يسعى الفوتوغرافي للحصول على اللقطة المثالية الى "التصويب" مرات كثيرة، مقترباً ومبتعداً، موسعاً او مضيقاً، وفي الأثناء يجرب لقطات عدة بتنويعات في الاضاءة وفي زاوية العدسة والوضعية والخلفية ودرجة التحميض.
وفي أحيان كثيرة، لا يجد المصور لقطته المثالية في صورة واحدة حاسمة، لكنه يعثر على مواصفاتها في سلسلة لقطات متشابهة، ومتباينة في آن واحد.
ثم نكتشف ان اللقطة الوحيدة الحاسمة، المثالية، هي وهم معمم، أو هي نتيجة لتعسف منهجي متأت من معتقد ثقافي راسخ وتقاليد فنية "حداثوية" (بمعناها الايديولوجي). ونكتشف ان جمالية اللا انتخاب، القائم على "احترام" الاحتمالات المختلفة وتنويعاتها، هي جمالية تنبثق لا من "نتيجة" كل لقطة، بل من الفوارق التي تمايز كل لقطة عن الأخرى.
هذه الفوارق التي تجعل لكل صورة مبرر كينونتها، ميزتها التعبيرية، هي بمعنى من المعاني، محاكاة للاضطراب الواقع بين قانون الصدفة والعبث والنظام والمعقولية ولا نهائية الاحتمال.
سعى الشعراء الى كتابة تقوم على مبدأ "التقاط اللحظة الحاسمة"، العابرة. وكانت لذة هذا السعي تكمن في استحالته. وكانت الكتابة، ولا تزال، تمارس تحت وطأة التكثيف والحذف، وتحاشي التكرار، والاختصار ونفي الارتجالية، وبالأخص نفي الصدى عن العبارة او تناسخها او ارتجاعها كهزات ارتدادية.
على الضد من ذلك كله، تأتي تجربة فادي طفيلي، في مجموعته الشعرية "هل جرحت يدك؟ هل جرحت خدك؟". العنوان نفسه الذي يقوم على احتمالين، على عبارتين متشابهتين، يدلنا على "معضلة" الفوتوغرافي الآنفة الذكر.
يراهن فادي طفيلي على "شعرية" معاكسة، لا تمسك باللحظة العابرة لتفصلها وتصطفيها وتدوّنها، إنما تشير إليها كوقت مديد متصل، وتدل عليها عبر تدوين ما قبلها وأثنائها وحين انحلالها. بل وينحاز طفيلي ليس الى "ألق" اللحظة لكن الى سكونها وركودها وانطفائها. بل ويسعنا القول إن الشاعر إذ يميل الى كتابة الانطفاء والتقاط موت "اللحظة الحاسمة" لا توهجها، إنما يحرضنا على أن نتخيل نحن، ونخترع نحن ذاك الذي نسميه "اللحظة المتوهجة"، المتوترة. إنه، بهذا المعنى، يستقيل من تلك المهمة الملقاة على عاتق المصور والشاعر، ليباشر عملاً معاكساً، وضدياً أي ابتكار الشعرية من أسلوب التشابه والتفارق والتنويع تماماً كما يحلو لعازفي الجاز أن يلعبوا ويتلاعبوا بعبارتهم الواحدة مرات لا تحصى. ويحبذ الشاعر أن يقول مثالاً على ذلك أن اليد اليمنى تشبه اليد اليسرى في الجسم الواحد. لكن تلك اليد ليست تكراراً للأخرى.
ولأسباب وجيهة، يسعى الفنانون والشعراء الى نبذ كل رتابة وكل ضجر، ويفزعهم أكثر التمدد الساكن للقول واستوائه على لون واحد وسطح جلمودي واحد. أيضاً، نجد هنا في كتاب "هل جرحت يدك؟.." معاكسة إضافية، إذ يذهب فادي طفيلي لاستكشاف ما قد ينجم عن "تسجيل" الرتابة والبطء والضجر، في الموضوع والصورة، وفي أسلوب الكتابة وشكلها. فنحن نقرأ قصائد ساكنة، بلا ذبذبة صاخبة، بلا تضاريس.
لكن ما نصفه هنا بطئاً ورتابة وسكوناً، ليس نابعاً من مشهد ريفي ولا من حساسية، ريفية، انه طالع من قلب الحياة المدينية. تلك مفارقة أخرى في شعر طفيلي، يعاكس فيها ذاك الانطباع الراسخ حيث المدينة بؤرة للصخب والضجيج والفوارق.
يحيل الشاعر المدينة الى "حقل رمادي بلا اعشاب"، واذ يخرج ليراقب ويشاهد ويصور، فهو يلتفت لا الى علامات الحياة في ذروتها وازدحامها، بل الى ما هو مقبل على الموت والانحلال فيها، مدينة ممتلئة وحية لكنها كما الأفلام الصامتة، من غير صوت او نأمة. انها ظلال الأشياء والأجساد، ظلال البنايات التي "تمشي خلف بعضها على الطريق كصف الموتى... الموتى الذين ماتوا هناك على الطريق بأوقات مختلفة وانتظروا بعضهم حتى يموتوا جميعاً ليمشوا خلف بعضهم..."
هذا الشعر كأنه مكتوب بعيني غريق يهبط على مهل الى الانطفاء، ولا يفعل الغريق شيئاً سوى ان يتذكر الانطفاءات السابقة، الميتات السابقة. ومن هذا التذكر تكون القصائد مرثية واحدة مرتجعة، متكررة، لا نهائية.
المستقبل
الاحد 4 تشرين الثاني 2007