صبحي حديدي

وليد خازندارينفرد وليد خازندار عن عدد كبير من مجايليه الشعراء في أنه يبدي الكثير من العناد، والكثير أيضاً من الدأب الصامت البطيء، في الحفاظ علي أسلوبية متوازنة خاصة بدأها علي نحو تجريبي في مجموعته الأولي (أفعال مضارعة) (دار ابن رشد، بيروت 1986)، ثم تابع تطويرها مقترنة بقفزات ملموسة في الشكل والخيارات الإيقاعية في مجموعته الثانية (غرف طائشة) (دار فكر، بيروت 1992)، وهو اليوم يواصل تلك الأسلوبية في مجموعته الجديدة (سطوة المساء) (بيسان للنشر والإعلام، بيروت 1996).

ما هي ملامح هذه الأسلوبية؟
ولماذا تتوازن؟
وما هي خصوصيتها؟
وقد يضيف المرء السؤال التالي: حتام العناد والدأب؟ وأي حكمة؟

وقبل أن تحاول هذه السطور إيجاز إجابات ما على هذه الأسئلة، ثمة ضرورة في الإشارة إلي أن المجاهدة الدائبة في تكوين خيار أسلوبي محدد ـ أيّ خيار أسلوبي ـ هي فضيلة فنّية أولاً لأنها تخرج بالنتاج إلي عراء بعيد عن الإجماع المألوف، وتطلقه في مدي أقصي من المسؤولية الفنّية أمام القارئ والمشهد الشعري، وتفرده عن سواه، وتعرّفه ضمن حدود مشروعه الذي يعلنه وليس تلك الحدود الأعمّ لجملة مشاريع متشابهة ولا تتباين إلا في التفاصيل غير الكبرى. وهي، ثانياً، فضيلة نقدية لأنها تسمح بالتحليل المقارن ورسم خطوط بيانية صاعدة أو هابطة لمؤشّرات التطور أو الركود أو التراجع. وبهذا المعني تستحق مجموعة جديدة من وليد خازندار قدراً تحليلياً إضافياً يخصّص للرصد وللمقارنة، ويربط ما تقدّم أو ما تأخّر من إنجاز علي صعيد الأسلوبية المتوازنة الخاصة تلك.

أوّل خصائص أسلوبية خازندار أنه يقيم في النصّ الشعري ما تقيمه موضوعة (الطبيعة الصامتة) Still Life في الفنون التشكيلية من شبكة علاقات شعورية وبصرية ودلالية بين الأشياء والحواسّ. ولعلّه بين أكثر شعرائنا العرب المعاصرين تذكيراً بمدرسة الشاعر الفرنسي فرانسيس بونج (1899 ـ 1988) في هذا الميدان بالذات. وكما يحدث في اللوحة التي تقدّم طبيعة صامتة، تتناول قصيدة خازندار ما هو متواضع وعاديّ ومجسّد ومألوف من أشياء العالم اليومي، وتمزج التوقّف عند سطوح تلك الأشياء بالغوص عميقاً في نُسُجها، وتنتقل من التسطير الخارجي المرئي (الواقعي) للمادّة، إلي التناغمات الكثيفة المتغايرة (الإيهامية) في ما تستثيره من أخيلة وصُوَر. (أقلّ طبيعة صامتة هي عندي منظر ميتافيزيقي حاشد)، يقول بونج الذي رأي في سطح رغيف الخبز مشهداً بانورامياً شبيهاً بإطلالة المرء من أعلي جبال هيملايا أو طوروس. وخازندار يري (علي البساط بَكْلة وزوبعة)، و(الثعلب القماش كَفَّ يبتسمُ)، و(أفُقٌ إبرةٌ، عوسجٌ حائكٌ)، و(السَكْتُ ثلجٌ، ويشتدّ)، و:

الخزف الأرق ما يزال مهدداً بحمرة شفيفة
والصدع، في الجدار، صاعد في انشقاقه
إلى السقف الذي ما زال ينخفض
والغبار طلعُ الغياب، ذاهلٌ على الأشياء كلّها.
الماضي جالس على الأريكة
فارداً في انتظاره على الكرسي ساقيه
عند النباتات العديمة
في الهواء الثقيل
تحت الإطارات التي تشدّ إليها الذين غادروا.

وكان خازندار قد حشد عناصر وتفاصيل هذه الطبيعة الصامتة، ثم لم يجد أيّ حرج في استخدامها وتكرارها في المجموعات الثلاث، حتي ضمن السياقات الاستعارية ذاتها (كما في حالة (درزة القميص) و(النباتات العديمة) مثلاً). هنالك الرواق، والممرّ، والشرفة، والشراشف، والملاءات، والأريكة، واللوحة المعلّقة علي الجدار، والمزهرية، والقميص، والخيطان والإبر، والأزرار، وركوة القهوة، وصحن السجائر، والمراكب، والعوسج.
وكان يقول: (أحسّ مزهرية، داخلي، تكسّرت)، أو (كم مرّة رتّب أيلول قمصانه في الأغنية) في مجموعته الأولي. ويقول: (عن أيّ شيء، كلما ارتبك، / يظل يبحث عن درزة القميص؟) أو (عاد يحمل إبرة، زرّاً وخيطاً، كشتباناً / وتوتّر مرّة، لمرأى النباتات، ثانية / شهيدة في أوانيها) في المجموعة الثانية. واليوم يفتتح المجموعة الثالثة بالقول:


ليس أكثر من أن ينام
قليلاً فيصحو: ينزع الهدير عن كتفيه
والجهات عن صدره
ويخلّص الهالات من عروة القميص.


ثاني خصائص أسلوبية وليد خازندار تتصل بالعدد المحدود والمتماثل لموضوعات القصيدة:
مرور الزمن، وطأة الذاكرة، المراقبة البصرية لعناصر المحيط، السرد الانتقائي الكثيف لهذه أو تلك من حركة الأشياء في المحيط وتحويل بعض هذه الحركة إلي حكاية، الالتقاط الملحمي لحضور الكائن البشري في ذلك كله (كما في القصيدة الفاتنة (أبواب المغيب))، والالتقاط الغنائي للموضوع كلما ارتدّ الكائن إلي النفس (كما في (ضوء بعيد)). ويحدث مراراً أن تتكرر عناوين قصائد خازندار، لا من حيث صيغتها الحرفية بل من حيث صيغتها التركيبية المنتزعة في تسعة أعشار الحالات من جملة تَرِد في القصيدة بالضرورة، لا كما يحدث عادة ـ وفي قصيدة النثر بصفة خاصة ـ حين يلعب العنوان دوراً استهلالياً دلالياً وشعورياً مستقلاً.

ولكن هذا التماثل يغتني علي الدوام بما يستخرجه وليد خازندار من موضوعات فرعية وتفصيلية ثانوية، تزدوج في مستوي أولّ هو إقامة وشائج مباشرة بين هذه السمة الثانية المتصلة بتماثل الموضوعات وبين السمة الأولي ذات العلاقة بالنفاذ إلي عمق الطبيعة الصامتة. ذلك لأن أشياء وليد خازندار تخضع أولاً لما يشبه التدقيق الإدراكي في خواصّها وتكويناتها، ثم تتوالي عمليات كشف ما تحتويه من ثقالة خاصة، حسّية دائماً وميتافيزيقية حين تقترب من الوجدان (وهي تفعل ذلك غالباً)، وصولاً إلي مرحلة رسمها لفظياً، حيث يمارس خازندار الكثير من ألعاب التركيب النحوي والاشتقاق والنحت والتغريب الدلالي وإحياء الألفاظ المنقرضة.

المستوي الثاني هو إخضاع هذه المشهدية الحافلة من تنشيط الأشياء إلي هندسة خاصة تنظّم علاقات التبادل بين الضمائر من جهة أولي، وتُقْصيها أو تدنيها من (الصوت الثالث) ـ إذا صحّ القول ـ الذي تصنعه النبرة الإجمالية للقصيدة، بعيداً عن علاقات الضمائر من جهة ثانية. ومن أصل عشرين قصيدة، هي مجموع قصائد (سطوة المساء)، يتكرر ضمير الغائب في عشر قصائد، ويتبادل الحوار مع ضميري المتكلم أو المخاطب في 41 قصيدة، وفي قصيدة واحدة هي (زعمال يديها) (هي أيضاً أطول قصائد المجموعة) تتدافع ضمائر هو / هي / أنا / نحن في علاقات دائبة من التشابك والتوتّر، والحضور والغياب، والتنازع والتماهي.

و(الصوت الثالث) يبدو كالمنشغل في البحث عن فعل الإدراك ذاته، أكثر من طرائق التعبير عن الإدراك أو تأثيرات جملة الإدراك ذاتها. ولكن خازندار (وهو الصوت الثالث بامتياز) لا ينهمك في وصف المشهد وما يستثيره من أخيلة ومشاعر وتداعيات، بقدر ما يبدو متلهفاً علي السماح للأشياء بالتعبير عن نفسها بنفسها. والشاعر مراقِب أكثر مما هو المشارك في المشهد، ولكنه يعهد إلي حواسّه بمهام اكتناه الموضوع بصرياً وبلاغياً، ثم يكْسِبه الجسد حين يزوّده بمؤونة معجمية كفيلة بإطلاق الأشياء، منحها تلك الثقالة الوجدانية والميتافيزيقية الخاصة، وهذه ليست بالعهدة اليسيرة! يقول خازندار في قصيدة (انتظرْ، بعدُ):

ستراهُ إن جلستَ هنا
واضحاً، عندما يجيء:
خطوةٌ وترٌ، شحوبُ شوكةٍ.
سوف ينطوي في الظلّ
خلف طاولة، أمامكَ:
قهوةٌ، كوبُ ماءٍ
سوف ينتظرانه، طويلاً
ذاهبَيْن كلُّ في وجهة.
لا تظنّ أنه استحال حجراً
دون رفّة.
وإن غاب وجهه، في ركنه، قليلاً
فاعلم أنها العشية، حسبُ
أدركته، فأعتمتهُ.

ثالث خصائص أسلوبية خازندار أنه يكتب قصيدة النثر دون أن يمارس القمع علي (الانفلات) التفعيلي، الذي يبدو في هذه الحالة سمة عضوية لصيقة وليس شطحة موسيقية تتمّ في غفلة عن التخطيط الإيقاعي الأعلى للقصيدة. والحقّ أن هذا الخيار يخلق في القراءة عسراً خاصّاً ناجماً أساساً عن الارتباك الطبيعي الذي سيعانيه قارئ اعتاد منح التخطيط الإيقاعي التفعيلي جملة استجابات عصبية، نَسَقية وتلقائية، تختلف عمّا يمنحه عادة للتخطيطات الإيقاعية في قصيدة النثر. والأمر أشبه بانتقال الأذن بغتة من سماع عزف علي العود إلي عزف آخر علي الناي. في المثال التالي من قصيدة (شواطئ مستهامة) ثمة انتقال مباغت من هذا النوع في السطر السادس:

هل تأسّيتَ
تارةً إذْ تنوّرتَ، من ثمالةٍ، دفّةٍ،
ومن قبل تاراتٍ
وقد أرعشتْ
من وجدةٍ، منكَ اليدُ؟
كم تلبّثتَ واصلاً عمراً بعمرٍ:
الفجر خيطٌ ذاهلٌ
العشيّة إبرةٌ، وكلما مَزْقٌ تعود فتبدأُ.

ذلك لا يعني أن خازندار لا ينجح في نقل الأذن من عزف علي العود إلي عزف آخر علي القيثارة، بل لعلّ هذه هي قاعدته في نماذج عديدة يتوجّب أن تُقرأ بعلامات التشكيل، وبالتحريك الإلزامي لمخارج الحروف، وبالقراءة الإيقاعية الجهرية أحياناً:

مرّي، إذنْ، ملحونةً طروباً، رياحَ الشمال، مرّي.
الهشّة المستبدةُ
من نسيجٍ ذاهلٍ، ومن حبكةٍ:
كان عارياً، حينها، الأقحوانُ وفاجراً
والماء طائشاً من الأعالي
وكان، في البعد، صفصافٌ خجولُ.

وفي هذا يثير خازندار السؤال الإشكالي التالي: هل يصحّ الحديث عن (كلاسيكية جديدة) في قصيدة النثر العربية المعاصرة، حيث تنهض القصيدة علي سمات مثل الجزالة والاقتصاد اللفظي والمتانة والإحياء القاموسي؛ وفتح الذات الشاعرة علي علاقات مجازية وإدراكية (بصرية، غير وصفية، وغير رومانتيكية) بين الحواسّ والمحسوسات والنفس والطبيعة في مستوي الأغراض الشعرية؛ والبحث عن توازن ما (تصالحي ربما، لم لا؟) في عمارة القصيدة وأبنيتها الإيقاعية في مستوي الشكل؟ استطراداً، هل يمكن لقصيدة نثر تسعينية أن تذكّرنا بمحمد مهدي الجواهري وسعيد عقل ونزارقباني، ببدر شاكر السياب ومحمود درويش وسعدي يوسف، مثلما تذكّرنا بأنسي الحاج ومحمد الماغوط وتوفيق صائغ وعباس بيضون؟

أيكون بعض هذا البحث سرّ إصرار وليد خازندار علي اعتماد أسلوبية خاصة متوازنة، تعود أبداً إلي منطقة وسيطة بين ما أنجزته المجموعتان الأولي والثانية، وما تنجزه المجموعة الثالثة، وما تنذر به أية مجموعة قادمة؟ في كل حال، من الثابت أن شعر خازندار لا ينتمي إلي تلك المشاريع الشعرية التي تتطوّر وفق (قفزات) مباغتة تأتي علي الأخضر واليابس في الأسلوب والموضوعات، وتقطع مع الماضي الفنّي (الشخصي والعامّ) دون كبير اكتراث بالإبقاء علي ما لا يتوجّب قطعه. ذلك يجعل اكتراث خازندار عنيداً في التعميق والتصفية والتشذيب، دووباً في ذلك، غير عجول أو متعجّل، رهيفاً علي الدوام ... مثل درز رهيف.