاي
ثلاثون عاماً، ..
أرى الأرض تُلقي، ..
بأسفارها في طريقي
مطارات فوقي
مطارات تحتي
كأني ورثت الدوار من الأرضِ
كي تستريح إلى غصن بانٍ
وعادت جميع العصافير قبل الغروب
سواي..
ثلاثون عاماً، ..
وقمصاني مصلوبة، ..
فوق جسر الرجوعِ
أقود التائهين ..
إلى طلسمان الرصيفِ
ويافا صلاتي
وحيفا حنيني
وموشومةٌ بالقيود يداي
ثلاثون عاماً، ..
ونهجي على غيهب الروح مفردْ
وجمعي أقاصيص منثورةٌ..
في سعال الرياح..
رياحٌ محتني
وهدت قواي
ثلاثون عاماً، ..
أُغازلْ..
صباحات يافا غياباً
شبابيك يافا غياباً
ووجه تمارا غياباً
ألا ليت شعري بيافا تراباً
وأني عبدت التراب
ليحذو الجميع خُطاي
ثلاثون عاماً، ..
أموت وأحيا..
تاب من تاب قبلي .. وبعدي
إلايّ
فما زلت عند الثلاثين أعوي كذئب
وأهذي كناي

تنام الحروف في مخدعي

علاء العرموطي

((فإنْ مسَّكَ الشكُّ مما تراهْ
فَجُسَّ العظامَ يَسلْ حبرُها
وإنْ شئتَ فاقلبْ ترابَ الشفاه
تَرى الآه محدودباً ظهرها))

لدى علاء العرموطي في شعره ولاء نادر للشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية. يشعر القارئ أنه شاعر خرج إلى أوائل الألفية الثالثة من العصر العباسي حيث الشعر ما زال في حداثته.

  • ولد في عمان.
  • لم يطبع ديواناً حتى الآن.

عَمّان

راقت ورقّ فكاد أن يتذوقا

                    وجِلاً وجمّع راحتيه وفرّقا

ورنا بحائرتينِ ناحية اللّظى

                    وثنى عنان فراشتين وأطرقا

حيران لا عشق الملاح ولا سلا

                    عنها ولا شرب القداح ولا سقى

تُغريه صافيةٌ تُذَمّ وتُشتهى

                    ويرُّده ورعٌ يُراد ويُتّقى

هو فوق أن يَزِرَ الذنوب وبين أن

                    لا يسبق النُدمان أو أن يَسبقا

* * *

عمان ميل دمٍ لأن يترقرقا

                    وهُيامُ دندنة بأن تتموسقا

بادٍ عليها عشقها ويكيدها

                    من صبّها المعذور أن يتعشقا

عمان شوق هوى لأن يتحققا

                    وحنين ساقيةٍ لأن تتدفقا

ورجاء قيظ أن يذوب شعاعه

                    مطراً وأن يرث الربيع تَأنُّقا

وغزالةٌ ما انحلّ عن شهواتها

                    طوق التّقى إلا وطوّقها التقى

وقفت على حدّ العناق وأوهمت

                    أن العناق وضدَّه لم يُخلقا

هوسُ المشرّق أن يكون مغرّباً

                    ومنى المغرّب أن يؤوب مشرّقا

قمرٌ يخاف تمامه وقصيدة

                    فُتِنت بمطلعها فظلّ معلقا

* * *

يا ظبي بادية بحان مدينةٍ

                    ومن القُرى سمرٌ أحلَّ الملتقى

يا مُرّةً قدحت دلالُكَ لِمتّي

                    كالموريات عدون فوق المرتقى

يا خمرةً في أي خابية ثوى

                    دمك الحرام وأين أين تعتّقا

ما علّ هذا الرأس من جفناتها

                    إلا طواه الشيب أبيضَ أبلقا

يا جمرة سمر المحب يزيدها

                    وهجاً ويسأل أن يكون المحرقا

شرحَ الهوى أهلوكِ شرحَ كتابهم

                    بلسان صمت كاد أن يتشققا

وبنوك ما غبنوك حين رددتهم

                    نَزَقاً وعافوا أن يكونوا الأنزقا

ستظل تعطِفهم عليكِ خلائقٌ

أخذت عليهم من سماحِكِ مَوْثقا

أنسيتِ "نزّال" العتيق وأهله

                    أنسيت طلعة وجهه والمفرقا

وافاكِ مكتهلاً بمفترق الصّبا

                    وعداك مشتعلاً بمُنْعَرجِ اللِّقا

حلّت مطالعه عليك تميمةً

                    وبنوه حلّوا حول مطلعه رُقى

سيظلّ صبّكِ لا يقصُّ عتابِه

                    حَدِباً عليك ولا يذمّك مُشفقا

وجه السماحة طاف هوج بحاره

                    فأتاكِ طوفاً واستقلّكِ زورقا

تقسو ونرفق في العتاب وإنه

                    أحرى بمن يهواك أن يترفّقا

* * *

إني لأوْثرُ أن يزيدك صبوةً

                    وصفٌ يزيدك في البداوة رونقا

قوسُ الصبابة أنتِ كم أودعتُها

                    سهم الهوى فمضى طار وحلّقا

طوراً يطيش عن الظباء وتارة

                    يغشى الظباء مُدبَّباً ومدَّققا

كم هجتُ حسنكِ بالقصيدِ ومنطق

                    أن يستفزَّ السندسُ الاستبرقا

وبلغتُ حدَّ مداي فيك تفكراً

                    وتبصراً وتلمسا وتنشقا

فلثمت تربك أستسيغك ساجداً

                    وشممت عطرك أستشفّك مطرقا

ونظرت، بسّام العيون مكابداً

                    ولمستُ ضحّاك اليدين مصفّقا

ورجوت "أحمد" أن أكون أنا الذي

                    من تيهه يطأ الثرى مترفقا

* * *

يا قِبلة الحيرى ويا وجع الهوى

                    هل ساء صمتَك أن أبوحَ وأنطِقا

ما كان ذلك منطقاً أوتيتُه

                    بل قُبلةً لكَ تستعير المنطقا

سوناتا

-1-

إذن سوف لا يستبد المكانُ
بهذا المحيّا وهذا المحارْ
وسوف يبوسُ الزمانَ الزمانُ
على لحظةٍ وزّعتها السِّفار

* * *

تناهيتَ في الحسن لمّا تعدّى
مساحاتهِ وانتهى في المُحالِ
ولاح لك النجم وجهاً وقدّا
فطِرْتَ تُراقصهُ في الأعالي

* * *

لك الله غيري يموت الهوى
بجنبيه كي لا تموت الدّروبْ
ولكنّ قلبي على ما ارتوى
به من جرارك ذات الثقوبْ

* * *

يشيح المكان.........
ويفنى المكان وفي باله
مكانٌ يظلُّ على حالِهِ

سقتني زماناً ندى مُحْرقا....
وغابت فَهِمتُ هيام الصدي
ولما يئسْتُ من الملتقى
تجلّت عليّ بلا موعدِ

* * *

فيا برق ساريةٍ أومضا
تظلُّ كما أنت بين الغيوم
زمانٌ أتى وزمان مَضى
وأنت على عهدِنا لا تَريمْ

* * *

تناءيتَ يا مُنيتي والمرادْ
ورغم السهوبِ ورغم الحزونْ
ستبقى قريباً وهذا البعادْ
بعاد المدى وهو طيُّ العيونْ

* * *

وبين شواطئ بحر الفراق
تصيرُ المسافةُ فصْلَ عِناقْ

هذي حدوسي .. هذا كسوفي أبيض

علي العامري

((كان لي أنْ أُشَنْشِلَ خصر المراثي بما يذهل القُبرَّاتِ
أُذَهِّبُ عرف الديوك بما يتيسّرُ من قلق))

يتجه الشاعر علي العامري إلى أكثر مناطق الشعر صعوبة. ففي دأبه الشعري يلحظ القارئ أنه نافل تراب بحثاً عن قطرات الذهب.
لعل ما ينزع إليه العامري هو إعادة إنتاج الصورة الشعرية في صيغتها الأسطورية الأولى التي ظهر فيها الشعر برياً وخارقاً للمألوف والعادة.
إنها قصائد تملك روحاً تقاوم برد التقنية وتشيع الدفء أينما تسنى لها ذلك. مقدرة متميزة على الإدهاش.

  • ولد في القليعات (الأغوار الشمالية) سنة 1962م.

صدر له:

  • هذي حدوسي.. هذي يدي المبهمة (1993م).
  • كسوف أبيض (1997م).

صورة

هل إذا لم أشاهدْ
-ومنذ الطفولة- لي صورةً في المرايا
ولا في المياه النقيّةِ،
ثمَّ أتى من جبال الشهيقِ رعاةٌ
وفي يد أكبرهم صورتي،
هل سأعرفني
أمْ
سأبكي؟!

جسد ممسوس

إلى يوسف أبو لوز

المساءاتُ مفرودةٌ
فوق قارعةِ الغيبِ
والخيلُ ترفلُ بالكهرباءِ
فتقفز من تحتها
كائنات الشررْ.
السماء على حافّةِ البئرِ
ترجف مذهولةً كالقصبْ.
الغزالاتُ يعصرنَ وَسْوَسَةً
في رخام الجهاتْ.
والرّنينُ يخبّئ أطفالهُ
في المعادنِ
ثمَّ يخبّئ أخشابَهُ للشتاءْ.
أوّلُ ترجمةِ الصلّصال صليلُ الرقصةِ، حيث الأبدانُ
تحاول أنْ تُفلِتَ من أغماد الوقتِ، وترسمُ أشكالاً في
الريحِ
وتمحو أ ش ك ا ل اً في الريحِ
كأنَّ الجَسد أُصيبَ بمسِّ المحوِ
فلا تبقى الأصواتُ المسبوكةُ في الرّمانِ، ولا تبقى
الأشكالُ كذلكَ
لكنْ يبقى الرقصُ دليلاً يعرفُ أن الدَّرَجَ طويلٌ في
الأعماق، وأنّ الراحلَ صوب الضوء الأول، لابدَ
ستُتْعبهُ الرحلةُ، والخيل ستتعبُ أيضاً.
أوّلُ برجمة الحُمّى برجٌ
نبقى مجتمعين حواليهِ، نُضاءُ بتفّاحٍ منهوشٍ، نبحثُ
عن لغةٍ يتداخلُ فيها البرقُ، الموسيقى، التكويرُ ووشمُ اللثغةِ.
نحفر في لغةٍ، لنناقشَ ما يُبدعه الجسدُ العاري في الريحِ
العاريةِ، ونسألُ:
هل يجحدُ خلخالُ المرأةِ رنّتَهُ الشّبقيّةَ
آنَ تفورُ النار البيضاءُ بكلِّ عزيمتها في الدرّاقِ،
ويقفزُ في الداخل زلزالٌ، يرتجُ لسطوته البابُ
وقاموسُ الصلصال؟!
الجسدُ المكفورُ سيخرج مثل الصرخةِ من زبدٍ أعمى،
ويضيء المعنى الأولَ في البريّةِ
حيث العريُ يُغنّي والأرضُ تصبُّ الخمرةَ للأحراش
وتفتحُ ماءَ الأسماءْ.

* *

  • هل نربط بين الرقصات الصوفيّة وقوى
    الطرد العمياءْ؟
  • هل نربط بين الخضرة والنسيانْ؟
  • هل نربط بين الإبرة والصحراءْ؟
  • أين حبال الصوت، إذنْ؟
    ولماذا حبلُ غسيلِ المرأةِ يرقصُ تحت الشمسِ
    بلا قمصانْ؟!

مخلاة الظل

التراتيلُ مفتوحةٌ كالقميصِ
ومرفوعةٌ في أعالي الجبالْ.
النّجيلُ على خاتم الأرضِ
يرفع خضرتَهُ
ويزوّجُ أحفادّهُ للشّتاتْ.
النهار استقلَّ المعادنَ
مع صيحة الدّيكِ
والمارقون استقلّوا الشهيقَ
ولم ينتبهْ زنزلختُ المكانْ.

الغراب

الغرابُ يجيءُ من المستحيلِ إلى شجرٍ واقفٍ في
التِّلالِ، يظلُّ هنالكَ مستبسلاً قربَ عزلتِهِ الحجريَةِ،
ينقشُ فوق الطبيعةِ سيرةَ أسلافِهِ الميّتينَ.
هنا أو هناكَ ينام الغرابُ الغريبُ وحيداً
وقد غادرتْهُ الطيورُ إلى إثمها
ووحيداً يرفرفُ بين الأعالي
بمنقارهِ يحملُ الريّحَ والأرخبيلَ.
يطيرُ إلى زرقةٍ في الصباح، ويُلقي
على
الأرضِ
ظلاً
نحيلاً.
وفي آخر الليلِ، يأوي إلى وكرهِ الشجريِّ،
ويسألُ: مَنْ يعرفُ الآنَ سرَّ حدادي الطويلِ؟
وكيف تحمّلتُ هذا الكسوفَ
وروحي معبّأة بالنجوم؟!

الغرفة

الغرفةُ لا تَنْسى
الغرفةُ تبكي حين أغادرُهَا، وتُلملمُ ما يتطايرُ من ريشٍ
ممسوسٍ، تجلسُ قُربَ الأوراقِ، تحكُّ الوحدةَ
والصلبانَ، وتفتحُ أنهاراً تائهةً في الصيفِ الشاسعِ،
تحلجُ أقماراً
وتثيرُ جناحَ الذكرى
الغرفةُ لا تَنْسى
والجدرانُ تظلُّ حواليها حَرَسَاً يُمسكُ واحدُهم
بالآخرِ، والغرفةُ تضجرُ رغم وجودِ الأقلامِ
وظلِّ
النارِ
الهابطِ
مثلُ الحبلِ السُّرِّي من السقفِ،
ورغم وجودِ الكتبِ القمريّةِ يلتفُ الضجرُ المحمومُ
على خاصرةِ الغرفةِ مثل الصمغ.
لذلكَ، هذا اليومَ تركتُ قميصي فوقَ سريري حتى
أوهمها أنّي ما زلتُ بحوزتِها، وخرجتُ بطيئاً كي لا
أوقظَها
لكني حين رجعتُ، رأيتُ على كلِ جدارٍ ليلا يمسكُ
واحدُهم بالآخرِ،
صار سريري تابوتاً
وقميصي نامتْ فيهِ الغرفة.

حافّة

أمْس ذهبتُ بعيداً
ورأيتُ الأسماءَ على حافّةِ سدٍّ يبكي
كانَ مزاجُ الأشكالِ يُعسكرُ حول الماءِ، ويطلقُ من
جُبَّتِهِ خفّاشاً لحراسةِ أيلولْ.
أمْس رأيتُ جبالاً تنزلُ تحت السَّهوِ بلا أقمارْ.
أمس ذهبتُ إلى تلٍّ
ورأيتُ القروياتِ بجانب قبرٍ مأهولٍ بالضوءْ.
أمس فقطْ
وأنا أقفُ أمامَ المرآةِ
تذكَّرتُ النسيان.

زعتر مطحون بيديها

علي هصيص

((أجمل من صورتها
أطيب من عنب المرتفعات
وأشهى من ليمون الجنة ...
ما أجمل صورتها بين السنبلتين
وهذا سكرها
يتباهى في لون الماء
وصوت الناي))

لا يُحدث علي هصيص في شعره قطيعة مع شعراء الأسلاف أو السابقين بل ثمة استمرار وتواشج ليس لجهة الشكل الشعري للقصيدة فحسب، بل في المزاج الشعري. يرى المرء الحزن في شعر الستينات من القرن الماضي وسبعينياته أكثر صفاء ومغسولاً بانفتاح المخيلة والموقف الإنساني على الجميل في التجربة البشرية.

  • ولد في اربد سنة 1972م.

صدر له:

  • أوان الندى (2002م).

إنسان

أدهشني هذا الوجه
أتشظى فيه
أرى حجراً ...
ثم رأيت الزمن الفضي يدور
أدور
ندور
أدهشني
دوران الشمس على
حجر الصوان
أدهشني أني
لحظة ماء
منذ الإنسان

جريان وأكثر

ويجري النهر
أسبوعاً وأكثر
ويجري النهر ظمآناً
ويظمأ من ضفاف الحب
يسكر ضوؤه أبداً
ويدنو من كؤوس الأرض
يبكي
والحبيب على الرمال ندى

* * *

لأنَّ الوقتَ أدْرَكَنا هنا
هو ذا كتابُ العشق ضاعَ
وهكذا ...
طللٌ لخولةَ
والسؤالُ انا
أنا وغبارُ طاولةٍ
وأقْرأ في كتابٍ
خارقِ الرؤيا
لذاك الموعد الأبدي
مع الأشلاء
ختام الأرضِ والأشياءْ
وأبحثُ في المدى عني
هنالك في الثرى عنّي
هنالك حيثُ موعدنا
قبيل شتاءْ
وكنتُ هناك مؤتلفاً
وصِرْتُ سَماءْ

أفتِّشُ عن غرفةٍ في بلادي

عماد أبو سالم

((كلما طردتْني بلادي
وأعددْتُ روحي للسفر
أعادَتْني خطى امرأة إليها
لأموتَ من حُبَّيْن ..
حبيبي
والوطن الراقد في عينيه المشمِستَيْن))

يذهب عماد أبو سالم مباشرة إلى ما يرد من القصيدة ومن القول إلى حد يبدو مباغتاً في قصائد كثيرة.

  • ولد في (أربد) سنة1968م.

صدر له:

  • صاعداً باتجاهي لعلي أراكِ

أوراق من دفتر إبريل...

إلى فُلة .. وقرنفلة وباقي السيّدة؟؟

- الوردة ...

أشْتَمُّ هبوبَكِ في النَرجسِ
في الوردِ الغافي
فوقَ فراش حديقة بيتي
أشْتَمُّ الحب ...
يتراقْصُ طيفُكِ
خلفَ شبابيك الحُلمِ
فتأكلُ نارُكِ لحمَ الرّوحِ
ويَنْتَفِضُ القلبْ ..
تَبْدينَ لآلئَ ضاحكةً
بسماءِ الشّاعْر ..
تَبْدينَ لنيسانَ مليكَةْ..
نيسانُ أبو الوردِ الجوري
من عينيكِ يغارْ
نيسانُ العشبُ الأخضرُ
والفلُّ العاشق
حين يشاهدُ وردَكِ
يبكي...
ويغارْ!!

- ظلالُها

أتعاطى صوتَكِ
أشربُهُ ...
خمراً منسكباً
من كأسِ الفمْ!!
أشربُ أنفاسَكِ
نَفَساً ... نَفَساً ...

حين أراكِ أذكُرُني

(1)

المرأةُ كلُّ النساء ...
وكلُّ النساء امرأة!!
النساءُ مفردُ أنثى
والحبيبةُ (جمعُ) إناث!!

(2)

جسدي مضمونُ الأرض
و(أنا) برهانُ الأزليّةْ..

(3)

جسدي تمثالٌ يابس
وترابُكِ أعضائي الحية!!

(4)

وجهكِ صورتي
وحين يرفرفُ ظِلُّكِ
أذكرُ وجهي!!

(5)

عيناكِ مرايا العُشَاقْ
ووجْهُكِ قنديلُ العميان ..

(6)

أعانقُ -حين أضمُّكِ-

نصفَ الكرةِ الأرضيَّة ..
وأدخلُ حين أُداعبُها
في النّصفِ الآخر!!

(7)

شفاهُكِ تمرٌ..
وَخدَّاكِ شهدٌ مُصَفَّى
شعرُكِ شلاّلٌ هادِرْ
ومياهُكِ خمرٌ ...
يتساقطُ من عنبِ الغيبْ!!

(8)

الحياةُ منامٌ ثقيل ..
وحين أموت سأصحو
أنا ميِّتٌ مذْ وُلِدْتُ
وساعةَ موتي سأحيا!!

(9)

ذاكرتي مملوءة بالكائنات الميتةْ
وحين أغربلُها ..
تكونين (الحيّةَ) الوحيدةَ
التي (تلسعُ) رأسي!!

(10)

اللّغزُ ... واحد!
وأنا ... واحد
وأنتِ كلانا معاً!!

(11)

كانا جسداً واحداً
قسَّمهُ الله إلى نصفين
كي يرجعا جسداً كاملاً ..
لحظة الانعتاق!!!

حيرة ...

لا أعرفُ ...
كيف أُقسِّمُ جَسدي ..
بين ثلاثين امرأة ..
لا أعلمُ في مَنْ مِنهُنَّ
أكونُ أنا..
أو مِن أيّ امرأةٍ
ألتقطُ الشّهدْ..
لا أعرفُ..
كيف أفرُّ إليَّ
إذا غافلني النّرجسُ
ذاتَ صَباحٍ
وأتاني في لحظة سَهْوٍ
شبقُ الوردْ..
لا أعرفُ كيف أُجفِّفُ
أنهارَ نسائي
وأنا حين يداهمني
أوّلُ نهرٍ
أجثو ..
وأذوبْ..

سيخرج مثل الحكاية من نعشه

غازي الذيبة

((ألا تسمعي سرده يتهاوى
وفي خفة الحكي
ينفض أطيافه
كي تطير بها النزوات))

مع غازي الذيبة، يشعر القارئ أنّ القصيدة قد هبطت إلى الأرض ومشت بين الناس. لا متعالٍ لديه مطلقاً فكل شيء بالإمكان وفي متناول المخيلة. يكتب غازي الذيبة المشهد اليومي كأنما يكتب الناس في بساطتهم وعمق أشيائهم فيكتب نفسه.

  • ولد في مخيم عقبة جبر (أريحا) سنة 1966م.

صدر له:

  • جمل منسية
  • دقيقة وأخرج حيا
  • مفاتن الغيب
  • حافة الموسيقى

زَيْف

أشجارُ الزينةِ
كفّتْ عن إرسالِ اللَمعانِ
على جدرانِ الغرفةِ
ثم مسحتُ نضارَتَها بِــ (السبْريه)
ليعودَ إليها
وهجُ الخضرةِ
أو
تتمطى في أحضانِ القفصِ الماجنِ
بالأدخنةِ،
وألوانِ البغضاء

أشجارُ الزينةِ ماتت
ساعةَ غبتُ أنا
عنها والماء
وتساوتْ مع مسمارِ النعشْ
مع خشبِ الطاولةِ المنهوكِ
من الإغماء.

مرثية

هدوءاً .. هدوءاً
الجنازة بعد تسير
وما زال ينبض في النعش
ما زال في صوته ألمٌ
وانفعالْ
لم يغيِّر ملامحه حين مر علينا
ولم يرتعش حين خان الجميع
ظلَّ يراوغ أطيافَهُ
وهي تهفو إليه
ظل يراوغها
بانحدار مريب إلى الشمسْ

* * *

هدوءاً .. هدوءاً
سيخرجُ مثل الحكاية من نعشه
ويرمي علينا يديه.

الثلاثون

ثلاثون غافية في ارتجاف
ثلاثون عاماً أمررها .. هكذا
قرب حبر رصين
وطاولة شحنتها الكمائن بالهفوات
أقرب قلبي منها
وأعطيه نصف وريد
ونصفاً أخليه تحت يدي

ثلاثون تشبه رملاً هناك
يطير
ولا يترك الغائبين يفرّون من مائه
ثلاثون تلقي بأبيضها خافتاً
وعند الحواف قريباً من الماء
والرمل
شاهد المركب يختط طريقاً
في فراغ وادع
يدنو من العين لتغفو من جديد
فيرى جناً
وأقواس رياش فاتن
ولصوصاً يدخلون البحر
يحتلون قلبه
بعدها
شاهد الغبطة في الحلم
توارى خلف حلم ناعم
يسرق الرقصة من عينيه
إلى أقصى الحكاية.

منازل

(1)

أبهاءٌ مديدةُ الغموضِ
فسيحةٌ
وضوحها دقيقٌ في استمالة الضجر.

في الرخاء
مرفوعةٌ بأعمدةٍ بيضاءَ على الأبد
نُصبُ اجتياح ذاهلٍ للحجارة
مدقوقةٌ بزخارف وبروزاتٍ ناهضةٍ
في الفراغ.

(2)

فيما الجدرانُ حارسٌ يرتدي المهابة
تُهدهدُ انتصابها
وتمنحُ الظلالَ والأخشابَ والمياهَ
والأضواء والستائرَ
والملاذاتِ
عنايتها.

(3)

كانت حفاوةُ البر منسيّةً.

الكائناتُ المغلوبةُ من ضجر البنائين
كانت تموت.

ليأتِ الهواءُ كاملاً
بأرواحه.
لتأت الأزمنةُ
مُدرجاتُ الرعبِ
حَلبات القتلِ
والميادينُ

ليأتِ الليلُ على خيوله
والنهارُ على أجنحته.

لتأتِ المدنُ والأرباض والبلداتُ
والنجوعُ والقرى والأحياءُ
والسفوحُ.
لتأتي المنازلُ
كل هذا المديح الحارقِ للظلال
سيغطي هوادتها
ويمنحها ما يأخذنا إلى الحنين.

(4)

ليس من خائفين يلوذون بها
ماكثةٌ في الغياباتِ
نائيةٌ
وترتجفُ
لا أحدَ يمتثلُ لانحباسها القائم في الزوايا
حادةُ الانحناءِ
مُقوَسةٌ
واقفةٌ بانكسارٍ خفيفٍ تُقطّع الفضاءَ
من شبابيك وأبوابٍ وكوى
ليس أكثرَ من توددها
وهي تَرْتفقُ بأضلاعها الغامقةِ هناك.
عليها غطاءٌ مفخخٌ بالعيونِ
مُقببٌ وأزليٌّ
ومطرودٌ من صحراء الصمت
إلى سهبِ اللغة.
نستسلمُ إلى أضلاعها
وهي تَضْغطنا بخوفٍ
ثم تفيقُ من غيبوبةِ اللقاء
على نشيجنا.

(5)

منازلٌ هذه
تشدُ أَزرَ الهواء
بارتخائها الحميم فيه.
لأعشاشها سطوةُ الخمول.
لتدفُقها الذاهلِ
هذه الأبراجُ الفائرةُ في الانتصاب.
إنها لنا
نستحمُ بخلوتنا في سهوها
نُثرثرُ
نكتبُ إيقاعاتنا فيها
نُجرّبُ الألمَ والحبَ والصراخَ والبكاءَ والحياةَ
والموتَ
نُجّربُ صبواتِنا في أبهائها.
ما نسمعهُ حين تتلو الحدائقُ أزهارها
لهاثُ فصولنا.

ما نسمعه:

أصواتُنا المتهدجةُ والمرحةُ.
غطيطُ نومنا اللذيذ.
تكّدسنا في الكسل.

شجارنا الهانئ مع الأعصاب.

دقائقنا السريعةُ.
نبضنا.

(6)

منازلٌ
أيها الأفقُ الذائبُ في البعيد
نجمعُ رحابتها
لنطير إليك.
منازلٌ
حتى أنها مأخوذةٌ بالهدوء
عند النهار.
نستيقظ في شجاراتنا
نظلُ معها
إلى أن يتنفس الفجر رذاذها.

منازلٌ
حتى
أنها
في القلوب.

واحدٌ يرجُّ المكان ببيتي

غسان تهتموني

((الخبز يفضح كالقصيدة
ولذا أحبَّتْكَ النساء الطيبات))

قارئ بعمق لشعراء سابقين. كانوا في القصيدة ثم ذابوا. تلك باقتضاب ما هي قصيدة غسان تهتموني لقارئها والتي هي التماعات خاصة تشير أكثر مما تحدد. إنه شاعر يدعو إلى التفاؤل.

  • ولد في اربد سنة 1966م.

صدر له:

  • عصفور ليديك، عشب في جرارك.

قصيدةُ الخُبزْ

كمْ ... من رغيفٍ
سوف يدخلُ فرجةَ الأبوابِ
كي يلقي المساءْ؟
حتماً سنبكي
حتماً سنبكي حين يَذكرُنا الرصيفْ
ونمدُّ فوق الأرض أغطيةَ العراءْ
مُذ كنتَ تَقتعدُ الهواء
وأنتَ تهذي
الخبزُ يفضح كالقصيدةْ
ولذا أحبَّتك النساءُ الطيباتْ
ولذا رجوتُكَ أن تعالَ
وقُدَّ من صُبْحِ الضحى
وجهاً مقالا
مالتْ على العشبِ السواسنُ والصبايا
ماذا سنَمنحُ راحتينا من تحايا
والخبزُ فاتحةُ الفقيرِ إلى الحكايا
وَنَجِدُّ في همي الدموعِ فلا بداية

* * *

مالتْ قطارات الفواتِ
على الشخوصِ وحزَّمتْ أسماءها
وأقلَّتِ الأطيافُ أخشابَ السفائنِ
للبعيدِ من اليمامْ
لا خَوْفَ بعد الآنَ من هذا الزحامْ
لا خوفَ بعد الآن من هذا الزحام

* * *

في الحقلِ الموغلِ بالعصيانْ
أصبحَ جِدَّ أثيما
يا أنت أخرجْ آخر
من تلك المرآةِ
وحاذرْ أنْ يُرْديكَ بِوَجْنَتيها
..... التوتُ قتيلاً.

* * *

الحديقةْ

لا لشيءٍ دخولي
الحديقةَ وحدي
والمقاعدُ في الريحِ فوَّقَها السباتُ
لو كنتِ هُنا لَسَفَحْتُ
على مِزَقِ الورد
نبيذَ الحماماتْ
لاخْتَزلتُ الركضَ فوقَ السفحِ سنيناً
ولتداعتْ
منْ هينماتِ اللوزِ البناتُ
فارحمي ابناً لكِ
قدْ ضلَّ كثيراً بينَ وليدٍ
أراقَ النعاس على الشبّاكِ
وبينَ قصائد في السهلِ
طاردهَا الرعاةُ
وارفعي يا أمَّ الزغاريدِ الرأسَ
أعلى وأعلى
لوردٍ بدا كهلاً للملاءاتْ
وزمِّلي عتمة الشتاءِ الضريرِ
بفودِكِ الصافنِ من بللِ الليلِ
لكأني شرشفُ النهر المُدلَى
بناصية الكونِ
لكأني صفيُّ القناطر العذب
أتلو موتيَ القادمَ
من كهفِ الرغبةِ المرشوش
بالطعناتْ

قناديل مطفأة في المرافئ

قصي اللبدي

((أنا لغتي أحرفي أضلعي
والمعاني عظامي))

لدى قصي اللبدي مقدرة لافتة على جعل الأشياء العادية تنبض .. يلتقطها من الكلام وينأى ثم يعود بها كما لو نسمعها من فرط ما توفرت على غنائية متدفقة من الكلام ومن مخيلة الصورة الشعرية.

  • ولد عام 1970م في مدينة الزرقاء.

صدر له:

  • اخوة الظل.

الخروج

خرجنا إلى البحر هذا الصباح، رأينا
طيوراً مهاجرة مثلنا
فتحسس أطفالنا ريش أكتافهم

اعطنا أيها الطير لو ريشة من جناحك
لو ريشة أو أقل
لئلا نظل على صفحة الماء مثل الطحالب

.. خرجنا إلى البحر هذا الصباح
رأينا
سماء مدورة
وسماء مربعة
وسماء مقلمة
وسماء مسدسة
.. ورأينا الكواكب
والعدم الحي خلف الكواكب

رأينا دماً هينا
هينا
فبكى صاحبي
وبكيت
ومال الفراغ على قوس أيامنا
فضحكنا
ولكنه ضحك كالبكا

أي ريح ستحملنا بعد
أي دم سنخاتل
أي بلاد سنلعن
أي هوى سنشاغب

رأينا مناديل بيضاء مثل دماء الملائكة البيض،
تخفق في الريح
لكننا لم نجد في المرافئ إلا قناديل مطفأة
وثياباً على هيئة الناس .. سود المشاجب

رأينا عذاباتها كلها
غير أنا نسينا العذابات فوق المراكب
وقلنا: لنا اخوة لا يبيعوننا
ثم نمنا على لحم أكتافنا.

كأن طائراً بين عيوني لا ينام

لقمان اسكندر

((بيتٌ لا يتعب
ويداه متعبتان
يا ليتَهُ يرسو
فجراحه جسدان))

لا تُسيلُ قصيدة لقمان اسكندر كلاماً عليها. إنها تُراوحُ بين مُباشرةٍ في المعنى وتأملٍ في الصور، وربما من هنا جاءت القصائد وفيها غنائية يجري فيها ماء. إنها قريبة.

  • ولد في عمان سنة 1970م.

صدر له:

  • تفاصيل زهر.

قصائد

البلد

نامي.
كأن طائراً بين عيوني لا ينام.
يرف مذبوحاً.
ولا ينام.
يرفُّ هابطا
يرف صاعدا
يرف إلى الأبدْ.
نامي
فلا أحد.
نامي عليك يا ابنة الخوف .. السلام
على جراح في دمي
على دمي
على زقاق في شتاء موحش
على البلد.
نامي
فلا أحد.

الأمس

كأنه زمان.
الصوتُ.
الملامح التي تشي بأنه
البيت؛
الأنثى
وبعض الشارع المسكون بالخبايا؛
بعض الحكايا
الأمس
ليس
الآن

نريد

نريد من العمر
بيتاً
نريد من البيت
زاوية
لنكتب فيها حكاية
حب
نريد من الريح
ما لا تريد.
كواد سحيق
كحلم بلا معنى
كطير طريد
رجعنا غريبين عنا
كأنا نطيق
.. وأي حريق

يكتبني الماء بلغة التراب

ماهر الأعرابي

((منذ طولة ضائعة
في أقبية الكتب
انبثق السؤال))

ماهر الأعرابي شاعر أنجزه وعي شقي أخذه اتجاهين متفارقين: فريدريك نيتشه الألماني غضبا وألبيركامو الفرنسي عبثا. تمتلك قصائده مزاج خاص يستدعي تأملاً في الصور الشعرية التي تحيل إلى أفكار.

  • ولد في عمان سنة 1961م.

صدر له:

  • العرّاف.
  • رؤيا الغريب.

وَشمُ الساحَة

بينَ الحشد وسُخرية الأيام ...
غيومٌ صفراءُ تُظللُ الساحة ...
شيخٌ يجرُّ أوصال ماضيه وطفلة ...
توحدهما دهشة عذراء ...
وما بينهما من غُبار ...!!!

[يمضيان ...
أيّهما يَتوكأ الآخر ...!!؟
يَهربُ الصمتُ ويُظلِم الكلام ...!!!]

تتهجا عكازهُ فتات المكان ...
تبخلُ بقايا الرصيف ...
تتسعُ الحدقة ...!!!
يلعنُ كلَ انتصار ...
يحتدُ السؤال ...
بينَ أنيابِ العبث وتواطؤ النهار ...

[من قعر السَاحة، ...
إلى أقصى مئذنة، ...
تبدأ الصحراء ويُفْقدُ اللسان ...!!!]

بينَ الحشدِ والرفض ...
رقصة مفتوحة على كل فرح ...
(وأنا)، ...
أتذوقُ النظرة الخَربة ...
رائحة الإنكار ...
ركنٌ صلبٌ من النفس يَنهار ...
تذهبُ الألوان، ...
وأذهب...!!!

[.... أسمعُ مرثيّة أملٍ أوغلَ في الصحراء...
فأضاع ماءَ الجهات ...
ناسياً وجه القبيلة ...
وعادَ عارياً من كل معنى ...
مُبللاً بأغنية شاحبة، غزلَها الخواء يوماً ...
علقتْ بها ذاكرة العتمة ...!!!]

... وكان جدارُ الحفيظةِ أول الركام ...
وما تبقى من أحجيةِ الظلام ...
ما أعمق النهار ...!!؟؟
كيفَ يسيلُ منه الآتي العتيق ...!!؟
ووجوهه المحترقة ...!!!
... وبدأتُ غزوي ...

المُسْتثنى

: "ما أنت جدير بهذا ...
لِنرفع الصارية..."
[بَلى ...!!!
(أنا) منْ يستطيع اليقظة ...
الثمل ولست بالثمل ...!!!]
: "كُفَّ لغواً، ...
هل رأيت الشمسَ ليلاً...!؟
هل رأيت في الشر خيراً ...!؟
هل رقصت أمامَ السماء وحيدا...!؟"
[بلى...
وأنكرتُ الاسم ...
تعمدتُ بالاثم ...
وجعلتُ الرفضَ صنما ...]
: "هل استوحشت الأحِبة...!؟
هل احترقت بنار الفراغ ...!؟
أشربت ماءَ السراب ...!؟))

[بلى...
ورأيتُ الخريفَ في الأجنة ...
وفي حُضوري كنت غيابا ...
وعلى ناصيةِ كلَ شيء رأيتُ غُرابا ...]

: "ألست ابن الشرق ...؟؟!!"
[بلى ...
ورأيتُ كيفَ تُطْفَأ الشمسُ في الغرب ...
وقرأت الخاتمة...!!!]

: "هل كانت صحراؤك قاحلة...!!؟؟"

[إلا ليلة واحدة ...
هدأتْ فيها القافلة، ... إلا (أنا) ...!!!
كنت مُطِيَة لسفر الدم ...!!!
و ..... ... .... ....... ؟؟؟]

حانةُ الشرق

إلى يوسف عبد العزيز

كالنغم الحالك، تعزفُ عليه أصابعُ الخيبة ...
تجولَ البؤسُ مبتسماً، في حانةِ الشرق ...
خمرٌ وطيفُ امرأةٍ ذات نقاءٍ فاجر ...
أمن أجل هذا، بسط الظلامُ أجنحته على كل صحبة ...
وختم على جبينِ الأمل ...
أكذوبةَ الفجر، وكبوةَ نيسان ...
صرخَ ثملٌ:

- ما همْ، لو احتضنت الشمسُ الأرض ...
وأرضعتْها أنوار العدم ...
قالَ يوسفُ مبستماً:

- أيها الإنسان، متى تغسلُ الوحلَ من دمك ...
وتمحو أباطيل القلم ...

بالعزيز؛ بالذي أنجبته الضلوع

محمد العامري

((سأمضي إلى آخر الرَّمل
أمضي إلى صوتهم
في سراب الجهات))

بين عملين شعريين أو أكثر ينتقل محمد العامري من شعرية الراهن إلى التذكر؛ ثم إلى شعرية نابضة بالحنين الجارح. إنها مسافة معبِّرة عن الشخص في حد ذاته لكنها تحفز في القارئ أن يتذكر؛ بقدر من الأسى هو أيضاً.

  • ولد في القليعات سنة 1959م.

صدر له:

  • معراج القلق
  • خسارات الكائن
  • بيت الريش
  • قميص الحديقة

تمائم جدتي

بالعزيز الذي يتشيطن في الحي
بالذي أنجبته الضلوع في قبة المولى
لقد أخبروني قبيل الولادة أن الذي سوف يأتي ملاكاً
تحيط به خصلة من مساس الجنون على رأسه
وكنت الذي كنته
ولداً من سلالة عامر ...
يركض في زنده شَرَرٌ ينهش الليل
ويطوي قرى دخّنتها البوابيرُ
هاهو صندوقي الخشبي المطعّم بالخرز اللماع
يتفتق عن درر
وتمائمَ للحب والغائبين
خرز يتفصد بين الأصابع
تيجان صدف مسبوك بالأيام
إنزعي قفله المتيقظ في سهوة الليل
دعيه يكاشفنا بالأوراق
مفتاحك لم يزل
يربكنا بأسنانه المعدنية
ستون عاماً مضت
وكنتِ الحريصةَ على القلائد وربطة الثوم في سقف الدار
كانت جدائلك ...
فضةً ونعاساً يتسلل من غدير الوشم
يداك حين تمرقان على كتفي
جداولُ فضية ...
تمسح بالقرآن بقايا الإثم
تتمتمين بأشياء لا أفهمها
تتثاءبين من العين التي دخلت
وتطردين الشر بكسرة خبز
أعرف أني كنت في حجرك يومها
ولكنني غبت في نهرٍ اخضّرَ بين يديك
حلمت أن السماء ...
رفعت للتو أذرعها
أعطتني حرز (*) الإشارة
لكي لا تلدغني العقارب أو تقتربَ الذئاب
رحلتِ وأنتِ تسندين السنين على راحتيك ...
كانت وسادتك المطرزة بالعشق ......
مملوءة بالدمع
رجعنا والتراب الذي ضمّك تخضب بالبُعد
رجعنا وفي يدنا
بقايا زهور من القبر
كان العوصلان (*) أياديَ تلمّ المياه من سمائك
تهديها لفمك العامر بالتمائم والوشم
بنينا جميعَ الصروح بعدك
وما من أحد يعرف سيفَ الغياب غيرُ المحبّ
رحلت وظلت شموسُ يديك على حائط الدار ...
في الأواني والثياب.
ظلت طيورُك تعلو على قَصَبِ البيت
وتبني أعشاشاً تطل على فراشك الخالي
رحلت طيور الدار بعدك
صرنا هباءً يتطاير
زرناك ريحاً
ودمعاً تأثث بالنار
صعدت إلى الأزرق ليلاً...
على غفوة منا
وتركتنا
نلم بقايا حنين تعمّد في الخابية (*)

بعد حين من الدوار

محمد عبيد الله

((كان يحلو له
أن يرى حزنه في المرايا.
طفولته المستباحةُ تبدو مهشمة
كالشبابيك
إذ داهمتها القنابل
أو كبيوت من القصب المتهالك
عند تخوم القرى))

يبدو محمد عبيد الله شاعر غيم وأحزان . بعيداً عن الطمأنينة، وفيه امتزاج ضجر بخوف. انطلق في حداثته من قراءة عميقة لأصول الشعر العربي وفلسفته الموسيقية.

  • ولد في (حجرة السلط) سنة 1969م.

صدر له:

  • مطعوناً بالغياب.
  • سحب خرساء (مخطوط)

مشاهد لي
مطعوناً بالغياب

(1)

الغيم الآنْ
خجلاً
يعبر أوقات الخفقانْ
وجهك
سوف يغيب إذاً
والروح
ستثقبها الأحزانْ

(2)

وأحاول
أن أنسى الوقتْ
لكنّ عقاربه
تسعى نحو الروح
تبشر بالموتْ
ولذلك عمداً
ضيعت مفاتيح البيتْ

(3)

هل كنت تخافين جنوني
إذ أسدلتِ
ستائر وقتك
دوني
وتركت الغيمْ
ينضح هذا اليومْ
زُرْقَتَهُ من ماء عيوني

(4)

شجرٌ يتسامقْ
لكنّ الريحَ
تلعثم طلعتَهُ
فيزوغ إلى خلف السورِ
قريباً
من روح الرمل
يداري خضرته
ويشيخْ
شجرٌ مسكينٌ
ويتيمٌ جداً
والشاعر من خلف الشباك

-يتيمٌ أيضاً-

يرقب جثَتَهُ
عند رئات الرمل
تداري بهجتها
وَ يَ ش ي خْ

مدار الخيبة

الضّليلُ أنا واليتيمُ
لم يكن ليَ الأمسُ
كانت الأحلامُ لي
في سبات اللّيل
أو في معاش النهارِ
نبتت منذ شموس القرى
وما أنجزت ميعادها
عندما عبرتُ بيلسانها
فأربكني الضبابُ
أينها الأسرارُ؟
كانت هناك في يسار جثّتي
في يسار الصنوبر والضوءِ
أسألُ: أينها الأسرارُ؟
فلطالما زمّت شفتيها
وما نبسَتْ إلا بالرّموز
قبل أن تروّي دمي بالبريق
الذي جهلته طريقي
وَما عَلا غرفتي يوماً، ولا ضوّى كتابي
أسألُ أنا الضّليلُ
الذي نسيت في يديه المراثي مناديلها
أسألُ عن غرفةٍ مرجحتها الرياحُ
عن سبيلٍ مورقٍ
لابن السبيل
? هل سبّلتْ فيه الحكايةُ وعدّها
وانا أخاتلُ في الحضور وفي الشّهادة
يا كتابي ها هي اليمنى
بلا ذنبٍ
تمدّ إليك
غير صحائفي الحبلى التي صدقت
وما صدقت سيوف القوم
أو حبلت سوى بالوهم
كم مئةٍ ستأتي
كي أعيدَ إلى الصّحارى قيسها
وإلى المدينةِ وجهها المغبرّ
كم مئةٍ سأنتظر القيامةَ
كي يقوم القوم للتَابو القديم
وللغزالةِ ترتقي كالشّمسِ
لا دمُها يُطَلُّ
ولا الطلول ترثّ
أو تتثلم الأيّام
والأخبار تنجبُ قصّة الغيلانِ
والأسف المرمّز بالأضاحي
يا صباحي
كم حمّلتك الشّمسُ من أحلام يقظتها
ومن أحزان نَبْوَتها
وكم خانتك في أنواءِ بهجتها
وأنت تفتّشُ الأطلالَ عن بُقْيا الصّبوحِ
وترتعي سفحَ الغوايةِ.
يا صباحي
صاحبي لم يرثني
حين الظّعائنُ موّتتني
وأنا رثيتُ الراحلينَ
تبعتُ شَمْسَهُمُ العنيدةَ
عند مفترق النّوى
يا صاحبي إنّي صبوتُ
وقد تمُّر على الفتى
ذكرى الصبّوحِ فيصبو
كالسَّيفِ يلمعُ بالضّياء وينبو?

أعود للضّليل
ابن السّبيلِ والشوارع المدمّاةِ
يجمّع أحلامَه
ينقّيها من الزّؤانِ
لكنّها لا تنبتُ إلا شجراً خائباً
وقصائدَ حمقاءَ
نحو البورِ غادرت إيقاعها
أفلتت منه وأفلتها في مدار الخيبة
أيّها الضّليل
لك هيأت الطرقات
وأنت تهرب منّي، تتركني لمشانق الكلمات
لن ترشد في الغدِ
مثلما لم ترشد أمسِ
هل سيبكيك صاحبٌ في الطّريق
هل سيبكيك بيتٌ حميم
لم يكن لك أمسٌ
لم يكن لي أمسٌ راحِلٌ أو مقيم
الضّليلُ أنا
واليتيمُ

كلام قديم

مروان حمدان

((كأني أهيئني لرحيل يطول
وأجمع -محترقاً- ورقي
لزمان يعلِّقُني في انتباهي
كغصنٍ مريض بأخضره
دون جدوى))

كأنما يتراءى الشعر في قصائد مروان حمدان بين الغموض والوضوح .. ثمة كآبة شفيفة في حزنه تقرّبه إلى ما أهمل القارئ أو تناسى .. مروان حمدان شاعر يتردد بين البوح والصمت، إنه يؤلف الشعر في الأرض التي تفصل بينهما.

  • ولد في عمان سنة 1970م.

فواصل

(1)

وأنا الكامن فيّ،
كثيري
وقليل الناس
وأنا مأواي،
طليق فيّ
ومشتعل الرأس.

(2)

وأنا مريضي
واحدي،
وأنا سليلي في التعب.
أرَّخْتُ موتي،
وانتهيت
بلا سبب.

(3)

وأنا المحفوف بهيئته،
المدمنُ طلْعَتَهُ
وخطاه.
أعبرني وطناً،
وأقيمُ على جسدي
منفاه.

مقاطع من
نصوص القديم: احتفاء بلا شيء
القديم/ الأسئلة

(1)

القديم
شاعر يكمل القصيدة بالنوم
كلمات تنتهي في النقش
محبون يسيرون إلى محبيهم.
وحده يبقى في صورته(1).

(2)

مَرَّتْ به اللغاتُ
لم يترجم حزنَه
سوى الموت(2).

(3)
البيوت التي كان يراها
في الطريق إلى البدايات
لم تعترِفْ بقصائده(3).

(4)

من أين أتى كل هذا الضجيج؟
كيف أفلت الحلم من النوتة؟
وإلى أين مضت أوتار الرؤى(4)؟

(5)

كلهم يرحلون
وتظل الأسئلة(5).

(6)

لم يجد أحداً
يهرب إليه
نقطةَ ضوء
أو صلاةَ حقيقية.
لم يجد أحداً
غير شبيهه
يستوطن عتمةً واضحة(6).
ثانيا: القديم أيضاً /الغياب(7)

(1)

حين تغيبين
تضيقُ الأرض
تضيق اللغة المُرَّة
وتضيق مساءاتي(8).

(2)

كوني طريقي
في الطريق إلى مساء
لا يؤثثه غيابُك
كم مرَرْتُ على يديك
وكم حملْتُ دمي إليك
فلم أجدْ مطراً

الهوامش (ما لم يغفله القديم)

(1) الصورة تغيم تدريجياً
وهم يغيم أيضاً.
(2) الموت لغة أخرى
والموت رحيل في الكمات.
(3) البيوت توابيت داخلة في الحياة
(4) الموسيقى ضجيج بارد
والنوتة توثيق الخسارات.
(5) السؤال ما يعْلَقُ من ظله في الطرقات.
(6) العتمةُ ... أقصد المرايا التي لا تلتقط إلا السواد.
(7) الغياب خيانة الآخر.
(8) المساءات احتفال العاشق بالعاشق
لكنها الآن تضيق باتساع الخيانة
والمساحات تقاس بالعتمة.
(9) المطر غواية والغياب يباس.
(10) اللغة شاهدة والأيام توابيت تسافر في الزمن.
(11) لم تترك الأسماء دليلاً على خيانتها
تركت مجرد غيابها
(12) الأسماء خديعة الكائنات
تبرق بالخرافة
تكتظ بحروف منهكة
وتشير إلى نهايات
لا تأتي
(13) الآخر وهم يتجدد
وحدها الآن
تعيش الحصار الأخير
الذي يتجدد أيضاً.
(14) تسرجني الريح
لتعبر بي نهر الأحزان
فلماذا الآن
سيدة
لم أشهد بعد
نعاس أصابعها
في كفي
تترك جدران القلب
وتبيح الدرب
لصهيل أنوثتها.
(15) يا من تعلم بالجرح
وتدرك صنيعتك.
(16) الأجساد حوار الطين مع الأشياء
لكن الصمت أكبر الغزاة
وأوقحهم.
(17) السقوط أن تدرك
هشاشة ما يحيط برؤاك
من كائنات الفراغ
(18) بالمقابل، ما الذي يجعل السماء
تنتعش لبكاء الشاعر
ولماذا تتجدد الشمس على سواده
كل يوم.
(19) لم يعد البحر صديقا
منذ تنازل عن أزرقه
للأوغاد.
أصبحت علاقتنا بعد ذلك
علاقة لغوية.
(20) وحده الحب يتوقف ليستوعب
رحيل المعاني
ورحيله في البياض.
(21) الهواء نبات شفيف
يفرق أغصانه
في ارتباك التفاصيل
والطين زلزلة سائبة
في المطلق.
(22) أيتها الأرض
لا يأسى لألمك
سوى التراب.
(23) حين توشك الرؤية على الاختناق
لابد من الصوت.
(24) مريض بأنفاس من رحلوا.
(25) لابد من الإشارات
أقصد: لابد من شواهد الأضرحة.
(26) لا أعود إلى أول الأمر
لكنني أقرأ الخاتمات
آن أن أنتهي
آن لي أن أوزعني في الجهات.
وردتي في يدي يبست
دون أن تتلقفها امرأتي
وعلى جثتي تهرم الكلمات.
(27) لم تعد الشوارع تذكر شيئاً
سوى أنها فقدت ذاكرة قديمة
وتلبستها ذاكرة العزلة.
(28) ارحلي أيتها الكلمات
أنَّى ذهبت
لا شيء.
(29) الغناء اعتراف الرماد بالريح
(30) يا وحدك.

لأني أشربُ .. لا أرتوي

مهى العتوم

((لكنني الآن أكتبُ
حتى أعود من الموت
خضراء
خضراء))

توشك مهى العتوم في قصائدها باللغة والرؤية معاً أن تقدر على "تنظيف" قصائدها إنْ وطأ أرضها آخرون. هي أيضاً تتذكر كأنما الماضي بيت يمكن تأثيثه أو إعادة تأثيثه. مزاجها هيِّن وطيبٌ في ذلك، وتقول كلاماً يؤول، عما قليل، إلى الصمت.

  • ولدت في سوف (جرش) سنة 1969م.

صدر لها:

  • دوائر الطين.

الطريدُ .. البجعُ

لم تأت بَعدكِ وردةٌ
تضعُ البراري في يديَّ
وتفلِتُ الطيّونَ من لغتي
وتنثرهُ عليَّ
ولم أجدْ
إلاّكِ
تقتادُ الإوزَّ لِبرْكَةِ الذكرى
... أنت التي أقسمتِ:
لن أفعلْ
كم قلتِ: إن البائحَ السِّرَّ
الذي في السِّرِّ
يُقتلْ
أنتِ التي هَدَرتْ دمي
حين ارتكبتِ البوحَ
بالنهر المخبّأ في الوريدْ
وطعنتِ ذاكرةَ البريدْ
تدرين ..
كم خفّتْ سمائي بعد غيمكِ
كم رُجِم النّدى بحصاة غيبِكِ
كم
أنا..
وحدي
ووحدي .. دون وحدِك
كم أنا إلاّيَ في القلب المهلهل بالنشيدْ
وحمامةٌ -

لا سربَ يُرجعها
ولا في الأفق حُبٌ
كي تحلّق من جديدْ
اليومَ أعرف أيَّ نرجسةٍ هوتْ
في ماء صورتها،
وأعرف أنها في الماءِ ..
تحيا
فكرةً للماءِ ..
أو معنى
وظلّ البرُّ متكئاً .. وحيدْ
اليوم أعرف أنني البرُّ الوحيد
وأنني صدّقتُ نهراً
كذَّبتْهُ
وأخلفَتْهُ
وأنني البجعُ الطريدْ
من كل ماءٍ عذْبةٍ ..
سمّيتُها بلدي
فضاعت كالبلاد على يدي
.. كم منزلٍ في الأرض شرّدني
لأعرف أنني من غير ما بلدٍ
وأعرفَ أنني البلدُ الشهيدْ...

ذنبُ العنب

لا أُريْدُ مزيداً
ولو كَسَرَ الضلعُ قَلبي
يظلُّ سياجاً لقلبي
لا أريد مزيداً، ولو مَسّني الحُبُّ
أغلقتُ دربينِ للحبِّ
قلبي
وقلبي
وعلّقتُ مفتاحي بيدي
ليسَ غيري يخونُ
وما من سوايَ
يَلَصُّ الكرومَ
فيفتحُ بابَ النبيذِ المعتّقِ
يسْكرُ
حتى يدوخَ العنبْ
لا أريدُ المزيدَ
لعلّي أرى في القليلِ
رؤى الأنبياءِ
لعلّي به
لا أرى
ويظلُّ المدى .. مُقنِعاً
ضيّقاً
لا مزيدَ يطمِّعُه
لا فضاءَ...
فيكتثرُ الطيرُ من كلِّ جنسٍ
ولا قامتي .. تنحني.. للنخيلْ
لا أريدُ
أريدُ يداً تنحلُ الحرْفَ مني
وتحملُ عني سمائي الثقيلةَ
قدْ لا تجودُ .. فتحملُ
قَدْ .. لا
فأفرغُ
قَدْ مرّة .. يتساوى النخيلُ
وذنبُ العنبْ

مقولة هذا الصباح

لأنّيَ أشربُ .. لا أرتوي
أنكوي
ببرودة هذا الصباح
وجَعَّةِ شمسٍ تشارفُ جِيْدي
فأطوي جليدي
ويرتعش النورُ في مفصلي
لأنيَ أشربُ
أعرف أن النهار يجيءُ
ويطوي ظلامَ الذي راحَ
رغم دموعي
ورغم رجوعي إلى لحظةٍ فوتّتْني
لأني دفِئْتُ بشمس الصباحِ
تيقّنتُ من برد ماضيّ
حيّاً

- لأني إذا ماتَ ...
مِتُّ - فليس يموتْ
ولكن صحوتُ لأشربَ
أحيا إذنْ

-وأفارقُ خِدْري-

لكل صباحٍ مقولتهُ
ومقولة هذا الصباحِ
أنا حيةٌ ..
وما زلت أحيا

اعترافات بينلوب

.. عيناك أفسدتا كفني
وأعادَتْ إليَّ الحياة
أنا امرأةٌ علَّمتها جراحُ القبيلةِ
أن تشْغلَ الوقتَ بالغزلِ ..
تغزل ثوبَ الزفافِ
وتنكثهُ
ثم تغزل ثوبَ زفافٍ جديدٍ
لتنكثه
لا وقتَ للعشقِ
والشبقِ الرعويّ
النساءُ يخدّرنَ أجسادهنَّ
بوهمِ البطولةِ
والليلُ يفضحُ أحزانهنَّ
هنالك حزنٌ يخصُّ النساءَ
إذا جرؤتْ أن تقولَ به واحدةْ
صُلِبتْ قبلَ عيسى ..
على المائدةْ
وأنا لا أنام من الحزنِ
فكيف ابتهجتُ لماءِ الغريبِ
وخنت حبيبي ...

* * *

أوليس آثر موتاً بحب سوايْ
ولا شأن لي
إن كنت امرأة أو وطنْ
قال لي ليلةَ العرس:
لا تدمعي لهلالِ فراقي
سأبكي سماءَ أثينا
لخُضرةِ عينيكِ
ثم أعودُ قبل المحاقِ.
أوليسُ
يَ أوليسُ
مرت دهورٌ على القلبِ
والملحُ يزداد، والعشبُ يعطشُ
.. طاوعتُ عهدَكَ حتى عصاني الزمنْ
وسكبتُ على بدلةِ العرسِ
مسكَ الكفنْ
ثم أتاني سواكَ
ببحرٍ تصدق بينلوبُ زرقتهُ ...
هل أموتُ إذن؟!!!

عند بيت الصدى

مهند ساري
أبو العباس

((أين كان فمي
قبل أن يُبْتَلى بالكلام؟))

يعيد مهند ساري تدوير ثقافته في التراث الصوفي العربي والإسلامي بطريقة نادرة حقاً. يشعر القارئ أنه شاعر جاء من مكان غير متخيل.

  • ولد في اربد سنة 1968م.

قافيةٌ تَتَنَفَّس

كنْتُ أوّلَ ما انْحَسَرَ الماءُ عَنْهُ؛
على كَتِفي كانَ حطّ الغُرابُ الغريبُ
وما عادَ ..
أيضاً، وعن كَتِفي، قَصَفَتْ غُصْنَ
زيتونِها، في الصَّباحِ، حَمامةُ نُوحْ.

هَبَطَ النَّاسُ روحي فُرادى على
دَرَجِ الطّين؛ حيثُ الطّحالبُ نائمةٌ
بينما سَمَكٌ يتقافزُ ذاتَ اليمينِ
وذاتَ شِمالي مُخْتَنِقَاً..
آه لا تسألوني عن الأرضِ بعدَ الغيومِ وَطُوْفانِها..
كُنْتُ وحْدي على نَطعِها المتلاطِمِ
يَهْوي على عُنُقِي سيْفُ ريحْ!

ارْتَعَشْتُ بمسّ خُطاهُمْ، وَهُمْ هابطونَ
إليّ السلالمَ. كانت تُجَفِّفُني الشمْسُ مِثْلَ
الرغيف. أقيموا على جسدي ليلةً
أيُّها الغُرباءُ، لأنْسى صراخَ دمي
في رؤوسِ الجبالِ. أصدّقُ نوْحْ
وأصدِّق غَيْمَاً عَوَى عندَ وادي السَّماءِ
وَأنْذَرَني
بعذابٍ يَلوْحْ!
ربما كان يَلْزَمُني أنْ تكوْن السماءُ هنا
قرْبَ نفْسي، هنا لأُعلِّقَ
قلبي على غصنها، وأَصيحْ
يا سماءُ اقْلعي لأَغيضَ.. اقلعي يا
سماءُ. أنا جارُ أمْسِكِ
هُبِّي كما شئتِ بالأنبياءِ علينا يُصدِّقْ
هبوبَكِ كلُّ أراذلنا ... والمساكينُ
لكننا لا نُطيقُ عناقك غَضْبى، ارحمي
شَعْبَ ظلِّكِ، يا سنديانةُ...

تنمو الكواكبُ تحتكِ كالثمرِ المرِّ . ماذا
جرى للحقيقةِ تحتكِ
حتى يُكذِّبُهَا الناسُ؟ لا فقْهَ للطينِ
لا غدَ لي تحت موجكِ، يا سنديانةُ
لا غدَ لي تحت هذا المحيطِ الضَّريحْ!

والسفينةُ في البحر. والبحرُ في
نفسهِ صاخبٌ، وأخو غدْرةٍ
أين صارتْ سمائي التي .. والبلادُ؟
وأين الطبيعة فيما وراءَ الكلامِ
لعلَّ كلامي بخير!! لعلّيَ ما
متُّ فيه، هنالك، بعدُ
هنالك وسْط الجحيمِ الذي فاضَ عن
نفْسهِ. ولعلَّ الحياةَ بخيرٍ بُعَيْدَ
القيامةِ، فوقَ، على زرقةِ البرزخِ السيفِ ..!َ
شُمَّ اليباسَ الذي أشتهي يا فؤادي
وشمَّ إذا ما استطعْتَ كلامي. لعلَّ
كلامي بخيرٍ، هنا، في أباريقه فوق ظهْرِ
السّفينة، وهي تفتّشُ عن جبلٍ لتُريحْ
نفْسَها .. فَوْقَهُ
جبلٍ هو آخرُ
بيتٍ لأرض السّماءِ على الأرضِ
نصْعدُ منه إلى غدنا .. كي نزوِّجَ
مَبْنَىً لمعنى. ونوْلِمَ هذي الحياةَ لأوَّلِ
ضيفٍ يمرُّ على خيمةِ
الأبدِ البرتقاليِّ .. عند الغروبْ.

أيها الغرباءُ، على مهْلِكُمْ، إنها لغتي
تلك من تحمْلونَ أباريقها هابطينَ
السّلالمَ. لو كُسِرَتْ يذهب الشعْرُ
في الأرض..
لا تكْسروها . أنا
آخر الشّعراء الذين نَجَوا أيُّها
الغرباءُ. وفي الصّدرِ أَحْملُ عِلْمَ الحروفِ
وعِلْمَ الجروحْ.

وهَبَطْتُ مَعَ النّاس، إني هبطتُ
إلى أرض نفسي،
كما تهْبطُ السّنواتُ إلى أبدٍ
يتمشَّى على الماء .. مثْلَ المسيحْ
كنتُ أوّلَ ما انْحسَرَ الماءُ عنهُ
أُفتِّشُ عن رجلٍ يحْمِلُ السِّرَّ بعدي
لقد ضاقَ قلبي بقافيةٍ
ليس يَعْرفُها .. غيرُ قلبي!
أُفتِّشُ عن رجلٍ يحْملُ السِّرَّ. يَصْنَعُ
مِثْليَ، قافيةً تتنفَّسُ لَوْ طَمَّها
البحرُ في البحرِ ..
قافيةً، سوف تنجو
ولو كذَّبتْ .. قولَ نوحْ
لم أجدْ رجلاً واحداً
غير قلبي!

عند بيت الصدى

عند بيت الصّدى
يَقِفُ القلبُ يومين في الريح
حتى يَرى ما تَبقَّى من الذكرياتِ
وأَشْباحَ ماضيهِ ..
هذا البُخارُ الكثيفُ هُوَ الأَمْسُ
هذا النّدى
لُعَبي، عندما
كنتُ جاَر الحديقةِ ..
هذا الرّوى
عَدَمي، عندما
كنتُ في عَدَمي ..أَتَقَلَّبُ..
لكنَّ طَبْعَ الفُضولِ سَيَدْفَعُني للوجودِ
الضَّروريِّ .. عمّا قليل..

طَرَأْتُ على الأَرض من ليلتي تلكَ،
إنْي طَرَأْتُ على الأرض روحاً
مُعَطَّشَةً، وَيَداً
تكْتُبُ الكلماتِ،
وتَبْكي عليها..

إذا كنْتُ شيئاً هنا
فأَنا
خَيْطُ ملْحٍ.. بمُنْعَرَجِ الأَبديَّةِ..
لا شأنَ لي بحياكةِ حُرِّيّةٍ
لاحْتفَالِ الهَباءِ على الأَرضِ..
لا شأْنَ لي بالرُّموزِ، وقَعْقَعَةِ
العَقْلِ..
حُرِّيّتي بينَ كافٍ وَنُوْنٍ بأَرضِ
المَسرَّاتِ. لا أَرْضَ تحْتَ النهاياتِ حوْلي
ليشْتدَّ هذا الحنينُ
ويَلْقف سِحْرَ النهاياتِ..
ليْ لُغَةٌ تَتَجَوَّلُ في العالَمِينَ
وخيطُ حريرٍ لنظْم غبارِ القصيدةِ
قبْلَ القيامةِ . هلْ مِنْ أَخٍ صالحٍ
وعَليمٍ بجَسِّ المواجعِ والماءِ، حتى
نسافرَ أبْعَدَ من عُمْرنا؟!
فاتركوني إذنْ!
اتركوني هنا
عند بيت الصّدى-

أرضِ حُرِّيّتي-

لأَرى ما بَدَا:
شَبحاً كُنْتُهُ .. عندما
كنتُ طفْلَ الحديقةِ..!

[هذي الحساسينُ أَبناءُ تلك الحساسينِ
والملح فوق الجدار بقايا
لعابي
هذا الغزالُ الصّغيرُ على الباب
رسْميَ، والماءُ بين
الصّخور الكبيرة منْ
غيمتي
نفْسِها..! ]

إنَّ أَرْضاً، هنالكَ فوقَ، سأَبلُغُها
لَهِيَ الأَرضُ ..
كنْ مَوْقِداً
للكلام الذي سوفَ يَحْرقُني، بَعْدَ
خْمسٍ وعشرينَ عاماً، أَيا قلْبُ
كنْ مَوْقِدا..
واصرفِ السّوءَ عنّي بمائكَ والنارِ
إني انْفَرَدْتُ على الخافِقَين بهذا الجناحِ
الصغير:
أَرى دُوَلاً تتكسَّرُ تحتي
أرى الزَّيْزَفونَ يَزُفُّ الطّبيعةَ للَّيْلِ،
لكنّني للهُدَى
للهُدى حَسْبُ!
عند احتدام النهاياتِ لي أَبَدٌ صالحٌ
في حنَانة هذا الرّدى..
أَبَدٌ يَتَقطَّرُ في ظَمَأي غيمةً غيمةً
وضَرَبْتُ لهُ -رَأْوَ هذا الضُّحى-
مَوْعِدا
عند بيت الصّدى
صرْتُ أَنْقُصُ هذا المكانَ:
أنا لم أَكُنْ أَحَدا
لم أَكُنْ، أيَّ يومٍ، هُنا
أَحَدا! -
الذكرياتُ لها بَطَلٌ شَبَحٌ،
ولها قَوَّةٌ السَّرَيانِ ..
أنا لُغَةٌ تتجوَّلُ في اللاّمكانِ-

اتركوني هنا!
ربما يسْتديرُ الزَّمانُ
وتَنْضجُ هذي السّماءُ كَحَبَّةِ تيْنٍ
ليّسْقُطَ قلبيْ على أَثر الريحِ بعدْي.

على أَثَر الريح
بدَّدتُ أيّامَهُ
أبداً .. أبدا

[آهِ من رحلةٍ لا صَديقَ
بها .. يُفْتَدى
أَوْ حَنينَ لكي أَشْتَهيْ بَلَدا
بلداً واحداً
واحداً واحدا
أبداً .. سَرْمدا!! ]

وأَنَا ابنُ الزّمانِ،
أَنَا ابنُ السّماواتِ لا الأَرضِ
ليْ جَسَدٌ من غبارٍ
وروحٌ مُعَطَّشةٌ
تَقْبضُ الكلماتِ على ..أَثَري
عَسْجدا
عند بيت الصّدى
يَسْتديرُ الزّمانُ سُدَى
في يدي حَبَّةُ التين
في الذكريات تَضجُّ الحساسين
في الباب رسْمُ الغزالِ الصّغيرِ-
سيَكْبرُ عَمّا قليلٍ - وتَسْقُطُ
هذي السّماءُ على الأَرضِ..
تَسْقُطُ هذي السّماءُ علينا
سُقوْطَ النَّدى..

لم يَعُدْ أَحَدٌ ها هُنا
كانَ فيما هُنا ..أَحَد

عنْدَ أَمْسِ الحديقةِ
كنتُ غَداً،
لم يَزُرْها ..غَدَا!

دائماً تسبقني الشمس بأميال

موفق ملكاوي

((على لحم بطني،
أكون جريئاً على الطرقات
جريئاً على الوقت، والأمنيات.
وما مسني من خراب الشوارع شيء
ولا فاتني من غبار الحكايا ..هباتْ))

جريء موفق ملكاوي على الجوع والموت معاً إنها فجيعته الإنسانية بل الخاصة. يعيش هامشا ما ويراود الطيش. من هنا.. من هذا الانفتاح باتجاه اليومي أكثر مما هو باتجاه التفاصيل.

  • ولد في ملكا (اربد) سنة 1968م.

صدر له:

  • رياح ذابلة.

انتظار

تراكض خوفٌ على عتبات الضلوع
لمن،
سأقول غداً:
(يا صديقي وداعاً)؟!!

لمن،
سوف أرفع قبَّعتي
-عندما يعتريه الشّحوب الأخير-
وأبكي؟!!!
أغسّله بيديّ
أكفّنهُ ...
وأودعه للترابْ!!
وأزرع فوق خساراته سوسناً،
ليزاحمه، ما له من سرابْ!!

لمن
سوف أذرف دمعي غداً؟!!
وأقول: وداعاً.
وخلف جنازته أُتبع القلبَ
أمشي كسيراً،
وحولي حزانى يقولون:
إنّا إلى ربّنا راجعون،
إليه الإيابْ.

وفي كلّ موتٍ،
أقول:
يموتُ الجميعُ عدايَ...
يموت الجميع عداي،
أنا ... أكره الموت ...
أبغضه من صميمي،
ولكنّه للجميعِ...
فمن -يا ترى- في أواني،
سيمشي ورائي حزيناً
يلوك الدّموع حزيناً.
ويهمس لي ...
يا صديقي وداعاً...
وداعاً...
وداعاً...

تواريخ هاربة

(1)

أويت إلى فرشتي في المساء القريبِ،
فنام معي لاجئٌ،
لاجئان،
ثلاثةْ...
ولم أستطعْ أن أعدّ البقيةْ.
وجههم،
كان يحمل بعض ملامح أهلي،
وبؤسي.
سألتُ:
إلى أين تمضون ...؟!!
قالوا:
إلى جهةٍ لا تصيح بنا إن بكينا.
فسرتُ مع العابرين
مع العابرين مشيت،
افترشت هناك، مع الناس، أحلامهم.
واقتسمنا، من البؤسِ، ما معهم.
وخلدنا إلى النوم بعد قليلٍ،
أنا،
والدّخان اللّعين،
وأنتْ.
لاجئين مضينا،
وفي فمنا مات كلُّ الكلام،
وكان ظلامْ.

(2)

مرحباً .. مرحباً.. مرحباً..
مرحباً يا رفيقْ.
نصف قرنٍ مضى،
والحمام يطير من السطحِ
للسّاحةِ الخاويةْ.
يفتِّشُ عن زرقة تحتويهِ
على طرف (الخابيةْ) (*)
.. ... .. ...
.. ... .. ...
تجفّ المياه هنا يا حمام
مع الناس والذكرياتِ،
مع النّحل والشّيحِ ..
والدّاليةْ.
يجِفّ البكاء على طرف العينِ
تذوي البلاد بنا يا حمامُ
تصير، منافي، البلادُ ...
ونحن بها لاجئين.
نصف قرنٍ، مضى يا حمامُ،
و"حيفا" توزع أبناءها للمنافي.
و"يافا"،
تؤبّن (أحياءها) وتعولْ
.. .. .. ..
.. .. .. ...
نصف قرنٍ،
وما زال ذات المقاتل
يأوي إلى كهفه في المساءِ،
ويشرب نخباً رديئاً،
لذكرى الوداع الأخيرْ.
.. ... .. ...
.. ... .. ...
مرحباً يا رفيقي القديم
رفيق التشرّد، والجوعِ،
والدهشة الضائعةْ.
كم سيمضي علينا، ترى، يا صديقي،
ونحن نعامل أوطاننا
كأجيرْ.

احتفاء

قنديلي،
يطفئُ شعلته،
عند أنين الفجر الأوّل،
ثمَّ ينام ...
على لحن السّاعةْ

مملكة

حين استسلمت لها
واحتضنتني،
كنت غبيّاً،
وغريراً
وأظنّ العالم،
أكبر من طوق يديّ

أبني جداراً لكي يقف الظل

ناصر شبانة

((لم يكن وحده
حين ودَّعَ سربَ الحساسين
وصاغ مراثيه في الكون والعابرين
لم يكن وحده يستحق حليب الحياة
ولكنها الأرض أضيقُ من روحه ورؤاه))

يرتكز ناصر شبانة، ليس في شكل القصيدة فحسب، بل في الرؤية التخييلية إلى بنية كلاسيكية عريضة. ثمة رسوخ وثقة عميقا الغور فيما يصنع. إنه شاعر نادر في هذا الاتجاه.

  • ولد في مخيم البقعة سنة 1968م.

صدر له:

  • شقوق التراب.

نواسيّة

واثقٌ من ندامايْ:
سَلّةٌ من حرير المرايا
وكأسٌ مقرّبةٌ
وابتهالات نايْ
أعدُّ دمي كي توزّعَهُ الخمرُ
بين القبائلِ
أستلُّ سيفي
وأغمدهُ في جدارٍ قديمٍ
ولكنّه لا يكون سوايْ.

واثقٌ من ندامايْ:
ديوانُ شعرٍ قديمٍ
وتعويذةٌ قد تزوّجني
من أسايْ
أنادي على ظلّيَ الكهلِ
يا ظلُّ!
يفتتحُ القبرُ أبوابَهُ
كي ينادي عليّ:
يا ظلّ ظلّي الشقيّ
ويا واحداً من ضحايايْ.

واثقٌ من ندامايْ
كفّي ملطَّخة باللغةْ
وعينايَ مكتظّتان بعشب الرؤى.
أؤبِّنُ عاشقةً ..
وأزوّج أخرى بأنثى الطريقْ
وأدفنُ لؤلؤةً في الحصى
وأبني جداراً لكي يقفَ الظلّ
فوق الجدارْ
وها أنا ذا الآنَ
كلّ المقاهي أعادتْ زبائنها
للبيوت عدايْ.

النورس

كِليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكبِ
(النابغة الذبياني)

كليني لَهم يا سمّيةُ ناصبِ
كليني لقلبي الذي لم يخنّي
لوجه الطريق البعيدةِ
للأمنيات البليدةِ
للقمر المستحم بغيمة دمعي
لشمعي الذي لم يضئ لي سراديب كفّي
لأوراق حتفي
كليني لحلمي الذي قد تَيّبسَ
في قاع قلبي
لدربي الذي لفّني بالضياعْ
لأغنية البحر حين يصوغْ
أنين الشراعْ
كليني لصفصافة الانتظار
أبوح لها بالفراغ الذي عقّني
أسائل قلبي لديها
لماذا الحبيبةُ قبل اكتمال اللقاءِ
يلوّحُ منديلها بالوداعْ.

سميّة آخر ما حملتْهُ النوارس
للبحر
من شرفة اليابسهْ
كنتُ أحاولها دائماً
كي ترش بماء الصنوبر أغنيتي
العابسهْ
ولكنني نورسٌ ليس يسعفه حظّه
في اقتفاء خُطى أمه النازفةْ
يقدم قربانه للعيون المحناة
بالأقحوان
فتبلعه العاصفهْ
كليني لأنشودتي الخائفهْ
سميّةُ يا خيمةَ الروح
حين تحط المدينة صخرتها
فوق صدر الغريبِ
وتجلده بالسفرْ
سمية يا عنفوانَ دمي
حين يأخذ منفاي شكلَ الحجرْ
أنا النورس الطفلُ
هل تذكرين الغريب الذي مرّ يوماً
على برتقال الفصولِ
وعمّد جبهته بالمطرْ
وهل تذكرين اليتيم الذي
حين عبّأ سلّته بالنجوم انتحرْ
أنا النورس الكهل
لا ترتقي وجعي بقماش اللغهْ
هل يملك الوردُ أن يشتكي
لو زرعناه -قلتِ- برمل الإناءْ
قلتُ: لا، الوردُ سيّدُ منفاه
لا تربكيه بحلكة عينيكِ
وهو يصلي بصومعة الكينياءْ
أنا أكثر الناس حزناً
لأني أحاول ألاَّ أرَممَ عشقَ العصافير
للمطرِ الموسميّ
أحاول أن أتسلى بفاكهة الجمرِ
في موقد الكستناءْ
سميةُ يا الطلقة الألف
في ظهر قلبي
لماذا أضفتِ لعينيّ بعداً جديداً
يجسّده ولعي بالبكاءْ.
دعيني أنقّل خطوي على الشارعِ المستحيلِ
خلاف اتّجاه خطى السابلهْ
وأومئ للقلب ألاّ تجفَ من الياسمين
إذا ما حلُمتَ بنجمتك الذاهلهْ
سيندحر العالمُ الظلُّ خلف جدارِ الحقيقة
حين أقيمُ بذاتي مدينتي الفاضلهْ.

يرويني ظمأُكَ

نبيلة الخطيب

((أُجْهشُ بالبسمة
فتقهقهُ في عينيَّ
الدمعة!))

في ندرة كبيرة كتبت نبيلة الخطيب شعراً في الرغبة .. في توحشها وأخطائها في قصيدة التفعيلة. وفي عمود الشعر الكلاسيكي أنجزت من القليل الجميل من هذا الشكل من بين ما أنجزت الأصوات التسعينية.

  • ولدت في الزرقاء سنة 1962م.

صدر لها:

  • صبا الباذان.
  • صلاة النار (مخطوط).
  • فيض الخاطر (مخطوط).

صلاة النار

بالنور توضّأ
واستقبل وجهي
واجعل فوق جبيني
سجدتك الأولى
ثم على أيكٍ
من بهجة روحي
صلِّ قيام الليل
يبرأ من قسوته قلبي
يشرب من عطشي
يرويني ظمأُك
فأنا ...
جذرٌ منكَ
وزهرٌ منّي
وقطوفٌ دانيةُ الوجدِ
أمضي نحوك
راضيةً ...
أحمل أوزارك وحدي
يا الله ...
خذني بذنوب حبيبي
فأنا فتنته الأولى
قيّضت له
مارد عشقي
عبّدت له
صحراء الروح
كالطفل ..
إلى النار عدا
يا الله
كيف يُعاقب
من قُيِّد واقتيدَ
على غير هدى؟!
كان يصلّي
حين دلفتُ البابْ
راحَ التوتُ
ينقّط سُكّره
في القلبِ ..
فذابْ
وانتفضت أغصان الجنّة
شهقت من دهشتها
الأطيار ...
حين أفضتُ له أقداحاً
تُذكي في الأوصال النار
والصحوُ ترنّح في الألباب
لو كان بوسعي...
أنا أجعل
من صدري مهدا
ترصُف ملعبَه
كرياتُ دمي
تحرسُهُ حُرقة أنفاسي
أُلْقِمُه قلبي
كي يروى
من روحي شهدا
يا الله ..
رقرِقني..
حين تجفّ عروق الزهر
رحيقا ..
شكِّلني امرأةً
من نور وبخور
كي أنساب
إلى وجدان الروحِ
شهيقا ..
أرسلني
بين خلاياهُ
عروقا
يا الله ..
هبني قلباً
يحتمل السُّكنى في فوّهة البركان
هِبني روحاً
تعبق طيباً
حين تحاصرها
النيران.

لغة

العينُ لسان القلب
والدمعةُ نافلة الحزن
حين تراني ....
أَركُن للصمت
وأُغرق في الصدق
آلِفْ كَلَّ شتات الروح
واقرأ عينيَّ برفق.

خيانة

غرّبَ شرقاً
مهديٌّ ..
سار على غير هدى
لم يُدرك
إلا في أضيق شُرفات العُمْر
أنّ الشمس..
تخون الفجر!

فاكهة

قشرتُ الفاكهةَ
وقدّمتُ له اللبّ
على أطباقٍ ذات بريق
لم يتذوق سكّر فاكهتي
لم ينظر حتى في وجهي
لكنْ..
نظر إلى القشرةِ
وابتلع الريق!

ورقة توت

يتعرّى الجسدُ
المتصبّبُ نَهَماً
ليواريَ..
قسمات الوجه المنحوتْ
تنكشفُ العورةُ
لا تمتدُّ لها أُنملةٌ
تخصفُ..
لَوْ وَرقة وت!

فلسفة القشة

القشة..
ركن في عش الطائر
والقشة تدمي العين
والقشة..
تقصم ظهر بعير
والعالَم..
بيدر قشٍ
في جوف سعير!

نظرة

كنتُ قفزتُ إلى رأسي
ونظرتُ من الأعلى
فإذا بالدنيا كاهنةٌ
والناسُ تمائم
وإذا الأيامُ جوارٍ
ترشقُ سادتها بالنزوات
وتحيلُ التاريخَ
قصائد وحكايات
بعضٌ يتوارى بالموت
والبعضُ يعفّرهُ الوقت

صعدنا حين نادتنا الشموس

نضال برقان

((كانوا ثمانية
وكان الرملُ يزهر تحت أرجلهم
وكان الصمتُ ينْسى بينهم أنفاسَه
كي لا يملوا وجهَه))

ما بين ديوان شعري وآخر .. ثمة انتقالات واسعة في شعرية نضال برقان. يحسب قارئه أن -دائماً- لديه بديلاً ويكتشفه ويذهب إليه. بدءاً من البسيط الذي تقوله اللغة اليومية إلى اختبار امكانات اللغة وطواعيتها للموسيقى وصولاً إلى توظيف ما تحمله اللغة من احتمالات وتأويل للمعنى.

  • ولد في عمان سنة 1970م.

صدر له:

  • حبك أنت وأعشق كل النساء.
  • مصاطب الذاكرة.
  • مصيدة الحواس.

قبيل ثلاثة آلاف عام

قبيل ثلاثة آلاف عامْ
أتاني الزمان وكنا ثلاثة
أنا وغرامي وأنتِ
وشمَّر عن ساعديهِ
وكل سلاحٍ لديهِ
فمتُ ومتِ
ولكنه ما يزال غرامي
عصياً عليه
برغم الثلاثة آلاف عامْ

تسلية

مطرٌ حافٍ
ومصابيحُ تتوارى خلفَ ملامحها
ليلٌ بازلتيٌّ يتتبّعُهُ كرسيٌّ مبحوح.
وشوارعُ تقطرُ من أطرافِ جدائِلِها قصصُ الفلاحينَ
المبلولة بالموسيقى العذراء.
بيتٌ قمريٌ يحملُ شرفته بهدوءٍ رملي ويتابعُ
هجرتَه نحو الأجراس المسكونةِ بالنارنجِ وثرثرةِ
الجنيات.
وفراغٌ يفرُك عينيّ الحنطةِ والتاريخ بحلمِ أناملهِ
المزروعةِ بالذكرى
مرآةٌ تغسلُ وجه الريحِ بكوبِ القهوةِ والسيجارةِ
والسرِّ المدفونِ بخابيةِ الرعد.
وظلالٌ فوقَ سطوحِ الغفلةِ تنصبُ فاتحةَ الرؤيا
وتولي نحوَ الجدولِ وجه أغانيها البكرِ
قلمٌ بدهاءٍ كنعاني يسكبُ وجهَ الصفحةِ فوق الأرصفةِ
المفتوحةِ حتى محرابِ الروح.
وهناك..
وراءَ مسامات الهذيانِ هناكَ امرأةٌ تتسلى
بالنردِ الطيني وتضحكُ، تلعبُ، تلعبُ، تضحكُ
حتى تحشُرَ كلَّ الأشياءِ بستِ نقاطٍ عمياء.

وصايا التراب

تفيقُ الطريقُ
وينهضُ ظلّي
ونصعدُ ليلَتنا بالأغاني النديةِ
مكتحلينَ بحُمى النزيفْ
سيولُ الفراشاتِ
تعبرُ مصباحَها الليلكيّ
وتنفذُ رائحةُ التوتِ عبر المرايا.
خفيفاً .. خفيفاً..
يقومُ الشتاءُ
يلملمُ أشياءَهُ
ويشدُّ الرحالَ لنفسِ الغيابِ الشفيفْ

* * *

تغلّقُ أبوابَ لحظتِها
وتقدُّ الحكايا
ولا يتبقى سوى الريحِ
تنفضُ ذاكرةَ السيسبانِ
وفوقَ السريرِ الذي يتهجّى وصايا الترابِ
ملابسُنا تستحمُ برائحةِ العرقِ الأزلي
وتتركُ نبضَ المسافةِ
يلهثُ خلفَ قطارِ الرؤى
يتسلقُ ظلُّ المدينةِ أنفاسَنا
ويمشطُ شعرَ المساءِ الأليفْ

* * *

هناك..
على حافةِ الوقتِ
كانت تلملمُ ما يتساقط من ذكرياتِ المكانِ
وتركضُ حتى تفيق الطريقُ
وينهضُ ظلّي
ونصعدُ ليلتنَا بالأغاني النديةِ
مكتحلينَ بحمى النزيفْ.

أنّا لم نَكُنْ

كَبُرنا ... رُبما
أو رُبما هو عمرُ من مرّوا
ونحنُ نشمّسُ الأحلامَ
كانوا يحملونَ الأرضَ فوقَ رؤوسِهم
كانوا ثمانيةٌ
وكان الرملُ يزهرُ تحتَ أرجلِهم
وكان الصمتُ ينسى بينَهم أنفاسَهُ
كي لا يملّوا وجهَهُ
وحديثَهُ الأطولْ.
عبرنا .. رُبما
أو رُبما عبرت تماثيلُ الرخامِ عيونَنا
وتناسلت فينا الجماداتُ التي
حلمتْ طوالَ سباتِها
بعبورِها الأولْ.
عشقنا .. رُبما
أو رُبما خلطتْ فراشاتُ الطفولةِ حلمَ مصباحينِ
كانَ الليلُ حارسَ نأيِهم
والريحُ حولَهُما
تعبّئُ بالنعاس عيونَ وقتِهما
ولمّا كانَ يبحثُ عنهما النسيانُ
هزّهُما الندى .. فتساقطتْ رغباتُهم
وتغلغلا
والفجرُ في منفاه قَدَّ قميصَهُ الأجملْ.
نسينا .. ربما
أو ربما خانت مرايانا تفاصيلُ الحكايةِ
قد تآكلت الحروفُ
ولم تعد أسماؤنا أسماءنا
اغتالتْ شوارعُنا الجديدةُ خطونَا
نامت خرائطُنا الهجينةُ ملءَ أعينِنا
ولبَّانا الفراغُ بوجههِ الأعزلْ.
كَأنا لمْ نكن
أو رُبما كنّا على العتباتِ
لم ندخلْ حدودَ البالِ
أو نَغفل
صَعدنا حين نادتنا الشموسُ
وحينَ نادى الجدْبُ
لم يكُ غيرُنا يهطلْ.

المُنتخبات
جهاد هديب

صدر له في الشعر:

  • تعاشيق (1996م).
  • ما أمكن خيانته ويسمى الألم (1999م).
  • قبل أن يبرد الياسمين (2001م).