سافر الباحث والكاتب الألماني بين تونس وبيروت، مروراً بالجزائر وحلب وعنابة ودمشق والقاهرة، حاملاًأسئلته «المخفيّة»، مخضعاً أفكاره لاختبار الواقع. النتيجة مجموعة نصوص تجمع بين الجهد التنظيري والتجربة المباشرة، صدرت بالعربيّة عن «دار الجمل». كيف أفلت شتيفان فايدنر من فخ الاستشراق؟
شتيفان فايدنر ليس اسماً مجهولاً في دائرة الثقافة العربية، وخصوصاً لدى الشعراء والمهتمّين بالشعر. فقد نقل إلى الألمانية أكثر من شاعر في هذه المنطقة من العالم، وأنجز «أنطولوجيا الشعر العربي» التي كرّسته واحداً من أهمّ مترجمي الأدب العربي الى اللغة الألمانية. منذ خمسة أعوام، تسلّم فايدنر رئاسة تحرير «فكر وفن»، وهي فصلية ألمانية تصدر بالعربية والفارسية والإنكليزية، وأسهم في إخراجها من دائرة الاستشراق الضيقة إلى مناقشة قضايا ومشكلات ثقافية عربية وإسلامية أكثر حداثة
وراهنية.
في كتابه «الأسئلة المخفية: محاولة للاقتراب من الإسلام» (دار الجمل)، يُفاجئنا شتيفان فايدنر بعمل مختلف ويستدرجنا إلى ساحة أخرى بعيدة عن الشعر وترجمته. لكن دهشتنا سرعان ما تتبدّد حين نكتشف أنّ اقترابه من الإسلام ظلّ محكوماً بميوله الأدبية والشعرية. صحيح أنّ شتيفان فايدنر يخوض في مسائل نظرية وفكرية ودينية شائكة، وخاضعة لتفسيرات ووجهات نظر متعددة ومتناقضة، إلا أنّه لا يفعل ذلك بعدّة المنظّر المقبل على سجالات فكرية جافة ومكرورة. طريقة تأليف الكتاب تدل على أنّ المؤلف يريد أن يُبقي أفكاره وطروحاته داخل حيز السرد الأدبي، ويحاول أن يُقنع القارئ أيضاً بأنّ ما يقرأه هو نص أدبي وإن كانت الأفكار النظرية جزءاً كبيراً من مادته ومحتوياته.
الواقع أنّ الكتاب أكثر من أن يكون نصاً أدبياً أو نصاً نظرياً. ثمة أدب وسياسة ومسائل معقّدة كثيرة يثيرها المؤلف، لكنه يكتبها في إطار رحلات وزيارات متفرّقة قادته إلى عدد من الدول العربية. وتخلل بعضها إلقاء محاضرات، ولقاءات ثقافية رسمية، ونقاشات مرتجلة مع أصدقاء وكتّاب عرب. يقول شتيفان فايدنر إنّه تعمّد أن يؤلف كتابه بهذه الطريقة، ويرى أنّه حاول الإتيان بطريقة تعبير جديدة تنسجم وتجاربه مع العالم العربي: «لم أكن راغباً في إنجاز كتاب سياسي نظري عن العالم العربي، ففي المكتبات الكثير من هذه الكتب. وهذه الكتب النظرية تفتقر إلى منحى معين، أعتبره أنا مهماً جداً، وهو المعايشة الشخصية والرأي الذاتي. ولهذا كتبت مزيجاً من أدب الرحلات والريبورتاج الصحافي، لكني حاولت في الوقت نفسه، إعطاء الكتاب وجهة أدبية قدر الإمكان. ولهذا فالكتاب مفتوح أمام قراءات وتأويلات مختلفة. لم أسع إلى التطرق إلى ظاهرة العالم العربي فحسب، بل أريد أن أدفع القارئ ليتأمل معي في ما أراه. أريد أن أناقش الموضوع، لا أن أجد له تفسيراً نهائياً. أريد أن أطرح أسئلة، لا أن أعطي أجوبة. ولهذا فقد وافقت على العنوان العربي للكتاب، مع أن العنوان الألماني كان أكثر صدامية وإثارة: «الإغراءات المحمدية».
من تونس إلى القاهرة، مروراً بالجزائر وحلب وبيروت وعنابة وسوسة ودمشق، اصطحب فايدنر أفكاره وملاحظاته أينما حل، قرّبها من العوالم التي يزورها، عرّضها للمساءلة والاختبار. إنها أفكار طليقة ومرنة ولديها شقوق ومنافذ تسمح لهواء آخر أن يتسرب إليها ويعيد تشكيلها ويمنحها حيوية أكثر. هنا نجد نقاشاً مختلفاً في الإسلام، ثم الإسلام والإرهاب بعد 11 أيلول (سبتمبر)، الاستشراق، الهولوكوست وإسرائيل، التصوف، النزاعات السياسية، الشعر الحديث. سترد هذه الموضوعات في محاضرات ألقاها المؤلف، وخاض بعدها سجالات مع الحاضرين، وفي مشاهداته الذاتية للمجتمعات التي سافر إليها، وعلى الموائد التي تناول فيها العشاء بصحبة مثقّفين أو أناس عاديين.
لعلّ هذا يقدّم تبريراً إضافياً لبنية الكتاب القائمة على خلط الجهد التنظيري بالتجربة المباشرة، إذ يبدو أنّ إطار اليوميّات والرحلات الشخصية يعطي صدقيّة ودقةً لاستنتاجات المؤلف. يقول شتيفان: «أنا لا أدعو القارئ إلى تبنّي رأيي أو طريقتي في التفكير، بل أدعوه لأن يفكّر بنفسه بالأشياء التي أكتبها. لا أريد إقناع أحد، ولا أريد أن أفسّر شيئاً. الكتاب الأدبي، وأنا أعتبر هذا الكتاب أدبياً، ليس خطاباً سياسياً على رغم توفّره على مادة سياسية وفكرية في طيّاته».
لا ينسى شتيفان فايدنر أنّه كاتب ألماني، لكنه كثيراً ما يفصح عن ودّ صريح ومتفاقم لثقافة العالم العربي والإسلامي. الفصل الأول من الكتاب يؤرّخ لبدء هذه العلاقة. ومن خلال نص شديد التأثير، يسرد شتيفان فايدنر كيف ضغط مصاريف رحلته في تونس كي يتسنى له شراء نسخة من القرآن، وكان وقتها مجرد سائح فضولي لا يتعدّى السابعة عشرة.
الكتاب يطرح أسئلة كثيرة عن الإسلام، وأنماط الخطاب الديني. وهذا ما يستحضر بالضرورة مسألة الاستشراق التي لم تغب عن ذهن شتيفان كما يبدو. إنه يعترف باستحالة الكتابة عن الشرق في الغرب من دون التعرض لتأثير الاستشراق: «أنا ألعب على مفهوم الاستشراق. أنا لا أتجاهله، لكني أحاول، في الوقت نفسه، أن أتجاوزه.
الاستشراق يختبئ في كل نص غربي عن الشرق، شئنا أم أبينا. لكن إذا كان الكاتب يعرف هذا، يمكنه التعامل معه بشكل ساخر. السخرية في التعامل مع التقاليد الاستشراقية تنكشف مباشرة في العنوان الألماني للكتاب. لقد اخترت عنوان «الإغراءات المحمدية» لأنّ مفردة «محمدي» تذكّرنا بأن المستشرقين القدامى أطلقوا اسم «المحمديين» على المسلمين. الإغراءات المحمدية نتجت عن الصورة القديمة التي شكّلها المستشرقون عن الشرق. إنها موجودة في خيالنا عن الشرق، وليست موجودة في الشرق نفسه».
الحديث عن الاستشراق يأخذنا إلى عمل شتيفان فايدنر رئيس تحرير مجلة «فكر وفن»، فيقول: «المجلة كانت تمثل الاستشراق الألماني التقليدي. حاولت بعد تولي رئاسة تحريرها أن أحوّلها إلى مجلة حيوية تهتم بالمواضيع الساخنة والسجالية التي يمكنها إثارة حوار جدي بين الشرق والغرب. ولكن لا علاقة لكتابي بعملي في المجلة. هاتان قضيتان أريد التمييز بينهما. الكتاب شخصي جداً، بينما عملي في «فكر وفن» غير شخصي في معظم الأحيان. إنّها ليست مجلتي، بل مجلة تابعة لمعهد غوته. لكني أسافر كثيراً بتكليف من المعهد، وهذا ما يفسر تسرّب تجاربي ورحلاتي إلى متن الكتاب، وقد تسرب ذلك إلى عملي مترجماً للشعر العربي أيضاً، وهو ما ظهر في الفصل المتعلق ببيروت».
*****
كان شتيفان فايدنر طالباً حين أخذه فضوله وشغفه باللغات إلى تعلّم اللغة العربية. فكّر في دراسة مجال غير مألوف، فاختار الاستشراق والعلوم الإسلامية. لكن ميوله الأدبية قادته إلى قراءة الشعر العربي، وخصوصاً المعاصر منه. شارك الشاعر العراقي خالد المعالي في ترجمة السياب وسركون بولص، ثم تابع العمل وحده، فترجم أدونيس ومحمود درويش وفؤاد رفقة وآخرين، ونشر أنطولوجيا للشعر العربي الحديث. المهم في هذا، أنّ دور نشر كبيرة أصدرت هذه الترجمات، وكان ذلك اختراقاً حقيقياً لسوق الكتاب العربي في ألمانيا.
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنّ عمل فايدنر المميز والمؤثر لعب دوراً أساسياً في صنع سمعة ما للكتاب العربي لدى الناشر الألماني. وهو اليوم أحد الذين يُستَفتون في اختيار المؤلفات العربية التي تستحق الترجمة، وكذلك دعوة الكُتّاب العرب إلى نشاطات تُقام في ألمانيا. شتيفان فايدنر ليس مترجماً عادياً. لقد «اشتغل على نفسه»، ومزج معرفته النظرية بعلاقات وثيقة مع ثقافة العالم العربي وما يطرأ عليها. فهو يعرف بدقة أشكال الكتابة الشعرية وتياراتها وأجيالها، علاوة على سياقات أخرى كالتصوّف والدراسات الفلسفية والأوضاع السياسية.
معرفة شتيفان فايدنر بالعالم العربي تتعدى فكرة تعلّم اللغة والترجمة عنها، إلى حد أنّ افتتانه المفرط بعمله وإتقانه له خلق له نسباً عربياً مكتسباً. إنه لا يُخفي ذلك، بل يحلو له أن ينظر إلى شغفه المستمر بطريقة آسرة: «أنا لست مترجماً فقط، ولست مستشرقاً فقط. أنا لست ألمانياً، بل ربما كنت عربياً، أو كنت عربياً في حياة سابقة. من يعتقد أنه شخص واحد يكذب على نفسه، ويرفض أن يكون متنوعاً».
الأخبار
7 تشرين الثاني 2007