مريد البرغوثي في بيروت. يستضيفه هذا المساء «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» في لقاء أدبي مع رفيقة دربه الروائية المصريّة رضوى عاشور. ويحيي الشاعر الفلسطيني بعد غد أمسية شعرية مشتركة مع عباس بيضون في الجامعة الأميركية. «الأخبار» التقت صاحب «طال الشتات»
مريد البرغوثي شاعر فلسطيني على طريقته. اختار مبكراً أن ينأى بقصيدته عن الخطابية واللغة النضالية المباشرة. لم يكتفِ بما يحفظ لشعره مزاجاً خاصاً داخل الشعر الفلسطيني فحسب، بل راح يصنع لهذا الشعر نبرةً تؤمّن له حضوراً مميزاً في المشهد الشعري العربي برمّته. نبرة خافتة، ولغة دقيقة تتجنب الشاعرية الجاهزة والمتوقعة، وتبحث عن أخرى مبتكرة تقوم، غالباً، على استخراج المباغت وغير العادي من الميراث اللغوي المشترك بين الشاعر والقارئ.
يقول مريد البرغوثي إنه اهتدى مبكراً إلى هذه النبرة التي تقوم على تبريد اللغة وإبطاء المعنى أو تأجيله: “كلما كان التعبير الشعري مقتصداً وخافتاً كان وقعه أشد على القارئ. فالشعر عندي نوع من العمل، وأنا أتحاشى المفردات المستعملة ذات المعاني الجاهزة. القصائد التي تفعل ذلك تمارس بطالة شعرية، وترشو القارئ بلغة متوقعة وكسولة”.
ولأن صدور مثل هذا الكلام عن شاعر فلسطيني قد يكون غريباً بالنسبة إلى بعضهم، يسارع صاحب “طال الشتات” (1987) إلى الإيضاح: “أنا أتخذ هذا الموقف لأني أريد أن أؤثر في الناس، أريد أن يبدو شعري بسيطاً وحيادياً بمعنى ما، ليكون تأثيره أكبر في القارئ. ليس لائقاً لصاحب قضية عادلة كالنضال من أجل الحرية ألّا يُحدث أثراً عندما يُسمع أو يُقرأ. القصائد التي تهتف وتستخدم الكلمات الساخنة هي أقل قدرة على التأثير. أقول هذا بالاستناد إلى خبرة معاشة. أنا أثق أكثر بالمجموعة البشرية التي تتقن قراءة الشعر لا سماعه فقط. القراءة أقل منبرية وتثير إصغاءً مختلفاً وأكثر عمقاً”.
هل فلسطين كقضية مارست ضغطاً على الشعر الفلسطيني، وحرمته من أن يشهد تجريباً كبيراً في الممارسة الشعرية؟ “بسبب ذلك ابتعدتُ عن المعلّبات التعبيرية”، يقول البرغوثي مضيفاً: “أنا أبرّد اللغة لكي أكون أكثر إقناعاً، ولذلك عندما صدرت مجموعتي “قصائد الرصيف” (1980) لم يكتب عنها ناقد فلسطيني واحد. الآن يعود الكل إليه كعلامة على تغيّر مفصلي في شكل القصيدة الفلسطينية، يستند إلى الاقتصاد اللغوي والتقشف الخالي من أي زخرفة. ففي وقت كان فيه كل شيء ينبع من فوهة البندقية، تضمنت تلك المجموعة 45 مقطعاً شعرياً تتناول تفاصيل إنسانية وحياتية مهملة. وكان ذلك مؤثراً أكثر مما لو تحدثت مباشرة عن اللاجئين والمنفيين وقضايا النضال. أنا أحاول دائماً الوصول إلى أدقّ ما يمكن من كلمات إلى درجة دقة الجراحين، ولا أحتمل قراءة قصيدة أو مقالة إذا كانت مكتوبة بلغة فضفاضة ومبهرجة”.
بمناسبة ذكر النقد، يرى البرغوثي “أن فلسطين كقضية سياسية وفعل مقاومة، لم تمارس ضغطاً على التعبير الشعري الفلسطيني فحسب، بل أوقعت هذا الشعر ضحية نقاد راحوا يتعاملون مع هذا الشعر بما أسميه “النقد التضامني”، وهو نقد لم يطالب الشاعر الفلسطيني بأكثر من ذكر الأرض والقضية، وراح يُعلي من شأن المضمون الفكري للقصيدة على حساب جماليّتها، فتراجعت اقتراحات الشعراء وابتكاراتهم. وهذا ما جعل الكثير منهم لا يكتشفون أصواتهم وممارساتهم الشعرية الحقيقية بسبب هذا النقد الإيجابي، والمتواطئ مسبقاً، مع أي قصيدة مكتوبة عن فلسطين والمقاومة. أنا لا أدعو الشعراء إلى تجنّب الكتابة عن القضايا الكبرى، كل ما أطالبهم به ــ كما أطالب نفسي ــ أن يكتبوها جيداً”.
تعامل البرغوثي مع أشكال شعرية متعددة، حتى إنه استخدم النثر في مجموعته الأولى “الطوفان وإعادة التكوين” (1972). ويرى أن لا وصفة جاهزة لكتابة الشعر. “أنا أطيع بدايات قصيدتي، أطيع مسودتي، أذهب حيثما تقودني، لا أبالي إذا قادتني إلى البحور الخليلية أو إلى الاستغناء عن الموسيقى أو إلى النثر المحض، قد تقودني إلى قصيدة من سطرين فأتوقف، أو إلى كتاب كامل فلا أتوقف في منتصفه”.
عاش مريد البرغوثي تجربة فريدة ومأساوية على صعيد المكان. إذ حُرم من العودة إلى مسقط رأسه رام الله وهو لا يزال طالباً في جامعة القاهرة، بعد هزيمة حزيران 1967 واحتلال إسرائيل للضفة الغربية. بعدها صار الانتقال من مكان إلى آخر سمة حياته: رُحّل من القاهرة إلى بيروت، ثم عاد إلى القاهرة، ومكث فيها حتى زيارة السادات إلى إسرائيل، فكان أن رُحّل ثانية، ودام ذلك 17 عاماً أقام خلالها في بيروت وبودابست. وأنجز البرغوثي كتاباً موازياً في أهميته لفرادة حرمانه من طمأنينة الاستقرار ودعته، وهو كتاب “رأيت رام الله” (1997) الذي ترجم حتى الآن إلى 11 لغة، وحاز جائزة نجيب محفوظ.
يوضح البرغوثي أنّ الكتاب لم يكن تعبيراً عن الحنين. فالحنين، في رأيه، متاح للمسافر بإرادته إلى مكان يختاره وفي وسعه العودة إليه متى شاء. “إنه أمر عادي أن يشعر المهاجر من أجل تحسين دخله أو السائح بالحنين إلى بلده وبيته، لكن عندما تكون هناك قوة جبارة كجيش احتلال أو نظام ديكتاتوري، مثلاً، هي التي تمنعك من العودة، تكون إرادتك مكسورة وستشعر بالغضب لا بالحنين. الغضب شعور شخصي، أما الحنين فشعور عام. وعندما كتبت “رأيت رام الله” كنت أكتب عن ثلاثين عاماً تعطلت خلالها إرادتي وحُرمت من العودة إليها. سميت الكتاب “رأيت رام الله” لا “عائد إلى رام الله”، فأنا لفرط ما كنت مهدداً بترك الأمكنة، لم أعد أمتلك جرأة الاستقرار والتعلق بالأماكن. وحاولت في هذا الكتاب النثري الخالص أن أستخدم الدقة الجراحية عينها التي أطالب نفسي بها في الشعر. كما أنني كتبت الكتاب وفق منطق فردي ولغتي ومفرداتي ونبرتي الخافتة. في حالات كهذه، يُؤدبن بعضهم التجربة ويُشعرنها على أساس أن وضعاً إنسانياً كهذا يستدعي معنى جاهزاً له علاقة بما تثيره العودة من حنين”.
الاخبار
الاربعاء ٤ تشرين الأول