محمود درويش وفلسطين والتاريخ وفلسفة السينما وأشياء أخري

عبدالله حبيب
(عُمان/ أمريكا)

غودار في فيلمه الأخير موسيقانالقطة ولقطة عكسيّة
المُتخيَّل: اليقين
الواقع: اللايقين
مبدأ السينما: إذهب إلي الضوء واجعله يُشعُّ علي ليلنا، علي موسيقانا
من موسيقانا

لسبب ما يتعلق علي الأرجح في لاوعيي بطاقة وحيوية وعنفوان المبدع الذي عنه وعن فيلمه أسعي أن أكتب هذه المادة، لم يرد اسم جان لوك غودار، الناقد والمخرج السينمائي السويسري النشأة الفرنسي الجنسية والأيقونة الخالدة لسينما الموجة الجديدة الفرنسية، شفاهة أو كتابة، إلا وقفزت فوراً إلى ذاكرتي ومخيلتي البصريتين صورة المخرج السينمائي الشاب والأشعث إلي حد ما، الوسيم لكن غير المهندم بصورة خاصة، المشاغب والفوضوي والرافض بلا مساومة أو تنازلات أو هوادة، المفكر والحالم، الصاخب والمتأمل، عدو المؤسسات من كل نوع ونصير بل والمتنبيء بمظاهرات الطلبة الستينية، والمتضامن مع حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، المبدع النخبوي المثقف أكثر مما تحتمله السينما بالصورة المعهودة كما يقول بعض من نقاده ومنتقديه الكثيرين، المتفلسف والمتشعرن والمتأرخ والمتجغرف و المتسسلج (نسبة إلى السوسيولوجيا إن صحّت التخريجة) والمتأنثرج (نسبة إلي الأنثروبولوجيا إن حالف الصواب هذي أيضاً)، وغير المتواضع كثيراً في الغالب لكن غير المتغطرس عمداً، المخرج ذو الأفلام صعبة الفهم والهضم الذي يريد، مع ذلك، مخاطبة كافة الناس ، والذي يكنُّ أيما احتقار للثقافة الرأسمالية الإستهلاكية حيث سيمفونيات موزارت أعمال فنية رائعة لكنها تصبح بضائع تافهة حين تُسَوِّقها شركة سوني! كما يقول.. غودار هذا، إذاً، يحضرني دوماً في لحظة يبدو أن الزمن كان قد توقف فيها حين كان في أوائل الثلاثينات من عمره أو نحو ذلك.

لهذا كان الأمر ما يشبه الصدمة و اكتشافاً متأخراً للغاية بالنسبة لي حين أدركت في زحام الحياة ومشاغلها التي لا ترحم، وأبصرت بأم عيني لدي مشاهدة فيلمه الأخير موسيقانا (سويسرا، فرنسا، كانون الأول/ديسمبر 2004)، والذي يظهر فيه غودار ممثلاً دور نفسه كما هو الحال في بعض أفلامه، أن هذا المبدع الذي ارتبط في ذاكرتي بشباب وتجدد هائلين ودائمين قد أصبح الآن كهلاً أشيب الشعر في أجزاء الرأس التي لم يلحقها الصلع بعد، مهمل حلاقة الوجه ليس كالعادة ومُجَعَّدُه ومُخْدَودِهِ الآن، أنيق الملبس بلا تكلّف، حاد النظرات كما كان لكن غائرها الآن خلف نظاراته الطبية السميكة، مقتضب التعليقات لكن عميقها ومباغتُها كما كان، غير بَرِمٍ بالأسئلة الصعبة و الاستفزازات التي ربما كان من أشهرها ما صرخت به مخرجة فرنسية شابة في وجهه في لقام سينمائي عام في باريس قبل عقود: يا أيها السيد غودار، أنا لا أستطيع أن أكمل إنجاز فيلمي لسبب بسيط هو أنك وأمثالك تسيطرون علي السينما المستقلة في هذا البلد! ، وقد بلغ هذا الغودار في نفس اليوم الذي شاهدت فيه الفيلم بمحض الصدفة (الموضوعية؟)، الجمعة 3 كانون الأول/ديسمبر 2004، الرابعة والسبعين من العمر بالتمام والكمال!
تري، أهو الزمن الذي يمضي بلا هوادة، أم انه أنا من يعيش خارج الزمن (بالمعني الأكثر سلبية للاحتمال الثاني)، أم انه حضور غيابي وصدفوي ورمزي في حفل عيد ميلاد غودار الرابع والسبعين؟ لا أدري بالضبط، لكن ما أتذكره أن المخرج السينمائي السويدي المخضرم إنغمار بيرغمان بعث ببرقية تهنئة إلى أكيرا كوروساوا، زميله الياباني العتيد، بمناسبة بلوغ الثاني سن الثمانين، قائلاً في ختام البرقية: فلنبدأ الآن في صنع الأفلام يا عزيزي فقد أصبحنا ناضجين لذلك! . إذاً، ليمد الله من عمر غودار في أية حال، وليؤيده بالصحة والعافية والمزيد من الأحلام والأفلام!

بدايات غودار

قبل ان ينخرط غودار في الإخراج السينمائي ترحَّل بين سويسرا وفرنسا وأمريكا الشمالية والجنوبية (سيقول لاحقاً أن ليس هناك تعريف دقيق وواضح ومحدد لما تعنيه كلمة أمريكا، مما أغضب كثيراً من النقاد السينمائيين وغير السينمائيين الأمريكان)، عاكفاً علي كتابة مقالات نقدية في السينما لمجلتي فنون و دفاتر السينما الفرنسيتين الشهيرتين باسم مستعار هو هانس لوكاش. ومن هذه الأعمال مقالة شهيرة أسهم فيها غودار بإضاءة هامة حول الجدل العنيف الذي كان دائراً في ذلك الوقت في الأوساط السينمائية والفكرية بين أنصار نظرية المونتاج الماركسية التي كان الروسي سيرجي آيزنشتاين متحمساً لها فكراً وتطبيقاً (كتاباته المعروفة وفيلمه التشريعي الأشهر المدمِّرة بوتيمكين علي سبيل المثال)، من جهة، حيث كان هَمُّ آيزنشتاين محاولة بيان أن السينما لديها قدرة بصرية طبيعية علي إثبات صحة النسخة المبدئية (والتبسيطية، في الحقيقة) من الديالكتيك الهيغلي -- الماركسي، بمعني أن السينما، وعبر المونتاج، تستطيع أن تُري الجميع أن الفرضية + نقيض الفرضية = الجَمْيعَة ، ونظرية التركيب المشهدي (mise en scene) التي، من جهة أخري، رأي أندريه بازان، الذي كان حينها مفتوناً بتقنيات سينمائية أمريكية من قبيل التركيز العميق الذي تظهر فيه مناطق الكادر السينمائي الثلاث ـ الأمامية والمنتصف والخلفية ـ بنفس درجة الوضوح البصري (كما في فيلم أرسون ويلز المواطن كين علي سبيل المثال التشريعي الأشهر)، انها تشكل الحقيقة الأعمق للسينما ومستقبلها (ويحاجج بعض المنظِّرين السينمائيين اليوم ان الأمر كان انعكاساً لاواعياً لقناعات بازان الكاثوليكية العميقة خاصة في مراهنته علي تقنية اللقطة الكبيرة ذات التركيز العميق التي ابتدعتها السينما الأمريكية، والتي توازي فلسفياً وجمالياً الرؤية الإلهية النافذة والشاملة للكون والموجودات).
غير أن غودار، وفي الوقت المبكر ذاك، اعتبر أن كلا النظريتين المتصارعتين فيهما مبالغة، وانهما خِلْوٌ، في نهاية المطاف، من الاهتمامات الجمالية والأخلاقية الكبرى أو الأكبر (وثمة لغودار، في الحقيقة، مقولة شهيرة يبوح فيها بأن سؤال الاختيار بين لقطة بان ولقطة دالي في التصوير السينمائي يشكل بالنسبة له مأزقاً أخلاقياً صعباً، أي أن هذا السؤال ليس تقنياً أو جمالياً كما هو الحال عند غيره، وقد كان لذلك مغرماً بترديد مقولة لينين المتفائلة والشهيرة ان الأخلاق هي جماليات المستقبل)، وأن مجال المونتاج هو الزمان، بينما مجال التركيب المشهدي هو المكان. وأظن شخصياً أن الزمن قد تضامن إلي حد بعيد مع غودار في أطروحته تلك، حيث زال معظم التعنتات والتطرفات النظرية في أي فيلم نشاهده اليوم سواء كان الفيلم ذاك قادماً من أقصي اليمين أو أقصي اليسار أو من الوسط بألوان طيفه المتعددة، بل وحتى من غير ذلك من جهات أخري جديدة تنبثق في راهن العصر هذا، (وثمة، في الحقيقة، لقطة شهيرة في فيلم بيرغمان، غير المغرم كثيراً بالسجالات النظرية، الفراولة البريّة ، لا بد من تذكّرها في هذا السياق، حيث يجتمع زمانان -- زمان الشباب البعيد وزمان الكهولة الحاضر ـ في نفس الكادر فيما عُرِفَ لاحقاً بـ سينما اللقطة)، حيث أن كلا الرؤيتين ـ المونتاج والتركيب المشهدي، عنيتُ ـ صارتا تُوَظَّفان بالمقدار نفسه خاصة مع تطور التقنيات السينمائية، وبغض النظر عن الموقف الأيديولوجي للمخرج، خصوصاً مع انتهاء الحرب الباردة وزوال كثير من تبعياتها الثقافية التفصيلية الدقيقة.
كان غودار، اذاً، يقرأ بشغف (دراسته الجامعية التي كانت في مجال الأثنولوجيا الذي أتاح له التعرف علي الآخر خاصة لجهة تزامن ذلك مع بدايات صعود المدرسة البنيوية في الفكر الفرنسي) ويشاهد الأفلام في السينماتيك الفرنسية العتيدة بصورة مجنونة متعرفاً إلي فرانسوا تروفو، وأندريه بازان، وكلود شابرول، وإيريك رومر، وجاك ريفيتي الذين سيشكل معهم لاحقاً سينما الموجة الجديدة التي صار الناطق الرسمي بإسمها ورمزها الأشهر، والتي تركت بصماتها الواضحة علي مسيرة السينما العالمية. وفي الوقت نفسه كانت بلدان أخري في أوروبا الغربية (آنذاك) تضيء سينمائياً برموز مشاغبة كبيرة مثل راينر فيرنر فاسبندر في ألمانيا، وبيير باولو بازوليني في إيطاليا، مما خلق حالة من الحلم الجمعي لدي أولئك المخرجين حيث كان ثمة شبح يُخَيِّمُ علي أوروبا .
وأثناء عمله بصفته عامل بناء في أحد سدود الماء السويسرية، هو القادم ليس من صفوف العمّال بل من خلفية طبقة وسطي عليا مريحة (والده كان طبيباً مرموقاً لديه عيادة خاصة ووالدته التي ماتت في حادث سيارة كانت تعمل في وظيفة متقدمة في قطاع البنوك)، أنجز غودار فيلما وثائقياً مدته عشرون دقيقة عن بناء السد بعنوان عملية بوتون (1954)، ثم حقّق في السنة التالية فيلماً روائياً قصيراً مقتبساً من قصة قصيرة لجي دي موباسان، مواطنه الشهير الذي يعتبر من الآباء الروحيين لفن القصة القصيرة.
غير ان بداية غودار السينمائية الفعلية كانت فيلمه الروائي الطويل الأول لاهث (1959) الذي فاز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان برلين السينمائي، والذي صَعَقَ فيه عالم السينما بتكريس اثنتين من التقتنيات السينمائية الطليعية اللتين سيتذكره بهما تاريخ السينما إلي الأبد: القطع المفاجئ المشوِّش والمُرْبك بين الأزمنة والأمكنة (jump cut) (والذي قال مرة انه معادل تقني وجمالي لما يحدث في حياته!)، والاستعمال الخلاق للكاميرا المهزوزة المحمولة باليد. وهذه الرغبة التوثيقية سوف تصبغ سيرة غودار الروائية اللاحقة حيث سيصبح الخطأ القديم صواباً جديداً. وفي صدد مشابه يتعلق بنزعته التجريبية والتخريبية ثمة حوار شهيرة سُئِل فيه غودار: ألا تعتقد أن الفيلم السينمائي ينبغي أن يتكون من بداية، ومنتصف، ونهاية؟ فأجاب: نعم، أعتقد ذلك، لكن ليس بنفس الترتيب بالضرورة! .
وفي العام التالي، 1960، أنجز غودار فيلمه الثاني الجندي الضئيل الذي يعرض فيه لوحشية الحرب الفرنسية في الجزائر، والذي تأخرت إجازته في فرنسا لمدة عامين كاملين. وقد قامت الممثلة آنا كارينا بدور الشخصية النسائية الرئيسة في هذا الفيلم، كما قامت بأدوار رئيسة في عدد من أفلامه اللاحقة، مثل المرأة هي المرأة (1961) و حياتي التي سأحيا (1962)، وقد تكللت علاقة الإثنين بالزواج في 1961 ولكنهما تطلقا في 1964 (تكرر سيناريو غودار المهني والعاطفي نفسه في نهاية الستينيات مع الممثلة آني وايزمسكي: زمالة عمل، فحب، فزواج، فطلاق بعد سنوات قليلة من الاقتران).
وقد توالت أفلام غودار بغزارة بعد ذلك، فحقق الجنود (1963)، وهو فيلم مُعادٍ للحرب لكن برود أسلوبه صدم الجمهور والنقاد الذين كانوا يتوقعون اشتغالاً عاطفياً و درامياً أكثر علي الثيمة، ثم ازدراء (أو احتقار) المقتبس عن رواية للإيطالي ألبيرتو مورافيا (1963) والذي بدأ غودار فيه رحلته الطويلة والمتميزة في بحث علاقة السينما بالواقع علي الرغم من ان الفيلم، حسب الظاهر، يتمحور حول فشل علاقة زوجية، أي الثيمة التي تعرضت لها بإرهاق وملل شديدين أطنانٌ مُطَنَّنَة من الأفلام. هذا البحث الفكري كانت خطوته الثانية فيلم عصابة من اللامنتمين (1964) الذين يتحدَّون حدود العلاقات بين ما هو واقع وما هو متخيل، أي الموضوع الذي سيصبح قريبا ديدن غودار وشغله الشاغل، بينما كان فيلمه امرأة متزوجة (1964) نظرة عبوساً قمطريراً إلي مؤسسة الزواج والأسرة في المجتمع الفرنسي. وفي الفيلم هذا يرسم غودار خطين متوازيين بين اللامرئي في مؤسسة الزواج و اللامرئي في مؤسسة السينما، ولهذا يصبح الفضاء الواقع خارج الشاشة، أي الفضاء الذي لا نراه ولا نعرفه، مجال حدث لا يقل أهمية عما نري، خاصة في لقطة شهيرة تتجه فيها نظرات اثنتين من الشخصيات إلى المكان الواقع خارج الكادر السينمائي.
أما فيلم ألفافيل (1965) فقد كان مغامرة غودار الأولي في سينما الخيال العلمي، وهو فيلم يرسم في نبوءة صارمة صورة قاتمة للمجتمع التكنولوجي المعاصر. وحول جوانب أخري من الاغتراب السياسي والوجودي في عالم لا فرق يذكر فيه بين الواقع و الخيال يدور فيلم بيرو المجنون (1965) الذي يلجأ فيه غودار عامداً متعمداً، وبصورة تنكيلية للغاية، إلى تشويه لقطة الزاوية العريضة، الزاوية الأثيرة لدي السينما الكلاسيكية، كما يختتمه بطريقة شعرية يصعب نسيانها خاصة بالنسبة للمغرمين بالرموز الكبرى في تاريخ الشعر الفرنسي، حيث ترينا كاميرا غودار ترجمة بصرية لمقطع شهير من قصيدة لرامبو نسمعه في الخلفية بصوت بيرو (الذي صار ميِّتاً في وقت مشاهدة اللقطة): لقد وجدتها! الأبدية! إنها الشمس ممعنة في البحر . بيد أن ما يهمني هنا في سياق المادة هذي هو أن الفيلم هذا قد سجّل أول العلامات المباشرة لاهتمام غودار بالشأن الفلسطيني، وقد تأخرت إجازته في الولايات المتحدة إلي العام 1969، أي بعد أربع سنوات كاملة من انجازه.

مفهوم البحث السينمائي

وواحدة من انجازات غودار الكبرى هي نحته وتجذيره لمفهوم البحث السينمائي (film eay أو cineay) الذي لا بد أن تكون قد ألهمته إياه تقنيات المسرح البريختي خاصة فيما يتعلق بفكرة تأثير الإغتراب و خلق المسافة بين المشاهدين والعمل، بحيث أن أفلام غودار قد أخذت تتخفف باطراد من كل ما له علاقة بالحبكة الدرامية ذات البنية التقليدية، والقَص بالمعني المألوف للتعبير، وصارت أقرب إلي كونها بحوثاً أو دراسات أكاديمية بصرية، سياسية وفلسفية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية، علي الجمهور أن يتعامل معها ويتفاعل بالعقل والفكر لا بالعاطفة والوجدان. وتندرج في الإطار هذا أفلام مثل ذكوري أنثوي (1966) و صُنِعَ في الولايات المتحدة الأمريكية (1966) و شيئان أو ثلاثة أعرفها عنها (1967) و الصينية (1967)، الفيلم الذي تصوَّر، ويصوِّر، فيه غودار طلبة ثوريين في جامعة نانتير الفرنسية. وبعد عام واحد من انجاز الفيلم، تحققت نبوءة غودار السينمائية حيث كان الطلبة الحقيقيون في نفس الجامعة في طليعة الطلبة المشاركين في مظاهرات 1968 التي اجتاحت فرنسا ثم امتدت إلي معظم مناطق العالم. وإذا كان فيلم الصينية قد باح بميول ماويّة جديدة في هوي غودار الإيديولوجي ضمن السباق الدائر بين الإتحاد السوفيتي (عهد ذاك) والصين فيما يخص كسب الأفئدة والعقول (هناك في الفيلم لقطة شهيرة لإحدى المسلَّحات وهي قابعة خلف متراس مصنوع من نسخ من كتاب ماو الأحمر) فإن فيلمه ريح من الشرق (1969) قد أكد انجذابه هذا فيما قد يشير إلي فقدان أمله في الحضارة الغربية، حتى في جانبها البديل والرافض، واستلهامه للشرق الذي يمكن أن يكون موطن الروح وموطن الثورة معاً. غير أن ما يلفت انتباهي هنا أن غودار، علي عكس الكثير من زملائه المبدعين الغربيين الكبار، بمن فيهم بعض أقرانه في الموجة الجديدة ، تجنب الوقوع في الأفخاخ الاستشراقية (ولا شك أن بحثاً دعونا نطلق عليه مبدئياً عنوان غودار باعتباره معادياً للاستشراق يعتبر، خاصة بالنسبة للبحَّاثة الآسيويين والعرب، مادة خصبة للبحث غير المطروق حتى الآن علي حد علمي).
وفي 1968 أنجز غودار واحد زائد واحد ، وفي العام نفسه حقق أيضاً تحفته الإحتجاجية الكبرى عطلة نهاية الأسبوع الذي تضمن لقطة تَتَبِّع مدتها عشر دقائق كاملة هي الأطول من نوعها في تاريخ السينما، وهي أيضاً واحدة من أكثر اللقطات شراسة في هجومها علي حضارة الزيف والإستهلاك، وذلك في ثورة علي الاستخدام الواقعي لهذه اللقطة لدي فردريك مورنو صاحب نوسفيراتو وعلي الاستخدام الرومانسي لها لدي ماكس أوفولس مخرج رسالة من امرأة مجهولة الذي يعتبر أكثر أفلام فترته الأمريكية تقطيعاً للقلب، حيث لا شيء في لقطة غودار تلك سوي النار والدخان والموت والدمار والحطام والجنون في مجزرة مُتَبَطِّلة ولامبالية تقع علي طريق سريع (وهذا يختلف طبعاً عن كون الفيلم كاملاً مؤلفاً من لقطة واحدة كما في محاولات قديمة مثل فيلم هيتشكوك حبل ، ومحاولات جديدة مثل فيلم زاخاروف الأخير الفُلك الروسية ).
وعليّ القول هنا أن لقطة غودار التاريخية تلك حضرتني بقوة وألم لدي مشاهدتي لصور تلفزيونية وفوتوغرافية لما اصطلح علي تسميته بـ طريق الموت (Highway of Death) في نهاية حرب الخليج الثانية (حرب العراق والكويت)، وهي الصور التي تردد في بعض الدوائر انها أقنعت الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) بضرورة وقف العمليات الحربية الهجومية عند ذلك الحد. وفي غير العجالة هذي ينبغي التوقف فعلاً عند هذه النبوءة الغودارية في السياق العربي.

قول الحقيقة أربعاً وعشرين
مرة في الثانية

وبعد عطلة نهاية الأسبوع بدأ غودار مرحلة جديدة في مسيرته السينمائية تنكّر فيها تماماً للإلهام القليل الذي منحته إياه سينما العصابات الأمريكية التي أعجب بها في بداياته (في الحقيقة، سيشن غودار، في فيلمه في باريس الحب ، الذي أنجزه في 2001، هجوماً علي السينما الأمريكية ممثلة في شخص واحد من رموزها المعاصرين المُدَلّلين هو ستيفن سبيلبيرغ ـ الذي، بالمناسبة، تم تكريمه قبل مدة علي ظهر حاملة طائرات أمريكية ـ متهماً إياه باستغلال التاريخ الأوروبي وذلك علي اثر انجاز سبيلبيرغ لفيلمه قائمة شيليندر حول المحرقة اليهودية في الحرب العالمية الثانية، والذي يقول غودار أن سبيلبيرغ جني ملايين الدولارات منه في الوقت الذي لا يزال يعيش فيه شيلندر الحقيقي فقيراً ومهملاً في الأرجنتين).
غير أن غودار لم يتنكر للإلهام القليل الذي أعطته إياه السينما الأمريكية في بداياته (وحقاً، لا يمكن غض النظر عن شبه استعادات لأسلوب وبريكولاجات سينما العصابات الأمريكية في لاهث مثلاً) فحسب، بل وتنكر كذلك لأسلوبه التجريبي نفسه، فانخرط الآن في تحقيق ما أسماه أفلام ثورية لجمهور ثوري متأثراً في مسعاه الجديد هذا بالتجارب الجماعية المبكرة لبعض رموز السينما السوفيتية مثل دزيجا فيرتوف وأليكساندر ميديفكين، والثاني يكاد يكون مجهولاً علي الرغم من أهميته الشديدة في تاريخ السينما السوفييتية وذلك بسبب سخط آلهة سيئة الصيت الواقعية الإشتراكية وجهازها الستاليني/الجدانوفي الرهيب عليه، معلناً ـ أي غودار ـ ما صار يردده طلبة السينما اليافعون والمتحمسون في كل مكان من العالم تقريباً: إن مهمتي باعتباري مخرجاً سينمائياً هي قول الحقيقة أربعاً وعشرين مرة في الثانية (وهذا الرقم هو، طبعاً، عدد الفريمات التي تمضي في الكاميرا وآلة العرض في الثانية الواحدة أثناء التصوير أو العرض السينمائيين بالحركة الطبيعية).
ومع نهاية السبعينات بدأت مرحلة أخري في العطاء الاستثنائي لهذا المبدع الكبير، حيث استقر في مدينة رول السويسرية وبدأ في إخراج أفلام ذات طابع فلسفي وتأملي وشعري وإنساني لا يظهر فيها الهاجس السياسي ناتئاً علي السطح بل يعتمل في داخلها، ومن تلك الأفلام كل امرئ لنفسه (1980) و هيام (1982) و الاسم الأول: كارمن (1983) الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي و تحية لمريم (1985) الذي أدانته الكنيسة الكاثوليكية نظراً لأن غودار يعرض فيه لميلاد المسيح من وجهة نظر ذاتية و واقعية جداً. ولاحقا أنجز غودار أفلاماً أخري منها الملك لير (1988)، و حافظ علي حقك (1988) و الموجة الجديدة (1990) و ألمانيا 90 (1991) و يا ويلي! (1993) و جان لوك غودار: بورتريه ذاتي (1994) و موزارت إلي الأبد (1996).

القدس العربي- 2005/03/23


عمل إبداعي ضخم يتوج مسيرة مبدع سينمائي استثنائي

عمل إبداعي ضخم يتوج مسيرة مبدع سينمائي استثنائيموسيقانا : خلاصة التجربة
ليس موسيقانا ، إذاً، فيلما بحثياً، أو وثائقياً، أو شعرياً، أو تأملياً، أو فلسفياً، أو روائياً، حتى بالمعاني الغودارية الملتبسة التي كرّسها هذا المبدع الاستثنائي طوال نصف قرن من علاقته الشغوف بالسينما، بل هو عمل إبداعي ضخم يتجسد فيه كل ما سبق ذكره في الحلقة السابقة في تتويج ناضج لمسيرة غودار السينمائية والفكرية والسياسية، وفي استشرافاته القلقة لهذا القرن فيما يخص الصراعات الهائلة في العالم كله، وفي منطقتنا العربية علي وجه الخصوص، والتي تثبت كل المؤشرات الراهنة انها ستكون مجال حروب صغيرة وكبيرة، دموية وبشعة.
لكن موسيقانا ، في الوقت نفسه، وللمفارقة تقريباً، لعملٌ هادئ و رزين وليس صعب الفهم خاصة إذا ما أنت قارنته بـ بيرو المجنون أو عطلة نهاية الأسبوع مثلاً. غير ان الوجه الثاني للعملة هو ان الفيلم هذا لجريء وشجاع للغاية، علي صعيد آخر، فيما يخص ما صار علي التقنيات السينمائية الكلاسيكية والتجريبية أن تتعامل معه ببعض الهدوء و"الرزانة لصالح دم الإنسان الذي صنع ويصنع الفن والحياة والسينما وما بعد السينما، ولصالح الأطفال الذين صرنا، في مشهد يومي تقريباً، نري عظام رؤوسهم الصغيرة مخلوطة بما تبقي من آخر وجبة كانوا يتناولونها قبل أن تجيء الرصاصة أو القنبلة لتضع النهاية المبكرة.
لهذا، لا بد من أن يكبر المرء كثيرا في فيلم غودار هذا الاحتفاء بالشأن الفلسطيني في ردح صعب من الزمن يتخلي فيه ليس العالم فحسب، وليس العرب العاربة والمستعربة، والغاربة والمستغربة والقحطانيون والعدنانيون، فحسب، بل حتى بعض الفلسطينيين أنفسهم، عن فلسطين وأهلها وسردها المخنوق. ألم يقل غودار كما اقتبسته سابقاً، أن السؤال السينمائي التقني يشكل بالنسبة له معضلة أخلاقية؟

إذاً، ينزع موسيقانا نحو الهدوء الشكلي (بالمعايير الغودارية علي الأقل)، حتى مع وجود التقسيمات الدانتيّة للفيلم (التي سأتحدث عنها تالياً، والتي، بنائياً، تُذكَّر المرء إلى حد ما بـ دوائر فيلم بازوليني سالو)، واللمسات الغودارية المعروفة والمألوفة بحلول هذا الوقت. بل أن موسيقانا ربما كان أكثر أفلام غودار اقتراباً من البساطة والتيسير البنائيين طوال مسيرته السينمائية، وهذا لعمري مؤشر نضج وتمكن من الأداة التعبيرية وثقة بالنفس. لكن حتى في هذه البساطة يلجأ غودار إلي مثاقفة قاريّة عميقة حين يستعير عملاً شهيراً من التراث الأدبي الأوروبي الكلاسيكي هو جحيم دانتي الذي عاش مشرداً ومنفياً بين المدن الإيطالية في القرن الرابع عشر بسبب مواقفه السياسية. إذاً، يستعيد غودار عمل دانتي في كون فيلمه مؤلفاً من ثلاثة أجزاء بالترتيب: الجحيم، والأعراف (أو المطهر)، والجنَّة. وهذه الأجزاء هي ممالك دانتيّة مقتبسة من الجحيم الذي ينبغي أن تكون لنا معه، نحن العرب والمسلمين، علمانيين كنا أم غير علمانيين، مشاكل كبري علي صعيد النقد الثقافي والسياسي، وهي مشاكل أبرزها بكفاءة إدوارد سعيد في الإستشراق .
وفيما يخص الشأن الفلسطيني في موسيقانا ، في سياق الثقافة الفرنسية، لا بد، في الحقيقة، من استدعاء طيف جان جينيه (القديس الشهيد حسب وصف سارتر) الذي كان صارماً وواضحاً في حياته (الوقت الذي قضاه في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين) وفي كتابته ( عاشق أسير مثلاً) وذلك علي عكس الكثير من المثقفين الفرنسيين الراديكاليين و التقدميين و البديلين (أشكر هنا السينمائي العماني حاتم الطائي الذي كان يُصِرُّ بما يشبه الإسراف علي هذه النقطة الخاصة بجذرية موقف جينيه الاستثنائية أوروبيّاً من الشأن الفلسطيني وذلك في كثير من أحاديثنا قبل نحو من خمس عشرة سنة، وحتى قبل ظهور الترجمة الإنكليزية الكاملة لـ عاشق أسير ). بكلمات أخري، أحاول أن أقول هنا أن بعض المبدعين الغربيين قد تعاطفوا معنا لكن بـ شروط و ضوابط ؛ فعلي الصعيد السينمائي، مثلاً، لا يجد المرء كبير صعوبة في استدعاء فيلم قسطنطين كوستا غافراس حنّه ك المتعاطف بـ تحفظات مع المأساة الفلسطينية، هذا علي الرغم من أن كوستا غافراس، الأيقونة المبجلة باستحقاق وجدارة للسينما السياسية البديلة، لم تكن لديه أية ضوابط أو تحفظات حول الأسئلة الإنسانية والسياسية الجوهرية والملحّة فيما يخص أمريكا اللاتينية كما في فيلمه مفقود، أو تلك الخاصة بالحركة الشعبية في اليونان كما في فيلمه ز . لكن هذين الإثنين ــ جينيه و غودار، عنيتُ ـ ليست لديهما شروط وضوابط كثيرة في وصف حالتنا.
وليس في الأمر فَلْسَطَنَةً (نسبة إلي فلسطين) قسرية لغودار، فالرجل، في مثال فوق- نصي أخير، كان في طليعة ثلاثمئة مثقف ومفكر فرنسي، من ضمنهم تودوروف مثلاً، وقَّعوا جماعياً علي نص احتجاجي نشرته صحيفة ليبراسيون في عددها الصادر في 8 آذار (مارس) 2004 يدينون فيه قرار منع عرض فيلم الفلسطيني ميشيل خليفي وزميله القادم من الدولة العبرية إيال سيفان الطريق 181 الوثائقي المشترك الذي كان من المفروض أن يعرض لأكثر من مرة ضمن فعاليات مهرجان سينما الواقع في مركز بومبيدو لولا استجابة إدارة المهرجان المخجلة لضغوط يهودية عبّر عنها كثير من المثقفين والأكاديميين الفرنسيين في بيان نشروه في اللوموند متذرعين بالأسطوانة المشروخة والمضجرة والمبتذلة إياها، أي، كما حدستم بالضبط، معاداة السامية ، معتبرين ـ أي غودار وبقية المحتجين علي عدم عرض الفيلم - ان الأمر، في الحقيقة، يتصل برقابة لا تعلن عن هويتها.
لهذا وغيره علينا أن لا ندهش كثيراً أن هناك مؤشرات علي بداية حملة ضد غودار في الولايات المتحدة بتهمة العداء للسامية و العداء للأمريكانية خاصة بالنظر إلي ما يعتور علاقات فرنسا بالدولة العبرية والولايات المتحدة معاً في الفترة الأخيرة؛ فعلي سبيل المثال، كان كيفين توماس، الناقد السينمائي في صحيفة لوس أنجيليس تايمز ، ثاني أكبر الصحف الأمريكية اليومية، أكثر من غمّاز ولمّاز حين أشار إلى احتمال الإساءة لليهود في فيلم غودار الأخير وذلك في مراجعة عن موسيقانا نشرها في عدد الصحيفة الصادر يوم 3 كانون الأول (ديسمبر) 2004 (وطبعا، سيكون من نافل القول أن غودار تعرض ويتعرض إلى ما يشبه الشتائم المقذعة في عدد من المواقع الالكترونية السينمائية الأمريكية. نقرأ في أحد هذه المواقع، مثلاً، أن أي طالب سينما أمريكي في سنته الجامعية الثانية، لو كان قد أخرج موسيقانا ، فإنه سيكون محظوظاً لو حصل من أستاذه علي تقدير ناجح فقط! يا للسخاء).

الجحيم

ومدة موسيقانا ثمانون دقيقة، لكن كلاً من الجحيم و الجنّة لا يستغرقان أكثر من عشر دقائق لكل منهما، بينما يستغرق الجزء الرئيس من الفيلم، أي المنتصف المعنون بـ الأعراف (أو المطهر)، ساعة كاملة. ولعلنا نجد ما يفسر دوافع هذه القسمة الضيزى في ما قاله غودار في مقابلة صحفية أجريت معه أثناء انعقاد الدورة الفائتة لمهرجان كان السينمائي: الصحافيون يذهبون دوماً إلي الجحيم، والسوّاح يذهبون دوماً إلي الجنة، ونادراً ما يذهب أحد إلي الأعراف! حقاً! غوادر، إذاً، يحاول أن يلفت انتباهنا إلي الأعراف، تلك المنطقة الوسطي الرهيبة، التي يذهب إليها ويطيل فيها الوقت في موسيقانا فيما يمكن أن يكون شغفاً ودعوة إلي نوع من التطهر الذاتي والتأمل. حقاً، لماذا لم تستأثر الأعراف علي كبير اهتمام في تاريخ الفن والإبداع الإنسانيين؟
الصحافيون، إذاً، ومن هم من شاكلتهم، يذهبون دوماً إلي الجحيم، ولهذا فإن القسم الأول من الفيلم الجحيم لَقسمٌ صحافي بمعني كبير، حيث يتكون هذا القسم بالكامل من لقطات ومشاهد، بالحركة البطيئة غالباً، وصور بالأبيض والأسود وبالألوان لكثير من الحروب تم اقتباسها من النشرات السينمائية الإخبارية (التي كانت شائعة قبل عهد التلفزيون) ومن نشرات إخبارية تلفزيونية، وكذلك من أفلام سينمائية روائية مثل فيلم آيزنشتاين أليكسندر نيفسكي الذي يصور الحرب الروسية الألمانية في القرن الثالث عشر (والذي كان أحد بنود الاتفاق السري الذي وقّعه هتلر وستالين قبيل الحرب العالمية الثانية ينص علي الإيقاف الفوري لعرضه في روسيا)، و قَبِّليني بموتيَّة لروبرت ألدريتش، و قلعة الأباتشي لجون فورد.
والحقيقة أن غودار كان قد استعمل المشاهد الحربية التوثيقية في واحد من أفلامه المبكرة هو الجنود (و غودار، في أية حال، ليس فريداً في ذلك فيما يخص أعلام السينما الكبار - فلنتذكر المرآة لأندريه تاركوفسكي مثلاً، ولنتذكر كذلك، بدرجة أقل أهمية، المشاهد الوثائقية في فيلم ريتشارد أدنبره عن رمز الاستقلال الهندي، المهاتما غاندي، قبل أن يتحول الأمر إلي ما يشبه الموضة)؛ بيد ان لجوء غودار لتوثيق الحرب في موسيقانا موسع أكثر ليس لأنه أعلي في نغمته الإدانية والاحتجاجية، وليس لأن المشاهد التسجيلية مدمجة في السرد في الجنود بينما هي قائمة بحد ذاتها في موسيقانا مكونة بذلك مقداراً كبيراً من القسم الأول من الفيلم فحسب، ولكن كذلك لأن غودار يذهب في القسم هذا، ولو بصورة غير مباشرة، إلي الأحلام القديمة والمغدورة للسينما البديلة. ثمة هنا، مثلاً، نسخة غودارية من مفهوم الإنعكاسية الذاتية (self-reflexivity) تعيدنا إلي الشكلانيين الروس الذين أصروا علي إظهار أداة العمل عارية قبل وقت لا بأس به من ظهور بريخت علي خشبة المسرح الراديكالي؛ وهذا أمر سيطوره غودار، كما سيتضح، في القسم الثاني من الفيلم.
ومن تلك المشاهد الوثائقية في موسيقانا استعادات للحربين العالميتين الأولي والثانية، وكذا مشاهد ولقطات من أبرز حروب القرن العشرين كالحرب الفيتنامية والكورية وحروب المنطقة التي أجبرتنا ثقافة الإمبراطورية البريطانية أن نسميها زوراً وبهتاناً الشرق الأوسط (سقي الله هادي العلوي الذي كان يتحفظ علي المصطلح لأسباب فلكية قبل أن تكون سياسية!)، مع إظلامات كاملة للكادر بين بعض المشاهد، وذلك علي نحو أطول مما تتطلبه تقنية الإظلام التدريجي (fade to black). وحقاً، كم كان جي هوبرمان لامعاً حين وصف القسم الأول من موسيقانا بأنه استدعاء غوداري للوحة غرنيكا لبيكاسو. وهكذا فإننا هنا بصدد الإيماءات الغودارية إلى رؤيته للعلاقة بين السينما (أو الصورة) والتاريخ التي ستتضح أكثر في القسم الثاني (الروائي) من الفيلم. وفي السياق هذا لا أستبعد أن يقوم بعض النقاد السينمائيين السذَّج في القريب العاجل أو الآجل باتهام غودار بأنه يُجَمِّلُ الحرب خاصة لجهة تحويله بعض المشاهد الوثائقية في هذا القسم من الفيلم إلي ما يشبه الكولاجات وما يشبه اللوحات التشكيلية فائقة الألوان عبر تدخُّلٍ معمليٍّ ما بعد إنتاجي. عزائي المختصر هنا هو أن أحد مذيعي قناة السي ان ان الذي كان ينقل للعالم ما يحدث في بغداد في أولي ليالي حرب 1991، وقد رأت عيناه وكاميرته الغربية الجحيم الملوّن بكل ألوان طيف الموت والدمار الذي تصبّه المقاتلات الأمريكية علي المدينة والردود اليائسة للمدفعية العراقية المضادة للطائرات المنصوبة علي سطوح المباني، عبّر واعياً عن لاوعي جمالي قَتْليٍّ عميق حين فاض به الحماس فخرج عن الموضوعية و المهنية الإخباريتين وقال بصورة جهنمية ومتبجحة ووقحة فيها الكثير من الغطرسة الدينية: بغداد مضيئة مثل شجرة الكريسماس! .
ويأتي التعليق الشفهي علي القسم الأول من الفيلم بصوت طفلة في الخلفية يقول لنا مُفْتَتَحُهُ في عصر الخرافة، ظهر علي الأرض رجال مسلحون بغرض الإبادة (لكن، أهو حقاً عصر الخرافة أم العصر المعاصر الأشد سفكاً للدماء من حروب الخرافات والأساطير؟). وتنقل لنا الطفلة غير المرئية تأملات غودارية أخري (غودار هو كاتب سيناريو الفيلم) منها أن هناك طريقتين لفهم الموت، الأولي هي التعامل معه بوصفه استحالة الممكن، والثانية هي النظر إليه باعتباره إمكانية الإستحالة، ولذلك فإن الموت هو آخر ، وأن الكُتّاب لا يعلمون عَمَّ يتحدثون (أهم، لذلك، بالمناسبة، الشعراء في جمهورية أفلاطون وفي القرآن الكريم لاحقاً؟)، بينما لا يُحسِن رجال الفعل التعبير عن أنفسهم (ماو تسي تونغ مثالاً حسب غودار في موسيقانا ، بعد سبع وثلاثين سنة بالضبط من إنجاز الصينية الذي سبقت الإشارة إليه).
هكذا يرسخ غودار أسئلته الكبرى في القسم الأول من الفيلم الذي كاد يروق لي أن أراه باعتباره انبعاثاً سينمائياً لستيفن ديدلاس في خالدة جيمس جويس الروائية عوليس حيث يصرخ هذا أن التاريخ كابوس يحاول أن يفيق منه، وحيث هذا ما تراءي لي وأنا أشاهد القسم الأول من الفيلم. لكن التاريخ، في نهاية المطاف، ليس كابوساً قَدَريَّا، ميتافيزيقياً، أو معرفة بورخيسية (نسبة إلي بورخيس) نهائية موضوعة علي الرفوف في المكتبة التي احتفي بها الكاتب الكبير لأسباب وجيهة؛ بل ان التاريخ هو فعل، ومجال فعل، ومَشْكلَة، وإعادة إنتاج، وإعادة تفكير، وإعادة نقد، كما يري إدوارد سعيد.

الأعراف

هكذا، إذاً، ننتقل إلي القسم الثاني من الفيلم، الأعراف (أو المطهر). وهذا القسم من الفيلم تدور أحداثه في شتاء سراييفو (بعد الحرب) حيث يعقد مؤتمر أدبي مفترض يأتي إليه غودار مدعواً لإلقاء محاضرة لطلبة السينما بعنوان بارتيٍّ (نسبة إلي رولان بارت صاحب النص التشريعي في النظرية السينمائية الصورة، الموسيقي، النص) عنوانها الصورة والنص . وعنوان المحاضرة هذا التي تلقي في فيلم عنوانه موسيقانا مثير للإهتمام حقاً، حيث أن الفيلم ناطق بعدد كبير من اللغات هي الفرنسية والبرتغالية والإسبانية والعربية والعبرية والروسية والصرب- كرواتية. زِد إلي هذا أن جسر ستاري موست يحتل أهمية رمزية ومجازية كبري في الفيلم حيث ترينا إياه كاميرا غودار من زوايا متباينة وفي لحظات حاسمة، وحيث ينبعث الزمن والتاريخ أمامه. والجسر الصخري هذا كان قد بناه العثمانيون في سراييفو، وقد نجا الجسر بنفسه من مغبة الدمار في الحربين العالميتين، غير أن المدفعية الكرواتية دمرته خلال الحرب في 1993، ويجري الآن ترميمه في مشروع وطني ضخم يوشك علي الانتهاء إن لم يكن قد انتهي فعلاً. إذاً، أيتعلق الأمر بإعادة وبناء وترميم جسور بين البشر والثقافات عبر لغة رمزية وليست لسانية هي الموسيقي والصورة؟ ربما كان الأمر كذلك.
وإلي المؤتمر نفسه يأتي الكاتب الإسباني خوان غويتيسيلو الذي كان قد زار البوسنة ثلاث مرات خلال فترة الحرب وكتب عنها. وفي موسيقانا، في الحقيقة، يقود غويتيسيلو كاميرا غودار مرتين علي الأقل، ويردد مقولته الرافضة للحرب: حين تقتلُ إنساناً دفاعاً عن فكرة فإنك لا تدافع عن الفكرة بل تقتل إنساناً، كما يأتي الشاعر الفلسطيني محمود درويش. والشخصيات هذيــ المخرج السينمائي الفرنسي والكاتب الأسباني والشاعر الفلسطينيـ يقومون بتمثيل أدوار أنفسهم بأسمائهم الحقيقية وبلغاتهم الوطنية. لكن عليّ أن أشير هنا إلي أن النسخة الأمريكية من الفيلم كانت مقتضبة الترجمة إلي الإنكليزية، وغير أمينة أحياناً، لما يقوله غويتيسولو ودرويش بالإسبانية والعربية، وأتمنى أن تكون بقية النسخ أكثر حظاً فيما يخص هذا الشأن.
وإضافة إلي الشخصيات الحقيقية هاته، هناك شخصيات سينمائية تتعاضد روائياً مع التوثيق الغوداري، كالشابتين القادمتين من الدولة العبرية جوديث ليرنر وأولغا برودسكي. الأولي صحافية جاءت علي أمل أن تري في سراييفو مكاناً للأمل والصلح، وكذلك من اجل إجراء مقابلة مع السفير الفرنسي في البوسنة، والذي كان قد حمي وأجار في فيشي الفرنسية رجلا وامرأة يهوديين هما، في الحقيقة، جَدّ وجدة جوديث، ولكن السفير يتهرب من إجراء المقابلة. لماذا؟! ألانه صار يري أن الضحية قد تحولت إلي جلاد؟ أما أولغا فهي مخرجة سينمائية طليعية تقول لعمّها، وهو ابن شيوعي يهودي مصري من قبل 1948 ومترجم غودار في الفيلم، انها تفكر في انتحار ما احتجاجاً علي الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، وأن أصدقاءها في حيفا، حين ينامون، يحلمون بالفلسطينيين وليس بالإسرائيليين.

إلي هذا، يدور جزء لا بأس به من أحداث القسم الثاني من الفيلم في مكتبة سراييفو العامة التي بنيت في القرن التاسع عشر، والتي دمّرتها الحرب حيث لا تزال تشتعل فيها النيران في الفيلم الذي يقول فيه غودار في واحدة من دعاباته الكئيبة والعميقة، بالمناسبة، ان الثوريين يشعلون حروباً، بينما يقوم الإنسانيون ببناء مكتبات! وهناك أيضاً شخصية الكاتب الأبيض العجوز الذي لا اسم له ولا ينبس ببنت شفه طوال الفيلم، بل أنه هدف لغضب يصب جامه عليه ثلاثة من الأمريكيين الأصلانيين (ممن يعرفوا عموماً بـ الهنود الحمر في وصف دارج يتضامن، في الحقيقة المؤسفة، مع خطأ كولومبوس الذي كان قد ظن انه وصل إلى هِْند التوابل والبهارات). ومما تقوله هذه الشخصيات للكاتب الصامت فيما يشبه المحاكمة أن الرجل الأبيض لن يفهم الكلمات القديمة أبداً، وان كولومبوس لا يزال يشن حربه عليهم من القبر، وانه يمكن له أن يسميهم هنوداً حمراً ، وان أساطير أيامهم مدفونة في رماد؛ وفي هذه الأثناء نسمع صوت غويتيسيلو، مُواطِنُ كولومبوس، غير مترجم في الخلفية، وهذا مأزق للمشاهد الذي لا يحسن الإسبانية.

* * *

عندما يحرس الفردوس جنود مارينز أمريكيون مسلحون ببنادق رشاشة

عبدالله حبيب

طروادة وفلسطين: تناص
وفي مشهد لاحق نري الشخصيات الثلاث هذي واقفة أمام جسر ستاري موست. وهناك حوار بين كاتب فرنسي (هو شخصية سينمائية وليس كاتبا حقيقياً) والسفير الفرنسي المفترض في سراييفو، حيث يقول الأول انه قد ألف لتوّه كتاباً يتتبع فيه بعض المسائل الأدبية من هوميروس إلي فوكنر. ويُذَكِّرنا الكاتب الفرنسي هذا بواحدة من المعضلات التاريخية الأدبية الكبرى حين يذّر بعض الملح علي جرح حقيقة أن كاتب الإلياذة و الأوديسة كان ضريراً في الواقع، ولذلك فإن الكاتب الفرنسي (أي المثقف) هذا يقول لسفيره (أي السياسي) ان هوميروس إنما كان يكتب ما يقوله له الناس وما يسمعه منهم، فهو، ضمنيا ً، لم يكن مؤلّفاً لهذين العملين الذين ربما كانا، في الحقيقة، الأكثر خلوداً فيما يخص التراث الأدبي الإغريقي الكلاسيكي.
وإضافة إلي أن الحوار هذا يمهد الطريق للحوار مع محمود درويش، والذي يتسم بطابع طروادي صارخ، فإن غودار هنا إنما يدلي بدلوه في الموضوع الذي شغل الفكر الفرنسي الحديث كثيراً علي اثر تقديم جوليا كريستيفا مفهوم التناص ، وهذا يتساوق مع مجاز الجسر بين الثقافات والشعوب الذي يشيده غودار في الفيلم. (وبمناسبة الحديث عن الكتب والكتّاب في موسيقانا : إضافة إلي غويتيسولو ودرويش، وفوكنر وهوميروس، يحفل الفيلم بإشارات بصرية وشفهية إلي كتّاب مثل بلزاك، وكافكا في صورة له معلقة علي الحائط يقابلها في نفس الغرفة جهاز تلفزيون يُري شيئاً من أخبار محطة السي ان ان!، وحنّه آرندت، والفيلسوف اليهودي عمانويل ليفيانس الذي صار شأنه يتعاظم أخيراً في الفلسفة الغربية، والذي، في إحدى اللقطات، نُري أن أولغا مهتمة به حيث نراها تقرأ أحد كتبه).
وأولغا هي من يجري الحوار مع درويش الذي يظهر أول ما يظهر في لقطة مُظَلَّلَة (silhouee) ثابتة، مما يضاعف من رغبة المشاهد في التعرف إلي شخصه وهويته، خاصة وانه ينتمي إلي هوية وطنية مُظَلَّلَة (بالمعني المجازي وبين مزدوجين هذه المرة). وأثناء الحوار معه تقول له أولغا أنت تتحدث كيهودي! فيرد درويش: آمل ذلك، فهذا أمر حسن الصيت في هذه الأيام، لكن الحقيقة لها وجهان، وأننا استمعنا إلى الرواية الإغريقية أما أنا فأبحث عن شاعر طروادي لأن طروادة لم ترو حكايتها. ويتساءل درويش: هل الشعب أو البلد الذي لديه شعراء كبار يملك الحق في السيطرة علي شعب لا شعراء له؟ ويضيف استنكارياً في توسيع للحساسية التي كان قد عبّر عنها للتو: هل لشعب أن يكون قوياً دون أن يكتب شعراً؟ ثم يعبر عن رغبته في الكلام باسم الغائب، أي باسم شاعر طروادة، فالمشاعر الإنسانية تظهر أكثر في الهزيمة، وهناك شاعرية أعمق في الخسارة، وانه لو كان منتصراً لشارك في المظاهرات التي ينظّمها المهزومون. ثم يباغت درويش أولغا (في الفيلم) بسؤال يفاجئ به أيضاً المشاهد الغربي (للفيلم)، إذ أن الكاميرا عبر تقنية اللقطة واللقطة العكسية تضع المشاهدين في مكان أولغا (مزيد حول ذلك لاحقاً): هل تعلمين لماذا نحن الفلسطينيين مشهورون؟ ويجيب عن السؤال بنفسه: لأنكم أنتم أعداؤنا، والعالم كله معكم، فإسرائيل لها أنصار في كل مكان. ولهذا السبب تحديداً يكشف درويش عن مفارقة: ولكننا ـ نحن الفلسطينيين ـ محظوظون، فقد ألحقتم بنا الهزيمة، لكنكم منحتمونا الشهرة. وحين تسأله أولغا مبتسمة: أنحن وزارة دعايتكم السياسية؟! يجيب درويش بصورة حازمة وقاطعة: نعم! ويستمر درويش في إرباك محاوِرته وإرباك المُشاهد معلناً: أحمِلُ اللغة المُطيعةَ كالسَّحابة ، ومنهياً الحديث بإبراز واحدة من الأسلحة الفلسطينية المتبقية القليلة: شعب بلا شِعر هو شعبٌ مهزوم. وفي لحظات مفصلية من الحوار يقطع المونتاج بين وجه محمود درويش ووجه واحد من الأمريكيين الأصلانيين الثلاثة والذي يبدو مصغياً باهتمام واستحسان لحديث درويش (رغم انه لا يفقه لغته) كما لو أنه كان يستمع إليه وهو يلقي الخطبة الشعرية الشهيرة التي تقمص فيها الشاعر صوت ومأساة المواطن الأمريكي الأصلاني.
والحقيقة أن درويش كان قد عبّر أيضاً عن الوجدان الطروادي هذا في الفيلم الوثائقي محمود درويش: حيث الأرض هي اللغة الذي أخرجته سيمون بيتون (1998) حيث يقول: إنني أعتبر نفسي شاعرا طروادياً، أي ذلك الشاعر الذي لم نعثر ولم يعثر تاريخ الأدب الإنساني علي نصه. إنني أنتمي إلي طروادة ليس لأنني مهزوم، ولكن لأنني مهووس بكتابة النص الغائب. وقد كنت أتمني أن أكون منتصراً، بالمعني العام، لكي أختبر صدقية رغبتي في تقمص ضحية طروادة التي تستطيع أن تكتب سيرتها. ويقول أيضاً: لدي مشكلة أريد أن أعترف بها: أنا لم أعترف حتى الآن بأنني مهزوم. ربما زودني الوهم الإبداعي بأسلحة لا تجعلني أحدق في مدي تأثير الهزيمة السياسية والعسكرية علي المستوي الإبداعي. أو ربما إنني لا أريد ذلك. أو ربما ليس من الضروري أن تكون هناك هزيمة علي المستوي الإبداعي والشعري. والحقيقة أن القطع المونتاجي بين درويش وشخصية الأمريكي الأصلاني في موسيقانا يذكرنا بما قاله الشاعر الفلسطيني في فيلم سيمون بيتون الوثائقي: الأمريكي الأصلاني هو المحكمة المفتوحة دوماً لضمير الأبيض . وحقاً، كان الحوار الأحادي بين الأمريكان الأصلانيين والكاتب الصامت في مكتبة سراييفو شبيهاً بالمحاكمة التي، في الحقيقة، ليست هناك صعوبة كبيرة في إسقاطها علي الحالة الفلسطينية.

فلسطين غيابياً وحضورياً وفلسطينية درويش

ضمن أشياء أخري، ينبغي الإنتباه هنا إلي أنه في موسيقانا ، الذي يشكل السؤال الفلسطيني فيه جزءاً وليس كلاً ثيماتياً، تتحدث ألينا فلسطين عبر الكاميرا مباشرة من خلال شخصية غير سينمائية، بل عبر شخصية فلسطينية شعرية حقيقية (من دون تفضيل) قادمة من لحم ودم وعظم وكلمات التجربة الفلسطينية، بينما في فيلم كوستا غافراس حنه ك ، الذي سبقت الإشارة إليه، والذي ثيمته الكاملة هي السؤال الفلسطيني، تتحدث فلسطين ألينا نيابياً و غيابياً عبر شخصية المحامية الأمريكية التي تحتل عنوان الفيلم بالكامل لمجرد انها متعاطفة، لأسباب إنسانية أكثر منها سياسية، مع المأساة الفلسطينية، وكأن الفلسطينيين لا يستطيعون تمثيل أنفسهم. وشتّان، طبعاً، بين الحالين.
وسياقي للغاية أن أشير هنا إلي أنه، فيما يخص المراجعات التي كتبت عن موسيقانا في الصحافة الأمريكية، هناك إغفال عجيب للهوية السياسية والوطنية لمحمود درويش، إذ، مثلاً، يعرّفه كيفين توماس في مقال لوس أنجيليس تايمز الذي سبقت الإشارة إليه، وسكوت فوانداس، الناقد السينمائي في الصحيفة الأسبوعية لوس أنجيليس ويكلي في عدد الأخيرة للفترة من 3 إلي 9 كانون الأول (ديسمبر) 2004، بأنه ـ أي درويش ـ شاعر عربي . ومؤكد أن مؤلف سجِّل أنا عربي التي رددناها وغنيناها من الماء إلي الماء سيكون فخوراً بهذا النعت القومي (ضمن الحدود التي يتيحها الواقع علي الأقل!)؛ لكن، فيما يخص الاقتصاد السياسي لغايات الإقصاء علينا أن نتذكر إدوارد سعيد الذي أشار مبكراً إلي ان الإعلام الأمريكي يتجاهل فلسطينية الفلسطينيين ويجزي نفسه شر القتال والتاريخ بأن ينعتهم عرباً وذلك في تّبَنٍّ لموقف الليكود - من دون أن يعني هذا أن التجربة قد باحت بأن العمال أفضل بكثير -- حيث أعتاد شامير، مثلاً، علي وصف فلسطينيي الضفة والقطاع بأنهم غرباء أو أجانب مقيمون . لهذا يصير إلحاق محمود درويش بـ العروبة أكثر مما يُغفل فيه شأن فلسطينيته نوعاً من الإساءة المُضاعفة التي تتخذ في هذا الوقت بالذات طابعاً وموقفاً سياسياً صارخاً. وإلا لماذا يعرّف لنا الناقدان السينمائيان اللذان ذكرت ان خوان غويتسيلو (الناقم، في الحقيقة، علي إسبانيا) هو كاتب إسباني بدل أن يقولا لنا، ببساطة، أنه كاتب أوروبي خاصة وأن هذا هو زمن اليورو والسوق الأوروبية المشتركة والقارة الموحدة في مرحلة ما بعد انهيار جدار برلين، إلخ؟ لماذا يحق لغويتسيلو الاحتفاظ بمكان ولادته والانتساب إليه، بينما لا يحق ذلك لمحمود درويش؟
أما محاضرة غودار الروائية/التوثيقية عن الصورة والنص فيلقيها في منتصف الفيلم. وفي المحاضرة هذي يمسك غودار بصورة بالأبيض والأسود لمبان مدمرة ترينا إياها الكاميرا في لقطة مقربة جداً، طالباً من جمهوره أن يحزروا المدينة التي التقطت فيها الصورة، فتأتي من الجمهور إجابات جاهزة ومعلبة متأثرة بالتنميط الإعلامي من قبيل بيروت! ، سراييفو! ، غير أن غودار يصحح جمهوره قائلاً بهدوء: كلا، انها من ريتشموند، فرجينيا، في الولايات المتحدة وقد التقطت عام 1865 أثناء الحرب الأهلية الأمريكية (وطبعاً كان نصيب ريتشموند، فرجينيا حصة الأسد من عدد القتلى في الحرب تلك). بهذا لا يخلّص غوادر العنف من تهمة إلصاقه بشعوب وثقافات معينة صار العالم يردد بصورة ببغائية غبيّة انها حكر وخصيصة لتلك الثقافات فحسب، ولا يقول ان العنف مشكلة بشرية متأصلة فحسب، بل، في الحقيقة، يكشف عن العنف في الخلفية التاريخية والنفسية للولايات المتحدة التي صارت اليوم تقدم نفسها علي انها ملاك الطمأنينة والسلام من خلال عنف متطرف صارت تشنه عبر حروب عسكرية ودبلوماسية واقتصادية تشنها ذات اليمين وذات الشمال.

اللقطة واللقطة العكسية: سؤال السينما والتاريخ

وإذا كان مجنون ليلي الفرنسي، لوي أراغوان، الذي نعرفه نحن قراء العربية عبر قصائده التي كتبها عن محبوبته إلزا قد عرّف السينما في مقالة شهيرة بأنها غودار ، فإن هذا في موسيقانا يعرِّف السينما بطريقة مربكة ومركّبة وجديدة، حيث يقول، في محاضرته، أن المبدأ القواعدي الأساس للسينما هو تقنية اللقطة واللقطة العكسية (champ contre champ). ولإيضاح الأمر يرينا غودار إعادة انتاجين فوتوغرافيين للقطتين مأخوذتين من أحد أفلام هاوارد هوكس - لقطة ولقطة عكسية. لكن غودار لا يتوقف عند هذا الحد التقني بل يتجاوزه إلي سؤال أخلاقي سبقت الإشارة إلي موقف غودار منه وذلك حين يسقط مفهومه السينمائي هذا علي التاريخ، إذ يمسك صورة فوتوغرافية شهيرة لوصول اليهود إلي فلسطين عبر البحر في 1948، وبعدها يمسك بصورة أخري نري فيها خروج الفلسطينيين من فلسطين. هاتان الصورتان التقطتا في نفس اللحظة من التاريخ، وهذا يتصادى مع ما قاله درويش سابقاً في الفيلم من أن للحقيقة وجهين ، ذلك ان هاتين الصورتين، بالنسبة لغودار، لا تعنيان الشيء نفسه، حيث يقول معلقاً علي الصورة الأولي بأنها اللقطة (أو، فلنقل، درويشياً، أحد وجهي الحقيقة) حيث وصل اليهود عبر البحر إلي أرض فلسطين، بينما يري غودار ان الصورة الثانية هي اللقطة العكسية (أو، فلنقل، درويشياً أيضاً، الوجه الثاني للحقيقة)، أي خروج الفلسطينيين من أرض فلسطين. هذه هي السينما، وهذا هو التاريخ، حيث يصير المنتصرون مادة للسينما الروائية، بينما يصبح المنهزمون مادة للسينما الوثائقية كما يقول غودار. أتذكر هنا ما كان يقوله ادوارد سعيد بأنه حتى الآن ليس هناك فيلم روائي كبير واحد عن المسألة الفلسطينية (فلنقل، علي شاكلة أوكسيدوس أو الظل العملاق ). وأود أن أضيف، في هذا السياق، انه حين يتعلق الأمر بالسينما الوثائقية، فحدّث ولا حرج عن الوفرة.
وفي انتقال إلي موضوع آخر أثناء إلقاء المحاضرة، يسأل أحد الطلبة غودار عما إذا كان يعتقد أن كاميرا الفيديو الرقمية في وسعها أن تخدم السينما. هنا، تركز الكاميرا السينمائية (35 ملم) التي تلتقط المشهد علي وجه غودار في لقطة مقربة لدقيقة كاملة، بطيئة وثقيلة لا يجيب فيها غودار عن السؤال إلا بالصمت قبل أن تنتهي اللقطة. لكن علينا أن نفهم سكوت غودار بأنه علامة موافقة ليس فقط لأن هناك مشاهد عدة في الفيلم ملتقطة بكاميرا الفيديو الرقمية، بل كذلك لأن غودار كان قد تحمس كثيراً في السبعينات لتقنية الفيديو ومحتملها الديمقراطي في إنهاء نخبوية السينما الإنتاجية والعرْضية، وهو حماس شاركه فيه كثير من مخرجي العالم الثالث الكبار وعلي رأسهم السنغالي جبريل ديوب مامبيتي. وللأمانة، استطراداً، إن كان هذا الرأي قد شكّل معضلة جمالية وفلسفية للكثيرين في الثمانينات، فإن الأمر لم يعد ـ أو لا ينبغي أن يكون ـ كذلك الآن بسبب من تقدم التقنيات وزوال الحواجز الذين لم يعودا يتيحان للحنين ما هو أكثر من وقوف سريع علي الأطلال (وعنوان أحد الأنثولوجيات الهامة التي يتم تداولها وتدريسها الآن في الأكاديميا الغربية الناطقة بالإنكليزية مؤشر علي هذا: نهاية السينما بالصورة التي عرفناها بها ).
وبعد انتهاء المؤتمر يعود الجميع من حيث أتوا بمن فيهم غودار الذي يتلقي، في نهاية القسم الثاني من الفيلم، مكالمة هاتفية تقول له، وتقول لنا نحن المشاهدين في نفس الوقت، أن أولغا، التي كانت قد أجرت الحوار مع محمود درويش، قد قامت بعملية في القدس (والعمليات الإنتحارية، أو الاستشهادية، يقوم بها الفلسطينيون عادة!)، حيث أن أولغا احتجزت رهائن في دار سينما (لماذا دار سينما تحديداً بدلاً من حافلة أو مقهى أو سوق خضار يا غودار؟!)، وسألت جمهور مواطنيها ان كان فيهم من هو مستعد للموت معها من أجل السلام (ومحتجزو الرهائن لا يتركون خيارات كثيرة لأسراهم عادة!) فانسحب أفراد الجمهور جميعاً، حيث يبدو ان ليس فيهم شخص واحد متحمس للسلام، وتركوها وحيدة تماماً وهدفاً سهلاً للقتل من قِبل فريق الاقتحام. لكن اتضح بعد قتلها ان حقيبتها كانت مليئة بالكتب وليس المتفجرات!
هكذا، إذاً، ينتهي القسم الثاني ويبدأ القسم الثالث والأخير من موسيقانا ، أي الجنّة، حيث نري أن أولغا قد وصلت الآن إلي الجنة بعد أن قتلت (استشهدت؟). لكن الفردوس هذا لا يحرسه القديس بيتر كما في المقولة المسيحية القديمة، بل هو نعيم مقسّم إلي أجزاء ومقاطعات مسيجة يحرسها جنود المارينز الأمريكان المسلحون بمدافع رشاشة!
ولا أظن أن الأمر يحتاج إلي أي تعليق!
شاعر وسينمائي من عُمان

* * *

عندما يحرس الفردوس جنود مارينز أمريكيون مسلحون ببنادق رشاشة

عبدالله حبيب

طروادة وفلسطين: تناص
وفي مشهد لاحق نري الشخصيات الثلاث هذي واقفة أمام جسر ستاري موست. وهناك حوار بين كاتب فرنسي (هو شخصية سينمائية وليس كاتبا حقيقياً) والسفير الفرنسي المفترض في سراييفو، حيث يقول الأول انه قد ألف لتوّه كتاباً يتتبع فيه بعض المسائل الأدبية من هوميروس إلي فوكنر. ويُذَكِّرنا الكاتب الفرنسي هذا بواحدة من المعضلات التاريخية الأدبية الكبرى حين يذّر بعض الملح علي جرح حقيقة أن كاتب الإلياذة و الأوديسة كان ضريراً في الواقع، ولذلك فإن الكاتب الفرنسي (أي المثقف) هذا يقول لسفيره (أي السياسي) ان هوميروس إنما كان يكتب ما يقوله له الناس وما يسمعه منهم، فهو، ضمنيا ً، لم يكن مؤلّفاً لهذين العملين الذين ربما كانا، في الحقيقة، الأكثر خلوداً فيما يخص التراث الأدبي الإغريقي الكلاسيكي.
وإضافة إلي أن الحوار هذا يمهد الطريق للحوار مع محمود درويش، والذي يتسم بطابع طروادي صارخ، فإن غودار هنا إنما يدلي بدلوه في الموضوع الذي شغل الفكر الفرنسي الحديث كثيراً علي اثر تقديم جوليا كريستيفا مفهوم التناص ، وهذا يتساوق مع مجاز الجسر بين الثقافات والشعوب الذي يشيده غودار في الفيلم. (وبمناسبة الحديث عن الكتب والكتّاب في موسيقانا : إضافة إلي غويتيسولو ودرويش، وفوكنر وهوميروس، يحفل الفيلم بإشارات بصرية وشفهية إلي كتّاب مثل بلزاك، وكافكا في صورة له معلقة علي الحائط يقابلها في نفس الغرفة جهاز تلفزيون يُري شيئاً من أخبار محطة السي ان ان!، وحنّه آرندت، والفيلسوف اليهودي عمانويل ليفيانس الذي صار شأنه يتعاظم أخيراً في الفلسفة الغربية، والذي، في إحدى اللقطات، نُري أن أولغا مهتمة به حيث نراها تقرأ أحد كتبه).
وأولغا هي من يجري الحوار مع درويش الذي يظهر أول ما يظهر في لقطة مُظَلَّلَة (silhouee) ثابتة، مما يضاعف من رغبة المشاهد في التعرف إلي شخصه وهويته، خاصة وانه ينتمي إلي هوية وطنية مُظَلَّلَة (بالمعني المجازي وبين مزدوجين هذه المرة). وأثناء الحوار معه تقول له أولغا أنت تتحدث كيهودي! فيرد درويش: آمل ذلك، فهذا أمر حسن الصيت في هذه الأيام، لكن الحقيقة لها وجهان، وأننا استمعنا إلى الرواية الإغريقية أما أنا فأبحث عن شاعر طروادي لأن طروادة لم ترو حكايتها. ويتساءل درويش: هل الشعب أو البلد الذي لديه شعراء كبار يملك الحق في السيطرة علي شعب لا شعراء له؟ ويضيف استنكارياً في توسيع للحساسية التي كان قد عبّر عنها للتو: هل لشعب أن يكون قوياً دون أن يكتب شعراً؟ ثم يعبر عن رغبته في الكلام باسم الغائب، أي باسم شاعر طروادة، فالمشاعر الإنسانية تظهر أكثر في الهزيمة، وهناك شاعرية أعمق في الخسارة، وانه لو كان منتصراً لشارك في المظاهرات التي ينظّمها المهزومون. ثم يباغت درويش أولغا (في الفيلم) بسؤال يفاجئ به أيضاً المشاهد الغربي (للفيلم)، إذ أن الكاميرا عبر تقنية اللقطة واللقطة العكسية تضع المشاهدين في مكان أولغا (مزيد حول ذلك لاحقاً): هل تعلمين لماذا نحن الفلسطينيين مشهورون؟ ويجيب عن السؤال بنفسه: لأنكم أنتم أعداؤنا، والعالم كله معكم، فإسرائيل لها أنصار في كل مكان. ولهذا السبب تحديداً يكشف درويش عن مفارقة: ولكننا ـ نحن الفلسطينيين ـ محظوظون، فقد ألحقتم بنا الهزيمة، لكنكم منحتمونا الشهرة. وحين تسأله أولغا مبتسمة: أنحن وزارة دعايتكم السياسية؟! يجيب درويش بصورة حازمة وقاطعة: نعم! ويستمر درويش في إرباك محاوِرته وإرباك المُشاهد معلناً: أحمِلُ اللغة المُطيعةَ كالسَّحابة ، ومنهياً الحديث بإبراز واحدة من الأسلحة الفلسطينية المتبقية القليلة: شعب بلا شِعر هو شعبٌ مهزوم. وفي لحظات مفصلية من الحوار يقطع المونتاج بين وجه محمود درويش ووجه واحد من الأمريكيين الأصلانيين الثلاثة والذي يبدو مصغياً باهتمام واستحسان لحديث درويش (رغم انه لا يفقه لغته) كما لو أنه كان يستمع إليه وهو يلقي الخطبة الشعرية الشهيرة التي تقمص فيها الشاعر صوت ومأساة المواطن الأمريكي الأصلاني.
والحقيقة أن درويش كان قد عبّر أيضاً عن الوجدان الطروادي هذا في الفيلم الوثائقي محمود درويش: حيث الأرض هي اللغة الذي أخرجته سيمون بيتون (1998) حيث يقول: إنني أعتبر نفسي شاعرا طروادياً، أي ذلك الشاعر الذي لم نعثر ولم يعثر تاريخ الأدب الإنساني علي نصه. إنني أنتمي إلي طروادة ليس لأنني مهزوم، ولكن لأنني مهووس بكتابة النص الغائب. وقد كنت أتمني أن أكون منتصراً، بالمعني العام، لكي أختبر صدقية رغبتي في تقمص ضحية طروادة التي تستطيع أن تكتب سيرتها. ويقول أيضاً: لدي مشكلة أريد أن أعترف بها: أنا لم أعترف حتى الآن بأنني مهزوم. ربما زودني الوهم الإبداعي بأسلحة لا تجعلني أحدق في مدي تأثير الهزيمة السياسية والعسكرية علي المستوي الإبداعي. أو ربما إنني لا أريد ذلك. أو ربما ليس من الضروري أن تكون هناك هزيمة علي المستوي الإبداعي والشعري. والحقيقة أن القطع المونتاجي بين درويش وشخصية الأمريكي الأصلاني في موسيقانا يذكرنا بما قاله الشاعر الفلسطيني في فيلم سيمون بيتون الوثائقي: الأمريكي الأصلاني هو المحكمة المفتوحة دوماً لضمير الأبيض . وحقاً، كان الحوار الأحادي بين الأمريكان الأصلانيين والكاتب الصامت في مكتبة سراييفو شبيهاً بالمحاكمة التي، في الحقيقة، ليست هناك صعوبة كبيرة في إسقاطها علي الحالة الفلسطينية.

فلسطين غيابياً وحضورياً وفلسطينية درويش

ضمن أشياء أخري، ينبغي الإنتباه هنا إلي أنه في موسيقانا ، الذي يشكل السؤال الفلسطيني فيه جزءاً وليس كلاً ثيماتياً، تتحدث ألينا فلسطين عبر الكاميرا مباشرة من خلال شخصية غير سينمائية، بل عبر شخصية فلسطينية شعرية حقيقية (من دون تفضيل) قادمة من لحم ودم وعظم وكلمات التجربة الفلسطينية، بينما في فيلم كوستا غافراس حنه ك ، الذي سبقت الإشارة إليه، والذي ثيمته الكاملة هي السؤال الفلسطيني، تتحدث فلسطين ألينا نيابياً و غيابياً عبر شخصية المحامية الأمريكية التي تحتل عنوان الفيلم بالكامل لمجرد انها متعاطفة، لأسباب إنسانية أكثر منها سياسية، مع المأساة الفلسطينية، وكأن الفلسطينيين لا يستطيعون تمثيل أنفسهم. وشتّان، طبعاً، بين الحالين.
وسياقي للغاية أن أشير هنا إلي أنه، فيما يخص المراجعات التي كتبت عن موسيقانا في الصحافة الأمريكية، هناك إغفال عجيب للهوية السياسية والوطنية لمحمود درويش، إذ، مثلاً، يعرّفه كيفين توماس في مقال لوس أنجيليس تايمز الذي سبقت الإشارة إليه، وسكوت فوانداس، الناقد السينمائي في الصحيفة الأسبوعية لوس أنجيليس ويكلي في عدد الأخيرة للفترة من 3 إلي 9 كانون الأول (ديسمبر) 2004، بأنه ـ أي درويش ـ شاعر عربي . ومؤكد أن مؤلف سجِّل أنا عربي التي رددناها وغنيناها من الماء إلي الماء سيكون فخوراً بهذا النعت القومي (ضمن الحدود التي يتيحها الواقع علي الأقل!)؛ لكن، فيما يخص الاقتصاد السياسي لغايات الإقصاء علينا أن نتذكر إدوارد سعيد الذي أشار مبكراً إلي ان الإعلام الأمريكي يتجاهل فلسطينية الفلسطينيين ويجزي نفسه شر القتال والتاريخ بأن ينعتهم عرباً وذلك في تّبَنٍّ لموقف الليكود - من دون أن يعني هذا أن التجربة قد باحت بأن العمال أفضل بكثير -- حيث أعتاد شامير، مثلاً، علي وصف فلسطينيي الضفة والقطاع بأنهم غرباء أو أجانب مقيمون . لهذا يصير إلحاق محمود درويش بـ العروبة أكثر مما يُغفل فيه شأن فلسطينيته نوعاً من الإساءة المُضاعفة التي تتخذ في هذا الوقت بالذات طابعاً وموقفاً سياسياً صارخاً. وإلا لماذا يعرّف لنا الناقدان السينمائيان اللذان ذكرت ان خوان غويتسيلو (الناقم، في الحقيقة، علي إسبانيا) هو كاتب إسباني بدل أن يقولا لنا، ببساطة، أنه كاتب أوروبي خاصة وأن هذا هو زمن اليورو والسوق الأوروبية المشتركة والقارة الموحدة في مرحلة ما بعد انهيار جدار برلين، إلخ؟ لماذا يحق لغويتسيلو الاحتفاظ بمكان ولادته والانتساب إليه، بينما لا يحق ذلك لمحمود درويش؟
أما محاضرة غودار الروائية/التوثيقية عن الصورة والنص فيلقيها في منتصف الفيلم. وفي المحاضرة هذي يمسك غودار بصورة بالأبيض والأسود لمبان مدمرة ترينا إياها الكاميرا في لقطة مقربة جداً، طالباً من جمهوره أن يحزروا المدينة التي التقطت فيها الصورة، فتأتي من الجمهور إجابات جاهزة ومعلبة متأثرة بالتنميط الإعلامي من قبيل بيروت! ، سراييفو! ، غير أن غودار يصحح جمهوره قائلاً بهدوء: كلا، انها من ريتشموند، فرجينيا، في الولايات المتحدة وقد التقطت عام 1865 أثناء الحرب الأهلية الأمريكية (وطبعاً كان نصيب ريتشموند، فرجينيا حصة الأسد من عدد القتلى في الحرب تلك). بهذا لا يخلّص غوادر العنف من تهمة إلصاقه بشعوب وثقافات معينة صار العالم يردد بصورة ببغائية غبيّة انها حكر وخصيصة لتلك الثقافات فحسب، ولا يقول ان العنف مشكلة بشرية متأصلة فحسب، بل، في الحقيقة، يكشف عن العنف في الخلفية التاريخية والنفسية للولايات المتحدة التي صارت اليوم تقدم نفسها علي انها ملاك الطمأنينة والسلام من خلال عنف متطرف صارت تشنه عبر حروب عسكرية ودبلوماسية واقتصادية تشنها ذات اليمين وذات الشمال.

اللقطة واللقطة العكسية: سؤال السينما والتاريخ

وإذا كان مجنون ليلي الفرنسي، لوي أراغوان، الذي نعرفه نحن قراء العربية عبر قصائده التي كتبها عن محبوبته إلزا قد عرّف السينما في مقالة شهيرة بأنها غودار ، فإن هذا في موسيقانا يعرِّف السينما بطريقة مربكة ومركّبة وجديدة، حيث يقول، في محاضرته، أن المبدأ القواعدي الأساس للسينما هو تقنية اللقطة واللقطة العكسية (champ contre champ). ولإيضاح الأمر يرينا غودار إعادة انتاجين فوتوغرافيين للقطتين مأخوذتين من أحد أفلام هاوارد هوكس - لقطة ولقطة عكسية. لكن غودار لا يتوقف عند هذا الحد التقني بل يتجاوزه إلي سؤال أخلاقي سبقت الإشارة إلي موقف غودار منه وذلك حين يسقط مفهومه السينمائي هذا علي التاريخ، إذ يمسك صورة فوتوغرافية شهيرة لوصول اليهود إلي فلسطين عبر البحر في 1948، وبعدها يمسك بصورة أخري نري فيها خروج الفلسطينيين من فلسطين. هاتان الصورتان التقطتا في نفس اللحظة من التاريخ، وهذا يتصادى مع ما قاله درويش سابقاً في الفيلم من أن للحقيقة وجهين ، ذلك ان هاتين الصورتين، بالنسبة لغودار، لا تعنيان الشيء نفسه، حيث يقول معلقاً علي الصورة الأولي بأنها اللقطة (أو، فلنقل، درويشياً، أحد وجهي الحقيقة) حيث وصل اليهود عبر البحر إلي أرض فلسطين، بينما يري غودار ان الصورة الثانية هي اللقطة العكسية (أو، فلنقل، درويشياً أيضاً، الوجه الثاني للحقيقة)، أي خروج الفلسطينيين من أرض فلسطين. هذه هي السينما، وهذا هو التاريخ، حيث يصير المنتصرون مادة للسينما الروائية، بينما يصبح المنهزمون مادة للسينما الوثائقية كما يقول غودار. أتذكر هنا ما كان يقوله ادوارد سعيد بأنه حتى الآن ليس هناك فيلم روائي كبير واحد عن المسألة الفلسطينية (فلنقل، علي شاكلة أوكسيدوس أو الظل العملاق ). وأود أن أضيف، في هذا السياق، انه حين يتعلق الأمر بالسينما الوثائقية، فحدّث ولا حرج عن الوفرة.
وفي انتقال إلي موضوع آخر أثناء إلقاء المحاضرة، يسأل أحد الطلبة غودار عما إذا كان يعتقد أن كاميرا الفيديو الرقمية في وسعها أن تخدم السينما. هنا، تركز الكاميرا السينمائية (35 ملم) التي تلتقط المشهد علي وجه غودار في لقطة مقربة لدقيقة كاملة، بطيئة وثقيلة لا يجيب فيها غودار عن السؤال إلا بالصمت قبل أن تنتهي اللقطة. لكن علينا أن نفهم سكوت غودار بأنه علامة موافقة ليس فقط لأن هناك مشاهد عدة في الفيلم ملتقطة بكاميرا الفيديو الرقمية، بل كذلك لأن غودار كان قد تحمس كثيراً في السبعينات لتقنية الفيديو ومحتملها الديمقراطي في إنهاء نخبوية السينما الإنتاجية والعرْضية، وهو حماس شاركه فيه كثير من مخرجي العالم الثالث الكبار وعلي رأسهم السنغالي جبريل ديوب مامبيتي. وللأمانة، استطراداً، إن كان هذا الرأي قد شكّل معضلة جمالية وفلسفية للكثيرين في الثمانينات، فإن الأمر لم يعد ـ أو لا ينبغي أن يكون ـ كذلك الآن بسبب من تقدم التقنيات وزوال الحواجز الذين لم يعودا يتيحان للحنين ما هو أكثر من وقوف سريع علي الأطلال (وعنوان أحد الأنثولوجيات الهامة التي يتم تداولها وتدريسها الآن في الأكاديميا الغربية الناطقة بالإنكليزية مؤشر علي هذا: نهاية السينما بالصورة التي عرفناها بها ).
وبعد انتهاء المؤتمر يعود الجميع من حيث أتوا بمن فيهم غودار الذي يتلقي، في نهاية القسم الثاني من الفيلم، مكالمة هاتفية تقول له، وتقول لنا نحن المشاهدين في نفس الوقت، أن أولغا، التي كانت قد أجرت الحوار مع محمود درويش، قد قامت بعملية في القدس (والعمليات الإنتحارية، أو الاستشهادية، يقوم بها الفلسطينيون عادة!)، حيث أن أولغا احتجزت رهائن في دار سينما (لماذا دار سينما تحديداً بدلاً من حافلة أو مقهى أو سوق خضار يا غودار؟!)، وسألت جمهور مواطنيها ان كان فيهم من هو مستعد للموت معها من أجل السلام (ومحتجزو الرهائن لا يتركون خيارات كثيرة لأسراهم عادة!) فانسحب أفراد الجمهور جميعاً، حيث يبدو ان ليس فيهم شخص واحد متحمس للسلام، وتركوها وحيدة تماماً وهدفاً سهلاً للقتل من قِبل فريق الاقتحام. لكن اتضح بعد قتلها ان حقيبتها كانت مليئة بالكتب وليس المتفجرات!
هكذا، إذاً، ينتهي القسم الثاني ويبدأ القسم الثالث والأخير من موسيقانا ، أي الجنّة، حيث نري أن أولغا قد وصلت الآن إلي الجنة بعد أن قتلت (استشهدت؟). لكن الفردوس هذا لا يحرسه القديس بيتر كما في المقولة المسيحية القديمة، بل هو نعيم مقسّم إلي أجزاء ومقاطعات مسيجة يحرسها جنود المارينز الأمريكان المسلحون بمدافع رشاشة!
ولا أظن أن الأمر يحتاج إلي أي تعليق!
شاعر وسينمائي من عُمان

القدس العربي
2005/03/24