(جيل واحد أم صراع أجيال؟)

حكيم عنكر
(المغرب/ الامارات)


لا مجال لقتل الأب هنا، لأن أوديب نفسه لما خرج إلى أحواز طيبة بحثا عن الحقيقة اكتشف الرعب الكبير. ومن يقتل أباه تنبت له غابة صبار في رأسه، تخرج منها الغيلان والزواحف والهوام في الليل، ولا يقدر أن يغمض له جفن.
لا تقتلوا آباءكم، دعوهم يحيوا على سجيتهم، في الحدائق التي تليق بهم، لا ترموهم إلى “دور العجزة” ولا تجعلوهم يندموا على كل هذه الحياة التي بذلوها من أجلكم أيها العاقون.
أنتم وإياهم جيل واحد ومصير واحد، ترى من يقترب من قبيلة الأدب، ومن يرضى ل”ابنه” ان يرث حرفة كلها هم وغم ومشكلة وطاحونة أعصاب ومسغبة. مجلبة لقلة ذات اليد، لم تعد تطعم في دواوين الاكابر ولا تمنح الاعتبار ولا تصلح للتسرية.
العصر اليوم دم أجاج وقتال على حد السيف، فكيف يصفو خاطر الأدب ويروق، وكيف لا يكون عالة على صاحبه والباب السهل للضنون والجنون.
دعوا شجرة النسب تكبر وتتوغل في تراب الارض، من أب لأب ومن ابن لابن ومن سلالة تحترف الجهر بالأدب، وتنسف كل “أدب” زائف لا يقدم ولا يؤخر.
لا مجال لقتل الأب، دعوه يحيا بيننا، كي يرى السلالة ماهي فاعلة بنفسها، واي مسلك تسلك مع تغير الحال وهول السؤال الجديد، السؤال الذي يفتن، والمغموس في زيت العولمة، المرتجف من آلة القتل، المفروم اللحم مابين هوية خائفة على مصيرها وعين لا تقرأ حاضرها وميزان غير مقسط.
هذا هو الإطار العام الذي تتحرك فيه الثقافة العربية اليوم ومنها الثقافة الإماراتية التي انفتحت مع الآباء المؤسسين على أسئلة الثقافة العربية الغائرة في قلقها الخاص. ولذلك يمكن أن نتساءل اليوم هل السؤال الثقافي والفني الجمالي لكاتب اليوم ولجيل اليوم له امتياز ما عن السؤال الذي طرحه مصلح اجتماعي مثل مبارك الناخي أو شاعر عروبي من عيار علي بن سلطان العويس أو التباشير التي دعا إليها محمد بن علي المحمود وغيرهم من آباء الثقافة الإماراتية المتأثرين بالخطاب العروبي الإصلاحي وبالطرح السلفي الذي تبلور في المشرق.
ألا تزال نفس الأسئلة مستمرة حتى اليوم وحية في جسد الثقافة العربية برمتها من محيطها إلى خليجها، أسئلة تحاول أجيال الثقافة العربية التي توالت، بمرجعياتها المختلفة أن تفك مغالقها، وكان أن عاشت الثقافة العربية على غليان مرجل فوار أفرز كل تلك الاحتمالات التي حاولت أن تحفر مداخل في الافق الصعب للإنتاج الرمزي العربي.
من هذا المنطلق، نقول دعونا في “بيت العائلة” واتركوا الأب في قيلوته، احفروا ايها الأبناء والأحفاد في الجغرافيات البعيدة، اجترحوا الآفاق المغربة، لاتنتظروا على الأبواب والعتبات أن يهل عليكم بطعام المائدة.
تنفتح الثقافة الإماراتية على أسئلة جديدة، تحتاج إلى معالجات هي من صميم مايطرأ على الممارسة الثقافية من تحولات، ومن تراكم ومن اختلاف، وهي لكي تجيب على سؤال اختلافها لابد لها من التحلي بقدر أكبر من الشجاعة الأدبية كي ترى بوضوح إلى جوهر إشكالاتها. وهذه الشجاعة لن يكون بمقدور أحد من الناس بذلها، اللهم سوى ابنائها المحترقين بجمر السؤال والقابضين على التقاطعات التي تصنع المشهد الثقافي العام. المشهد الثقافي في الإمارات حديث ونيئ لكن أسئلته قديمة، ومن يريد الاعتراك فيها وحولها، لا سبيل له إلا بقراءة واعية للتاريخ الثقافي المحلي والخليجي والمياه المختلفة التي شكلت أفقه، وأولهما، ثقافة البر وثقافة البحر.

في البحث عن المؤتلف والمختلف
إشكالية الأجيال في الإبداع الإماراتي.. محنة التصنيف

ما هي أجيال الثقافة الاماراتية؟ هل هي حلقة واحدة متصلة أم حلقات منفرطة العقد؟ وكيف يمكن الاجابة عن سؤال الأجيال هذا من المنطلق المعرفي والتاريخي، ومن خلال تتبع التاريخ الأدبي في الامارات وفرز الاشكالات التي طرحها، والمظاهرالأدبية التي أفرزها طيلة هذه المدة منذ تأسيس الاتحاد إلى الآن. وما يستتبعها من إشكالات هي من صلب الدينامية الثقافية للمشهد الثقافي الاماراتي وللدوائر التي شكلت حلقاته والجداول التي رفدت دفقاته، وحالات الضمور التي أرخت بظلالها على مرحلة من المراحل.
حكيم عنكر
يحتاج الأمر في البدء إلى تحديد مفهوم الجيل، هل يرتبط بالزمن الكمي أم بالزمن الابداعي، بحيث يكون مفهوم الجيل أوسع من العشرية التي توصف جيلاً من الأجيال وتحدد ملامحه، إلى مايتجاوز ذلك من ملامح هوياتية تتحدد أساساً على قواعد ثقافية ترتبط بالمنجز الثقافي والابداعي وبالأسئلة الجديدة التي يفرزها جيل جديد متميز على مستوى المرجعية الفكرية والأدبية.
من الصعوبات التي تكتنف الحديث عن مفهوم الأجيال في الثقافة الاماراتية نجد حداثة التجربة الثقافية الاماراتية لأسباب تعود إلى حداثة الدولة الاتحادية وما يليها من حداثة المؤسسات التعليمية ومؤسسات الدولة الأخرى، وهي كلها عوامل أساسية في ضمان نوع من الاستمرارية ومن الديناميكية التي تجعل الحياة الثقافية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بعموم الحياة العامة، وبالتحولات التي تطرأ على المجتمع وعلى المؤسسات الرسمية.
خلال هذه المدة، منذ تأسيس الاتحاد إلى الآن، قفزت الامارات قفزات نوعية وتحول البلد تحولا هائلا بفضل النماء الاقتصادي والاطراد المشهود على مستوى الثروة، وهو ماجعل البلاد تدخل في حالة مستمرة من البناء ومن التشييد تطال الجانب العمراني والبنيات التحتية في كل المجالات، وهي كلها أساسات سوف تساعد على مستوى التنمية البشرية من خلال التطور الكبير الذي شهده قطاع التعليم والقفزات النوعية التي أنجزت على هذا المستوى، ما دفع المدرسة الاماراتية إلى واجهة التعليم الحداثي المرتكز على افضل الوسائل والوسائط التعليمية والمنهاجية في العالم.
لم يكن هذا التحول الاجتماعي والاقتصادي ليمر دون أن يترك آثاره على الانسان وبالتحديد على الابداع الفني والانتاج الثقافي، إذ سرعان ماوجد المثقف الاماراتي الشاب نفسه وهو يخطو خطواته الأولى في منتصف السبعينات وبداية الثمانينات، وجها لوجه مع الاسئلة المطروحة في الفضاء العربي والعالمي، فعلاوة على السؤال العروبي الذي ارتبط به رواد الثقافة الاماراتية في فترة الخمسينات والستينات،والملتصق أساسا بقضية العرب الأولى، فلسطين، كان هناك نوع من التوجه القومي المتأثر بالأطروحات الناصرية ذات الابعاد القومية والتي كانت تضع القضية الفلسطينية في صلب اهتماماتها.
لم يكن الادب بعيدا عن هذا التأثير والتأثر ولسوف نجد ذلك واضحا في الشعر على وجه الخصوص، وتحديدا في قصائد مبارك الناخي وسلطان بن علي العويس ومبارك العقيلي وسلطان العويس وحمد بوشهاب وغيرهم من الشعراء الاوائل الذين ارتبطوا عامة بحركة التحرر العربية ذات التوجه العروبي السلفي.
هذا الجيل الأول من المؤسسين سوف يكون له الاثر الكبير في تشكيل الملامح الأولى للعلامات المميزة للمشهد الثقافي في الامارات، والتي كانت في عموميتها امتدادا للحركة الثقافية في المشرق العربي ولحركة الاصلاح العربي إجمالاً.
هذه الحركة الأدبية التأسيسية يمكن اعتبارها من خلال هذا التوصيف هي الحركة المؤسسة للمشهد الثقافي في الامارات، لعدة اسباب يمكن أن نذكر منها على سبيل التحديد الأولي:
أن هذا الجيل لم يتوقف على أن يكون مجرد جيل من الكتّاب الشعراء منعزل في برجه العاجي، بل انه انتمى من أول وهلة إلى الشأن العام وذلك بانخراط قصيدته في “الهم العربي والقومي” وأيضاً من خلال التفاعل الايجابي مع حركات التحرر العربي في العديد من الأقطار العربية التي كانت في تلك الفترة تناضل من أجل نيل استقلالاتها. ولسوف يستمر هذا التوجه العروبي في “تأطير” الأجيال التي تلت هذا الجيل على المستوى الابداعي وعلى مستوى الاختيارات الفكرية والادبية والشعرية، وإحدى سمات هذا الانتماء هي المحافظة على الشكل الشعري من حيث الانتصار إلى القصيدة العمودية وإلى الشعر المرتبط بأغراض القصيدة الكلاسيكية، وأيضا تعزيز الدور الوظيفي للشعر باعتباره أداة للتعبير واستنهاض الهمم وجعلها متوقدة ومتحمسة وعلى أهبة الاستعداد للذوذ عن كرامة العربي والقدس الشريف.
لن تنفلت القصيدة الاماراتية من هذا التأثير، وسيرافقها “الهم الوطني” خلال العقود التالية من القرن الماضي من خلال الأسماء التي رصعت المشهد الشعري الاماراتي، وإن بدرجات متفاوتة من شاعر إلى آخر، ومن خلال التكوين الثقافي الجديد الذي خضع له هؤلاء الشعراء ومصادر معرفتهم الأدبية وإتقانهم لفنون القول الشعري وانفتاح مخيلتهم الشعرية على التوجهات الشعرية العربية قديمها وحديثها.
وفي هذا الباب يمكن ذكر العديد من الشعراء العموديين الأساسيين من بينهم على وجه التحديد الشاعر عارف الخاجة، الذي تتميز قصيدته بنفس خاص هو من صميم التجربة الشخصية لحياة صاحبها وتنوع مداركه المعرفية واتقانه ل”مهنة” الشعر.
كما يمكن الحديث عن محمد خليفة بن حاضر واحمد المدني وخلفان بن مصبح وسالم بوجمهور وأحمد محمد عبيد وعبدالله الهدية وعدد آخر من الشعراء الذين واصلوا كتابة القصيدة العمودية غير منفكين عن التأثير المباشر الذي تمارسه الشعرية العربية الكلاسيكية عليهم وعلى ذائقتهم الشعرية.
كما يمكن النظر إلى التجربة الشعرية للدكتور مانع سعيد العتيبة باعتبارها من التجارب المتميزة في المشهد الشعري الاماراتي، لاعتبارات من بينها غزارة إنتاج صاحبها والذيوع الذي لاقته تجربته، وميزة الجمع بين وظيفته في سلك الدولة وحرصه على صورته الشعرية، ويتجلى ذلك من خلال محاولته كتابة “ملحمة” إماراتية من خلال ديوانه الأول “المسيرة” والصادر سنة ،1981 وهو الديوان الذي أعاد فيه سرد التاريخ الاماراتي شعريا.
داخل هذا الجو الذي يتميز بهيمنة القصيدة العمودية سوف يظهر توجه شعري جديد هو من سمات حركة الحداثة العربية المتطلعة إلى إنجاز حالة من حالات التماهي مع المعيوش واليومي اللذين اصبحا يطبعان الحياة العربية المفتوحة على العالم والمتطلعة إلى إنجاز مقتربات من هذا التراث الانساني دون أي إحساس بالنقص ومن موقع الجراءة والاحساس بالندية.

تفكيك المتشابه

هذا الجيل الذي انفتحت مداركه مع البعثات الطلابية الأولى إلى الخارج سيلعب الدور الكبير في الحياة الثقافية الاماراتية، وفي هذا الاطار يمكن ذكر قصيدة محمود أمين المدني التي على الرغم من طابعها الشكلاني المتماهي مع القصيدة الكلاسيكية إلا أنه استطاع أن يجترح لنفسه ميسما خاصا هو النتيجة العملية لاطلاعه على الشعر الانجليزي والفرنسي حينما كان طالبا في انجلترا وايضا لمعايشته الأولى لحركة الشعر الحر في العراق حيث أمضى وقتا من شبابه هناك، متعرفا الى المشهد الادبي في بغداد الموسوم بكل سمات التحول والنضوج. غير أن التجربة الشعرية الفارقة والتي تنتمي إلى مرحلة السبعينات جملة وتفصيلا هي تجربة الشاعر حبيب الصايغ الذي أطلق أول مجموعة شعرية سنة 1980 وعنوانها “هنا بار بني عبس، الدعوة عامة” والصادرة عن دار الكلمة في بيروت، وإن كانت التجربة الشعرية لهذا الشاعر قد بدأت قبل ذلك في بداية السبعينات.
يقول حبيب الصايغ عن تجربته “انا جيل شعري بكامله، لا قبلي ولا بعدي”، في إشارة منه إلى تميزه عن التجارب المحيطة به او تلك التي رافقته أو عاشت بشكل متزامن مع تجربته.
ويرى الصايغ أن ديوان “التصريح الاخير للناطق باسمه” والصادر سنة 1981 قد كتبت نصوصه في أواسط السبعينات، يقول: نشرت اولى قصائدي وأنا في 14 من عمري، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أواصل تجربتي في موقعي الخاص بي الذي لم يطله أي أحد من جيلي الشعري أو من الشعراء الذين اتوا بعدي، باسثناء عارف الخاجة الذي كانت له تجربة مغايرة تنتمي إلى مكتسبات القصيدة العمودية.
في تجربة الصايغ هذا التحول من العمودي إلى الحر ثم قصيدة النثر. أعماله الشعرية التي توالت تدل على جدية تجربته وعلى عمقها وايضا على إسهام صاحبها في القصيدة العربية الحديثة.
وعن رؤيته لظاهرة التجييل في الثقافة العربية والاماراتية على وجه الخصوص يقول الصايغ: إن العمر القصير للتاريخ الثقافي الاماراتي الحديث، يضعنا أمام صعوبة التجييل، ذلك أن الجيل الثقافي هو تراكم كمي ونوعي وريادة إبداعية وان التعريفات المدرسية لمفهوم الجيل الأدبي لا تنفع في التحديد العميق لمفهوم الجيل، إذ لا بد من الاحتكام إلى معايير من بينها على وجه الخصوص شروط التراكم والتقدم في التجربة والانجاز النوعي، ولا يكفي التحديد الزمني في ضم هذا الشاعر إلى هذا الجيل أو ذاك.
يرى الشاعر حبيب الصايغ أن المسألة تكتسي طابعا إشكاليا كبيرا، وانه لتجاوز كل الابهامات لا بد من الاحتكام إلى عوامل الانتاج النصي، وإلى اثر هذا الاسم أو ذاك في الساحة الأدبية.
والحال أن المشهد الثقافي في الامارات بقدر جدته والزمن القصير الذي راكم فيه إنتاجه بالقياس إلى المشاهد الثقافية العربية الأخرى، يرشحه لتحولات عميقة في المستقبل قد تمس ماهية هذه الثقافة، إذا نظرنا إلى عنف التحولات التي تتم على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، وأيضا إلى التماسات اليومية مع المكتسب المعرفي الغربي في أعمق تجلياته.
لابد من التأكيد على أن مرحلة الثمانينات ثقافيا قد شهدت اكبر الانجازات، واكثرها تحولا وجذرية من حيث الانتماء المعرفي والفكري لتلك الأصوات الأدبية في مجالات القصة والشعر على وجه الخصوص، وايضا من خلال بروز بداية تأسيس للممارسة التشكيلية من خلال جمعية الامارات للفنون التشكيلية، وتبلور شكل تنظيمي للممارسة الثقافية من خلال إطار اتحاد كتاب وأدباء الامارات الذي ساهم بفاعلية في الحراك الثقافي وفي بلورة نوع من الشكل التنظيمي للممارسة الثقافية الاماراتية.

علامات فارقة

الأكيد ان الاصوات النسائية الاماراتية سيكون لها نصيب كبير في الظهور والبروز من خلال مجموعة من المبدعات الشابات في بداية الثمانينات اللواتي بدأن الكتابة وعلى الأخص في مجالي الشعر والقصة ويمكن أن نقول أن القاصة والشاعرة الاماراتية ظبية خميس قد شكلت نقطة تحول إلى جانب صديقاتها من الكاتبات أمثال مريم جمعة فرج وخلود المعلا وميسون القاسمي وصالحة غابش وباسمة يونس وشيخة الناخي وأخريات هن صانعات الكتابة النسائية في الامارات.
وقد أتيح لظبية خميس أن تمضي بتجربتها إلى آفاق عربية من خلال إقامتها في القاهرة وحضورها في المحفل الثقافي العربي، الامر نفسه ينطبق على ميسون صقر القاسمي التي تكتب الشعر والرواية وتقيم معارضها التشكيلية من القاهرة.
لن يكون بالامكان نسج تصور عن الأداء الأجيالي وعن حضوره في أنساغ الثقافة الاماراتية إلا بالعودة إلى مقاربة إنتاجهم الأدبي والابداعي بالسياق الفكري والمعرفي الذي ساد في تلك الفترة.
وفي هذا الصدد يقول القاص ابراهيم مبارك ان أغلب كتاب القصة في الامارات ولدوا في أواخر السبعينات وفي سنوات الثمانينات، وانه خارج هذا التاريخ لم يكن للقصة الاماراتية كفن أدبي أي نوع من الحضور أو التحقق، وان أغلب ما سبق كان مجرد محاولات في النثر الفني، وان الذي سيكتب قصة جيدة تتوفر فيها كل المقومات الفنية هو جيل الثمانينات المشبع بالأفكار الجديدة والمفتوح على دهشة العالم.
ويتوقف ابراهيم مبارك عند تجربة مهمة ومؤسسة في القص الاماراتي، هي تجربة عبدالله صقر، ويعتبره من الكتاب الذين يملكون رؤية فكرية واضحة وأسلوبا قصصيا متميزا، وكان يدرك بوعي ماذا يكتب، وقد اصدر مجموعته القصصية الوحيدة التي تحمل عنوان “الخشبة” ومنذ تلك المجموعة توقف عن النشر.
كما اشار إلى مجموعة من القصاصين الشباب آنذاك الذين برزوا في المشهد، ومن بين هؤلاء على وجه التحديد ناصر جبران الذي يملك رؤية فكرية واضحة في أعماله القصصية، كما اشار إلى الأعمال المبكرة للقاص محمد المر الذي كان على حد وصف مبارك “يتمتع بفكر جميل” ورؤية واضحة قبل أن يستقر أسلوبه القصصي في النمط التسجيلي، إضافة إلى عبدالحميد أحمد الذي حملت قصصه الاولى كتابة منصهرة بموقفها الخاص وبالأخص في مجموعته “السباحة في عيني خليج يتوحش”.

الجيل والمرآة

أكد ابراهيم المبارك أنه ينتمي فكريا وأدبيا إلى جيل من الكتاب والأدباء أوقفوا القصة القصيرة الاماراتية على قدميها، وجعلوها ممكنة التحقق من خلال الانجاز النصي النوعي، وأيضا من خلال الفضاء الفكري الذي كان يجمع هذه الأسماء، وهو فضاء معني أكثر بالقضايا الاجتماعية والانتماء لنبض المجتمع الاماراتي الذي كان مقبلا في تلك الفترة على بداية حصول التحولات الأولى.
ويرى مبارك أن حال المشتغلين بالشعر من الشعراء الاماراتيين كان أحسن، وأن القصيدة الحديثة كانت تمكنهم من الانصهار والاقتراب أكثر من قضاياهم الجمالية والفنية ويتجلى ذلك على وجه الخصوص في تيار قصيدة النثر في الامارات الذي حفر لنفسه مكانة في النسيج الثقافي إلى جانب الشعر العامي والشعر الفصيح العمودي.
واعتبر أن الحديث بمنطق “الأجيال” في الثقافة الاماراتية قد لا يجانب الصواب، لأنه لا يمكن في هذه الفترة الزمانية القصيرة الحديث عن “أجيال” بصيغة الجمع، بل عن جيل واحد له نفس التجربة في الكتابة وفي الحياة وإن اختلفت الأسماء أو تباينت بعض التجارب إلا أنها لا يمكن أن تنفلت من قوة المشترك الذي يجمعها مع بعضها بعضا.
وهكذا بحسب مبارك فإن الثقافة الاماراتية عامة وبكل تلويناتها الموجودة هي في طور التجريب، وفي المحاولة من أجل ترسيخ المنجز الثقافي الاماراتي على المستويين الكمي والكيفي، وانه لا يمكن الحديث عن اجيال إلا بعد مرور نصف قرن على بداية حداثة الثقافة الاماراتية.، وقال “نحن جيل واحد من السبعينات إلى الآن وواهم من يتصور غير ذلك”.
إذا كان موضوع الأجيال الأدبية يكتسي طابعاً إشكالياً في حالة الانتاج الأدبي والقصصي، فإنه يكاد يكون محسوما من الناحية النظرية بالنسبة للفن التشكيلي الاماراتي، ذلك أن البدايات الأولى لم تظهر إلا في السبعينات على يد محاولات فردية، بينما لن يعرف هذا القطاع انخراطا أكبر إلا في منتصف الثمانينات بعد أن حصل تلاقح وانفتاح على التجارب العربية الوافدة وأيضا على التجارب القليلة من الأجانب وخصوصا الانجليز والذين بدأوا يفدون إلى المنطقة.
ربما أقرب ممارس للفن بالشكل الاحترافي هو الفنان التشكيلي حسن شريف الذي يعتبر بحق رائد الفن التشكيلي في الامارات والمؤسس لتوجهاته الجديدة.
هذا الفنان الذي بدأ سنة 1970 كرسام كاريكاتير سوف ينمي مداركه الفنية بدراسته للفن في انجلترا، ومن هناك سيدشن اتصالا مباشرا مع أحدث الحركات الفنية في أوروبا وسيعود حسن شريف إلى الامارات كي يبدأ في التأسيس لتوجه فني جديد سرعان ماسيجد صداه في التجارب المفاهيمية الجديدة التي ينفذها فنانون وفنانات إماراتيون وإماراتيات على درجة كبيرة من الوعي الثقافي والفني متسلحين بأحدث النظريات في مجالات الفنون البصرية.
اليوم يعتبر حسن شريف، عراب الفن الحديث في الامارات.. لا أحد يجادل في ذلك، وهو يتكرس سنة بعد أخرى إلى جانب الاتجاهات الفنية الأخرى السائدة في التشكيل الاماراتي، معتمدا في ذلك على الكوادر المواطنة الشابة المتسلحة بالنقد والثقافة البصرية وبالمحمول المعرفي الذي يسند تجاربها.
يعتبر حسن شريف ووفق هذا المعيار أن مسألة التصنيف إلى أجيال هي مسألة زائفة على الأقل في الحالة الاماراتية، لأنها لا تعكس الحوار الكامن والعلني الذي يوحد التجارب الجديدة مع سابقاتها، وهو حوار لا يترجم فقط على شكل قطائع مع النمط التقليدي في الفن، ولكن من خلال الانجازات البصرية التي حققها هذا الجيل الشاب بوجوده في المحفل التشكيلي العالمي.
ويرى أن المشهد التشكيلي الاماراتي يحتاج إلى تقييم موضوعي بعيدا عن الحساسيات المرتبطة بالأجيال، إذ إن الحكم الأول والأخير هو للمعيار الفني وللمنجز وليس لشيء آخر. وتساءل: هل بالفعل نحن اليوم في حاجة إلى هذا النوع من الفن في ظل التحولات الكبرى التي تسم المشهد التشكيلي العالمي، اين نحن من هذه التحولات، ولماذا يريد البعض أن يحافظ على النمط وعلى نوع معين من الفن.وقال: اي واقعية تلك التي لا تعبر عن الحياة اليومية وعن التحولات التي يعيشها المجتمع، ولماذا يتم استغلال المجتمع تحت طائلة ذوق فني معين يريد أن يعطي الانطباع بأنه هو الفن الاماراتي الوحيد الممكن والكائن؟.
وأكد حسن شريف أن المشهد الفني في الامارات حافل بالانجازات على مستوى المعطى البصري، وان هذا العمل يتم بواسطة فنانين شباب على وعي ودراية ودراسة بما يفعلونه ولم يأتوا إلى الفن عن طريق الصدفة. ومن الجميل جدا ان تجدهم معنيين بكل أطراف العملية الفنية، فهم فنانون ونقاد ومتابعون جيدون لمجال الفنون البصرية العالمية، ولهم من الدراية والمعرفة العلمية ما يؤهلهم أن يكونوا في مستوى التجارب العالمية الموجودة. واشاد بتجربة الفنانات الاماراتيات واعتبر أن ما حققنه هو عمل رهيب لم يتحقق من قبل في مجال الفنون البصرية من أمثال ابتسام عبدالعزيز وهدى سعيد سيف ونهى أسد وليلى جمعة، وهي أسماء تنتمي إلى الحساسية الجديدة في الفن التشكيلي الاماراتي، وهو مايعطيها الامكانية للتطور ويمنحها القدرة على كسب رهان المستقبل.

ملاحظات في الجوهر

من الملاحظات الأساسية التي يمكن تسجيلها في هذا الاطار، غياب الحوار الابداعي بين الأشكال الفنية في الامارات سواء الشعرية منها أو القصصية أو التشكيلية، وهو محصلة مباشرة أيضا لغياب الصلات الثقافية والابداعية بين أجيال الابداع في الامارات، وكأن هناك نوعاً من التقسيم “الفيودالي” الذي يتيح بحكم طبيعته الجامدة الانفتاح والحوار والصدام المنتج والخلاق.
لقد كانت محصلة ذلك أن ثلاثين سنة لم تكن كافية لتتبلور قصيدة إماراتية ذات هوية وخصوصية محلية، ولم يسعف هذا الزمن القصير في لم أشتات الشعراء وفي تقريب “المودة” الشعرية بينهم.
هل شاعر قصيدة النثر في الامارات هو شاعر واحد؟
في تجربة قصيدة النثر الاماراتية، هذا التوق نحو خلق التجاوز، وبالأخص في تجارب شعراء من مثل عبدالعزيز جاسم وابراهيم الملا وهاشم المعلم وأحمد العسم وثاني السويدي وأحمد راشد ثاني وأحمد منصور وعبدالله السبب وخلود المعلا وظبية خميس وميسون صقر وخالد البدور ونجوم الغانم وعبدالله الراشد وسعد جمعة وعادل خزام وابراهيم الهاشمي ومحمد الهنوف ومنى مطر وعادل خزام وضاعن شاهين ومسهو أمر الله والراحلين جمعة الفيروز وعلي العندل، هؤلاء وبدرجات مختلفة يتحول الشعر لديهم إلى سبب من أسباب الحياة.
ومن التجارب الجديدة ذات النفس الخاص يمكن الحديث عن تجربة الشاعر والسينمائي الشاب محمد حسن أحمد المتميز بنفس خاص يمتح من مرجعيته البصرية الثرية، وهناك أيضا تجارب احمد عبيد وجمال علي وغيرهما من الأسماء التي تكتب بصمت بعيداً عن دوائر النشر.
ما الذي يميز قصيدة النثر التي يكتبها الشعراء الاماراتيون؟ وهل لها خصوصية لافتة تعطيها ذلك الميسم الخاص الذي يسمح لها بالتفرد عن المنجز العربي في هذه القصيدة؟
إن أهم ما يلفت الانتباه في قصيدة النثر الاماراتية هو الاضافة النوعية التي تضيفها إلى قصيدة النثر العربية، من حيث المناخ الشعري الذي تتحرك فيه وهو فضاء مكاني وجمالي قريب من المخيلة الشعرية العربية القديمة من حيث استلهام المكان الصحراوي والاحتفاء الشديد بقيم الغربة والاغتراب، والكشف عن التيه الروحي وعن المواجع الذاتية المقيمة في ذاكرة السلالة الشعرية العربية.
لكن هذا الشاعر يعرف كيف يجعل من كل هذا الركام من التاريخ الشعري مادة خصبة يعمل عليها ويحاورها انطلاقا من هذه اللغة الصحرواية المتخاصرة مع لغة أخرى بحرية شديدة الغور والقدم، وملتهبة بالأساطير والخرافات التي ينتجها الانسان في المكان وهو يحيا بالشعر أو بغير الشعر.
يصل الأمر إلى نضجه الكبير عندما نتقصى عميقا في صناعة هذه القصيدة عند الشاعر الاماراتي وفي فهمه العميق لأدوات كتابة قصيدة النثر، من حيث الايجاز والتكثيف اللغوي والتبئير الدلالي والانفتاح على الجوار الأجناسي والافادة من تقنيات السرد القصصي ومن الحوار ومن التقطيع السينمائي واللقطة الفوتوغرافية والمنولوغات والجملة النثرية الصرفة والوعي الايقاعي بالموسيقا الداخلية للجملة الشعرية وحساسيتها واجتناب اللغة الواصفة وإفراغ الكلمة من دلالاتها القاموسية، والاهتمام أكثر ببناء النص الشعري تماما كما تبنى المقطوعة الموسيقية أو تشيد ناطحة السحاب. وفي هذه التجارب السالفة الذكر نجد كل هذا البحث الشعري الذي يؤكد أن قصيدة النثر هي في المقام الأول “معرفة” كما يقول هولدلين.

شاعر النثر

يعيش شاعر قصيدة النثر في الامارات دون أن يكون له أدنى تماس مع المدونة الشعرية الاماراتية، ولا يعنيه مطلقا أن يطور أي علاقات إلا مع مايغني قصيدته ويجعلها قادرة على تجاوز الهشاشة المستحكمة في المشهد الثقافي عامة، ناشدا النأي بنفسه عن مهاترات الموزون والمقفى ومشروعية الوجود، منتهيا في خلاصة عامة أن القصيدة التي يكتبها اليوم لم تعد تحتاج إلى صك اعتراف من أحد ولا إلى جواز مرور من الباب النقدي ولا من “الأب” التقليدي المستريح في إهابه “الخليلي”.

دور ثقافي

الجيل الذي انفتحت مداركه مع البعثات الطلابية الأولى إلى الخارج سيلعب الدور الكبير في الحياة الثقافية الاماراتية، وفي هذا الاطار يمكن ذكر قصيدة محمود أمين المدني التي على الرغم من طابعها الشكلاني المتماهي مع القصيدة الكلاسيكية إلا أنه استطاع أن يجترح لنفسه ميسما خاصا هو النتيجة العملية لاطلاعه على الشعر الانجليزي.

ولادة جيل

يتجلى الحراك الثقافي الاماراتي في صدور أولى المجموعات الشعرية والقصصية في بداية الثمانينات والتي أعلنت عن ولادة جيل الثقافة الاماراتية الذي سيقود دفة الفعل الثقافي ويضفي المشروعية الادبية على الفعل الثقافي الحداثي الاماراتي، ويرسي صورة عن هذا الادب في منظومة الثقافة العربية.