ياسين عدنان
(المغرب)

محمد القاسمي قد يكون صحيحاً أن يد محمد القاسمي امتدادٌ لفرشاة الجيلالي الغرباوي القلقة التي رسمت اللوحات التجريدية الأولى في مغربِ الخمسينات وتكريسٌ لتلك الحرية التعبيرية التي فتح عليها الغرباوي التشكيل المغربي. وقد يكون استحضار جماعة "الفعل" التشكيلي وعرّابها الأمريكي جاكسون بولوك من طرف النقاد مفهوماً لأن القاسمي لم يكن بعيداً عن مدارها الفني. ومع ذلك، فالأساتذة الحقيقيون لا يتذكرهم أحد. مَنْ مِنَ النقاد اليوم يذكر ذلك المتشرد المجنون الذي كان مولعاً بالرسم على أسوار مدينة مكناس؟ صباغة سوداء، علامات غريبة، وطفل اسمه محمد يراقب العملية بدهشة. ثم كبرت العلامات في خيال الطفل وتعددت. بدأت بارتعاشاتٍ أولى تحت الظلال المتراقصة لحدائق "الحبول" بمكناس، وانتهت بمغامرة من نوع خاص جرَّب خلالها القاسمي أن يمتزج بتراب الأرض وينْدَفِن تحته إلى الأبد. فهذا الفنان الذي لم يكن يقترب من لوحاته بالفرشاة والأصباغ فقط، بل يلِجُها كاملاً بجسده وروحه وذاكرته، مستثمراً على خاماتها كيانه كله، لا يمكنه أن يعيش الدفن إلا باعتباره تشكيلاً ليصير قبره ذو الشاهدة الرخامية الجميلة عمَلَهُ الفني الأخير. بل لعله امتدادٌ لتلك اللوحات التي كان عاكفاً على إنجازها لكتاب " مكائد الحياة" الذي كان يشتغل عليه بالاشتراك مع الشاعر عبد اللطيف اللعبي. تأسّفَ العديدون لأن القاسمي لم يكن قد أنجز سوى اثنتين من اللوحات السبع المطلوبة حين رحل. أسفٌ غير مبرَّر، سيعلق السي محمد لو كان بيننا، فالموت مكيدة الحياة القُصوى. لقد اكتمل الكتابُ إذن، وعلى اللعبي أن يكتب كلمة الغلاف.
لم يكن القاسمي يتمتّع بحريته كفنان إلا حينما تكون القماشة أمامه كبيرة. المقاسات الكبيرة تعطي لجسده حرية أكبر. هكذا يندمج في القماشة باندفاعة جسده وخياله وقلقه ومخزونات ذاكرته. وتزداد حريته لتتخَلَّق المزيدُ من الحيوات البصرية أمامه كلما كبرت مقاسات اللوحة وتحرّرت القماشة من إطارها. ولأن جسد الفنان كجسد الطائر فقد نبتت للقاسمي أجنحة سرية حلّق بها خارج مرسمه لينفتح على العالم الخارجي مفضِّلاً الاشتغال وسط العناصر من ماء وريح وشمس وتراب، حيث استبدل إطار اللوحة بإطار الوجود وبدأ يمارس سُلطته كمبدعٍ من حقه أن يتدخّلَ جسدياً في العالم.
المغامرات الجديدة بدأها بهذه الروح من أمام بيته الجميل بشاطئ الهرهورة حيث أنجز سنة 1985منشأةً من الأعلام والرايات مباشرة بعد تثبيتها انخرطَتْ رياحُ المحيط الأطلسي في مراقصتها، والموجُ في مراودتها بالهد ير. وفي سنة 1989 اتجه إلى سوق الصباغين بمراكش حيث اشتغل مع صبّاغي المدينة على "الحايك" بوصفات التلوين التقليدية التي يستعملها هؤلاء وكانت النتيجةُ حياةً أخرى للحايك حوّلته من لباسٍ تقليدي للمرأة المغربية إلى كيان أنثوي ضاجٍّ بالألوان. ثم سافر القاسمي إلى تركيا سنة 1992باحثاً للنور عن ذاكرة هناك، وهو البحث الذي شاركته فيه الكوريغرافية الفرنسية كاترين بوزي في عرضٍ تشكيلي يقوم على التداخل ما بين الصوتي والجسدي، عرضٌ يندرج في إطار تجارب "الحركة" التي تنتقل بالتشكيلي إلى مقام التمثيل أطلق عليه القاسمي اسم "ذاكرة نور". أما "كهف الأزمنة الآتية" الذي أنجزه بالمركز الثقافي الفرنسي بالرباط سنة 1993 والذي أثَّث فيه فضاء العرض بعدد من التَّنصيبات تضم تابوتاً وأجهزة تلفزيون، آلة موسيقية، كتباً وجرائد في عمل توليفي مُستفِزّ، فقد اعتبَره القاسمي حينها مُداخلةً لا معرضاً، وسؤالاً كبيراً لتعرية الأَغْوار..سؤالٌ حول مستقبل الإنسان لا يمكن الإجابة عليه إلا بالعودة إلى الذاكرة، "ذاكرة الجسد" التي عاد إليها القاسمي في 1994 سالكاً في رحلة البحث عنها طريق العبيد باتجاه "بينين" بمناسبة مؤتمر حول الرّق دعت إليه اليونسكو. وستصير إفريقيا وجهةً أثيرة لديه حيث عاد إلى مالي والسنغال ودول أخرى في الساحل وهي الرحلات التي ألهمته أعمالَ معرضه الأخير "السفر الإفريقي" الذي مزج فيه بين الصورِ الفوتوغرافية ورسومٍ وتخطيطاتٍ أنجزها خلال هذه الأسفار. لم تكن مُقترحاتُ هذا المعرض لوحاتٍ فقط، بل تأملاً فنياً عميقاً في الخيال الإفريقي، "الخيالُ الذي سيصير خلاقاً إلى أبعد حد إذا ما كفَّ مبدعو القارة السمراء وفنانوها عن الانشداد فقط إلى أوروبا، وتوقفوا قليلاً ليَنظُروا في أنفسهم"، يقول القاسمي.
"إنني أنفتح على السماء فأرى زُرقتها تخترقني، وأراني أنحني لأُشرف على الأرض، فإذا هي صلصال. كلُّ شيء يأخذني فأنسى نفسي ولا أتمالكُها". هكذا تكلم القاسمي مرةً مُلخِّصاً لعبته التشكيلية التي تتشابك خلالها السماء والأرض، وتتداخل فيها الخامات والألوان والرؤى، أسئلة الجسد وقوة المادة وطاقة الحلم، الأسود الفاتح والأزرق الداكن والأحمر القاني، تراب ورماد ونشارة خشب، خيوط وحبال وأسلاك، ورق وألياف ثوبية، مواد متنوعة تُمزج بالمواد الصباغية الكيميائية وضروب الخضاب فتصير سميكةً. سُمْكٌ غني متموج لبحر غامض مُصطخِبٍ بأكثر من قرار.
حين التقيْتهُ برواق باب الرواح في أبريل 2002 بمناسبة افتتاح معرضه الضخم "القاسمي أو معادلة المعنى"، بدا لي في غاية الرضا. فبعد نيله جائزة الاستحقاق الكبرى يجد القاسمي نفسه مطالباً بافتتاح أهم ثلاث أروقة بالرباط مباشرة بعد ترميمها: رواق باب الكبير بمعرضه "خارج المرسم"، قاعة محمد الفاسي ب"السفر الأفريقي"، ثم معرض "زمن الرواة" برواق باب الرواح حيث التقينا وتحدثنا قليلاً عن الشعر والألوان وبهجة السفر. كان القاسمي المشهور جداً في أوروبا سعيداً لأن المغرب الثقافي بدأ يعترف به. "الاعتراف في بلدي أجمل من كل مجد بعيد. المجد لا يُترجَم، والاعتراف هنا أثمن عندي من الحُظوة في بلاد الآخرين".
كان المغرب الرسمي دائماً يخشى مبادرات القاسمي. مُجازفاتُه المتكررة بالخروج من المرسم و الالتحام بالناس...بالعمال الذين رسم لهم في معمل السوماس سنة 1978، بالأطفال الخمسين الذين أخرجهم إلى "بلاس بيتري" في قلب العاصمة ليمارس معهم جُنْحَة "الرسم العلني"، بنُزلاء مستشفى ابن رشد للأمراض العقلية الذين كانت له معهم مغامرة مثيرة سنة 1981، بالسجناء وضحايا الاعتقال السياسي؛ ثم إشرافه على العديد من التظاهرات الفنية مع المهندسين المعماريين والكتاب والشعراء ومناضلي حقوق الإنسان؛ إضافة إلى معرضه السنوي العارم مع الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي كان ينجز لها سنوياً ملصقات فاتح ماي التي ما زال بعضها موشوماً في ذاكرة أطفال تلك الفترة إلى اليوم. كل هذا إلى جانب الشعر: "الصيف الأبيض" الذي كتب قصائده في لحظات الترحال في المطارات وعلى متن القطارات، "تجاويف الجسد" الذي يأخذ في صيغته الطِّباعية شكل سِفْرٍ تراثي قديم، قصائد "مكناس" الصادرة في كتاب أنيق تُزيِّنه صور فوتوغرافية لكريستيان راماد، وأخيراً "كلام رحَّال" الصادر سنة 1999 عن دار المنار بالبيضاء.
حينما غيَّب الموتُ القاسمي في أكتوبر الماضي بدأ الكل يحكي عن تعدد إنجازاته وثراء تجربته. لكن لو قُدِّر للسي محمد أن يكون بيننا لما اهتم بإحصاء معارضه وجوائزه وأسفاره وألوانه. ذاك أن لوناً واحداً كان سيشغل باله.. الأزرق العظيم الذي يُحنِّط الألوان.. كما أن مشروعاً واحداً سيفتح روحه على ما اعتادت من قلق.. "الهرم الأزرق".. حلمُه التشكيلي الأكبر الذي لَمْ يرَ النور مع الأسف. فهل هي مكيدة أخرى من "مكائد الحياة" أن تحقق أشياء كثيرة دون أن تنجز مشروع حياتك؟ إذن على صديقنا عبد اللطيف اللعبي أن يُعجِّل فعلاً بكلمة الغلاف، فالكتاب أبداً لن يكتمل.