قالت دراسة اكاديمية امريكية ان الابن البكر يحظي بمعاملة لا يحظي بها الابناء الاخرون لنفس العائلة!
فهو يحظي باهتمام علي صعيد الوقت والرعاية والغذاء والهدايا، والرفاهية عموما، اكثر مما يحظي به سائر اخوانه واخواته الذين يأتون بعده.
لكن الدراسة، التي قرأت خبرا عنها، لم تربط، علي ما يبدو، بين (اكتشافها) هذا وبين المكان والزمان. فهل هذا امر ينطبق علي كل الامكنة والازمنة، اي انه مطلق، ام يرتبط بعصر ومكان معينين، اي انه نسبي؟
بوضوح اكثر: هل الطفل الغربي الاول يحظي بالمعاملة نفسها التي يحظي بها الطفل الاول في العالم الثالث؟
اخمن ان الدراسة التي كان مسرحها امريكا وزمانها هذه الأيام ولم تشغل بالها بالابن البكر في امكنة وازمنة اخري.
فذلك عالم آخر وازمنة غير تاريخية، لا تنطبق عليهما المعايير والقيم التي تنطبق (او تنبثق) من العالم المتقدم.
لماذا استوقفني هذا الخبر من دون غيره؟
الجواب بسيط: فأنا الابن البكر لعائلتي، ولم اتلق معاملة تفضيلية عن بقية اخواني واخواتي، بل العكس فأنا ولدت في زمن الفقر شبه المدقع وفي ظل قيم تربوية تقليدية لم تعرف شيئا عن قيم (التربية الحديثة)، ولم اتنعم بما (تنعم) به اخواني واخواتي الذين ولدوا في نهاية سلسلة الانفجارات الذرية لبطن امي الخصيب (تسعة احياء، اثنان توفيا بعد الولادة).
لا الوم والديَّ علي شيء، فقد كونا عائلة من الصفر، وعاشا في زمن عبوس قمطرير، وعندما كشفت لهما الدنيا، اخيرا، عن سن ضاحكة ماتت امي وصرت، في نظر ابي وعلي حد تعبيره، (صاحب اليد العليا).
ما يزعجني جدا انني لم استطع، قط، ان افاجئ ابنتي وابني بشيء علي الاطلاق، لا بشكولاته ولا بألعاب فيديو، ولا بثياب، ولا بـ (ووكمان) ولا بالذهاب الي السينما، ولا بـ (لندن أي) ولا اخيرا بـ (أي بوت). لا شيء فعلته واحدث تلك الهزة الكيانية التي كانت تحدثها (حبة ملبس) يخرجها والدي من جيبه ويعطني اياها.
ذكرتني تلك الدراسة بعلاقتي انا الابن الاول بوالدي. اكتشفت انه لم يصطحبني معه الي اي مكان في العالم (باستثناء الجامع او بيوت اقاربنا في المناسبات) الا مرة واحدة الي عمان. وهكذا حدثت الحكاية:
جاء والدي عصرا وطلب مني، بلا مقدمات، ان اغسل وجهي وارتدي ثيابي. وهذا يعني ان ارتدي البنطلون والقميص والحذاء التي لا ارتديها الا في مناسبات جلل: العيد مثلا. ففي الايام المعتادة، وخارج اطار المدرسة كنت ارتدي تلك الثياب الملفقة التي تعيد امي انتاجها من اي قطعة قماش زائدة او ثياب عسكرية لم يعد يستخدمها ابي. كيف يمكن ان تتحول بناطيل والدي العسكرية، الشتوية او الصيفية، الفضفاضة،اصلا، بناطيل علي مقاسي؟ تلك، بالطبع، واحدة من اعاجيب امي الألف غير المكللة، دائما، بالنجاح. القيافة، هنا، لا معني لها. المهم هو ستر العورة ورد الحر والبرد خاسئين. اما فكرة الحذاء خارج المدرسة فليست واردة الا في الزيارات التي نقوم بها الي اقاربنا. المعتاد هو خلع الحذاء المخصص للمدرسة فور الوصول الي البيت والتهام الطعام بسرعة البرق والخروج الي الشارع،السيل، سكة الحديد، السبعة جسور، حافيا.
بقدمين حافيتين وعلي شوارع لم تعبد وفي ارض بور او صخرية كانت قدماي تسعيان بلا كلل او الم، وبحاسة استشعار خاصة بهما لتجنب الشوك وشظايا الزجاج، الوحل او نتوءات الصخور، الي اي مكان خارج البيت . المهم ان اكون حرا طليقا بلا زواجر او نواه. اما شوكة، شوكتان، ثلاث شوكات استقرت هنا او هناك في قدمي فامرها يهون، اسهلها اتولاه بنفسي اما الاصعب فتعالجها امي بالضغط علي حواف الاصابة فيبرز رأس الشوكة، او، في اسوء الاحوال، بأبرة خياطة وتنتزعها مع سيل من اللعنات.
لم تكن ثورة البلاستيك الديموقراطية الشعبية قد هلت، بعد، علي الفقراء كنعمة غير متوقعة لاقدامهم وآوانيهم لتحطم، تماما، اسطورة الجلد والنحاس والالمنيوم ولتشطب من قائمة الاعمال، الي الابد، مهنة تبيض ادوات النحاس الرائجة تلك الايام، ولتنذر الاسكافيين بأيام عصيبة، ولتجعل لكل قدم، مهما كانت فقيرة، حذاء وصندلا.
تفاجأت امي بعودة والدي باكرا من معسكره. قال لها انه حصل علي تذكرتين مجانيتين لمشاهدة مباراة ملاكمة لفهد الطنبور في عمان ويريد ان يصطحبني معه. تفاجأتُ اكثر. فلم يصحبني والدي معه، من قبل، الي اي مكان. ولم اكن، في كل حال، سأسر بصحبة كهذه. الذهاب مع والدي يعني ان اتحول صنما. لا حركة، لا صوت، لا تململ. انضباط صارم كجندي في عرض تخرج عسكري. وهذا لا يناسبني. ولا يناسب الشياطين التي لم تشك امي، لحظة واحدة، انها تتلبسني كعقاب لها علي اثم لا تعرف كنهه. لكن الحافز أنساني ثقل الوجود الي جانب ابي علي معدتي: مشاهدة مباراة لفهد الطنبور. ورغم ان التليفزيون الاردني لم يكن قد بدأ بثه، يومذاك، الا ان الطنبور كان اشهر من نار علي علم. من في الاردن لم يسمع ببطلنا الوطني وبطل العالم العسكري في الملاكمة الذي لم يهزم، قط، في مباراة واحدة،
الملاكم الذي يحطم بقبضة لا تقهر كل من يتحداه عربيا كان ام اجنبيا؟
استقلينا، ابي وانا، باصا تقطعه، عرضا، خطوط حمر قوية من كراج الزرقاء ـ عمان. كنت مستثارا لثلاثة اسباب: الذهاب الي العاصمة التي لم ازرها من قبل، مشاهدة الطنبور وهو يوجه لكماته القوية الي خصمه التي ستنتهي، حتما، بالضربة القاضية، التفوق علي اصحابي بالسببين المذكورين: زيارة عمان وحضور مباراة لفهد الطنبور.
اتذكر الآن هذه الاشياء: رائحة وقود الباص القوية التي قلبت معدتي، موتور الباص الناتيء كحدبة كبيرة بين الباب والسائق، الذراعان الحديديتان علي جانبي مقدمة الباص اللتان تتحركان شمالا او يمينا كلما انحرف الباص في احد هذين الاتجاهين، الكنترول بثياب تشبه زي الشرطة وهو يخرم البوليتات (التذاكر) بمقرض حديدي كبير، امرأة بدوية علي وشك الاستفراغ تشم حبة ليمون وبيدها قرطاس ورقي فارغ، ركاب ينزلون ويصعدون بقفف او صرر او بلا شيء طوال الطريق الي عمان، الخضخضة التي هزت احشاءنا علي طريق بدت لي طويلة طويلة.
حتي عوجان كنت اعرف الطريق والمنطقة المحيطة بالسيل، فهما جزء من مجالي الحيوي الذي اعرفه بالسنتيمتر المربع. بعد ذلك كان كل شيء جديدا علي. ادهشتني الاشجار والخضرة الكثيفة والمنتزهات في المنطقة التي تلت عوجان . قال والدي انها الرصيفة ، ثم جاءت ماركا التي يقع فيها المطار الدولي وهي منطقة سكنية بدت لي كالحة واكثر اكتظاظا من الرصيفة ولم تعجبني. ثم منطقة المحطة التي تتكيء علي حافة السيل حيث عادت سكة حديد الحجاز، رفيقة طفولتي المحفوفة بالحكايات والاساطير علي امتداد خطيها الرفيعين من تركيا الي المدينة المنورة، للظهور مجددا.
قال والدي انه ولد هنا في بيت شَعر بالقرب من السجن، وسيولد ابنه البكر (كاتب هذه السطور) في بيت شَعر ايضا ولكن علي الحدود الاردنية السورية.
تتخذ منطقة المحطة، هذا الاسم، نسبة الي محطة سكة حديد الحجاز الرئيسة فيها التي سأستقل منها بقلب واجف، بعد نحو اثني عشر عاما، قطارا ذاهبا الي دمشق ليبلغ ذياك الذهاب، الذي تخللته عودات متقطعة، ثلاثين عاما بالتمام والكمال، (عشر سنين زيادة علي خروج يوليسيس من ايثاكا وعودته اليها).
بدت لي منطقة المحطة اكثر انخفاضا من سائر المناطق الاخري التي مررنا بها والاكثر تشجيرا. بدا السيل عريضا كنهر. هناك بساتين علي جانبيه. وبدا السجن الكحلي اللون كقلعة معزولة لعقاب العصاة.
برغم رسوخ بعض التفاصيل الصغيرة في ذاكرتي غير انني لا اتذكر المكان الذي جرت فيه المباراة. يرجح والدي انه المدرج الروماني الذي كان يحتضن بين مدرجاته التي شهدت، في زمنها الروماني التليد، صرخات الجمهور المهتاج وانفاس المصارعين المحتضرين، انشطة رياضية من هذا النوع. لكنني اشك بذلك، فلو كانت المباراة في المدرج الروماني لما احتجنا ان نركب سرفيسا ونصعد الي احد جبال عمان الغربية حيث هبط ركاب وصعد اخرون علي طريق لا تصلح الا لاظلاف الماعز. السرفيس الذي كان فيه اناس غيرنا امر مؤكد تماما بالنسبة لي.
انه محفور في ذاكرتي. لأنني كنت اعاني من نوبة صداع ستداهمني مطارقها، بين حين واخر، الي يومنا هذا. الصداع الذي انقض علي بعد نهاية المباراة بسبب الاستثارة، او الجوع، مرتبط في ذهني بالسرفيس. كانت رغبتي الوحيدة ان اعود الي البيت، ولكن كان علينا ان ننتظر، بعد ان تفرق مشاهدو المباراة في كل الاتجاهات، سيارة تقلنا الي وسط البلد لنستقل من هناك الباص الي الزرقاء. في المدرج الروماني لا نحتاج الي ذلك، فكراج الزرقاء علي بعد خطوات. ثم انني اتذكر ان الصالة كانت مقفلة والحلبة الخشبية المحاطة بالحبال من كل جانب موجودة في الوسط ولم نكن في الصفوف الاولي لانني كنت اشب بجسمي لاري الطنبور وهو يناور، وهو يلاحق خصمه، ثم وهو يكيل له لكمات يتطاير منها رذاذ ولهب.
من كان خصم الطنبور؟
لا اتذكر. ويبدو انه لم يكن مهما. لأن المباراة لم تطل. لم يستغرق الامر كثيرا حتي جاءت الضربة القاضية. اتذكر ان الطنبور واجه معلمه السابق محمد اديب الدسوقي في مباراة تحد وكان الاخير قد طعن في السن، فهل كان الدسوقي هو ضحية الطنبور في تلك المباراة؟
ايضا، لا اعرف. ولا والدي ترك سطرا في اوراقه عن تلك الرحلة التي ربما اراد منها ان يقول لي، بطريقة غير مباشرة، انه ليس قاسيا الي الحد الذي اتصوره بدليل انه يصطحبني معه، رغم عصياني الدائم لمشيئته، الي مباراة ستكون موضع حسد اولاد الحارة كلهم. عندما سألت والدي، وانا اعيد بناء هيكل طفولتي المتداعي، عن تلك الرحلة لم يتذكر شيئا من تفاصيلها وبدلا من ذلك راح يحدثني عن اصطحابه لي الي عرض للقوة قدمه شمشون العرب في ثانوية الزرقاء حيث جر ذلك العملاق، من بين اعاجيب اخري، امام الحشد الزرقاوي الذي افترش ملعب المدرسة، سيارة بشعر رأسه!
القدس العربي
الجمعة 12 يناير 2007