محمد علي الاتاسي
(سوريا)

أدونيس قبل نحو من خمسين عاما أشاح أدونيس، الشاعر الشاب، وجهه عن دمشق ومضى بعيدا إلى المجهول. لم يتواعدا إلا على الشعر. شاخت السنوات وذبلت الأيام وهما ينتظران موعدا مع الوجد. مع الذاكرة. مع الدمع. ينتظران موعدا مع الشعر. عادت دمشق إلى ادونيس، وعاد الشاعر إلى المدينة ليقرأ عليها من دون إذن. نصف قرن وادونيس ينتظر أن تدعوه المؤسسات الثقافية في بلده إلى بلده. وقد تلقى الدعوة أخيرا، لكن من بعثة المفوضية الأوروبية في سوريا التي كتب سفيرها في كتيّب برنامج الزيارة الآتي: "سينتقل هذا اللقاء، الأول مع ادونيس في سوريا، بين محطات من الشعر والموسيقى والنقاش، وسيسمح لأصدقائنا السوريين أن يتعرفوا بشكل أفضل وان يثمّنوا عمل احد أبنائهم الأكثر شهرة اليوم". الدعوة كانت أوروبية في غياب الدعوة الرسمية، لكن أسبوع الأمسيات الشعرية في دمشق وحلب واللقاءات بين الشاعر وجمهوره كان سوري الهوى والهوية بفضل جهود منسقه العام حسان عباس. غاب عنه الرسميون وصنعه الناس العاديون ببهاء الشعر ومحبة الشاعر. في قصر العظم بكى ادونيس وأبكى وهو يلقي قصيدة "تحولات الصقر". ولدى انتهاء الأمسية التي حضرها الألوف وانزوى الشاعر المنهك حتى الثمالة بزفرات الشعر وصدق الإلقاء، في إحدى الغرف الضيقة وراح يبكي وحيدا ويشهق كالطفل. خمسون عاما وهو ينتظر. خمسون عاما وهو يردد: "لا تحرق النار موضعا مسه/ الدمع/ لذلك ابكي/ ينبت القرنفل في الدمع/ لذلك ابكي". في اليوم التالي صحبت الشاعر في جولة قصيرة في أرجاء دمشق القديمة. وفي حي مئذنة الشحم (حي الشاعر نزار قباني) استوقفه احد المارة وقال له: "أستاذ ادونيس الحقيقة إني لا افهم شعرك ولطالما سألت أستاذ اللغة العربية ليشرح لي معانيه. أستاذ ادونيس، أهلا وسهلا بك في حارتنا". النص الذي يلي لا يعدو أن يكون هو الآخر تحية للشاعر الكبير، قدمته في حضوره حول الندوة التي أقيمت بتاريخ 25/6/2003 في مكتبة الأسد بدمشق وشارك فيها فيصل دراج ومحمد جمال باروت.
المدينة ابتداء كلمة في اللغة. نقطة على الخريطة. طوبوغرافيا داخل الجغرافيا. ذاكرة في التاريخ وتاريخ يأكل الذاكرة. هويات تجمع البشر وانتماءات تفرق بينهم.
وكما للمدن أسوارها في الواقع، لها أيضا أسوارها في العقل والمشاعر واللغة. قد تفقد الأسوار في ارض الواقع وظيفتها وتحل محلها التقسيمات الإدارية، لكن أسوار العقل في مجتمعاتنا تظل تعلو مدماكا فوق مدماك.
يولد احدهم في دمشق ويحيا ويموت، ويظل يُنظر إليه كغريب. ابن مدينة أخرى. أو ابن ريف. ويظل ينظر هو إلى نفسه كغريب! تسأله من أين أنت؟ يجيب: من المدينة أو من القرية الفلانية، رغم أن حياته كلها كانت هنا في دمشق ولا تزال.
مشروع ادونيس الشعري، بما هو انتهاك خلاّق لأسوار اللغة والعقل والهويات الضيقة، هو في الضرورة تحرر من المدينة المغلقة وتحرير لها في الآن نفسه. يقارب ادونيس بنصه الشعري واقع المدن العربية ويرتقي بنفسه وبها إلى مستوى الرمز القادر على فتح حاضر هذه المدن على أزمنة متعددة ومركبة، تحررها شعريا من سلاسل التاريخ المؤدلج الذي لا ينفك يشدها إلى أثقال الماضي المحنط وهوياته الجامدة وحقائقه المطلقة، ويمنعها من العبور إلى مستقبل الممكن والمفتوح والمتعدد. المدينة، إبداعيا أو حضاريا، هي بالنسبة إلى ادونيس زمن أكثر منه مكانا. بمعنى أن "مكان المدينة ليس هو ما يعطيها هويتها، إنما يعطيها هويتها زمن هذا المكان: كيف يتحرك، وماذا يمتلىء وكيف؟"(1).
سؤال المكان عن زمانه داخل النص الادونيسي يسمح له بتصعيد المدينة إلى مستوى الرمز والمجاز والصورة ويحولها لغة داخل اللغة. يقول ادونيس مخاطبا المدن العربية (مفرد بصيغة الجمع):
"أيتها المدن العربية التي تتدحرج في غسق/ اللغة/ أتدحرج/ معك/ لا لأتذكر لأرى كيف تتمزق على الجسد القديم ثيابه/الأخيرة".
ضمن هذا المنظور تكاد دمشق من بين كل المدن العربية أن تكون المدينة الأكثر حضورا في شعر ادونيس والأكثر التباساً، سواء ذكرت الاسم أو وردت تورية ومجازا.
دمشق في شعر ادونيس هي في الآن نفسه المدينة الممكنة والمستحيلة، المفتوحة والمغلقة، المباحة والمحرمة، القبيحة والمغرقة في الجمال. وهي مدينة التماهي مع الهوية ومدينة الخروج عليها، مدينة الطاعة والرفض.
مقاربة حضور دمشق الملتبس والإشكالي في شعر ادونيس، تستدعي بحسب رأينا، مقاربة حضور دمشق السياسة والاجتماع والثقافة في مسيرة ادونيس الإنسان.
نقترح محاولة قراءة مزدوجة للمدينة المعيشة في حياة ادونيس الإنسان، وللمدينة الرمز في شعره. وسنتجنب منهجيا إن نقيم أي علاقة تقابل انعكاسي أو ميكانيكي بين مستويي القراءة هذه. فعملية الخلق الشعرية في شكل خاص، والأدبية في شكل عام، هي في جوهرها تجاوز وتحرر وانعتاق من امتثالية الواقع واكراهاته. لكنها في الآن نفسه لا تكون بمعزل عن هذا الواقع ولا تقوم باستقلال تام عنه. إنها تؤسس من داخل هذا الواقع السياسي والاجتماعي الاقتصادي لاستقبال حقلها الثقافي ولامتلاك آلياتها الخاصة التي تدفع بها في اتجاه جماليات جديدة ولغة متفردة وحرية أوسع.
تخترق المدينة المعيشة والمدينة الرمز أزمنة متعددة ومتداخلة. وسنحاول أن ننطلق من زمنين اثنين: الأول يخص المدينة المعيشة، وهو زمن إقامة ادونيس في دمشق كما يستعيده هو في سيرته الشخصية. والثاني زمن تشكل دمشق - الرمز في شعر ادونيس، كيف بدأت وأين وما هي حالها اليوم.
المدينة المعيشة
يعود احتكاك ادونيس الأول بالمدينة إلى العام 1944 عندما ترك قريته الجبلية قصابين قاصدا بالقنباز الريفي مدرسة اللاييك في مدينة طرطوس. وفي أعقاب الاستقلال، أغلقت المدرسة فانتقل ادونيس إلى اللاذقية لمتابعة دراسته الثانوية فانضم هناك في العام 1948 إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي ونال في العام 1949 شهادته الثانوية وسافر إلى دمشق لإكمال تعليمه الجامعي.
جاء ادونيس إلى دمشق، العاصمة والتقاليد والتاريخ والجامعة والأحزاب السياسية والانقلابات العسكرية والمد القومي، باحثا عن مصير آخر. أتى إلى دمشق الخمسينات مسكونا بهاجس تغيير مصيره، ومسكونا بالأفق الذي يتيح له أن يقيس نفسه فيه وان يغيّر.
لكن دمشق لم تكن أفقا سهلا للتغير والتغيير، بل كانت قيداً لأدونيس الشاب الهارب من الانتماءات الأولية والخطابات المقفلة والابتذال السياسي. فأدونيس القلق الخلاق والهوية الدائمة التشكل والأسئلة المنفتحة على المجهول، لم يكن ليختصر نفسه لا في حياته ولا في شعره بابن الريف أو بابن الطائفة العلوية أو حتى بابن الحزب السوري القومي. لكن المدينة - السلطة المتيقنة من هويتها الأبدية والمنتشية بعروبتها السياسية، أبت إلا إن تحيله على واحد من هذه الانتماءات الضيقة.
سكن ادونيس الشاب وحيدا وفقيرا في غرفة صغيرة من قبو في حي القصاع، ولم يسكن البيوت الفخمة في أحياء دمشق الراقية، كما انه لم يعش طفولته في بيوتها ذات الباحات الواسعة والبحرات المتدفقة. كان متحررا حيال دمشق من ذاكرة الطفولة، باحثا في حاضرها عن مستقبل مختلف لا عن ماض لم يعشه.
تسجل ادونيس في قسم الفلسفة في جامعة دمشق. وهناك على ما يقول، بدأت الهوة تنحفر بينه وبين الواقع المحيط به حيث لم يكن يرى في الحاضر إلا الماضي الذي تقدمه الجامعة. كان يتخيل نفسه يصرخ في أروقة الجامعة: ما أكثر الكتب - الخرائب. إما خارج الجامعة فلم يكن هناك مجلة أدبية أو نتاج فكري أو تيار ثقافي يسمح له بأن يجد نفسه فيه. كان السياسي العابر يبتلع الثقافة والمثقفين. حتى ادونيس الشاعر لم يسلم منه في ذلك الوقت إلى حد انه كاد يقع في عثراته عندما نشر في العام 1954 قصيدته الشهيرة "قالت لي الأرض"، لكنه عاد وحذف منها بعض المقاطع المثيرة للجدل.
تبدو دمشق لأدونيس في ذلك الوقت كمثل صندوق هائل ومقفل من الألفاظ واليقينيان والتاريخ المفرغ من بعده الإنساني. ولم يكن الشاعر الشاب قادرا بعد على سبك مفاتيحه وفتح أقفاله على أدراج الرياح. ولم يجد إلى جانبه أناسا يشاركونه قلقه وهمومه كمثل الذين عايشهم في مجلة "شعر". ولم يكن هناك مناخ تسامح وتنوع ثقافي يسمح لموهبته أن تنمو مع الآخر وبالتضاد معه. مناخ يسمح للمدينة بأن تغادر ولو قليلا مسلّماتها وتلاعب جنون الاختلاف والتنوع. يقول ادونيس في كتابه "ها أنت أيها الوقت" مسترجعا تلك الفترة: "لم يكن في دمشق غير النصر، وغير أضوائه، وغير التحويم في فضاء من التيه القومي تعذر ولا يزال يتعذر عليّ فهمه" (2).

قد يبدو هذا الكلام قاسيا في حق دمشق الخمسينات بالنسبة إلى الكثيرين منا اليوم، لأننا بتنا بفعل حاضر المدينة الراهن نسترجع بحنين فترة الخمسينات، ببرلماناتها وتعدد أحزابها وصحافتها الحرة وإنجازاتها السياسية. لكننا في أحيان كثيرة ننسى أو نتناسى أن المد القومي لم يترك في نشوة انتصاره أي فسحة للاختلاف وأي مكان للمختلف. ننسى أو نتناسى إننا لا نزال ندفع إلى اليوم ثمن الوحدة المتعجلة والاندماجية التي قامت على إلغاء المجتمع والبرلمان والأحزاب والصحافة لصالح القائد الفرد، ومن خلفه المؤسسة العسكرية. ننسى أو نتناسى أن القليل من الحرية الذي أوصلنا إلى الوحدة كان من أول ضحاياها. فبدل أن تكون الهوية القومية وعاء للتعدد والاختلاف والنقد، جعلنا منها بوتقة للحقائق المنزلة ولصهر المختلف ولقهر الآخر. جعلنا منها، ببساطة الفاجعة ومرارتها، تربة خصبة للاستبداد في أشكاله كافة، من استبداد الأكثرية بالأقلية، وصولا إلى استبداد الأقلية بالأكثرية.
يقول ادونيس على لسان مهيار الدمشقي رفضه التماهي القسري مع الجماعة (أغاني مهيار الدمشقي): "تريدون أن أكون مثلكم. تطبخونني في قدر صلواتكم، تمزجونني بحساء العساكر وفلفل الطاغية، ثم تنصبونني خيمة/ للوالي وترفعون جمجمتي بيرقا".
تحيلنا هذه الأبيات على مرحلة من أصعب مراحل حياة ادونيس، فترة الخدمة العسكرية التي نادرا ما يتحدث عنها. فبعد تخرج ادونيس من الجامعة في العام، 1954 بدأ خدمته العسكرية وامضي خلالها ما يقارب السنة في سجن الهزة العسكري بسبب انتماءاته السياسية.
ولكن بما أن الحياة هي الوجه الآخر للموت، والأمل هو توأم اليأس وغريمه، فإن حب ادونيس الأكبر ولد هنا في دمشق. ففي بداية الخمسينات التقى ادونيس برفيقة دربه الفكري والعائلي خالدة سعيد وتزوجا في العام 1956 بعد خروجهما من السجن وقبل مغادرتهما النهائية دمشق في اتجاه بيروت.
عن هذه المغادرة يقول ادونيس: "بعد تسريحي من الخدمة العسكرية كان من المحال أن أبقى في سوريا في ذلك الجو المضطرب. كانت سوريا في ذلك الوقت، لا سجنا ماديا فقط بل كانت سجنا فكريا وروحيا. وكنت اشعر أنني إذا بقيت في دمشق ولم اخرج فكأنني أحيا في قبر. هذا هو العامل الذي دفعني إلى الخروج من دمشق مهما كانت النتائج. وساعدني الحظ وخرجت من مكان كان مقبرة بكل معنى الكلمة وعلى جميع المستويات" (3).
نعم، دمشق كانت مقبرة بالنسبة إلى ادونيس عندما تركها نهائيا في تشرين الأول من العام، 1956 وهو منذ ذلك الزمن لم يرجع للعيش فيها إلا لفترات متقطعة وقصيرة جدا. خرج ادونيس من دمشق حاملا جرحه الشخصي والشعري ليبدأ رحلة المجهول في المدن والثقافات. من بيروت مجلة "شعر"، إلى بيروت الحرب الأهلية ومجلة "مواقف"، إلى باريس الصحافة المهاجرة والأدباء المنفيين، إلى نيويورك، برنستون، جنيف، برلين، وغيرها الكثير من المدن حيث غدا ادونيس فيها ولها شاعرا عالميا لا تحده هوية ولا يعتريه تصنيف.
والى اليوم، لا يزال ادونيس الإنسان المتخفف من شعره والعابر السبيل في دمشق، يصنف المدينة وينظر إليها كمدينة النهايات أو المدينة المكتملة والمنتهية التي تبقى في جوهرها هي هي. مدينة تسوية ومساومات، مدينة تعيش داخل سور يتسع قليلا لكنه لا يزول. مدينة ما هي إلا تنويع على أساسين راسخين هما السياسة والتجارب.
نعم، كلام ادونيس التجربة المعيشة. ادونيس الذاكرة والجرح المفتوح، يضج ألما ويأسا، إلى درجة تجعله يعلن موت دمشق - المدينة باكتمالها وانتهائها وتقوقعها على نفسها في هوية مطمئنة لا خروج عنها، وفي زمن دائري لا خلاص منه. كأنه هنا يعلن موتها في الحياة لا في الشعر، مسقطا عنها تنوع ناسها بحيواتهم وآمالهم ويأسهم، رافضا أن يراها مجتمعا مركبا، لا تحده رموز ولا تختصره تصورات.
وإذا كانت هذه حال دمشق في خطاب ادونيس الإنسان فما حالها في شعره؟ وماذا لو كان ادونيس الشاعر أول من يفكك حكم القيمة الذي يصدره ادونيس الإنسان في حق دمشق؟

دمشق الشعر

حتى تاريخ رحيل ادونيس عن دمشق الشام في العام، 1956 لم تكتب دمشق في شعره. ويجب انتظار العام 1960 تاريخ ظهور ديوانه "أغاني مهيار الدمشقي"، حتى تبدأ دمشق الاسم والمعنى في التشكل داخل مشروعه الشعري. كان لا بد للشاعر من الابتعاد قليلا عن حافة المكان ليطل من خلاله شعره برؤية أعمق وبجنون أعلى على حافة اللغة وحافة المعنى وحافة الهوية وحافة البحر (أغاني مهيار الدمشقي):
"لا أستطيع أن أحيا معكم، لا أستطيع أن أحيا إلا/ معكم. انتم تموجا في حواسي ولا مهرب لي منكم. لكن/ اصرخوا - البحر، البحر! لكن علقوا فوق عتباتكم خرز الشمس".
ليس غريبا أن يرد هذا المقطع الشعري من ديوان "أغاني مهيار الدمشقي" داخل الفصل المعنون ب"ارم ذات العماد"، هذه المدينة القرآنية التي يعتقد الكثير من الدمشقيين أن الله خص بها مدينتهم والتي يستخدمها ادونيس في شعره كمجاز لتلمس معالم مدينته. وما هي إلا صفحات قليلة في الفصل نفسه حتى يظهر اسم دمشق للمرة الأولى ليس فقط في هذا الديوان ولكن في مجمل شعر ادونيس. وترد دمشق كهوية مضادة، بمعنى النبذ والرفض، ولكن هذه المرة بكلمات شاعر يحاول أن يعيد تشكيل المكان - الوطن على معانٍ ذاتية طالما تناستها خطاباتنا الوطنية. يقول ادونيس على لسان مهيار الدمشقي:
"للوجوه التي تتيبَّس تحت قناع الكآبة/ أنحني، لدروب نسيتُ عليها دموعي/ لأب مات اخضر كالسحابة/ وعلى وجهه شراع/ انحني. ولطفل يباع/ كي يصلي وكي يمسح الأحذية/ ولصخر نقشتُ عليه بجوعي/ انه مطر يتدحرج تحت جفوني وبرق/ ولبيت نقلت معي في ضياعي ترابه/ انحني - هذه كلها وطني، لا دمشق".
إن إخراج ادونيس الشاعر العباسي البغدادي مهيار الديلمي(4) من سياقه المكاني والزماني وإدخاله في سياق رؤيته الشعرية الخاصة، سمح لهذه الرؤية بأن تتحرك بين فضاءات الأمكنة والأزمنة والشخوص التاريخية أو الأسطورية، ومكّنها من خلق فضائها الشعري الخاص حيث تتداخل هذه الفضاءات كلها في فعل الكتابة وتنصهر في حركية النص اللاهث أبدا وراء نبض العالم الهارب إلى المجهول.
لكن مهيار، "الهوية المتحركة المسافرة" (5)، هو مع ذلك مهيار "الدمشقي" في شعر ادونيس. كأن الشاعر - بالتضاد مع ما يمكن أن يكون هوية دمشقية ثابتة مغلقة، أنانية، مكتفية بذاتها - يحاول عبر مهيار أن يُخرج هذه الهوية من قوقعتها إلى عوالم الصيرورة والنمو والانفتاح على الآخر.
ولا غرابة بعد ذلك أن يختار ادونيس في ديوانه التالي "كتاب التحولات والهجرة" (1965) شخصية الأمير الأموي، الدمشقي المولد والمنشأ، عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) لتكون لسان حاله. فهذا الأمير المخلوع والمطارد من العباسيين، هو الآخر مزيج غني من الهويات والأمكنة وقد هجر الشام كما فعل ادونيس: ل"أندلس الأعماق/ أندلس الطالع من دمشق/ يحملُ للغرب حصاد الشّرق".
في كتابه "ها أنت أيها الوقت"، يشبّه ادونيس عبوره الحدود بين سوريا ولبنان في العام 1956 بالذي يعبر النهر. ويقول مخاطبا نفسه: "ضفّتان، وأنت على الجسر الذي يصل بينهما: ضفة ما ينبغي أن ينتهي، ولكنه لا ينتهي. وضفة ما ينبغي أن يبدأ، لكنه لا يبدأ... إنها لحظة يتعذر عليّ تقديرها، تلك التي كانت الجسر الذي حملني، ناقلا حياتي من ضفة إلى ضفة، إذ بهذه اللحظة أيضا، يمكن أن تؤرَّخ حياتي" (6).
وإذا كانت الروايات التاريخية تخبرنا كيف أن هرب صقر قريش من الشام إلى الأندلس بدأ على ضفاف الفرات عندما افلت من قبضة جنود العباسيين وعبر سباحة إلى الجهة الأخرى من النهر ليبدأ مصيره الجديد، فإن هذه الواقعة ستأخذ بعدا جديدا في شعر ادونيس عندما يخرج من زمانها التاريخي إلى زمان الشاعر في شقيه الإبداعي والذاتي. ولا عجب بعدها أن يهدج صوت ادونيس ويدمع كلما قرأ المقطع الآتي من "تحولات الصقر":
"(وافرا تاه، كن لي جسرا، وكن لي قناع)
وترسَّبت،
غيّر رنينك يا صوتُ
اسمع صوتَ الفرات:
"قريش...
لؤلؤة تشعّ من دمشقْ
يخبئها الصندلْ واللبانْ
ارقّ ما رقّ له لبنان
أجمل ما حدّث عنه الشرق...".
يعيش ادونيس الآتي من خارج دمشق مع صقر قريش الآتي من داخلها، حالة من التداخل والتماهي تتجاوز الأزمنة والأمكنة ضمن فضاء القصيدة. وتسقط عن المدينة أسوارها وتستبيحها بنار الشعر الهيراقليطية وبجنون الأحلام - الكوابيس. فإذا بالشاعر يقول جرح المدينة الذي يرفض أبدا إن يغادره بحالة تشبه الهذيان. يقوله بصور مشهدية، حارة، صارخة، جنسية، متفجرة، هي بالتأكيد من قمم الشعر عند ادونيس. هنا بعض المقاطع: "هدأت صيحة الرجوع: أحلم يا دمشق/ بالرعب في ظلال قاسيون/ بالزمن الماضي بلا عيون/ بالجسد اليابس. بالمقابر الخرساء/ تصيح: يا دمشق/ مُوتي هنا واحترقي وعودي/ تصيح: لا، موتي ولا تعودي/ أيتها الطريدة المليئة الفخذين يا دمشق/... وأمس في نومي يا دمشق/ سوّيت تمثالا من الصلصال/ حفرت في خطوطه البيضاء/ تاريخك الأسود يا دمشق/ ورحتُ في رعب وفي ابتهال/ اسقط كالزلزال/ على روابي جلق الجميلة/ احضنها اضربها اغني - ها ها هلا هلال/ وقلت: لا فلتبق في حنيني/ وفي دمي دمشق/ وقلت: لا، فلتحترق دمشق/ واستيقظتْ أعماقي القتيلة/ مذعورة تصيح: وادمشق".
وادونيس، إذ يقسو على دمشق بلسان صقر قريش، يعرف أيضا كيف يعتذر منها ويقرّ بفضلها. فمن رحم تجربتها المرة صنع صقر قريش مجده، وتوهجت نار الشعر في قصيدة ادونيس: "يا حبّ، لا... عفوك يا دمشق/ لولاك، لم اهبط إلى الأغوار/ لم اهدم الأسوار/ لم اعرف النار التي تنادي/ تضجّ في تاريخنا، تضيء/ سفينة الكون الذي يجيء/ عفوك يا دمشق/ أيتها الخاطئة القديسة الخطايا".
لا ندري إذا ارتجفت يدا ادونيس وسال العرق من جبينه وهو يعطي دمشق، جسد القصيدة وألقها في ديوان صقر قريش. لكن هذا الديوان هو احد التجارب الوجودية الاعمق في مسار ادونيس الشعري، والتي ستترك تأثيرها ليس فقط على شعره ولكن على علاقته المستقبلية بدمشق.
بعد ديوان صقر قريش ستتحرر دمشق من الرموز الأسطورية التي "تلتقي عندها جميع الحركات وتصدر عنها اغلب الأفعال" (7)، وسيصبح في امكان الشاعر المجرد من كل قناع والعاري إلا من الشعر، أن يبسط سرير قصيدته لدمشق من دون ذوات وسيطة إلا ذات الشاعر... وتدخل المدينة سريره حينا وتمتنع عنه أحيانا أخرى، فيستيقظ الشعر: "لو أنها تجيء/ لو أنها تجيء/ دمشق/ يا ثمر الليل ويا سريره".
ستعاود مدينة النهايات المكتملة والمنتهية في خطاب ادونيس، ستعاود الحياة من جديد في شعره وتحبل بجنين البدايات (المسرح والمرايا):
"دمشق/ سرة ياسمين/ حبلى/ تمد أريجها/ سقفاً/ وتنتظر الجنين".
دمشق المعنى والرمز، الهاربة أبدا من الواقع إلى الحلم، المستعصية على الوصف، لم تعد تسكن فقط جسد القصيدة وأحلام الشاعر. دمشق في ديوان "هذا هو اسمي" (1971) تتماهى مع الشاعر، تحل فيه ويحل فيها، في كينونة لا يحتويها إلا الشعر: "دمشق تدخل في ثوبي خوفا حبا تخالط أحشائي تلغو...".
لكن علاقة التماهي تبحث داخل المدينة عن مدينة أخرى. تقبض عليها كما تقبض على الريح وتنثرها معاني داخل اللغة. يكتب ادونيس من دمشق وعن دمشق في العام 1975 "المطابقات والأوائل": "ولهذا/ لا يتركني رفضي/ ودمشق الأخرى، لا تتركني./ أخذتها الرغبة في شفتيّ، وفي فخذيّ، وفي حنجرتي/ أخذتها لغتي".
وفي ترحل ادونيس المستمر بين المدن الأمكنة والأزمنة، وفي رحيله صعودا داخل مشروعه الشعري، تظل دمشق حاضرة اسما أو مجازا. تطل كمعان يولدها تشابك الكلمات والدلالات. تحضر دمشق مع بيروت أو الكوفة أو حلب وتنبعث داخل "قبر من اجل نيويورك"، وتتحول حروفا داخل اللغة، أو لغة داخل الحروف. ومن باريس وفي العام 1991 يكتب ادونيس قصيدة "البرزخ" ويعترف لدمشق بالآتي:
"ينتمي عهدي مع التيه إلى فجر دمشق/ واليها تنتمي ناري، أحشائي قوس/ هائم فوق دمشق".
كأن ادونيس يهيىء لفتحه الأكبر مع دمشق، واعني قصيدته "أبجدية ثانية" من العام.1993 ففي هذه القصيدة يعيد ادونيس للمادة الشامية روحها العاصية ويجلل المدينة ببخور الشعر وبهاء الكلمة. يسافر ادونيس في جغرافيا المدينة وتاريخها، بين أسواقها وأبوابها وأزقتها وخلواتها وحماماتها ليقطف زهر الكلمات وينثره في غابات المعاني والأزمنة. ويتحدى هذا الذي اعتبره البعض خارج المدينة. يتحدى المدينة في أغنى ما تملك ويملك: اعني لغة المدينة. فإذا نحن أمام أسطر لا تحدها حدود ومعان، عن أسماء الألوان وتماوجها من الزبيبي إلى النارنجي إلى الزعفراني إلى الادبس والافضح والاصبح والاحمر والاكهب والأشهب إلى... والى... من دون أن ينتهي موج الألوان. يستنفد الأبجدية ولا تستنفده، فتولد أبجدية ثانية في رحاب "دمشق (التي) لا تحيا إلا إذا أعادت بناء السماء"، فإذا بالسماء تلوح هنا على مشارف القصيدة فتحيا دمشق.
نعم، "يتعذر وصف شهوة الكلام عند جدران دمشق" (أبجدية ثانية)، لكن هذه الدمشق تنبسط كالجنة تحت قدمي قاسيون، وطرق ادونيس فيها وعرة، وحافيا يمشي هذا الذي "قالوا مرة في وصف قدميه: لم امش بهما إلى باب السلطان".
ادونيس، اسمع الريح المشروعة على الآفاق. اسمع الشوارع التي لا أسماء لها ولا ألقاب. اسمع الأسماء التي تتزوج المعاني. كلها اليوم تدعوك وترحب بك في دمشق.
ادونيس، هذه دمشق. فقل فيها ما تشاء. "قل الشام وجلق، العذراء وجيرون، قل عين الشرق ارم ذات العماد، باب الكعبة" (أبجدية ثانية). قل أيتها الخطيئة القديسة الخطايا. قل وسلم جسدك - جسدك إليها. وادخلها. ادخلها وتصالح معها وفيها، شعرا وحرية ودموعا.

  1. جريدة "السفير"، مقابلة مع ادونيس أجراها الشاعر عباس بيضون، بيروت، 5/6/.1998
  2. ادونيس، "ها أنت أيها الوقت"، دار الآداب، ط، 1 بيروت، 1993 ص.31
  3. صقر أبو فخر، حوار مع ادونيس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط، 1 بيروت، 2000 ص.35
  4. عدنان حيدر ومايكل بيرد، "تغير الدلالات في أغاني مهيار الدمشقي"، ترجمة ميشال جحا، "الملحق" الثقافي لجريدة "النهار"، بيروت، 19/10/.1996
  5. انظر خالدة سعيد، "حركية الإبداع"، دار العودة، ط، 2 بيروت 1982 تقول خالدة سعيد في الهوية المتحركة لمهيار (ص121): "هكذا سيدخل سيزيف وفينيق ونوح وادونيس وايكار والخضر وبشار والحلاج في نسيج شخصية مهيار... مهيار هوية متحركة مسافرة، خصيصة لأنها البحث الدائم، لأنها هوية تتكامل تصير".
  6. ادونيس، مرجع سابق، ص.34
  7. انظر: محمد لطفي اليوسفي، "في بنية الشعر العربي المعاصر"، دار سراس، تونس العاصمة، ط، 2.1992

 ملحق النهار
الأحد 20 تموز 2003