(محمد شكري/المغرب) |
ما زال الكاتب المغربي الكبير محمد شكري محتفظاً بحيوية شاب في الأربعين. وكما يؤكد دائماً فهو سعيد لأنه لم يشِخْ بشكل سيء كما حصل مع بعض أصدقاءه. قصة مرضه الجديدة ليست بالنسبة له سوى قصة. تماماً كحكاياته الأخرى التي ضمَّنَها سيرته الذاتية الطويلة ذات الأجزاء الثلاثة. شيء من الواقع.
يء من الخيال. وأحداث تعبُرُ كالأحلام. شكري في قرارة نفسه لا يصدق أنه مريض إلى هذا الحد. وحدهم الأطباء يقولون ذلك لأصدقائه المهمين وهم يصطنعون الجدية. أما هو فيحس نفسه أكثر استعداداً للحياة من السابق خصوصاً بعد أن استعاد صدرُهُ رحابته السابقة وصار يتنفس بشكل جيد. وعموماً، يبدو أن للرجل التزامات عليه أن يعيش طويلاً من أجلها. آخر هذه الالتزامات صارت له مع منظمة اليونيسكو التي توصل منها قبل أيام فقط برسالة مفاجأة. ففي إطار استعدادها لعشرية محاربة الأمية التي ستنطلق هذه السنة وستتواصل فعالياتها وبرامجها الدولية إلى غاية 2012، قرّرت المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم تبني فيلم "الخبز الحافي" الذي تمّ الشروع في تصويره مؤخراً من طرف المخرج الإيطالي الجزائري الأصل رشيد بلحاج، والمنتج الإيطالي المعروف روبرتو لورنتيس. وتعتقد اليونسكو أن هذا الفيلم سيكون وثيقة فنية بالغة الأهمية ستحرص على تكثيف إدراجها ضمن فعاليات عشرية محاربة الأمية، لأن الأمر في هذا الفيلم يتعلق، حسب رسالة اليونيسكو، "بمشروع تحويل مسار خاص لأحد أكبر الكتاب العرب في القرن العشرين، ولد في وضع اجتماعي بالغ البؤس، لكنه تمكن من تغيير وضعه بفضل القراءة والكتابة."
كان شكري يتحدث لنا قبل أسابيع فقط عن هذا الفيلم باعتباره حلماً، وها هو الحلم يتحقق. لكن هناك حلم آخر، فاجئ محمد الأشعري وزير الثقافة شكري وأصدقاء تجربته بالإعلان عنه. إنه متحف شكري. كان شكري يطمح دائماً لأن يكون له متحف في طنجة. وكان قد عرض الفكرة على أحد الأثرياء من أصدقائه. لكن المشروع لم يدخل قط حيز التنفيذ. أما اليوم فقد أعلن الأشعري، أثناء افتتاحه لندوة "السيرة الذاتية في الأدب المغربي" التي تظمها اتحاد كتاب المغرب بأصيلة تكريماً لشكري، عن ميلاد مؤسسة محمد شكري للثقافة والإبداع التي ستقدم التراث الأدبي والفكري للكاتب الكبير وسيحتضنها متحف قديم بمدينة طنجة، وذلك بعد ترميمه وتهييئه لهذا الغرض. وستكون المؤسسة عبارة عن فضاء للقاء الأدبي والحوار الثقافي. كما ستضم معرضاً كبيراً لخزانة شكري وكتبه ومخطوطاته ووثائقه الخاصة من رسائل أدبية ومسودات، إضافة إلى بعض تحفه وأغراضه الخاصة. ولقد تكفل شكري شخصياً بمراجعة القانون التأسيسي للمؤسسة التي ستحمل اسمه، بل وأضاف لهذا القانون نقاطاً تكشف عن عمقه الإنساني النبيل، حيث تبرّع بثروته الصغيرة وجميع مدخراته المالية لهذه المؤسسة، كما ألحّ على أن يضمن القانون الأساسي لمؤسسة شكري للثقافة والإبداع الحياة الكريمة لخادمته التي اعتاد شكري على معاملتها كأخت وصديقة لا كمجرد خادمة.
قبل أيام أخرج شكري مدينته الثانية أصيلة من هدوءها الاعتيادي. فموسم أصيلة ما زال بعيداً. والمصطافون لم يلتحقوا بعد بشاطئها الجميل. لكن شكري ومعه الأصدقاء في اتحاد الكتاب باغتوا المدينة الصغيرة الزرقاء بزيارة خاطفة. قضوا نهاية أسبوع هادئة هناك تحلقوا خلالها حول شكري في ثلاث جلسات. تحدث أحمد اليابوري عن الواقعي والحقيقي والأسطوري في "الخبز الحافي"، وتوقف إبراهيم الخطيب عند رهان العنف الذي يتجاوز الوقائع إلى اللغة في هذه الرواية، ورصد محمد الداهي طغيان الصياغات الشفهية ورواسم الكلام اليومي في كتابات شحرور طنجة. وتحدث آخرون أيضاً: عبد الحميد عقار، حسن بجراوي، نور الدين صدوق، سعيد علوش، محمد عز الدين التازي، ومحمد أقوضاض. لكن شكري الذي كان يعتمر قبعته الصيفية البيضاء لم يكن يفكر كثيراً في كلامهم ولافي الاستنتاجات النقدية العميقة لمداخلاتهم، بل كان يحبهم فقط.
شكري شخص يحب الحياة كثيراً. والمؤكد أنه اليوم يحبها أكثر.
***
محمد شكري:
لقد خضت معارك عديدة في حياتي
ومعركتي مع المرض ليست الأولى وأتمنى ألا تكون الأخيرة
(ياسين عدنان/المغرب) |
يحق للأديب المغربي محمد شكري أن يفخر بجسده. فالأطباء بالمستشفى العسكري بالرباط فوجئوا بالقدرة الجبارة لجسم شحرور طنجة الأبيض على مقاومة الداء العضال الذي انتشر في ثلاثة من أجزاءه: الكلي والرئتين والكبد. أحدهم أكد لبعض زوار شكري وأصدقاءه أن استجابة جسد صاحب "الخبز الحافي" للعلاج أذهلت الطاقم الطبي الذي يشرف على حالته الصحية في إطار الرعاية التي شمله بها الملك محمد السادس. لكن بالنسبة لشكري فالأمر عادي جداً.
" لقد خضت معارك عديدة في حياتي. لذا فمعركتي مع المرض ليست الأولى وأتمنى ألاّ تكون الأخيرة"، وأضاف شكري في تصريح خصّ به الحياة: " أنا الآن تحت عناية طبية مركزة. وعلي أن أتنقل باستمرار بين طنجة والرباط. فعلى رأس كل ثلاثة أسابيع أتلقى حصة علاجية -الشيميوتيرابي- بالمستشفى العسكري ثم أعود بعدها إلى طنجة. طبعاً توقفت نهائياً عن التدخين، أما الشرب، فلا بأس من كأس أو كأسين من حين لآخر."
ينما زرته بالغرفة 203 بالمستشفى العسكري قبل بضعة أيام، وجدت شكري أمام مائدة الأكل. رافقتني الممثلة المغربية مجيدة بنكيران. وكنا نحمل ورداً. طلبت منه أن يواصل تناول غذاءه ويمكننا أن ننتظر قليلا بالخارج. لكنه رفض. كان مصراً على تأجيل الغذاء والتفرغ لنا. شكري شخص أنيق في تعامله. حتى وهو في حالاته السُّكْرِية الشهيرة يبقى أنيقاً وراقياً في سلوكه. لهذا هو محبوب بشكل خاص. هذا الحب حوّل غرفته بالمتشفى إلى حديقة. حديقة حقيقية. لا بل غابة. غابة من باقات الورود بعضها مرفوق ببطائق تحمل توقيع باعثيها: وزراء، سياسيون، أدباء، فنانون... قلت لشكري إنني أخاف عليه من النوم وسط كل هذا الورد، فأكد لي أنه يخرج الباقات العملاقة وعدداً من الأصص إلى الخارج بالليل. لم أسأله عما إذا كان يفعل ذلك بنفسه أم أنه يطلب مساعدة العاملين بالمستشفى، لأن الخفة والرشاقة التي كان يتحرك بها في الغرفة وكذا الحيوية التي تبدو على محياه جعلتني أتخيل شحرور طنجة ببيجامته المخططة وهو ينجز هذه العملية في بضع دقائق فقط قبل أن يستسلم للقراءة التي تفضي به إلى النوم.
(مجيدة بنكيران/المغرب) |
شكري يقرأ باستمرار. وهذه الأيام بالضبط يبدو أن القصة القصيرة المغربية قد مارست غوايتها عليه. لهذا كانت بعض نماذجها موضوعة قرب وسادته في غرفة المستشفى. أما الكتابة فقد فضّل تجاهلها قليلا ليتفرّغ لمعركته ضد المرض. المرض بالنسبة لشكري مجرد معركة. لا يهم من سينتصر فيها على الآخر. لكنه مجرد معركة. مثل معارك أخرى عديدة خاضها على امتداد مسيرته الأدبية الحافلة والمثيرة للجدل.
آخر معارك شكري وضعته بمواجهة الأصوليين قبل أشهر فقط حينما قرّر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ترجمة "الخبز الحافي" إلى اللغة الأمازيغية مما أثار حفيظة حزب العدالة والتنمية "الإسلامي التوجه" على هذا القرار الذي عارضه بشدة. وهو ما ردّ عليه شكري بشراسة حيث ذكّر هؤلاء بأنه أمازيغي وسيكون سعيداً بترجمة سيرته الذاتية إلى لغته الأم. صحيح أن هذه السيرة العارية ترجمت إلى 16 لغة عالمية. لكن شكري سيسعد بشكل خاص إذا كانت الأمازيغية هي اللغة رقم 17. وبالمناسبة، فلمحمد شكري حلم آخر ما زال متشبثاً به رغم المرض. وهو حلم تحويل "الخبز الحافي" إلى فيلم سينمائي. الحلم الآن صار مشروعاً ينتظر التنفيذ فقط بعد أن تحمس له منتجون من إيطاليا وألمانيا وفرنسا، وتم إسناد مهمة الإخراج للسينمائي الإيطالي الجزائري الأصل رشيد حجي، فيما التزم شكري بكتابة الحوار بنفسه. لكن يبدو أن ظروف المرض الحالية جعلته يتصل بالمسرحي المغربي محمد قاوتي ليساعده في هذه المهمة الصعبة، خصوصاًُ وأن الحوار سيكون بالعامية المغربية التي يعترف شكري بأنه لا يملك عبقريتها.