فيصل درّاج
(فلسطين)

محمود درويشثلاث صفات تميز محمود درويش عن غيره: أعار صوته الشعري إلى شعبه، أو استعار شعبه صوته الشعري، إلى أن دخل مع القضية الفلسطينية إلى قران لا انفكاك منه. خلق لقصيدته جمهوراً عربياً حاشداً، كما لو كان الشعر العربي الراهن قد اختصر إلى قصيدته أو يكاد. ظفر باعتراف عالمي أمده بمكانة له لا تحتاج إلى برهان. كان في هذه الصفات الثلاث شاعر القضية التي التزم بها، والشاعر الذي صيّر القضية إلى مجاز شعري، يتجاوز المكان ويمحو الحدود الجغرافية ويتحاور مع قارئ متعدد اللغات. وإذا كان لكل حديث مناسبة فما هي المناسبة التي تستدعي هذا الكلام؟
ظهر أخيرا كتاب أكاديمي الهيئة عنوانه: "التوراتيات في شعر محمود درويش" (من المقاومة إلى التسوية) لاحمد أشقر، كتب له مقدمة ضافية بشار إبراهيم. أراد الكتاب، كما تكشف مقدمته، أن ينجز أهدافا ثلاثة، يختلط فيها الفني بالوطني والفني - الوطني بالإعلان عن الحقيقة: يقصد الهدف الأول إلى تحرير جمهور درويش الشعري من خديعة كبرى تملكته طويلاً، وحان الوقت لتخليصه من براثنها، فهذا الجمهور لا يزال يساوي بين فلسطين وقصيدة الشاعر من دون أن يدرك، لأسباب يجب شرحها، أن درويش خذل قضيته منذ زمن طويل، وان قوله الشعري يرزح تحت ركام من الأقنعة الثقيلة. لا يقصّر الهدف الثاني في خطره عن الهدف الأول، فقد اخذ على عاتقه أنصاف الشعراء الفلسطينيين من غبن فاحش جرّه عليهم الطغيان الدرويشي، الذي وضع داخله حقه الذاتي وحقوق غيره من الشعراء جميعاً. بعد تحرير طرف من الخديعة وتحرير آخر من غبن لا يجوز، يأتي الهدف الثالث الذي يقف على كتفيه الهدفان السابقان وهو: النفاذ إلى قصيدة تشكو من الوهن والاعتلال، فليست الأمور في ظواهرها والمظاهر خادعة، والولوج إلى حقيقة شاعر مفتون بالتراث اليهودي قبل غيره، فليس الالتزام بفلسطين إلا خدعة تحجب نقائض الحقائق الفلسطينية. هكذا يتمفصل الفني والإيديولوجي كما يقول النقّاد، منتهياً، أي التمفصل، إلى مشنقة فقيرة المتاع، تعقبها ارض صخرية شائكة لا تسمح بالقبور.
بيد أن الهاجس العلمي - الوطني يتداعى، منذ البداية، محترقاً بغضبه الملتهب، فهو يصفع المقدمات صفعاً موجعاً، مكتفياً بالنتائج المزمع نشرها، لأنه ينقل النتائج من موقعها المتعارف، نظرياً، عليه إلى الغلاف الخارجي الذي يقول، ما شاءت له الكراهية أن يقول، دفعة واحدة. فعلى الغلاف الأنيق الثلاثي الألوان تقع العين على كاريكاتور الفنان الفلسطيني الكبير الراحل: ناجي العلي، الذي وضع رسماً ذات مرة يقول فيه: "محمود خيبتنا الأخيرة" فإن ارتفع النظر قليلاً وجد العنوان وتحته بالخط الأحمر "من المقاومة إلى التسوية"، إعلانا عن قراءة أخرى تؤسس الخيبة الشعرية على الخيبة السياسية، وتؤسس الخيبتين على حقيقة صاخبة لن تتأخر في الوصول. لكن ذلك لا يكفي، فعلى يسار الغلاف كتابة بالعبرية، أو ما هو قريب منها، تخبر القارئ انه أمام شاعر غير عربي، وإن كان فصيح البيان باللغة العربية. ينسج اللون والكتابة والكاريكاتور لوحة تأخذ بيد القارئ إلى محكمة تفتيش صارمة، تردي الشاعر قتيلاً بالجملة الأولى. هكذا تمحو الكراهية النزيهة متعة المفاجأة، مستبقية نثاراً من الفضول تشبعه المقدمة إلى تخوم البشم. فالمقدمة تقرر من بين الأمور التي تقررها قرارين كبيرين، يمس احدهما منظور الشاعر إلى العالم ويقبض الثاني على ضعفه الأخلاقي. يقول الأول: أن الشاعر يرى إلى "التوراة بصفتها مصدراً للتاريخ، لا أخيولة أدبية فقط، ليمضي في مسيرة الحلول المتبادلة على الأرض ذاتها، في شتات متبادل أيضا، قدري ربما، لا فكاك منه إلا بإرادة (يهوه)...". لا تحجب كلمة اخيولة، وهي جميلة الاشتقاق، أطياف ذلك اليهودي الأصلي، أي درويش، الذي لا يشتق موقفه السياسي من تحولات سياسية، مرفوضة أو مقبولة، بل يشتقها من تراث يهودي هو مصدر إلهامه ومرجعه في القصيدة وخارجها. أما القرار الثاني فيشير إلى الشاعر المخادع، الذي يخدع جمهوره بفطنة دؤوب، فإن آنس خطر الفضيحة سارع إلى إضافة قناع إلى قناع، أو هرع إلى رتق عيب أخذ يتلامح للعيان: "وكلما ظهرت فجوة، كان درويش يسارع إلى ترميمها، سواء بما يكتبه نثراً، أو من خلال ما يدلي به من تصريحات مباشرة...".
انه المخادع الفطن، الذي ينصب شباك الإثم بدراية كبرى، موهماً جموع المغفلين بفلسطينيته، بينما هو، أمام عين النقد المبصرة، شاعر يهودي تنكّر بزي فلسطيني يجيد العربية، ويجيد مع العربية مهارات أشد خطراً.

ولكن ما هي الأطروحات الكبرى التي يبني عليها الكتاب أهدافه الثلاثة الكبرى؟ تأتي الأطروحة الأولى من جهة منظمة التحرير التي عملت، منذ طور ولادتها، على إنتاج رموز ثقافية لامعة، تقايض الولاء بلين العيش، وتبادل نشر الأضاليل بالحماية الوثيرة. كان درويش هو هذا الرمز المستجلب، الذي بحثت عنه المنظمة طويلاً، وأقنعته بالخروج من فلسطين وأمّنت له ما شاء من الطرق والوصول. تجيء الأطروحة الثانية من جهة شاعر ذلول رخو القوام، يبيع وجهه قبل أن يبيع كلماته، كي يبيع لاحقاً مواقف سياسية يهودية الأغراض. كأن الشاعر، كما يشير الكتاب، يشتري من المنظمة المتطامنة بضاعة لا يحتاج إليها، طالما انه ينصاع إلى "يهوه"، الذي يقف فوق الجميع ويلقنهم الكلام. ولأن الأسنان لا تكتمل إلا بالشفتين، وهنا الأطروحة الثالثة، يكون على الشاعر أن يخلق قصيدة مراوغة تخدم منظمة التحرير، التي لا علاقة لها بالتحرير، وتخدم القضية - الأصل، التي ترى في "التوراة" مصدراً للتاريخ ومهداً لـ "الاخيولة الأدبية". هكذا يظهر عارياً معنى لجوء درويش الكثيف إلى الرموز التوراتية، التي تشعل النار بالرموز الكنعانية، ومعنى ذهابه المستمر إلى نصوص الأديان السماوية التي عليها أن تحتكم، لزوماً، إلى نص - أصل هو: التوراة. خطاب نقدي طريف، يطرد مقولات التورية والمجاز والصورة الشعرية ودلالة الإيقاع، مكتفياً بكلمات أخرى هي: التآمر، الخديعة، الاتهام، الكذب، القصاص وصولاً إلى الوعد والوعيد. خطاب غريب يذكر برواية عباس محمود العقاد المتداعية "سارة"، التي كف بعدها عن الكتابة وذهب إلى إسلامياته. الأطروحة الأخيرة طبعاً هي: منظمة التحرير، التي تتجلى نبتاً شيطانياً قوامه المؤامرة، لا بنية سياسية شرعية، تعبّر عن الشعب الفلسطيني، في شكل أو آخر. تدور العلاقات جميعاً في قصدية واعية متكاملة لا تنقصها "الابلسة"، إذ المنظمة تصنع الشاعر الذي تشاء، وإذ الشاعر يصنع الجمهور الذي يشاء، وإذ وراء الشاعر وجمهوره قوة واضحة - غامضة، تقمع العقول وتعمي الإبصار وتروّج القصائد الفاسدة.

يحرّض الكتاب، الذي يقمع الفضول الرصين من الصفحة الأولى، على أسئلة يثيرها الفضول النقدي: يرتبط السؤال الأول بعنوان الكتاب "من المقاومة إلى التسوية"، الذي يجعل من القصيدة موقفاً سياسياً ومن الموقف السياسي قصيدة أخرى. كأن الموقف الواضح في القول السياسي يساوي القول المكشوف في قصيدة شفافة لا عتمة فيها ولا التباس, الأمر الذي يعني، نقدياً، أن درويش شاعر قصيدة رديئة ماسخة الرموز. والسؤال هو: أن كانت القصيدة واهنة رديئة، فما الذي يفسر انتشارها الواسع؟ وهل رداءة الشعر هي معيار شهرته؟ يمس السؤال الثاني الفارق بين الأنا الكاتبة التي لا تستطيع، نظرياً، السيطرة الكلية على ما تكتبه، والأنا الشفهية التي تراصف الكلام الذي تريد. لماذا تساوي الأنا الإبداعية عند درويش أناه الشفهية، خلافاً لما تقول به المبادئ النظرية؟ الجواب ربما لدى الرب "يهوه"، الذي أعطى درويش "ظهراً قوياً"، جعل الايدولوجيا العامة عنده تساوي الايدولوجيا الأدبية الصادرة عن قصيدته، خلافاً لأحوال الشعراء الآخرين. سؤال ثالث لا علاقة له بـ "النبات الشيطاني"، بل له علاقة بالإبداع والمسؤولية الإبداعية: أليس من النباهة الكبرى أن يتعرف محمود درويش على موروث عدوه الديني والأدبي وان يدرج هذا الموروث في شعره، كي يوسع أفق قصيدته الفني، من ناحية، ويحسن التوجه إلى العدو الذي ينازع أرضه، من ناحية ثانية؟ يمكن أن يصاغ السؤال في شكل آخر اعتماداً على موروث نظري عريض، يمتد من غرامشي إلى التوسير وصولاً إلى بورديو، يقول: تشكل الرأسمالية علاقة داخلية واسعة في كل خطاب نظري معاد لها، طالما أن في جوهر الرأسمالية ما يفرز هذا العداء ويحض عليه. فلا يستطيع المقهور أن يصوغ خطاباً فاعلاً إذا رمى بقاهره خارج مرمى البصر.

لم يشأ درويش، الذي يتقن العبرية، أن يطمئن إلى نعمة الكسل، فأضاف إلى الموروث العربي والإسلامي والمسيحي والتنويري موروثاً يهودياً، عارفاً بأن خصب القصيدة يأتي من تعددية العناصر التي تصوغها، وبأن هوية ثقافية أحادية العنصر تنهزم أمام خصمها قبل أن تنازله. سؤال آخر ذو علاقة بانتقال درويش من مقولة العدو إلى مقولة الخصم فمقولة الإنسان: لا وجود لأدب حقيقي، شعراً كان أو رواية، لا يتوجه إلى الإنسان من حيث هو، مدافعاً، في شكل ضمني أو صريح، عن القيم الإنسانية العليا، التي تفضح عنصرية المستبدين وهوسهم بمراتب الأجناس البشرية. كلمة أخيرة عن خطاب إيديولوجي - سياسي فلسطيني مرغوب، قوامه المفترض ما يأتي: لا يجوز لطرف ضعيف أن يخوض صراعه بأدوات عدوه وطرقه، ذلك انه عليه أن يميّز حقه بمعايير وقيم وأساليب لا يأخذ بها عدوه.

لا تدور الكلمات السابقة حول النقد والاختلاف، ولا تكترث بتقديس البشر ولا تقبل به. فمن حق كل إنسان أن يتفق مع محمود درويش أو أن يختلف معه. والأمر كله في الفارق بين النقد والهجاء، أو بين النقد والإعدام، ذلك أن أسلوب النقد يقترن بمبادئ الأخلاق قبل التعاريف النقدية المدرسية، وهي ملقاة على قارعة الطريق على أية حال. وواقع الأمر أن كتاب "التوراتيات في شعر محمود درويش" اختزل محمود درويش مرتين: مرة أولى من الشاعر إلى السياسي وحكم عليه بالخيانة والإعدام، ومرة ثانية من الشاعر - السياسي إلى منظمة التحرير، وألقى بالطرفين إلى كهوف "يهوه" الغامضة. والاختزال في شكليه لا يجوز، ذلك أن إبداع درويش الشعري جدير بدراسة أخرى، مثلما أن منظمة التحرير خليقة بمقاربة مغايرة. فليس محمود مجاز المنظمة، وليست المنظمة مجازاً شعرياً بسيط الحروف. هناك دائماً سطوة البداهة، العادلة على رغم استبدادها، والتي تأمر باحترام المبدع الذي تعارف الناس على احترام إبداعه.
يقول محمود درويش في حوار معه: "يوجد جمهور في داخلي، وأنا بدوري جمهور. وللحقيقة وجوهها المتعددة. وحتى خصوم الحقيقة لهم الحق في أن يعبروا عن أنفسهم، فأنا لست ملكاً على الحقيقة، والتناقضات الداخلية هي بدورها أثر للتناقضات الخارجية التي تحيط بي في هذا العالم. ومن وجهة نظر أدبية، فإن الحوار يتيح للقصيدة أن تحمل جزءاً من العبء، الذي لا تستطيع حمله وحدها". بين النقد والاتهام مسافة، وبين النقد والحقيقة مسافة أخرى، وهناك مسافة شاسعة تفصل الحقيقة النسبية عن ذلك العلم النقدي العجيب، الذي يدعى: علم الكراهية.

الحياة - 14/06/05


إقرأأيضا:-