بهذا الكتاب السادس من 'أمكنة' تخطو رؤية محرري هذه المطبوعة غير الدورية خطوة واسعة إلي الأمام في اتجاه تحقيق التوافق الذي يبحث عنه هؤلاء المحررون بين رؤيتهم التي تكاد ان تكون نوعا من الإشراق الصوفي، وبين تطبيقها علي أرض الواقع، أي تحويل الكتابة عن 'الأماكن' إلي كتابة الأماكن ذاتها، إلي الإخلاص لها والإنصات لصوتها وتنفسها ونبضها العميق.
'أمكنة' يحررها من الإسكندرية كل من علاء خالد ومهاب نصر وسلوى رشاد، وأصدرت أخيرا كتابها السادس، وأصبح لها ما يشكل تراثا من المحاولات والمزيد من المحاولات، من أجل اكتشاف ما يبحثون عنه..
أليس غريبا أننا لانجد نظيرا لهذه المطبوعة في أي بلد عربي؟!
مطبوعة كما هو مكتوب علي الغلاف تعني بثقافة المكان'.. بالصحراء والأنهار والجبال والشوارع والمقابر والمدن والدروب والطرق..
في كل كتاب من مطبوعة 'أمكنة'، ومنذ العدد الأول، كانت تكتسب أصدقاء جددا، سواء سعت هي لهم، أوسعوا لها، سيلاحظ القارئ مدي الحرية والتجاوز الذي تمنحه 'أمكنة' لكتابها الذين يكتب بعضهم وينشر للمرة الأولي. فهي مطبوعة مستقلة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معني، أي أنها لاتصدر عن جهة أو هيئة أو مؤسسة أو تجمع من أي نوع، وتمويلها يعتمد علي محرريها وعلي بيع النسخ لقرائها الذين يتزايدون.
من جانب آخر، أضافت 'أمكنة' إضافة أساسية لن نجد لها نظيرا في سائر المطبوعات، ففي سياق عنايتها واهتمامها بنبض الأماكن الداخلي، اهتمت بالصورة الفوتوغرافية، من حيث هي أحد أشكال الفنون، وليست مجرد حلية شكلية تلحق بالمادة المكتوبة، بل جزءا أصيلا من الموضوع، وبدون الصورة لن يكتمل الموضوع، لذلك سنجد جزءا من كتاب المجلة يكتبون ويصورون أيضا.
تعتمد 'أمكنة' علي تلك العلاقة الحميمة التي افتقدناها وأهملناها طويلا بالمكان، لكنه ليس المكان المصمت والمجرد، بل المكان/ الناس.. المكان في علاقته بالناس.. المكان الذي لم يقهره الناس بل تعاملوا معه بحميمية ومحبة وتآلفوا معه..
ولأننا نفقد الكثير كل يوم، وبوتائر أسرع من أي وقت مضي، سواء من أحلامنا بالعدل والحرية، أو من الأماكن التي أحببناها وقد تم العصف بها وحلت بدلا منها أماكن شائهة، لأن ذلك كذلك، فإن تجربة 'أمكنة' خاصة جدا وحميمة جدا وقريبة من قارئ كان محتاجا لها ومفتقدا لمثيلتها.
والحقيقة أن 'أمكنة' قائمة أساسا علي الاكتشاف وليس علي الوقائع والأفكار المستقرة والراسخة، فكتابها يرحلون إلي المكان لإعادة اكتشافه، أو يستعيدونه مرة أخري بعد أن تشوه وتغير..
في الكتاب السادس يواصل كل من علاء خالد بكتابته وسلوى رشاد بالكاميرا اكتشاف المكان الذي نعيش داخل حدوده ولانعرفه ولاتربطنا به إلا العلاقات السريعة السطحية إذا كان ثمة علاقة والمكان هذه المرة في وسط جنوب مصر المنيا حتى يصلان علاء خالد وسلوى رشاد إلي الجبل عندما يضيق الوادي بناسه وأرضه ونمائه، وحيث يعيش بشر حقيقيون لانعرفهم، ولايمكن تصور ما يواجهونه من فقر وبؤس، وحيث العلاقة بين المسلمين والأقباط تنطلق من تآلف وتآزر حقيقي لايحتاج لضجيج التليفزيون أو بلاهة الصحافة..
وعلي مدي نحو 60 صفحة من القطع الكبير وتحت عنوان 'كل شيء يحدث بهدوء ودون مفاجآت'، بالكلمة والصورة والحوار والتأمل والاكتشاف والإنصات للناس وتقديم كلامهم الحقيقي بلهجتهم ونبرات أصواتهم، أعاد علاء خالد وسلوى رشاد اكتشاف أديرة ومقابر وكنائس وجوامع تلك المنطقة المنسية في وسط الصعيد. رجال ونساء وأطفال وعجائز يفتحون قلوبهم البسيطة والصلاة في الوقت نفسه. صيادون علي باب الله ومكسرو أحجار في الجبل من الرجال والنساء وفلاحون يزرعون شريطا ضيقا وضائقا بالأفواه التي تتزايد. يكتب علاء خالد في نهاية رحلته:
'طوال الرحلة تكونت أسئلة عديدة أغلبها يدور حول الحياة الصعبة التي يعيشها الناس داخل هذا الوادي الضيق، وإلي متى؟ هل يكفي الصبر أو قوة التحمل أو الإحساس الصوفي ليغفر للمئات والآلاف من السنوات من الفقد المزمن، للرحلة التي لم تتم منذ زمن بعيد إلي الصحراء أو إلي أي مكان آخر يكثر به الرزق، داخل هذه الأسئلة كنت أشعر باليأس وبأن المعادلة مغلقة تماما. ولكن هناك جزءا غير مرئي داخل أي معادلة، الإرادة والبذرة التي تكونت بها مجتمعاتنا. هذا الاستمرار رغم كل الظروف يعني شيئا. يعني إرادة جوهرية تسير مع الحياة. أيضا هناك جزء غير مرئي ويومي يحتاج الكثير من العناية ولنظرة شاملة لهذا الوادي الضيق'.
علي هذا النحو يبحر كتاب 'أمكنة' ويكتشفون المنسي والمسكوت عنه دون أي أفكار مسبقة مجهزة سلفا، فتحت عنوان 'طرق منسية' قدمت أمكنة محورا شارك في كتابته الفنان التشكيلي محمد عبلة الذي سجل انطباعات عن رحلة للصحراء الغربية حيث أقدم ثروة فنية وتاريخية حفظها الصخر منذ قرابة 30 ألف سنة، أكرر 30 ألف سنة، وتتعرض الآن للضياع والفقد النهائي. كما يكتب عبدالعزيز جمال الدين عن مسارات وطرق العالم القديم مثل طريق الحرير وطريق التوابل والطريق المصري، وهي أقدم الطرق التي صاغتها وعبدتها الحروب والحملات العسكرية والتجارية، ويمزج وليم إبراهيم بين ذكرياته الشخصية وبين قصة حفر قناة السويس، وتحكي وتصور رندا شعث أوجاع البحث عن محطة قطار غزة، ويتابع كمال مفتاح رحلة العائلة المقدسة لمصر، وتتوقف هدي كامل عند دروب الصحراء..
المساحة وحدها تمنعني من الاستمرار في ذكر كل موضوعات هذا المحور وكتابه الذين يملكون بهجة الاكتشاف والصدق معا: رجائي موسي ونرمين نزار وماهر حبوب.
أما المحور التالي 'السير خطوة في اتجاه الآخر' فيضم موضوعات متنوعة يجمع بينها أيضا بهجة الاكتشاف والصدق، ويقدم مصطفي الناغي سيرة ذاتية لسائق القطار 'علبة الليل المعدنية' وهو يقطع الليل في الصحراء والحضر وبين النخيل والشجر خائفا من الموت، و'في رحاب الصحراء' يسجل أحمد أبوخنيجر مولد ابوالحسن الشاذلي علي مبعدة نحو 300 كيلو متر من أقرب مكان، ويرحل إليه المئات ملبين نداء الولي الطاهر. بينما يختار يوسف رخا في لقطة ذكية شارع خلوصي بحي شبرا الذي كان مرتعا لصباه. ويستعيد هاني مصطفي في مشاهد متتابعة لاهثة شوارع روما التي عاش فيها أبوه منذ أكثر من نصف قرن. ويمرق هيثم الورداني إلي الأمام كالسهم وهو يحكي تجربته مع موقع جوجل على شبكة الانترنت حيث تحول البحث والمعرفة تحولا كيفيا وانتهي معلقا علي تجربته قائلا أنه منذ قراره بالبحث لمعرفة المزيد عن اسم قرأه في أحد الكتب 'وأنا أتقلب وسط سياقات ومصادفات غير متوقعة وبسرعة شديدة. لم تسعفني الرغبة في شحذ تعاطفي وإذكائه، بل أدت الطرقات التي شقتها في جسد المعرفة إلى تشتيت تعاطفي وتفريقه بين موضوعات عديدة. كأن التعاطف والمعرفة ينتميان إلي عالمين متوازيين، لايؤدي أحدهما بالضرورة إلي الآخر'.
ويقفز عمر سمرة بالقلم الكاميرا ليسرد بعض وقائع عام كامل قضاه في رحلة حول العالم وترجمته شيرين فهمي، وتحكي صفاء فتحي سيرتها الذاتية منذ أواخر السبعينات علي نحو بالغ الصدق، وترسم أمينة النجار بورتريه لصديقتها الألمانية 'ريناتا' التي عاشت في القاهرة واختارتها مكانا لموتها أيضا، ويستعيد عبدالعزيز السباعي زمن الإسكندرية الضائع منذ عشرينات القرن الماضي، ويقدم عادل عصمت سيرة شخصية لمقاهي طنطا، ويتوقف محمود عبدا لوهاب متأملا بلوغه سن الأربعين كإحدى المحطات الفارقة في الحياة..
وتختتم أمكنة هذا المحور بواحد من أجمل وأصدق الحوارات، ويشكل وحده نصا نادرا يقطر صدقا وبساطة. الحوار كتبه علاء خالد باعتباره نصا أدبيا، وليس مجرد أسئلة ترد عليها ساندرين جامبلين الفرنسية التي تعيش في القاهرة، بل صاغ كلامها بلكنتها الأجنبية، وهي تحكي وقائع رحلتها إلي رام الله أثناء الاجتياح الإسرائيلي البشع الذي وصل إلي محاصرة الراحل عرفات في مكتبه في المقاطعة برفقة عدد محدود من حراسه وعدد متزايد من الدروع البشرية الذين جاءوا من كل أرجاء أوربا والولايات المتحدة للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
لاتفرغ جعبة 'أمكنة' عند هذا الحد، فقد ترجم أحمد حسان نصا طويلا لجان بودريا عن أمريكا، أما محور 'مسارات المدينة' فقد شارك فيه أماني عبدالحميد، واختارت رحلة داخل شارع محمد علي بين دروب القاهرة منذ شقة الخديو إسماعيل وحتى أيامنا، ويؤرخ مجاهد الطيب لضاحية مصر الجديدة منذ عام 1905 حين منحت الحكومة المصرية امتيازا للبارون امبان لتعمير 5952 فدانا قابلة للزيادة، وامتيازا آخر لإنشاء وتشغيل خطوط مترو كهربائية، فولدت الضاحية من العدم جميلة ومعتني بها وتتميز بعمارة بديعة، حتى أصبحت الآن مباني زجاجية شائهة تنتصب في كل مكان وتقتحم الناس والعين وبقية الحواس. ويتوقف أحمد بيومي عند شارع النبي دانيال بالإسكندرية، بينما اختار أحمد فوزي شارع الحميدي ببورسعيد. وأخيرا يتأمل أحمد عبدالجبار علاقتنا 'الميكروباص' ذلك الوافد الجديد الذي أصبح لاغني عنه للانتقال بين مكان وآخر..
رؤية مدهشة وطازجة وكتاب يكتب بعضهم للمرة الأولي نصوصا مفتوحة وحرة، لايتابعون فيها من سبقهم، بل يقتحمون ويكتشفون ببساطة آسرة كل ما يؤنسن علاقتنا بالأمكنة لنعيد تأملها كأننا نراها للمرة الأولي.
أخبار الأدب
الاحد 27 مارس 2005