هل من المهم أن يفهم الآخرون ما نكتبه من شعر أو نثر؟
طرحت، هذا السؤال على صديقي الشاعر قاسم حداد..
وأنا لا أفهم معظم شعره!
وأجاب بالنفي..
قال لي إن المهم أن يعبر هو عن مشاعره
بالطريقة التي يراها..
بالكلمات التي يختارها..
سواء أكانت الطريقة مألوفة أو غير مألوفة
سواء كانت الكلمات واضحة أو غامضة
سألته من جديد
"ألا يزعجك أن تتعذب وتكتب كلاماً رائعاً ثم لا تجد من يفهمه؟"
قال بكل بساطة "لا!"
| | |
أحيانا أتمنى لو استطعت أن أكتب كلاماً غامضاً
عندما صدرت "شقة الحرية"
قال لي الصديق عثمان العمير "رواية جميلة جداً ولكنها عادية جدا"
قلت بغيظ لم أحاول كتمانه:
"زدني إيضاحا"
قال"هذه رواية سهلة مفهومة"
قلت "صحيح"
قال"لا يكاد يوجد فيها رمز واحد"
قلت "صحيح"
قال"ليس فيها غموض من أي نوع"
قلت "صحيح"
قال "الروايات السهلة المفهومة الخالية من الرموز والغموض لا تبقى في ذاكرة التاريخ.."
قلت بغيظ لم أحاول كتمانه..
"ومن قال لك إني أريد أن أبقى في ذاكرة التاريخ؟"
| | |
كل الذين كتبوا عن شعري، بلا استثناء تقريبا قالوا
إنه واضح وضوح الشمس..
وقال باحث إني لا أستطيع إلا أن أكون واضحاً ولو حاولت أن أكون غامضاً لما استطعت..
البعض رأى في هذه السمة .. ميزة
والبعض الآخر رأى فيها عيبا خطيرا..
وأنا لا أستطيع إلا أن أكون صادقا مع نفسي..
لا أستطيع أن أكتب إلا على هذا النحو..
ذات يوم ثارت ضجة حول قصيدتي..
"أغنية في ليل استوائي"..
وكان محور الضجة معنى القمر..
تبدأ القصيدة.
"... فقولي إنه القمر" !
من هو "هذا" الذي يريد الشاعر من المرأة التي يحدثها أن تقول"إنه القمـر"؟..
هناك من قال إن المقصود هو الحب..
وهناك من قال إن المقصود الموت..
وهناك من قال إن المقصود الحزن..
وكتب الصديق الدكتور عبدالله الغذامي بحثا
أكاديميا رهيبا يبرهن فيه أن القمر هو
الشاعر النرجسي.. الذي يرى في المرأة مجرد ظل باهت..
وعندما قلت إني كنت أقصد بالقمر ذلك
الجرم السماوي المعروف لم يصدقني أحد..
حسنا!..
أستطيع أن أقول إن لدي قصيدة واحدة
قد تدخل ذاكرة التاريخ..
| | |
مناسبة هذا الكلام ديوان شعر صغير جميل..
بين يدي الآن..
قرأته مرة.. وقرأته مرتين..
وفي كل مرة أشعر اني أقرأ كلاما جميلا..
وأشعر أن معنى هذا الكلام الجميل يظل بعيدا
عن متناول قدراتي الفهمية(إن صح التعبير)
الديوان اسمه "لؤلؤة المساء الصعب".
لشاعرة اسمها لطيفة قاري..
لا أعرف عنها شيئا..
أي شيء..
سوى أنها تكتب شعراً جميلا لا أفهمه..
| | |
الغموض لا يأتي من الكلمات..
لا توجد في الديوان كلمة غامضة واحدة..
الغموض يأتي من التجارب التي تتكلم عنها القصائد..
أحيانا تحس وأنت تقرأ أنك تقرأ شعر رجل..
(والمعذرة يالطيفة!)
أحيانا تحس أنك تقرأ شعر طفلة يتيمة..
أحيانا تحس أنك تقرأ شعر مجاهد فدائي..
أحيانا تحس أنك تقرأ شعر يأس..
وأحيانا تحس أنك تقرأ شعر أمل..
لو عشت التجارب التي عاشتها الشاعرة وحاولت التعبير عنها..
لفهمت مقاصدها..
ولكنني بعيد عن الشاعرة وتجاربها..
فلا يبقي أمامي سوى الكلام الجميل الغامض..
| | |
هل تريدون بعض الأمثلة؟
الديوان، من أوله إلى آخره، أمثلة..
لنأخذ، عشوائيا، هذا المقطع
"ترتدينا المساءات"
تشبك في عروة المخمل الآدمي.. قرنفلة أنهكتها المواعيد..
دبّ فيها النعاس..
وفاح شذى الموت..
وارتبك العطر..
ياللمساءات حين تحن على الجائعين فتطعمهم
موعداً قد يجيء.."
حسنا!
هذا- بالقطع- كلام جميل..
ولكني لا أعرف المقصود بنون المخاطب
في "ترتدينا المساءات"..
ولا أعرف المقصود بالمخمل الآدمي.. فضلا عن عروته..
ولا أعرف...
هل تريدون مثلا ثانياً؟
"أمن عبث جئت أكتب
فوق الخيام
قصائد من فضة وجمان
وأرشق شاعرهم بالبشارة
أنهل من صخب الموريات الغضاب
واسترق السمع لليل والخيل
والمحصنات العذاب
امن عبث جئت انضو عن العثرات الثياب".
لا!
ليس هذا كله من عبث..
لا بد أن هذا شيئاً تريد لطيفة أن تقوله لنا..
شيئا..
لا أفهمه..
| | |
من الإنصاف أن أقول إني أعتقد أن لطيفة
تدرك تماما أن الكثيرين سيفوتهم الكثير من معانيها..
والعنوان نفسه"لؤلؤة المساء الصعب" يشي بذلك..
والقصيدة الأولى تقول، بوضوح هذه المرة.
| | |
لو لمست الكلام
فُضّ سرّ الغرام
لو لمستُ الزجاج
مات توت السياج
| | |
من الواضح أن لطيفة لا تريد أن تفض سر الغرام..
ومن الواضح أنها لا تريد أن يموت توت السياج..
من الواضح أنها تريد أن تبقى كما وصفت نفسها
امرأة..
سرها في المدى..
سره في المدى..
لو دنا..
ربما أمطرت
لؤلؤا، أو ندى
ربما... ربما
| | |
في الختام
هذه المرأة أمطرتنا لؤلؤا جميلا صعبا..
ونحن - أنا على أية حال!-
في انتظار لؤلؤ جميل أسهل فهما
في ديوان قادم..