ما أصعب أن تكتشف شاعراً بعد دخوله السجن. تبحث عن كتبه لتتعرّف اليه من بعيد وتقرأه لائماً نفسك على هذا التقصير. إلا أن الشاعر السوري الشاب فراس سعد كان ولا يزال أشبه بالطيف. سألت عنه الأصدقاء في سوريا ولبنان فقال معظمهم إنهم يعرفونه بالاسم وعبر مقالات سياسية له منشورة في المواقع الالكترونية. وعندما اقتيد الى السجن لم يصدر إلا بيان "خجول" في شأنه وتبعه "بيان" آخر أشد خجلاً، ولم يلقيا الصدى المفترض
. والآن مضت قرابة السنة على اعتقال هذا الشاعر ولم يُكتب عنه إلا القليل القليل القليل. ولعلّ صديقه الشاعر السوري منذر مصري كان السبّاق الى كتابة مقالة عنه، شاءها مقتصرة على شعره وعلى "قضيته" من دون الغوص في مواقفه السياسية الشائكة. هذه اللامبالاة التي واجهت اعتقال هذا الشاعر والكاتب السياسي تطرح بضعة أسئلة: لماذا لم يرفع المثقفون السوريون بيانات استنكار على عادتهم، ازاء توقيف فراس سعد؟ لماذا لم تعمد المنظمات الانسانية الى المطالبة بإخراجه من السجن؟ لماذا لم تُقم حملات اعلامية دعماً ودفاعاً عنه؟
فراس سعد ليس شاعراً معروفاً ولا كاتباً سياسياً مشهوراً. هذا ما تفيد به مقالاته السياسية الجريئة التي اتهم من خلالها بـ"النيل من هيبة الدولة والمسّ بالشعور القومي". هذه المقالات لم تخرج أصلاً من حيّز المواقع الالكترونية ولم تُقرأ على نطاق واسع، بل ظلّت وقفاً على قراء المواقع التي يحتاج البحث عنها الى بعض الجهد.
لم يكن صعباً الحصول على الديوانين اليتيمين اللذين أصدرهما هذا الشاعر، ابن السبع والثلاثين سنة. ديوانه الأول "قداس سرياني: نصّ عن الحب والموت" صدر عن دار "البلد" في دمشق قبل أربع سنوات، والثاني "سبيرتو: هزائم مرقطة" قبل ثلاث سنوات في بيروت عن دار "أمواج". لكنّ الديوانين لم يحظيا حين صدورهما باهتمام النقد والصحافة، على ما بدا، فلم يرج اسم الشاعر ولا كُتب عن تجربته الغريبة وربما "المستهجنة" والمغرقة في الطرافة حتى الهذيان. وقد يحقّ للنقاد والصحافيين ألا يحبّوا قصائد فراس سعد وألا يعتبروها "جادة" وأن يستغربوا فوضاها ونزقها وسخريتها ولكن لا ينبغي اغفال اسم هذا الشاعر و"طمسه" حتى ليغدو كأنه غفل أو طيف. ولعل ما ساهم في "تغييب" هذا الشاعر ابتعاده عن "معتركات" الشعر و"المنابر" وإقامته في ما يشبه العزلة في مدينة اللاذقية، وكذلك مسلكه واختياره اسماً آخر هو "أوغار". في هذا الصدد يقول عنه صديقه الشاعر السوري منذر مصري: "أعرف أنه بلا عمل ولا دخل. هذا يبدو من مظهره. راسل بعض الصحف العربية من دون توفيق، واقتنع بنشر كتاباته في المواقع الالكترونية مقابل لا شيء، بل مقابل عداء المحيط ودعوات الجهات الأمنية للتعرف اليه...".
منذر مصري كان كتب أيضاً على غلاف ديوان "سبيرتو" كلمة صغيرة قائلاً فيها إن الديوان "خلطة فظيعة من الشعر الذي يصرّ فراس سعد على أنه لا يعنيه في شيء". ومن يرجع الى الديوانين يكتشف فعلاً أن الشعر فيهما قائم على نقض الشعر، ليس من خلال الركاكة والاخطاء اللغوية فقط بل عبر جعل القصيدة مادة للسخرية القصوى والتهكم والهدم. القصائد التي لا تعترف بأي معيار شعري أو مقياس تمارس حريتها خارج اللغة حتى لتقارب الهذيان في أحيان، مائلة الى شيء من السوريالية والدادائية من دون قصد أو دراسة. قصائد ونصوص وقصص قصيرة جداً وشذرات ومقالات تلتئم لتؤلف النسيج "الكتابي" الفوضوي الذي يقتحم الأصول والنظم. كتابة هي بمثابة "اللعب" ولكن اللعب الجارح والهدّام، يمارسه الشاعر ازاء أحوال القمع والرصانة الايديولوجية والقسوة والبؤس والرأي الواحد والهزيمة أو ما يسمّيه "ديالكتيك الهزيمة الكبرى". ولكن وسط هذا الهذيان الذي لا بدّ منه، تلتمع جمل بديعة و"مقولات" وصور، منها على سبيل المثال: "بالحزن تصير ملاكاً"، أو: "أيها السيد "موت" لا تغافلني في العتمة والبرد. لا تأتِِ مثل لص يسرق الأرواح ثم يهرب متحاشياً النظر في العيون"، أو: "أصحو على صياح الديك في المغيب الأملس للضوء السماوي"، أو: "وحدي كأني قبر حيّ"، أو: "مثل أعمى أنا، يشرب كأساً فارغة، يقول لمضيفيه: تكلموا كي لا أبقى معتماً وحدي". هذا شاعر حقيقي يصرّ على ألا يكون شاعراً. شاعر الفوضى والعدم والسخرية المرة، شاعر الهدم والرفض، شاعر الشك حتى في الشعر نفسه. هكذا يجب أن يُقرأ فراس سعد، في لا شاعريته ولا لغته، في فوضاه وعدميته. لكنّ هذا الشاعر و"الناشط السياسي" المتهم بـ"الجنون والخيانة" كما يقول، يملك مواقف سياسية جريئة، نقدية ومعترضة، ويكتب بلا هوادة عن الهزيمة وعن "العدو في صورته الواضحة"، وعن "الكرامة التي خسرناها منذ الحزب الواحد" كما يعبّر، وعن "البوليس النفسي" والجوع والمرض والخوف... ويقول في هذا القبيل: "في شرق المتوسط لا يموت المعارض ميتة ربّه". ويخاطب الأميركي بسخرية قائلاً: "تعال أيها الأميركي الى حيث المتعة، علّك تجرّب طعم النار". إلا أن فراس سعد لا يتناسى الحب فيكتب بضع قصائد عشقية.
ما أصعب أن تكتشف شاعراً بعد سنة على زجّه في السجن. هل يمكن تخيل شاعر وراء القضبان في مطلع الألف الثالث؟ أما زال ممكناً سجن الشعراء في زمن بات يستحيل فيه مصادرة الكلمة؟
يكتب فراس سعد عن السجن كأنه دخله سابقاً ويتحدث عن "آلهة الصقيع" وكيف يجعل من برده رداء وكيف يكتب الجدار فوق أضلاعه. وهذه صورة طريفة جداً وأليمة جداً. عوض أن يكتب السجين على جدار السجن يكتب الجدار على ضلوع السجين! إنها المأساة التي لا يعرفها إلا السجناء وحدهم.
في آخر محاكمة له قال فراس سعد للقاضي: "أنا أحب بلدي". هذه الجملة سيردّدها أمام القضاة الذين سيتوالون على محاكمته. ترى هل سيصغي القضاة الى المعنى الخفيّ في هذه الجملة البسيطة؟
متى يخرج فراس سعد السجين المجهول الى هواء الحرية؟
النهار الثقافي
ثلاثاء 11 أيلول 2007