نجوم الغانم شاعرة من دولة الإمارات العربية المتحدة وهي صوت متفرد بذاته تنتمي إلى عالم قصيدة النثر والى مناخ شعري يلتقي مع عدد من الشعراء الخليجيين وخصوصا في البحرين مثل قاسم حداد وفوزية السندي. وقد تطورت تجربة نجوم الغانم الشعرية خلال الثمانينات في ظل روح شعرية متوثبة كانت تملأ آفاق المنطقة. تنتمي في عالمها الشعري إلى الأسطورة والمفردة السحرية، يحتلها عالم الباطن بطريقة لا تخترقها أحداث الخارج. والشاعرة ولدت وتلقت علومها في الإمارات حيث عملت في مجال الصحافة وهي متزوجة من الشاعر خالد بدر وتكمل دراساتها الجامعية حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية. والى جانب القصيدة والمقالة للشاعرة اهتمام خاص بالمسرح كما أنها تمارس الرسم والفن التشكيلي، أيضا.
في مجموعتها الشعرية الأخيرة "الجرائر" والتي صدرت في عام 1991 تعتني الشاعرة بميتافيزيقيا اللفظ والمعنى.
ان "الجرائر" تعتبر نموذجا لأسلوبية شعرية بدأت تأخذ حيز وجودها الخاص من خلال استحضار الوجود الأسطوري المفرق في الخيال، مازجة إياه بحضور شبه ديني في الخطاب الشعري. وقد كان لهذا الأسلوب حضوره في التجربة الخليجية متمثلة في تجارب شعراء مثل قاسم حداد في أعماله "القيامة " و" يمشي مخفورا بالوعول " وكذلك الشاعرة السعودية خديجة العمري في قصائدها المنشورة في عدد من الدوريات الثقافية.
"الجرائر" قصيدة واحدة تشبه المطولة تحاول أن تحكي حكاية ذات مستويات متعددة في القص سواء عبر "أنا" المخاطبة التي تأخذ صيغة الأنوثة، أحيانا، أو الذكورة أحيانا أخرى أو صيغة الراوية الذي يروي الأحداث على ألسنة الكائنات التي يختارها. وهي قصيدة تدعو إلى الحيرة إذ أن جسد الحكاية فيها هو جسد باطني يتذبذب بين محاولات استحضار رموزه الدينية والطقسية ومحاولات نسج حكاية مستقلة عن ذلك كله.
وتمثل أسلوبية الحكي الشعري في إطار قصيدة النثر في هذا العمل أسلوبية تحاول أن تصنع فتنتها الميتافيزيقية عبر محاكاة للتجارب الصوفية المختلطة بالحكاية الشعبية، غير إنها كمحاولة لم تنجح في ربط الحكاية بشكل واضح وبالتحديد بسبب افتنان الشاعرة بالمخيلة اللفظية أكثر منها بالمضمونية.
إن لغة القصيدة هي لغة باطنية تستحضر ألفاظ الماضي النثرية والمستوحاة من التراث العربي الإسلامي والمسيحي في إطار قصيدة نثرية طويلة تأخذ عنوان "الجرائر" والذي يمثل في حد ذاته مدخلا يبدأ من الذاكرة الدينية الواضحة. تبتدئ الشاعرة القصيدة بصيغة الضمير المخاطب حاشدة مفردات قرآنية، وإنجيلية معا إذ تقول:
- "ها هو الليل يتبلد بملائكته
والأبابيل تتزاحم ".
كذلك تستحضر الشاعرة مخلوقات أسطورية تشبه الرخ، والعنقاء، وهدهد سليمان في صفاتها غير أنها تختصر ذلك عبر مفردة (الطائر) الذي تشير إليه وتجعله جزءا من صوت الراوية.
تطرح الشاعرة مفرداتها بما يعزز المناخ الصحراوي - العربي وتدمج ذلك بمداخلات من أجواء السحر والأسطورة والتمائم والتعاويذ والصورة المعمارية لثقافة الصحراء الحصن. وهي تزاوج ذلك كلا بأجوائها الدينية عبر الحدائق المفقودة والبحث عن الجنة كملاذ.
كما أنها تتمثل الحالة الصوفية وتربطها بشعائر الحج والعبادة إذ تقول:
- "شاخصة في التطواف صرخة الانداء
وكارتجاج صدى في بئر
تتلاحق، الموجات داخل جسدي
أسير للأنحاء كلها،
عصي على العناصر"..
ويتكرر استحضار وجود الملائكة في العمل الشعري بشكل يقترب من صيغة الترانيم الكنائسية في ظل حضور الموت كشبح يطل في خلفية القصيدة بتكرار إذ تقول:
- "خلف الباب جنازة مكفهرة مرتلون يسحقون اسمك خلفهم
تبكي
قطرة أو قطرتين ".
إن أجواء التراتيل تترافق مع الفزع من الوحدة ومناجاة الذات لنفسها. كذلك تبني الشاعرة لحضور شخصية الفارس الميت - الحي عبر العصور واقتحام المجامل بالفتوحات. غير أن العمل الشعري في القصيدة ينبني - ولربما بشكل غير مقصود - على الذات المختلفة بالذكورة والأنوثة في السرد الشعبي إذ تقول:
- "أخرج من حروبي
كثيبا
مسيلا دماملي
وسيفي نظيف
ممتلئ بوجهي الغريب
وجهي الشبيه بتنين خائر
تنتظرني في الأفق غيوم ترتطم بماضي
مثل أنثى مسهدة ".
وكذلك قولها الذي يعزز هذا الاختلاط الذكوري - الأنثوي في صيغة الرواية الشعرية:
- "وأنا الكهل
السبيل ".
حيث توضح الشاعرة أن "السبيل " في الأسطورة اليونانية هو لفظ يطلق على امرأة منحت الخلود ولم تمنح الشباب، كبرت حتى صارت تطلب الموت بنفسها.
وتعتمد الشاعرة على مفردات تجلبها من التراث النثري والشعري العربي تدليلا على أجواء المناخ الأسطوري الذي تود أن تصنعه، واستحضارا للصحراء القديمة وتوظف الشاعرة في نصها المفردات التالية:
"الأتون، الكهوف، المتاهة، الرمال، الجداجد، الذئاب، التيجان، الرقية، الحجر، الفلاة، الإسطرلاب، الشمس، والقمر، والاوقيانوس، الشهاب، الفنار، البحر، الهامة، الأب، السنور، الزنبيل، الجب، الجلباب، الغدارة، الحانة، الحاوي".
ولا تخفى هنا دلالات بعض هذه المفردات على الأجواء الكهنوتية المستترة فيها ومدى تأثير تلك الإرشادات، إلى المعاني التي تصبو إليها الشاعرة في نصها.
ويبدو المقطع الشعري التالي كأحد المفاتيح المهمة لفهم هذه الرحلة الشعرية في "الجرائر" حيث تقول الشاعرة:
- "لك براءة السفك ولنشيجي جريرة البوح
معراجي كسرة طوفان
أبدأ خيطا متلثما
انتهى مترديا في الشكوك
من أنت ".
ولهذا المقطع الشعري مصداقيته حيث أن القصيدة برمتها تبدو بحثا عن ذات ما، ورغم انه بحث متعثر ومتلعثم غير أن النص لا تنقصه الفصاحة الموروثة، والممزوجة بلغة تحاول عبر تداعياتها ومناخاتها صنع الطقس الجمالي للعمل الشعري. غير أن ربط البوح بالجرائر يذكر على نحو ما بصوت الانثى المستتر، الصوت العورة، والبوح الجريرة في التداعي التاريخي العربي - الإسلامي لصوت الأنثى.
وتنداح اللغة ذات المرجعية الدينية في هذه القصيدة وهذه بعض من نماذجها:
- "لأنك نبي البغضاء
ونحن
سادة المهالك ".
- "عبيد للذي لا يسمى الضرر باسمه
ولا تدركه الحسرات ".
- "عذرا، ما قصدت الفتك بقومي وما أنا برجيم ".
- "خلوني أنجو من الفاحشة وتكونوا أكرم الرسل
وأخلص الحكماء".
- "سلام عليكم وعلى من يتخذكم أولياء للرؤى".
- "تطيبوا بالزنجبيل ريح الطهارة، شجر المؤمنين ".
ان الشخصية "الأنوية " التي تطرح ذاتيا في "الجرائر" تحاول أن ان تبحث عن التميز في وجود يرى ذاته فوق وجود الآخرين، وفوق عذاباته، أيضا. ويتم ذلك عبر لعب عدة أدوار
مثل دور الكاهن المسيطر على الأحداث، إذ تقول الشاعرة:
- " وأنا ألوج بمهجتي
متيما بالأفعال والصفات
منبوذا من الأسماء
أنادمكم بالندامة ذاتها
ولست آسفا
قفطاني مهجعي
الخلاخيل أزقتي
ولا دار تلملمني".
وهي في صناعتها لهذه الأسطورة تحاول أن تخلق شخصية تتعدى كل الحدود بحضورها إذ تقول:
- "لكنني ما حظيت بغير النوائب
وصفو أبي واحد
أن أخون وأن أخان
نعم
أنا خائن العبارة
مبدل التواريخ والولادات
سارق المحاجر والرماد"
وتحاول الشاعرة العودة الى ألوهية - الأنثوية القديمة عبر محاورتها بين صوتين:
- "أمهليني يا الماجنة
ألست من سواني في أتم صورة
من دفق في سريرتي حليب الجنة ".
ويتضح التحول خلال القصيدة من وصف (الأنا) التائهة للرجل الى (الأنا) التائهة للأنثى في سياق الأسطورة، أيضا.
وفي تطوير لحضور الحادية واستمرارا لدراما الخاصة بها، والمتمثلة في حروبها وأوجاعها فيما يشبه القص تتضح شخصيتها كبطلة للعمل في منتصف "الجرائر"، إذ تقول الشاعرة:
- "الحادية تطعن الهواء
لكأن ما تناهى للقوم صرير زخات مطر
أي منظر آسر
الألسنة تلمظ بالشهوة
فيما الجدران تتصد ع، الغرف تنهار
والأحلام تموت
الدماء تتدفق من كل مكان، عويل،
أجساد تطفو.. المدينة تغرق
في الدم ".
كل ذلك يحدث وفق احتفاء غامض بالطبيعة في حضور الكوابيس،والأحلام، ومفرداتها المتسقة مع اللغة القاموسية التي تبذل الشاعرة جهدا كبيرا في استحضارها. غير أن "الجرائر" كقصيدة - حكاية أو مطولة شعرية لا يمكن أن تجلى بعيدا عن رصد مستويات الصوت المختلفة عبر تعدد الشخصيات من خلال اضطراب ما في البناء الدرامي يشوش حضور ووضوح الحدود بين الشخصيات. حيث تفرق الشاعرة في توظيف صور لا ترتبط ببعضها البعض، أحيانا. وكذلك تسهب في زخرفة لفظية معنية بتجميل المفردات ومؤنقة لجسد لم تحسن بناءه.
وقد سبق للشاعرة نجوم الغانم أن أصدرت أعمالها التالية في منتصف الثمانينات: "مساء الجنة" و "في ملكوت الطاولة " غير أنها في عملها الثالث "الجرائر" تحاول أن تبلور ما بدأته كأسلوبية شعرية خاصة تتسم بالباطنية المشغولة عبر الزمن الأسطوري وخلق الأجواء التراثية المستمدة جذورها من الصوفية، والحكايات العربية النثرية في محاولات متعددة لصنع قصائد جمالية تعني كثيرا باللفظ، وأحيانا، على حساب المعنى. إن توظيف الرموز الكهنوتية والصحراوية والسرد المطول يصل بنا إلى خلق حالة شعورية تراثية دونما توصيف أو معنى واضح وهو أشبه ما يكون برسم المشهد الأسطوري المحتشد، والتوقف عند ذلك.
كما أن هناك ذكورية ما في النص وخصوصا عبر الاتكاء المتكرر على شخصية الراوية - الرجل عبر أعمالها،وقد تكون سمة الحداثة الواضحة لما اختارته الشاعرة هو الشكل الشعري للقصيدة النثرية، أما المضمون فهو غالبا ما يكون انتماؤه لطقوس بائدة عبر حالة حنينية، متصلة، لاستجلاء رحلة الروح عبر أزمنة لا تكاد تلامس الزمن الحاضر.
والشاعرة تصنع بذلك فخامة لفظية جزلة بمعزل عن تيار القصيدة -الحياة والتي تلون كصبغة معظم نتاج الشعر الحديث مؤكدة اختيارها لجماليات اللفظ، وسحر الماضوية الخالية، في طقوس شبه دينية وسحرية تصنعها في إطار قصيدة النثر.
إن نجوم الغانم شاعرة عاشت ايقاع الحداثة الحياتية السريعة للمجتمع النفطي الجديد في الخليج، وهي لا شك تملك ذاكرة الطفولة عبر الحياة أو بقايا المشهد القديم غير ان اثر مشهد الصحراء وثقافة الجزيرة العربية القديمة والممتدة عبر قرون ربما تسبق حتى العصور الإسلامية الأولى تكاد أن تحتل مخيلة الشاعرة، تماما، في نتاجها الشعري. إنها تختار أطلال الماضي لتصنع فيها قصيدتها ولكأن الروح مازالت تقبع هناك. ان الذات الأنثوية في قصيدة نجوم الغانم ذات موغلة في القدم متسربلة بستار الروح، الليل، والماضي وكأنها تحاول عبر رحلة تاريخية معكوسة أن تنجز معركتها مع ذلك الماضي، بمفرداته، وشخوصه مختارة مبارزة السيوف، وطعنات الخناجر، باحثة عن الكهنوت الضائع الذي لا مسمى له والذي يقبع عميقا في أدغال الروح القديمة لإنسان الجزيرة العربية. ان قصيدة نجوم الغانم تشبه الدخول الى كهوف منسية والشرب من ينابيع غامضة والتجوال مع بقايا أرواح ومخلوقات منقرضة.
إن مثل هذا الرحيل الشعري ليس بعودة إلى خباء الأنثى القديمة، ولكنه محاولة لزيارته والتعرف عليه ولربما الانتقام منه بطريقتها، هي أيضا. ولعل في هذه المحاولة تكمن حداثة الشاعرة وتحديها، أيضا، للحظتها الواهنة.
سعاد الصباح تمثل حالة استثنائية شعرية في العالم العربي، لا لقوة أشعارها فنيا ولكن لذلك المزيج من جرأة المضمون والقدرة الفائقة على نشره في الساحة العربية الإعلامية، والثقافية. تكاد سعاد الصباح أن تكون إحدى الشاعرات النادرات اللواتي استطعن ان يفرضن حضورهن عربيا عبر نشاطات عدة سواء عبر مساندتها لبعض المؤسسات الثقافية الحكومية العربية أو مؤسسات النشر العربية الخاصة أو بعض المنظمات الأهلية كمنظمة حقوق الإنسان. ولم يكن هذا، دائما، لصالحها حيث نالت الكثير من الهجوم وخصوصا من قبل المعنيين بالثقافة الجادة الذين رأوا أن مثل تلك المواقف تساهم في دعمها إعلاميا، على حساب مدى الجودة في شعرها.
وقد بدأت سعاد الصباح بنشر أشعارها منذ السبعينات من خلال القصائد العمودية الرومانسية ثم بعض القصائد الرثائية بعد ذلك. غير أنها لم تبرز في الساحة الشعرية العربية إلا في الثمانينات ومن خلال مهرجانات المربد الشعرية في العراق. وقد اقترن اسمها باسم الشاعر نزار قباني نظرا للتشابه الكبير في المفردات والأجواء الشعرية بينهما. وقد ادعى البعض بأن نزار قباني هو الذي يكتب لها أشعارها، وخصوصا بسبب انطلاقته التاريخية المعروفة شعريا فيما يخص تشريح عالم المرأة واستعارة صوتها للحديث عن همومها الاجتماعية والجسدية في قصائده. وقد اعترفت سعاد الصباح، دائما، بفضل نزار قباني عليها وبكونه أستاذا تنتمي
إلى مارسته الشعرية غير أن قصائدها هي عالمها وتعبر عنها هي بالضرورة.
وقد نجحت الشاعرة سعاد الصباح في التعبير عن عالم الأنثى إلى حد ما، على عكس قصائدها السياسية التي ورطتها في عدد من المواقف التي لم تحمد عقباها وخصوصا قصائد المدح السياسي التي قالتها في النظام العراقي والرئيس صدام حسين ثم تراجعت عن ذلك كله بعد غزو العراق للكويت خلال التسعينات من هذا القرن.
نشأت سعاد الصباح في الكويت وعاشت في القاهرة وبريطانيا حيث تلقت علومها الأكاديمية وكانت بصحبة زوجها الدبلوماسي آنذاك. ولها العديد من البحوث الاقتصادية المختلفة وخصوصا في مجالات الثروة النفطية وأثرها على المجتمعات الخليجية. وهي معروفة باتجاهاتها القومية ومساندتها لهذه الحركة في العالم العربي
وقد عاشت الشاعرة أجواء اجتماعية أرستقراطية انعكست على مفرداتها الشعرية وخصوصا عندما تتحدث عن عالم العلاقة بين المرأة والرجل. كما انعكس ترحالها وخبرتها في السفر الأوروبية واقاماتها السياحية على اختيارها للمدن والأماكن في قصائدها.
وكذلك فان فقدها المبكر لأحد أبنائها أثر عليها في أعمالها الأولى واشتهرت ببعض المرئيات التي قالتها فيه ثم قالتها في زوجها بعد وفاته.
وتضم أعمال سعاد الصباح كتبها الشعرية التالية: (لحظات من عمري)، (ومضات باكرة)، وقد صدرا في الستينات وديوان (أمنية) وقد صدر عام 1971، (إليك يا ولدي) وقد صدر عام 1982، (فتافيت امرأة) 1989، (برقيات عاجلة إلى وطني) 1992، ومجموعة من المقالات بعنوان (هل تسمحون لي أن أحب وطني).
ولعل أهم عملين للشاعرة هما (في البدء كانت الأنثى) وقد صدر عام 1988، و(قصائد حب) الذي صدر عام 1992 إذ أن كليهما يختصر الملامح الشعرية الخاصة بصورة الأنثى في شعر سعاد الصباح وصوت الذات الأنثوية لديها وسنتابع هذا الصوت في عمليها هذين من خلال الدراسة المقدمة.
إن الشاعرة منشغلة جدا بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وهي تشاغب الرجل في قصائدها التي تحاول دائما أن تصنع موقفا ما. إن لها تصورها لما يجب أن تكون عليه الأنثى وهي معذبة بموقف الرجل منها. ويصح أن نقول ان قصيدة سعاد الصباح هي قصيدة الموقف أكثر منها قصيدة الشعر، إذ ان قوتها لا تكمن في بنائيتها اللغوية، ولا في صورها الشعرية، ولكن في الموقف الاجتماعي والنفسي الذي تنحاز فيه غالبا للمرأة والتعبير عن معاناتها من موقعها هي الشخصي، والاجتماعي وهي رغم جرأة موقفها إلا إنها تتعرض للتناقض الوجداني في بعض قصائدها وخصوصا عندما تكون محبة وعاشقة، حيث أن ذلك الحب غالبا ما تعبر عنه باحدى طرق الاستجداء التي تجعلها تبدو منسحقة أمام من تحب، حيث تحاول دائما ان تبرر ذلك بما ترده أنه طفولية الرجل المعشوق، وأمومة المرأة العاشقة. إن علاقتها مع الرجل ليست علاقة ندية خارج مناطق الاحتجاج القوي اللهجة. فهي عندما تكون عاشقة تتحول علاقتها مع الرجل الى علاقة الأم بالابن بالمقياس الشرقي الذي يدفعها الى تدليله والاستمتاع بأذاه، والغفران، دائما، له وانتظار رضائه ومباركته لها.
تحتوي مجموعتها الشعرية (في البدء كانت الأنثى) على سبع وتسعين قصيدة قصيرة. وهي في عدد منها تسجل القصيدة - الموقف من عالم الرجل الشرقي.
تقول في قصيدتها (كن صديقي):
- "كن صديقي
فأنا محتاجة جدا لميناء سلام
وأنا متعبة من قصص العشق، وأخبار الغرام
وأنا متعبة من ذلك العصر الذي
يعتبر المرأة تمثال رخام.
فتكلم حين تلقاني..
لماذا الرجل الشرقي ينسى،
حين يلقى امرأة، نصف الكلام ؟ ".
إنه خطاب مفتوح إلى الرجل، عاتب، ومشاغب، وواثق ويقدم صورة للعلاقة المثقفة بين رجل وامرأة لكنه ليس خاليا من الأنوثة.
وتطغى الروح النزارية على قصائد هذه المجموعة الشعرية وأدواتها سواء الموسيقى أو المفردة، حيث تتكرر مفردات طالما قرأناها في قصائد نزار مثل: (فنجان القهوة، الموسيقى، الجريدة، مفهوم "الرجل الشرقي"، المطر، الانتقاد للعقلية الشرقية بأحاسيس نزار قباني وذاكرته الشعرية).
تقول الشاعرة في قصيدتها أنثى:
- "قد كان بوسعي،
أن ابتلع الدمع
ان ابتلع القمع
وان أتأقلم مثل جميع المسجونات "
- "لكني خنت قوانين الأنثى
واخترت مواجهة الكلمات ".
ان القصيدة كما تراما سعاد الصباح هي مواجهة بين عقليتين، ومفرداتها كذلك. فهي في مناظرة فكرية - نفسية مما يؤثر على منطقة المخيلة الشعرية عند سعاد الصباح، إذ أن اتكاءها الفكري على ما تم في مرحلة الستينات وتحدياتها منطلق من ذلك. ولكونها قررت الانتماء الى القصيدة -الموقف فإنها قد وضعت كل العبء الفني على تلك المنطقة ولم تحاول البحث عميقا عن أسلوبية خاصة بها ولا أن تغوص في عالمها الداخلي كامرأة وشاعرة. وقد ساعد هذا على إمكانية توصيف قصيدتها بالقصيدة الإعلامية المسطحة أكثر منها القصيدة الفنية، إذ أن انشغال القارئ بمواقفها لا يتيح الفرصة للتأمل الفني في قصيدتها.
إن النمطية النقدية - الاجتماعية في قصائدها تنطلق من السائد فهي مثلا تقول في إحدى قصائدها:
- "وأعرف أن القبيلة تطلب رأسي
وأن الذكور سيفتخرون بذبحي
وأن النساء....
سيرقصن تحت صليبي".
إن فكرة القبيلة هنا تطرح كمرجعية للاحتجاج وتتكرر في عدد من قصائد سعاد الصباح، وكذلك النمطية المعتادة لمفردتي "الرجل الشرقي" كما قد تم استخدامها كثيرا في احتجاجات أدب الستينات. إن مثل هذه "الطوابع " الجاهزة لا تشير أبدا إلى خصوصية الشاعرة فلا ملمح بيئي لها ولا مفردات مبتكرة، انه انتماء للعام والمستهلك حيث المعاناة الحقيقية لا تبرز من وراء اللفظة الشعرية إلا كما قد تم استهلاكها وتصنيعها بالفعل ضمن الإعلام العربي خلال الستينات من هذا القرن.
والشاعرة تفعل الشيء نفسه في قصيدتها المعنونة بـ "رجل تحت الصفر" إذ تستعير رمز هولاكو للرجولة التقليدية فتقول:
- "يا هولاكو الأول
يا هولاكو الثاني
يا هولاكو التاسع والتسعين
لن تدخلني بيت الطاعة،
فأنا امرأة
تنفر من أفعال النهي
وتنفر من أفعال الأمر".
إن البيئة الوصفية في قصائد سعاد الصباح هي غالبا ما تكون بيئة غير خليجية فهي بيئة شبه سياحية أوروبية، فهي لا تصف بيتها النفسي والمكاني بقدر ما تصف غرفة ما في فندق درجة أولى في الغرب. وتزدحم قصائدها بالغابات والمطر والموسيقى: شوبان وموزارت والمقاهي وأسماء المدن الغربية مثل باريس ولوزان وميلانو ومدريد ولندن وغيرها، ويتجلى ذلك في قصيدتها "الحب في الهواء الطلق ".
وبالرغم من صرخات الاحتجاج في قصائد سعاد الصباح ضد العقلية الرجولية الشرقية غير أنها نفسها تتعامل مع مشاعرها كأنثى شرقية تقليدية في عدد من قصائدها العاطفية مثل "التوقيت المسائي" و"المتفوقة " إذ تقول:
- "كنت أدري - قبل أن أولد -أني سأحبك
بعد أن جئت إلى العالم... مازلت أحبك...
إن من أعظم أعمالي التي حققتها كامرأة...
أنيا أحبك.."
إن السذاجة الشعرية تكسو الكثير من مقاطعها الشعرية. وما المقطع السابق إلا مثال بسيط على ذلك، حيث يذكرني بالبطاقات البريدية الأوروبية في عيد الحب أو الرسائل النثرية العادية في الأبواب الصحفية العاطفية في عدد من المجلات النسائية التقليدية العربية.
إن ربط المحبوب بالطفولة الشقية - التي تتحملها الشاعرة لان شقاوة الأطفال في الرجال مقبولة - لا يمنع الشاعرة من تقديم بعض الصور الحسية الانفعالية لتلقيها لحبيبها إذ تقول في قصيدتها "كهرباء":
- "في عز الصيف
تصطدم أنوثتي
بقطرة عرق صغيرة
تكرج على صدرك...
وأنت قادم من جهة البحر
فيتكهرب العالم
وتهطل الأمطار".
إن قصائد سعاد الصباح بسيطة، قصيرة، ومباشرة. وهى معنية بالشعور أو الموقف الذي تريد أن تقوله بدون فن شعري مميز في القول خارج المفردات العادية التي تشبه أردأ ما كتبه الشاعر نزار قباني. فليس هناك أجواء أو صور شعرية مدهشة ولا زخرفة فنية للكلمات ولا اعتماد على باطنية وعمق الشعر ذاته. إنه قول الموقف أو الشعور دون شعرية عالية.
إن هذه الروح تسطح القصيدة بحيث تجعلها (لا شعر) في عدد من مقطوعات المجموعة "في البدء كانت الأنثى" وتبدو قصيدة "لا اسمح " خير مثال على ذلك إذ تقول الشاعرة:
- "لا أسمح للقبيلة...
أن تتدخل بيني وبينك
أنت قبيلتي...!!!"
إن ضعف القصيدة عند سعاد الصباح لا يأتي من المفردة المستخدمة فقط، ولا من انعدام الصورة الشعرية، بل من مناخات الحب المكررة لديها. فالأجواء دائما هي المقاهي، والمدن الأوروبية، والتجوال، والمطارات ومناجاة الحبيب في القريب والبعيد وهو دائما رجل واحد تصفه بالشاعر، والفينيقي، والمزاجي، والمتعدد الغزوات نسائيا. وتكاد الأماكن تكون ثابتة فهي سويسرا وبحيرة الليمان وهي محاطة معه بموسيقى كليدرمان وبيتهوفن والحبر الصيني وقهوة الاكسبرسو وهي تستبدل الوطن به إذ يتحول هو إلى وطنها وملجئها حتى حينما لا يكون عادلا معها أو معنيا بوجوده معها. وهي تحاول أن تربط معه السياسي بالشخصي كما يفعل نزار قباني في قصائده. ويمثل حضور الآخرين ومراقبتهم لعلاقة الشاعرة العاطفية مع حبيبها منطقة ارتكاز نرجسية عالية للشاعرة إذ أنها دائما في حوار مع نظراتهم ومقولاتهم وكأن تلك العلاقة وتلك الأنثى هي مركز الكون في وعيها الاجتماعي، والشخصي. ان الضعف المضموني لقصائد سعاد الصباح العاطفية يأتي من تلك المحاولة الأوروبية السياحية لأجوائها ومن حب الجوارب النايلون وعذابات المقاهي وغرف الفنادق.
في مجموعتها الشعرية "قصائد حب " تقدم الشاعرة ثماني قصائد ومقدمة تطرح فيها موقفها بوضوح، حيث تحرض على الكتابة الأنثوية بقولها في المقدمة:
"ان الكتابة عندي، هي حوار أقيمه مع نفسي قبل ان أقيمه معك ". من قصيدة حب رقم 1.
وهي ترى إنها كتبت قصيدة الحب وباحت بصوت الأنثى العربية كما لم تبح بها امرأة من قبل وكما لن تبوح بها من بعد. وفي هذه الرؤية الذاتية لسعاد الصباح نرجسية لا يمكن التعليق عليها إلا عبر نصوصها التي تهزم مقولتها ذاتها بسبب التسطيح الفكري والفني والعاطفي في العمل نفسه.
العمل نفسه هو ثماني قصائد تتدرج من وصف مفعول الحب العاطفي على الشاعرة ووصف للحبيب المشرد بين القارات، وتعزيز لموقف الأمومة الذي سبق ذكره عند الشاعرة لتحمل مشاغبات وطفولة ونزق الحبيب، وكذلك انتظار الشاعرة لصوت أو لقاء الحبيب وحيدة في باريس كما ذكرت في قصيدة حب حيث تصف شوارع باريس ومعالمها السياحية وتشكو من وحدتها وشوقها للحبيب ثم نتحول إلى قصيدة حب 6 حيث هي قصيدة استجداء وغضب من الحبيب ووله عليه، وتأتي قصيدة حب 7 لتصف لنا يدي الحبيب وغرام الشاعرة بهما، وهكذا.
إن الشاعرة سعاد الصباح قد تجاوزت سن الخمسين من العمر وعاشت تحولات المناخ الثقافي والفني العربي، واحتكت بتجارب العالم الفكرية وشهدت ثورات تحرير المرأة العالمية وهي تعتقد إنها تنتمي لذلك كله. غير أن المفجع في الأمر أنها لم تتأمل ذلك في تجربتها طويلا. ولربما ظلمت نفسها كما ظلمها الإعلام العربي عندما قدمها بصورة إعلانية كبيرة، مقنعا إياها باكتمال تجربتها الشعرية ومشاركا بذلك تسطيحها المعنوي- الشعري.
إن الذات - الأنثوية عند الشاعرة سعاد الصباح هي ذات مصنوعة غير نابهة من الأعماق. وهي ذات لم تعن الشاعرة بالبحث كثيرا عنها فنيا فقد أراحت رأسها وروحها باستخدام الصيغ الجاهزة والمتناقضة للذات الأنثوية البرجوازية العربية المعنية بأن يفتح لها الرجل باب المدخل والسيارة وأن يشعل لها السيجارة، أكثر من البحث عنها شعريا وتحقيقا نصيا وجهدا إبداعيا. إنه الاعتناء "بالاتيكيت" أكثر منه بالمذهب الفني والإبداعي.
إضافة الى ذلك فان غياب الملمح الخاص بالبيئة الخليجية التي عاشت فيها الشاعرة يمثل علامة استفهام كبيرة في منطقة الرهن الشعري في قصيدتها، فليست هناك أية إشارات واضحة وعميقة لتلك البيئة وخصوصا أنها تعتمد في خطابها على صراعها مع ذلك المجتمع كامرأة. فلا يكفي الاتكاء على المفهوم الانثروبولوجي لفكرة القبيلة. إن انطلاق الشاعرة في مواقفها يأتي من صيغة الأنا المتفردة فلا وجود لنساء في قصيدتها ولا وجود لأحوالهن ومعاناتهن فهي معنية بامرأة واحدة، ثرية، وجميلة، وقادرة على السفر تطارد حبيبها عاطفيا عبر المطارات، بطاقات البريد، والهاتف.
إن مثل هذه الأنوثة المصنوعة هي خدعة كبرى صنعها الأدباء في بداياتهم في الخمسينات والستينات حين بحثوا عن المرأة الفاتنة التي تشبه نموذج المرأة الأوروبية من حيث المظهر وخطوط "الاتيكيت" فهذه هي امرأة نزار قباني في أعماله الأولى، وامرأة كوليت خوري في روايتها "امرأة معه " وامرأة إحسان عبدالقدوس في "أنا حرة ". إنها النموذج المستهلك لصورة المرأة - الحلم الذي تم تجاوزه منذ ثلاثين عاما حين كانت الدهشة مازالت تسكن الشخصية العربية أمام مفاتن المرأة الأوروبية وحريتها الاجتماعية آنذاك، غير أن الصورة تغيرت منذ ذلك الوقت ومن المؤسف أن الشاعرة لم تلاحظ ذلك، فنيا على الأقل.
ان اختياري للشاعرة في هذه الدراسة ينطلق من رغبتي في تقديم النماذج المختلفة التي اعتنت الشاعرة العربية الخليجية بتقديمها في إبداعها الشعري ضمن مفهوم الذات -الأنثوية. وهي هنا ومن خلال نصوصها مجرد نموذج آخر لنمط لم يتجاوزه العالم العربي، فقط، بل الحركة الشعرية الحديثة في الخليج، أيضا.
فوزية السندي شاعرة بحرينية حديثة. وهي من مواليد 1957 في البحرين، وقد درست في القاهرة ويذكر د. علوي الهاشمي في كشافه التحليلي المصور عن شعراء البحرين المعاصرين، أنها بدأت كتابة الشعر عام 1975، ثم أخذت تنشره بين عامي 1979- 1980 في الصحف الخليجية والعربية، وقد أصدرت الشاعرة مجموعتها الشعرية الأولى "استفاقات" عام 1984، ثم أعقبتها عام 1986 بمجموعتها الثانية "هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث". ويرى د. علوي الهاشمي أن فوزية السندي تعتبر الآن أبرز شعراء قصيدة النثر في البحرين بعد قاسم حداد الذي شق هذا الطريق فنيا.
ورغم قلة أعمال الشاعرة المنشورة غير أنها قطعت رحلة كبيرة بين عمليها المنشورين. بدأت فوزية السندي في عملها الأول "استفاقات " متأثرة بمناخات قصيدة النثر التي طرحت هيمنتها على الأجواء الشعرية الخليجية منذ نهاية السبعينات، كما تأثرت بالأحداث السياسية العربية الدرامية الكبرى فخرج عملها "استفاقات " مرتبكا في شكله الفني ولفته الشعرية ضمن لغة تحاول أن تجسد أسلوبيتها بين قصيدتي النثر والتفعيلة، وأخذت الشاعرة تكتب بصدى القصيدة العربية الحديثة التي تنقل السياسة إلى الشعر ضمن أجواء العنف، والدم، والمأساوية.
إن قصيدة فوزية السندي في عملها الأول "استفاقات " هي قصيدة الفزع، والرعب التي تحاول أن توصف العنف والدموية المحيطين بعالمها. وهي في تلعثمها ذلك تلجأ إلى الجسد وتوظفه في القصيدة بصورة عفوية تشارك فيها عددا من الكاتبات في ظاهرة توظيف الجسد، شعريا. فالجسد عند فوزية السندي هو حالة التشظي، والجرح، والعنف. وهو أيضا، حالة الحب والحلم وملجؤها فيما تحاوله من رحلات روحية تفر إليها.
ويحتوي العمل على ست عشرة قصيدة معنية بتوصيف العنف السياسي ضمن لغة شعرية تبدأ في التشكل، وهي:
احتفالات الجسد، حصار تسمى واسميك الوطن، النورس، الحوار الأخير للبحر، نذور، الجمرة، وطن يزهو في القلب، استفاقات، مكاشفة، للبدء سلام، عندما يورق ريف القلب، أنصار، شهوة الوصايا، ذاكرة، الدم، رايات القلب، ووقت للقصيدة.
يكتب الباحث د. علوي الهاشمي عن تجربة فوزية السندي في عملها الشعري الأول "استفاقات": "يلاحظ في البنية الإيقاعية في مجموعة "استفاقات " ترددها بين قصيدة النثر وبنية التفعيلة ضمن القصيدة الواحدة. وهو تردد لم يسلم منه أي نص في المجموعة المذكورة، مما كان يعكس قلق تجربة الشاعرة، إجمالا، وتأرجحها بين بنية ثابتة تحرص على تجاوزها وبنية وليدة تهفو الى بلوغها أو الهجس بها. وقد تجسد هذا القلق على مستوى المضمون الفني في إطار ما دعوناه في بحوثنا بظاهرة "الهم الإبداعي"، بحيث شكلت عناصر مثل (القافية والوزن والبلاغة والخيال والكتابة واللغة والمجاز والحرف والكلمات والصورة والإيقاع والقصيدة والنحو والصرف وغيرها من عناصر الإبداع). مفردات ذات أهمية خاصة في مجموعة "استفاقات " الى الحد الذي استغرق الشاعرة في كثير من الحالات مما جعل من هذا الهم الإبداعي نفسه موضوعا لعدد من القصائد كما يبدو من عناوينها مثل "وقت للقصيدة ".
وفوزية السندي تنشغل بعدد من المحاور في قصائد "استفاقات " أبرزها محور الرعب والكابوسية المسيطرة على أجواء القصائد، ثم هاجس الأنثى الجسد والمفنى، وأخيرا محاولة ترسيخ لمفهوم ودور القصيدة عبر الشعر نفسه. تقول في قصيدتها "احتفالات الجسد":
- "لا تشهق في حضور الجناز المهيىء للعرس هذه نار
تفضح العائلة في احتفالات الرماد
فهرولت المداخل
ربما لهو راجع من جحيم المأتم
ربما قتل تسربل في شقوق الخوف
واختار المدينة
ربما رنين يصعد قبل أن يحرثها المد
أو تجثو لجسارة الطوفان ".
ثمة مزاوجة واضحة ومفزعة لعرس الرعب والجنازة في مفرداتها هنا جنبا الى جنب ودموية تدلف الى روح الشعر لتعبر عن ذلك القلق المفزع في قصائد فوزية السندي مشيرة الى الأجواء النفسية المهيمنة على معظم قصائد هذه المجموعة.
وهي توظف الجسد بضراوة في القصيدة، وفي احتفالات الرعب الشعري الذي تصنعه.وهذه نماذج لذلك التوظيف في القصيدة نفسها إذ تقول الشاعرة:
- "أمعن قليلا في الحكاية لنراك
جسدا مشظى
موغلا في تماس الشظايا".
- "لكأن هذه الروح شلال من الفرح الغريق
جسدان امتطيا حلمة الزلزلة
وتناهبا في غيوب الطريق
في احتفالات الجسد
كم كنت قريبا".
- "في مساء كالذي حدقت فيه
اتصل الجسد بسطوة الكتابة ".
الكابوس، والحلم، والكتابة يدا بيد عبر وسيلة الجسد الذي تعبث به الحروف وتنشب فيه مخالبها في لعبة متصلة تعكس شكل الأظافر التي تحفر اللحم، بهذه الطريقة تكتب الشاعرة عملها الأول معتمدة على مخزون مرعب له دلالاته النفسية -الأدبية المختلفة.
وفي قصيدتها "حصارا تسمى وأسميك الوطن " تزدحم هواجس الموت، والقتل والرعب عبر مفردات الفزع في هذه القصيدة مثل: (طوفان الرعب، الهالك، الجنون، الضال، المحارب، الحذر القاتل، سدة القهر، اغتيال اللحظات، انفجار اللغة البكر، عقم الوقت، الطفل المحاذر، احتدام المجازر، الموت الجميل، لدغات خطاك، الحصار، الموت المتداول بين الأرصفة، أتأبط فزعي حد الإغماء، أحاور هلعي حد الإصغاء، المحرقة اتسعت).
وكنموذج للكابوسية والرعب في قصيدتها هذا المقطع من القصيدة نفسها:
- هيأت الشمس لتشرق
فأغرقها البحر
حدقت في البحر ليغضب
فاستل الموج
وهددني بالطوفان
فأغرقني الضحك
وحدقت ". وتستيقظ ذاكرة الذات الأنثوية في قصيدة الشاعرة "النورس " وباستخدام درامي وعنيف، أيضا إذ تقول:
- "انهال كالرمح
غطى المناديل في الليل بالدم
وعرى شتاء البلاد الحزين من الصمت ".
- "طفل، وردة
والسجن ساحة الوقت
نهد، نهر
والرعب ساعة البيت ".ان هذا الدمج الذي يتكرر بين الذكورة والعنف يجعل الرعب معشعشا في البيت والجسد والبلاد، والشاعرة لا تنسى ذلك أبدا طوال رحلتها الشعرية في العملين المنشورين. بل إن هذا الرعب ينتقل الى مفهومها للشعر، والقصيدة، أيضا فهي بالنسبة إليها وجه آخر من وجوه العنف في الحياة والمخيلة، اذ تقول في قصيدتها "النورس ":
- "هكذا تأتي القصيدة
تأتي القذيفة
هكذا
تحتل البياض الحالم نار
والرمز نصل يحتال كالعرش.
وقواف تعدو
تنهال شظايا تأخذ شكل الكلمات فأعرف،
استشرف لون الأفق كنجمة برد".
إذن الشعر وعاء حربي لكل ذلك العنف المرعب الذي يسكن رأس الشاعرة وكأنها خرجت للتو من مجزرة لا نهاية لها حيث القصيدة قذيفة، والقوافي شظايا. سيظل سؤال الشعر مؤرقا للشاعرة حتى نهاية الديوان وسيأخذ شكلا آخر من الأشكال الاعتراضية في مجموعتها الشعرية الثانية.
والبحر مستيقظ جدا في مفردات الشاعرة الشعرية فهو المدى الممكن والوحيد لكل تلك الحرائق التي تشتعل في خطوات مفرداتها في القصائد. ويأخذ البحر تجليات عديدة في قصيدتها "الحوار الأخير للبحر" إذ تقول الشاعرة:
- "أفقت
غريقا أبحر من النزف "
- "لازمت البحر...
شعر أم شرك يشعل وقت الماء
عويل أم عصف هذا النزف المحرك والكامن
في لدغات تشعل هلعي".
- "يأسرني
بحر يمتشق الزفرات ويلهث في الأفق الغائم
إن مفردات البحر، النزيف، الماء تمثل حالة سيولة متشكلة في القصيدة عبر حالات مختلفة ولننظر إلى هذه الصورة الشعرية "غريقا أبحر من النزف " إنها لا تشكل حالة موت بل حالة استفاقة ويقظة لدى الشاعرة يجتمع فيهما فعل الإبحار وحالة النزف ووضعية الغرق في وقت واحد حيث البحر محير للشاعرة ودنيا كاملة لكوابيسها وصاحب لا يتركها. البحر شعر وشرك، عويل، وعصف وحرائق تشعل وقت الماء والهلع في ذلك النزف المتحرك الكامن - نزفها الباطني الذي يلتقي بحدة شاسعة مع محيط البحر فلا تفرق آنذاك بين الماء ونزيف الدم. والبحر لا يطلق سراح الشاعرة، فهي أسيرة لديه يسيطر عليها ويمتشق زفراتها ويلهث وكأنه فارسها الذي يمارس ساديته عليها دونما تمييز وهي واقعة تماما كفريسة تنظر إلى مخالبه وتغرق فيها.
لا يترك البحر صور القصائد الشعرية فها هو في قصيدتها "نذور" يرتبط بصورة الوطن المهزوم، إذ تقول الشاعرة:
- "للوطن المحتل
وللقلب المعتل
بهدير الأقدام المغلولة حتى الأعناق ".
وتوظف البحر مرة ثانية في قصيدتها "استفاقات " مخاطبة الذات الأنثوية بقولها:
- "كالبحر أفيقي
موجا أو امرأة
في صوتي يحتدم الآن مسار جراحك
في أحداقي المجبولة بالرعش
سيكبر وجدك
فأفيقي".
إن اليقظة غرق وبحر وموج وهدير. هذا التوحد المطلق بالبحر بين الرعب واليقظة بين الجرح والشفاء. وتكمل الشاعرة مخاطبة تلك الذات قائلة:
- "يا غصون الشبق اللاهث في كفي استفيقي
أفقا أو وطنا
أهز عيوني في وله
أهز غصون الرعب والحب
أفيقي".
إن الحركة مستمرة ما بين تلاطم الموج وهز غصون الأنوثة والرعب والحب يورقان معا في نفس الشجرة والبحر.
وتحدد الشاعرة خطابها للأنوثة في قصيدتها "للبدء سلام " إذ تقول:
- "لشوق امرأة تنسج في الليل رداء الدفء
وتبحث عن نقطة ضوء في العتمة
أقول سلاما"
"بدءا
أحمل لغة النار وعفن الرجعة
اطفئ شهوات الليل المنبثة
من هذا الجيف الماثل فوق الهامات المتكئة ".
إن هذا الإعلان الواضح للنوايا الشعرية يبوح بوضوح بصوت عميق يأتي غير هادىء من الداخل ويعلن مداه في الأشياء. من ذاكرة العنف والظلام ينطلق البحث عن الضوء والسلام وبلغة محذرة تدرك جحيمها والدنيا التي تود أن تقوضها خارجة من مقابر الجيف باحثة عن خطوها في نارها الخاصة.
تختم فوزية السندي ديوانها "استفاقات " بقصيدتها الأخيرة "وقت للقصيدة " ولعلها أقوى القصائد المكتوبة، عربيا، والتي تعبر عن رحلة تلك الذات -الأنثى بحثا عن صوتها وقدرة البوح، وهي تختصر في قولها ذلك عالما مطويا، ومنبوشا في الوقت نفسه تدركه الشاعرة بوعيها الفني والحضاري. وأدرج القصيدة هنا بكاملها لمالها من أهمية دلالية كبيرة لموضوع هذا البحث، ولتميزها الخاص الذي قلما حاولت الكثيرات أن يقلنه عبر أزمنة طويلة:
"أسرجتك ليلا مطهمة بالخبايا وجذوة الخطيئة
لأرى حوافر الريح برقا، أراها
تشطر في دماء الخلق
اقتراب وغربة منذ البدء
غزالة تفر نحوي
حافلة بأحجية تتهيأ
فاحتملت
كان فضاء القصيدة جبا
مقروءا بأصداء المذهل
والليل يفضح أسرار الحبر
ويستدير
ما من وحشة وتشد الصوت سجادة
أمعنتك في بياض الشقوق عشبا
وانحدارا يفضي الى خندق الكلمات.
صوت في البرد
واحدس كالطيف بألوان القوس
في نشوة التخيل أطرق حذر الفعل
كما للوقت ظلال السنديان
للهذيان رجرجة الأفق
ازين انطلاقة الجحيم في شكل يتداخل
في ظلي
فأرى بياض السماء قوافي تسرجني
في ملهاة النعش
استفرد بهزيع الحقول - بالمفردة
ألازم أزميل الروح
لست ساهيا
أهدهد المناجل، تجري مثل دمي
تيممت بهدير اللغات
أرى الكلمات وأراقب الحدائق
اتموسق في أوزان رهيفة تلا الأوزان
والجمرة ملهاة العاشق
فمن يقرأ!،
حرف يوازي وجع القصيدة
ليس سرا
كان قبرا بهول السؤال والبحث
يتحول،
ينثر فينا صباحا حزينا ثقيل الخطو
في نشرة الموت يشرع أعضاءنا قلاعا
ويقلم الطفولة
ليست...
هذه المشانق للشاهق
من شعر القلب ووطن الغفلة
هذي الجمرات لغرف الرأس المكتظة بالسيقان
ووجع الرحلة
كان صباحا جميلا وشهيا
فليس غريب
ان أحلم القهوة ذات بكاء
أن أخيط اللهب من وحشة الطرقات
وأناهض
سرت وقرأتك وحدك في الصحوة
كنت كالوقت ".
إن فوزية السندي وبصورة شعرية عميقة ومكثفة تطرح علاقتها بالقصيدة كأنثى، طارحة ظلال هذه العلاقة عبر تاريخ الثقافة العربية. فالقصيدة فرس مسرجة بالأسرار والخبايا النوامض، هي وسيلة الفروسية القديمة بإشارة ما تبدو غامضة الى الفحولة والفروسية القديمة للشعر. والقصيدة هي جذوة الخطيئة ولكن لمن ؟ أيكون لها هي الأنثى العربية التي تحاورها وتحاول ان تروضها مرتكبة بذلك (جذوة الخطيئة). إن القصيدة أحجية تتحدا ها، وجب عليها أن تغوص فيه وللحبر أسرار معرضة للفضيحة. إذن القصيدة للشاعرة هي: فضاء الجب، وفضيحة أسرار الحبر، وعشب بياض الشقوق، وخندق للكلمات. والشاعرة تجمع هنا ما بين ذاكرة الفروسية الشعرية وما بين فعل الاقتحام الذي تمارسه عليها كأنثى مبدعة تسعي نحو العشب الذي ينبت من تلك الشقوق التاريخية.
خروجا من برد ما ولربما برد الصمت ووحشته صارت القصيدة هي الحدس، ونشوة التخيل وهي "كالطيف بألوان القوس " ان فعل الكتابة هو طرق على خدر الفعل، على غيبوبة النسيان الطويل لذلك الصوت الذي يحاول أن يرج الأفق بهذيانه.
إن كتابة القصيدة هي تماه مع الفارس القديم بالنسبة للشاعرة حيث تزين ذلك الجحيم الحي بانطلاقها، تتحول إلى فرس تسرجها القوافي وتناور هزيع الحقول في مبارزة بسيف المفردة، وتلازم أزميل الروح لتنحت تكويناتها.إنها تهدهد المناجل كأطفال تجري مثل دمها وتتيمم لتلك الصلاة بهدير اللغات - البخور. ترى الكلمات كائنات وتراقب حدائقها. وهي تعلن تموسقها في أوزان رهيفة تلا الأوزان، أي إنها قررت ذلك الانتماء إلى أنوثة ولادة تقلب ميزان الذاكرة القديمة وهي تدرك أن الجمرة، وحدها، ملهاة العاشق. وفي تحد تتساءل عن "من يقرأ" فهي ترغب في قراءة مختلفة تستطيع أن ترى من خلال الحرف ما يوازي وجع القصيدة.
إنه خروج الموءودة من القبر "بهول السؤال والبحث " وهي ترى المشانق أمامها لذلك الشاهق من شعر القلب ووطن الغفلة ترى الجمرات لغرف الرأس.
إن الشاعرة تقود القارئ إلى رحلتها مع الشعر كفكرة وتحد وخروج من الخدر إلى الفعل الفروسي حيث هي الفرس والفارسة في تحديها الوجداني الكبير.
يكتب الباحث أحمد عطية عن فوزية السندي فيقول:
" فوزية السندي، صوت نسائي متفرد في الشعر البحريني الحديث، يتميز بقصيدة النثر، وبكثافة المفردات اللغوية وجدتها، وبقوة التراكيب الشعرية النفس والسابرة لأغرار الروح، وبجمال الصور المستمدة من معالم الطبيعة البحرينية البحرية، والمعبرة بجرأة وشجاعة ووعي وصدق عن الوضع المأساوي للمرأة العربية وعن احتجاجها ورؤاها ومشاعرها... ويتبدى هذا كله في ديوانها الثاني "هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث "، الذي يمثل طفرة في الشعر البحريني النسائي وفي الشعر الحديث بالبحرين على السواء، بجمعه بين همس المرأة وبنيته الحديثة، وبين التعبير عن حب الأنثى وعمق الاحتجاج على عذاب المرأة العربية ورؤاها في مجلسها خلف الجدران والنوافذ والمزاليج..".
لقد جاءت المجموعة الشعرية الثانية لفوزية السندي "هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث " عام 1986 مكملة لما بدأته في عملها الأول "استفاقات " ورغم قصر المدة الزمنية بين العملين إلا أن الشاعرة استطاعت أن تطور تجربتها بشكل ناضج فنيا ومضمونيا.
لقد قررت الشاعرة انتماءها لقصيدة النثر وحسمت بذلك ارتباكاتها الفنية فيما يتعلق بالشكل، بل أنها وعبر إحدى قصائد الديوان حسمت علاقتها بالموروث الشعري ككل وسيكون لنا عودة لتلك القصيدة.
يضم الديوان أربعين قصيدة بعناوين جديدة تنبىء بروح شعرية مختلفة لعمل الشاعرة الثاني. ويختلف نسيج النصوص في هذا العمل عن ما سبقه عبر الشكل المفتوح للنص الشعري، وتلك اللغة السرية الشعرية والمعنية بالإيحاء والرمز ونقل جماليات المخيلة عبر لغة رومانسية منثورة إلى القارئ. ويتزاوج كل ذلك مع استمرار خفي وواهن لحالة الرعب التي حضرت بكثافة في عملها الشعري الأول.
تلجأ فوزية السندي إلى لغة شعرية متداعية وممتلئة بالصور التي تمزج الباطني بالمادي المعتمد على عناصر الطبيعة مثل الفضة /النار/البحر/القمر وغيرها. وكذلك فإن الشاعرة تمنح أبعادا خاصة للماديات، مثل النافذة وغيرها لتحولها إلى رموز مكثفة لحالات إنسانية متنوعة، بعضها شعري باطني وجمالي وأحوال تراوح ما بين حدة المأساة وطقوس الجنة حيث الروح ترحل وتنتقل ما بين عوالم القهر والبحث عن السعادة وما بين الحب الجواني المعتمد على صوت الأنا المراوحة ما بين الذكورة والأنوثة.
وتتجاور عوالم القسوة والقهر برموزها السياسية الإيمائية مع عالم الحب، والرؤية الباطنية - التأملية. كما يحضر العالم الوصفي الخارجي الذي يزاوج بين النص المفتوح وعالمه الخاص بقسوة الوصف والرومانسية المتمثلة في عناصر الطبيعة المختلفة.
يبدأ الديوان بـ "نصوص مصقولة " وهو نص نثري مفتوح للحب، والمناجاة. تتعدد الأصوات فيه بشكل منداح لا يشبا القصيدة ببنيتها المعتادة. وهو نص رومانسي بروح موغلة في العشق ومدججة بالمشاعر الباطنية. تستخدم الشاعرة الزخرفة اللغوية والتشبيهات إذ تقول: - "حين أحبك،
أزهو كزغاريد مرصعة في جلبة الدار، بارقة كشمعدان مصقول. في فائرة الجوانح وباهرة كجوقة تحيك سلالم القلب".
وتتلاحق التشبيهات في النص حيث تعتني الشاعرة ببلاغة الخطاب والمفردات رغم كثرة التداعيات الزخرفة في القول الشعري. ويستمر الوهن الذي تعبر عنا على مستوى المشاعر إذ تقول:
-"أوهاني حبك، لذا استحي من دوار يلف بي
أفئدة تدفأ بي وقلب يهفو لي... لما بي".
ويتجلى تأثير الشاعر البحريني قاسم حداد على روح فوزية السندي الشعرية وخصوصا بعد صدور مطولاته النثرية "القيامة " و" يمشي مخفورا بالوعول " حيث تتأثر المفردة والمخيلة الشعرية لفوزية السندي بتلك الروح التي أسست لعالمها الشعري عبر تجربة تبدو أكثر اكتمالا. ومع ذلك فان بقايا قديم فوزية السندي يخرج من بين الكلمات في عملها هذا وخصوصا تلك الشكوى من الجور والقسوة إذ تقول:
- "كل هذا الجور لي
لي براثن الشكوك وانهمار - القسوة
ومرارة الإثم ".
واذا كانت في "نصوص مصقولة " قد عبرت عن ذوبانها في
الحبيب كما قالت:
- "أعلم لو حبك يلف جهاتي يغل ويفتل ولهي
الشاقي لارتضيت شقائي حفرة للقلب ترتج لفعل
النبض الهاتف باسمك
حبك
سطوري وسحقي الملازم لهفة الغبطة وشكة الألم
توهي ورخامة الكلام وبدء الغرق
حبك أنت
وأنت
احتمال الفصول
وشأن التناغم
وزعامة القلب
وفوز الدخول ".
فإن الشاعرة وفي قصيدتها "خفايا الكلام "، وكما يحللها الباحث أحمد محمد عطية "تحتج الشاعرة على جور الرجل الشرقي، وتعبر عن عذاب المرأة العربية وذلها في جحيم الكلام الآمر، الذي تصفه الشاعرة بسقوط الكلام وتقرنه بصور معبرة عن رفضها واستيائها واستخفافها بقبضته المقترنة بظلام الليل، مؤكدة ثورتها وعدم احتمالها للقهر، متمسكة بالأمل في نهضتها... نهضة الكلام، مرتفعة على آلامها وأوجاعها واثقة في انتهاء الليل لان لظلامه مداه.. وبعده تظهر النوارس البيضاء مع ضياء الفجر الذي يغمر الأفق والحقول والأودية، في صور بديعة جديدة تجمع بين الكثافة والشعرية وتمزج القضية الاجتماعية للمرأة العربية بعناصر الطبيعة البحرينية وتضمنها رؤية تقدمية جماعية دون مباشرة أو خطابية، بل بكلمات مكثفة هامسة مشحونة بالمعاني والدلالات والرموز البسيطة الشفافة المعبرة والكاشفة ".
في "خفايا الكلام " تتضح رؤية الشاعرة للأنثى من خلال علاقتها بالرجل وتوصيف الذكورة في هذا النص. كما أن الشاعرة تعود لترنيمة القهر والعذاب السياسي من خلال علاقة السيد بالمسود غير أنها توظف تطور لغتها الشعرية الجديدة لتوصيف ما سبق أن وصفته في عملها الشعري الأول. تقول الشاعرة خاتمة قصيدتها:
- "لم الهدأة ؟
لم يكن بوسعي أن...
سقط الكلام
مرتخيا بكامن الرؤى
همت أيها العارف بأحوالي
حتى أغشاني التهيؤ
وهون التشظي
لم أعد احتمل...
سقط الكلام
تدق المطارق بهو الولع
أنزوي في راحتي
بعيدا، اقلب وجعي
أتساقط في نهضة الكلام ".
في قصيدتها "لم يكن الأمس صعبا هكذا" تعود الشاعرة إلى الأجواء الكابوسية، والتوصيف لحالة شعرية بلا وحدة واضحة حيث تتضح القصيدة النفسية عبر انهياراتها ورعبها معتمدة على المفردات والصور النفسية التي تصور حالات الرعب.
وتعتبر قصيدة "نوافذ للفتح " إحدى القصائد المميزة في ديوان الشاعرة. توظف الشاعرة رمز النافذة في العلاقة مع المرأة، الإنسان، الوطن والانفلات نحو الأشياء والحريات عبر تسعة مقاطع. وفي تحليل أحمد محمد عطية للقصيدة يرى أنها تعبر بالمفارقة عن رؤى المرأة العربية في مجلسها الضيق خلف النوافذ بمدى اتساعه لرؤاها وكلماتها حتى غدا سريرها معادلا ومعوضا للوطن والطبيعة والبحر، فأصبح هذا المكان المحدد الضيق "متسع، متسع ". وأن المرأة قد تلاءمت في " نوافذ للفتح " مع النوافذ الموصدة والمزاليج المحكمة، مكونة عالمها الخاص الرحب كالفضاء الفني بالألوان... كقوس قزح.
تصنع الشاعرة مفارقتها ما بين شساعة البحر ومخلوقاته في مقابل الضيق، وتستمر في ترديد مفردتها "متسع، متسع " في محاولة للخروج من المحدود بشتى أشكاله. وتصنع من النافذة مداها نحو العالم، "تلهث من أجل أن تحيط الأفق بذراعيها".
وفي مقابل ذلك الاتساع، تعج مقاطع أخرى للقصيدة بكابوسية معهودة في قصائد الشاعرة (الحرب، الدخان، الحراب، المرارة، الجرح، الحداد، الفارة، الجرحى، الضمادات، القصف، القذيفة، الأشلاء) وغيرها. ذلك التهديد الحاضر دائما والمحيط بكل هروب ممكن نحو عالم الروح ورحابتها، الفضاء المفتوح، والنوافذ المطلة على البحر وقوس قزح. تقول الشاعرة:
-"أجدني في تلاؤم دائم
بلا مبرر...
واثقة ومحلقة
بلا ضفاف... منبعثة هكذا
عبر النوافذ ومزاليجها
لا يحدني احد
أصافح ضراوة الريح ودعة النسيم
هكذا دون تردد
أطلق رغوة الأفق
أمرغ قوس قزح بحرية ألواني
أعج بالفضاء
وكعادتي
أفيق ".
ان العودة للذات خارج نطاق المرعب، وترويض جمالياتها يمثل أقصى حدود للحريات الداخلية التي يمكن أن يمارسها الفنان. وهي تعوض صور الخراب بإعلان ينتمي بكامله إلى بياض الكتابة إذ تقول:
" انتظروا...
لا حاجة لي بكل هذا الوطن
رقعة صغيرة بحجم الكف تكفي
لأحيا وكلماتي
أهرق في سرير الحلم
وتنهض قي مجد الحكم ".
ويستمر هذا الانفلات لصنع الحرية من الرموز المحيطة فإذا كانت النوافذ سيدة الأفق في القصيدة السابقة فإن الشاعرة في قصيدتها "شؤون خاصة جدا" توظف الرخام بقولها:
- "أعمدة الرخام المشيدة
كفاصل قسري
ضد اغتراب الفعل
ومسمياته الجارحة
ومراياه المرتعشة ".
وهي تحتمي بكل ما يمكنها الاحتماء به مما يثير الألفة: المنضدة الواسعة، والغيمة البيضاء، والحروف الملونة. كل ذلك لتنفلت الشاعرة "كقارب صيد في ليلة مقمرة ".
ولا يخلو ديوان "هل أرى ما حولي، هل اصف ما حدث " من بعض هنات المحاولة الشعرية في نسيج قصيدة النثر فقصائد الشاعرة (لا أكثر، ولا أقل، وسروج للهو) نماذج للضعف الشعري حيث الصور واهية، والحالة مصطنعة ولا شيء غير التداعي شبه السوريالي لقصيدة غير سوريالية. وكذلك في قصيدة (أودية سحيقة) حيث تطرح الشاعرة حالة تتنافر فيها المفردات لمحاولة شبه شعرية لصناعة النص. غير أن ذلك التنافر يفتقد للانسجام وللحالة الشعرية، الحقة، ويبدو في الأخير كمجرد ارتطام بين مفردات شعرية، مصنوعة.
وفي قصيدتها "ماء مترع للمساء" لا شعر ولا شعور حيث تبتعد الشاعرة عن الأحاسيس وتولي اهتمامها بالصور المركبة من اجل صناعة الدهشة، غير ان الذوق التركيبي للمفردات لا يصنع ذلك. فالقصيدة تبدو كمحاولات نزقة، غير قادرة، على إتمام الصورة والحالة الشعرية، وأسوق الأمثلة على ذلك من القصيدة نفسها، تقول الشاعرة:
- "هيأت حشائش طرية تتهادى حولنا، قوارب
قصدير
وجوارب نعناع وأطياف تضبب هذه الطقوس لنا".
- "إني أحبك منساقة كجذور تندك، تقلد صدوعي
ماثلا في قراري
رائق هذا الدم إن لم ينحن
لك.. لا مفر.."
وهي نماذج للرداءة الشعرية رغم محاولات الشاعرة العديدة الناجحة والمتميزة في هذه المجموعة غير أن الارتباك والتذبذب في روح فوزية السندي الشعرية ما بين كابوسية
السيريالية والواقعية ومحاولات الكشف الباطنية والصوفية، والرومانسية الفجة التي تفتقر الى الصورة الشعرية العميقة والجديدة من السمات التي تضعف العمل الشعري عموما لدي فوزية السندي. وكنموذج للسذاجة برومانسية مكررة ومعتادة في الصورة الشعرية أسوق هنا قولها من قصيدة "غناء واحد":
- "نغني معا أغاني مختلفة
ولا نفترق
لي أغنية الحدائق الظليلة الخريفية
الساعة كنسيم، المرصعة بالأزهار المخملية..."،
الخ..
وتلخص الشاعرة موقفها من شكل القصيدة العربية القديم عبر قصيدتها "معلقة " صانعة تشبيها للمعلقة بالإرث الأنثوي لفكرة (الجارية) عبر ذاكرة الأنثى التاريخية إذ تقول:
-"تتدلى أمامي بزخارفها وبديعها
معجونة بماء الذهب وحجر الجناس ووتائر الحرير
وعاج الفتنة
منسقة لا تقبل الظنون والتهتكات الشاكة
تسوق أبياتها بعناية مثل قافلة واقفة
والقوافي كبغال تدب دون التفات أو حركة
في شكوكها، للمراعي منبثة
مفصلة على نسق بديع كآنية
وفي عكاظ تؤرجح حرفها جارية
محظية ولها دلال
أراها تساق هنا وهناك في الخلافة
مغلولة
معلقة ولم تزل ".
إن تجربة فوزية السندي قادمة من سياق الرفض: للشكل الشعري القديم، لمأساوية الأحداث العربية، للدور التقليدي، للأنوثة والذكورة. وهي تحاول جادة ان تصنع تجربة شعرية جديدة تسوغ فيها مضامينها تلك بشجاعة، وحرية. وهي تنجح في صنع القصيدة المميزة، أحيانا، غير أن أخطاءها الشعرية هي نتيجة التجريب وهي أخطاء معتادة ضمن التجربة الشعرية الجديدة التي تحاول ان تخرج من أسرار ما سبقها.
ولعل القلق الإبداعي يأخذ أقصى تجلياته في بحث الشاعرة عن الذات الأنثوية وبصيغة غير مزخرفة، ولا مسطحة، ولا خاضعة للقوالب الجاهزة، وفي هذا يكون التحقق الفعلي لما حاولته الشاعرة عبر العملين المطروحين.*