إسكندر حبش
(لبنان)

(بيسوا بريشة الانكليزي ألدوس إيفلينغ (مواليد 1951)تعيد منشورات الفرنسية، إصدار ترجمة جديدة لقصيدة الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا (ألفارو دو كامبوش) (القرصان) (O piario)، وهي قصيدة تقف على مفترق في تجربة بيسوا لأسباب عدة، أهمها علاقتها بلحظة ولادة أسمائه المتعددة أو بدلائه. حول هذه القصيدة، المقالة التالية.
ثمة تاريخ فاصل يعرفه، تقريبا، كلّ الذين أصابهم شغف فرناندو بيسوا: 8 آذار (مارس) 1914، ذلك اليوم الذي ترك فيه الشاعر، (ومن إناء الحبر والآلة الكاتبة)، تنبثق الحمم الثلاثية ل(تكتله غير الموجود)، أي (لبدلائه) الأساسيين: ألبرتو كايرو، ألفارو دو كامبوش، ريكاردو رييش. حين كان في السادسة والعشرين من عمره، كان الكاتب يشعر ب (تمزق) ما، بين عدد من أشكال الانحطاط الفني والنداء غير العقلاني لروح جديدة، منادية بالمستقبلية، التي عاد وأطلق عليها أسماء واضحة كمثل (الحسويّة) و(التقاطعية). ثمة شذرات أخرى عادت لتلحق بذلك، من بينها شذرات ألبرتو مورا حامل لواء (الباغانية) (الوثنية) الجديدة، وهو الشخص المعزول، السابق لتزارا، كما شذرات كويليو باتشيكو، كذلك نجد هذا (النصف بديل) أو هذه (الشخصية الأدبية) التي عادت لتصبح التجسد الآسر لبيسوا: برناردو شواريش.
كان أول نص لألفارو دو كامبوش الذي انبثق من بين السندان هو (النشيد الظافر) (ثمة ترجمة له بالعربية قام بها الشاعر المغربي المهدي أخريف ونشرت في كتابه (مختارات من شعر فرناندو بيسوا) الصادر عن (المجلس الأعلى للثقافة) في القاهرة) وقد حمل في طيّاته تلك الدمغة المدويّة لتجديد ما: بدلا من أن يرن فيه السقم (الفرليني) (نسبة إلى الشاعر الفرنسي بول فيرلين)، كانت تفوح منه ضجة الآلات والاقدامات التعبيرية لما قبل السوريالية: ((إن البرلمان جميل أيضا مثل فراشة)) كما نجد فيه تلك النبرة (الوغدة) للحشود ذوي النبضات المريبة. بعد هذه المرحلة بفترة طويلة نسبيا، جاءت (الأناشيد) غير المكتملة التي فاحت منها لهجة (نوفاليس) الليلية. من هنا جاء (النشيد البحري) وهو ذلك التآلف السيمفوني الذي تأرجح بين الهذيانات الأكثر فرويدية وبين طمأنينة القلب الهادئ. كذلك هناك رائعته (دكان التبغ) الذي افتتح بها عصر العبث، والمزاج الحزين المليء بوجودية محنية على مرآتها النرجسية لنشعر فيه بثنيات أولى التجاعيد. شيئا فشيئا، وكلّما تقدم به العمر، كانت تستولي على ألفارو دو كامبوش تلك النوستالجيا العائدة لمراهقته الأوروبية والمدينية، يعرض تذبذباته (الاعتلالية)، يملّ من أرقه، بينما يخلي الحنان مكانه للثورة الكلامية التي استعارها من التحريضات (الويتمانية) (نسبة إلى والت ويتمان) التي عرفها في شبابه.
إزاء ذلك، ثمة سؤال يطرح نفسه، لماذا وبسرعة وبعد أن كتب (النشيد الظافر) في 8 آذار من العام 1914 عاد وأرّخه في شهر حزيران يونيو (إذ كان يرغب في طباعته). لم يعط بيسوا تاريخ 1914 ( ومن دون ان يذكر اليوم) إلا، في السنة التالية، لقصيدة صغيرة، أقل دينامية بعنوان (القرصان) (o piario)، تجاورت مع (النشيد الظافر). من هنا وجدنا، ان تاريخي تأليف القصيدتين قد قلبا بشكل طوعي، بعد ان حملا التوقيع ذاته في العدد الأول من مجلة orpheu، وهي المجلة التي وعبر عددين فقط صدرا في العام 1915 أحدثت زلزالا في برتغال الآداب والفنون: كانت بمثابة ثورة ضد السأم والامتثالية والروح الأكاديمية، كانت صدمة مدمرة لكل تنوع أشكال الرمزية المتلاشية.

هناك مقطع من رسالة كتبها بيسوا في 4 آذار من العام 1915 إلى صديقه أرماندو كورتيش رودريغش، قد تصلح جوابا على السؤال السابق، أقتطع منها بعض الإيضاحات... (بعد نصوص ألماندا نيغريروش، هناك قصيدتان لابني الفارو دو كامبوش... إحداها قصيدة (النشيد الظافر) ( نشيد الآلات والحضارة الحديثة التي سبق لها ان عرفتها). أما الأخرى، فهي قصيدة سابقة (لاحقة في واقع الأمر) للشخص نفسه. سأشرح لك الأمر في ما بعد هذا الموضوع بالتقصي، أطلب منك أن تحتفظ بالسر المطلق حول ذلك كلّه ...)

ابني ومعلمي

أين كلمة السرّ؟ لقد أطلق على ألفارو تسمية (ابني) وعلى ألبرتو كايرو تسمية (معلمي). من هنا، هل كان بيسوا يتوجس من تأثيرات نزاعية لهذين الشخصين حول القصيدة هذه: (أفيون على متن مركب)؟ بالرغم من الحس الفطري ل(التوسطية)، إلا انه، قليلا ما كان يستسلم لذلك، إذ بقي محبطا لكن من دون أن يخفي مودته المجزأة ما بين مختلف البدلاء المختارين: (وضعت مفهوما عميقا للحياة، متنوعا بينكم أنتم الثلاثة، لكنه فيكم كلّكم مصغ بانتباه إلى أهمية الوجود الغامضة).

قد يكون من العبث ان نبحث في عدة أسطر، عن إبانة اعتراف بيسوا، في رسالته الشهيرة الى أدولفو كاسيه مونتيرو حول عملية خلق ثالوث 8 آذار (مارس): (إبان نشر (مجلة) (أورفيوس)، توجب عليّ، في آخر دقيقة، أن أجد صيغة لإخراج الصفحات. اقترحت عند ذاك على سا كارنييرو أن أضع قصيدة (قديمة) لألفارو دو كامبوش قبل أن يكون قد تعرّف على ألبرتو كايرو وقبل أن يكون تعرّض لتأثيره. هكذا كتبت O piario) ( حيث حاولت فيها أن أظهر كل ميول ألفارو دو كامبوش الكامنة، مثلما كان عليها أن تتبدى في ما بعد، لكن من دون أن يكون لها، حتى ذلك الوقت، أي اتصال مع معلمي كايرو. من بين كل القصائد التي كتبتها أجد أن هذه القصيدة، هي وحدها، من أشعرني أكثر بالألم، في الواقع، من جراء هذا المجهود المزدوج لعملية إزالة الذاتية التي كان عليّ إظهارها. لكن، وفي نهاية الأمر، أعتقد أنني نجحت في ذلك، وقد أنجب ذلك، ألفارو (برعما).
كل شيء كان إذاً مموسقا ممنهجا. ما من أثر لأي (أورفية) تظهر في هذا الاعتراف: فبعد أكثر من نصف قرن على ذلك، نرى في ذلك، المسيرة القاسية لحاسوب مبرمج وفق أدق المعلوماتية.

ليس للشخص المدمن على الأفيون في هذه القصيدة (التعليمية) أي اسم محدد وبشكل أدق كان لا يزال شابا لكيّ نتوقع ما سيصبح عليه، إذ ينسى المرء أحيانا أن مستقبلا ينتظره. عند خروجه من فترة المراهقة، كان ينقصه هذا الحس بالشفقة، التي ميزت في ما بعد في مرحلة نضجه الانسانوي توماس دو كوينسي. وحين كتب مثلما يتحدث رجل جاء من الحقول، نغرم بالتكرار، ومن دون أي ميتافيزيقا إلا الوضوح، كان باستطاعته أن يترك انطباعا بأنه على قرابة من ألبرتو كايرو (رسول) الشكوكية (1) مع هذا الاختلاف الجوهري بأن لا الأشجار ولا الزهور ولا الخضار تلفت انتباهه، إذ ان هذه الألفاظ لا تثير أي انفعال فوق باخرة حديدية. هل أن المسافر كان يؤمن (بالزن)؟ ليس هذا أمرا لا يمكن تصوره: ان الوظيفة الطبيعية للعين هي أن ترى من غير أن تقابل نفسها، إنها تملك تجرد المرآة في حين أن ألفارو دو كامبوش الناضج سيصبح لعبة مرايا خاصة به وحده. فهو هنا، البدائي، يدخن لا أكثر و لا أقل. إذ أن يكون المرء موجودا، ليس سوى أمر موجود في العاديات، في (التافه): هذا هو مبدأ الزن.

هند الوهم

لم يسافر كايرو ولا مرة واحدة. في حين أن ألفارو قام بذلك كثيرا، لكن في فترة لاحقة. لذلك ومع (مرور الساعات)، نجده يعدد أسماء المحطات، المالديف، دار السلام، نوسي بيه... انه هنا يركز انتباهه على الهند، أنها (هند) غير واقعية، حيث لم يجد أي شيء أساسي. كمسافر، كان يجد ألما في رحلته، كسائح، كان يجد ألما أكبر... ليس هو من كان باستطاعته التعجب: هناك عدد قليل من الناس كي يحبوا الطبيعة غير الموجودة! كان شخصا حلميا، لا شك بذلك، لكن من دون ملامح أو تقاطيع: يحلم بأنه يحلم، ومن دون أن يعرف بماذا أبدا. ثمة ميل سابق للارتجال السوريالي كان يجعله يتطلع الى حياة (من لكّ (2) ودانتيلا) وإلى طوف من (ورود بلا سيقان) لا ينبذها (أمازون الغورمون). ها هو يتأرجح إذاً ما بين (نهاية العصر) و(الحداثة).
لا نعرف الشيء الكثير عن هذا (البديل)، المدعو كويليو باتشيكو، الذي وقع باسمه قصيدة واحدة: (باتجاه ما بعد المحيط). انه رائد وبشير الكتابة الآلية وهذه (الكلمات الحرّة)، التي عاد واستعملها بإسراف بعد عدة سنوات، كلّ من أندريه بروتون وفيليب سوبو. كان أليفا أكثر مع نوبية (? اشتداد المرض) ألفارو دو كامبوش حيث السادية والجنائزية يعيشان بوئام. عند مدمن الأفيون هذا، لا بدّ أن نسجل هذا الخجل من السيف الذي ساهم في قطع رأس يوحنا المعمدان كما سقوط نعش في الهوّة عند اصطفاق باب أرضي. كان سعيدا بأن يكون هذا الطبع المعتم قد استرده عبر تواضع ذاك الذي يعتبر نفسه (كسولا)، (نفاجأ ((قليلا)، ذا ميل كوسموبوليتي وذا (هوس إنكليزي) عائد لتلك الحقبة التي كانت تلطفه وتجعله أكثر انسانوية.
كانت (الجنسانية)، (وأستعملها هنا بالمعنى الفوكوي، من فوكو)، سمة قليلة الظهور عند بيسوا، بالرغم من (أنطينوش) و(إيبيتالام) وبالرغم من بعض المقاطع الكثيرة السادية والمازوخية في (النشيد البحري)، لكنها غير متأتية من الأعماق، كانت غريبة عن عوالمه: لم تبلغ مبلغا. لم يكن ينقص ذلك مزاج سهل. يدغدغه نوع من الرغبة التوجيهية في عالم النشر إذ يتباهى بأنه قام بدراسات تقنية. رجل عالم متكامل، يسخر بتكتم من أولئك الذين شهد النهار بينهم، وإن كان لا يزال محتفظا ببعض مسحات هذه السخرية التي عرفها في غلاسكو أكثر مما عرفها في دوربان. بالرغم من المخدرات، كان منفتحا على العالم، وقد تأتى ذلك من التجربة كما من صور وإيقاع يبدوان أنهما فرنسيان أكثر من كونهما برتغاليين أو إنكليزيين، لأن عنده (داندية) بودليرية وميل للكآبة مثلما وجدناه عند لافورغ كذلك بعض الأجزاء الصغيرة من أرواحه المتعددة كما كان الأمر عند أرشيبالد أولسون، هذا الهاوي الإنكليزي. ربما قد يخطر على بالنا (لوفيه) إلا أن هاوي (البطاقات البريدية) هذا كان يتساءل بشكل أقل عن (إكزوتيكيته) التي كانت بدورها (إكزوتيكية) أكثر مرحا عند (توليه). إن التواضع الجنوبي هو الذي يمسنا أكثر هنا: (الأرض هي نفسها في كل مكان، صغيرة جدا...).
لو لم تكتب هذه القصيدة، هل كانت ستشكل نقصا في عمارة بيسوا؟ إنها قصيدة مدروسة، مدبّرة، تقع في قليل من التكرار وحتى الاستعادات، إلا أنها تذكر بقراءات أخرى. وكأنها صورة عن هذه الذاكرة البرتغالية (النمطيّة، إذا جاز التعبير) التي تشبه نبتة (الحبق) هذه التي ساعدت الإمبراطورة تيودورا على إعادة إيجاد قبر السيد المسيح.

هوامش:

  1. مذهب الشك أو الارتياب في مبادئ الدين الأساسية كالخلود والوحي.
  2. عصارة راتنجية صمغية حمراء تفرزها بعض الأشجار وتصبغ بها الجلود و نحوها.

السفير-2005/12/09