فقط لدي رغبة في الحديث عن مصر هذه الأيام ولن امنع نفسي عن ذلك.. ولدي عذر ان اتكلم عن الموسيقى والنضال حيث يعيش المؤلف الموسيقي حالة التداخل والاختلاج الروحي التي تصيب كل عناصر المجتمع المجروح. ولكن المؤلف أو الملحن (وحتى المغني) له طريقته الخاصة في صياغة أحاسيسه الفريدة والتي لا تقل أهمية عن جميع عناصر المقاومة التي يسلكها اليمين أو اليسار. والذي يجعلها أكثر أهمية، كونها موجودة عند اليمين واليسار، وكل منهم يسردها بطريقته وبأدواته التي تتوافق وتوجهه الإنساني والسياسي.
هناك كثير من التجارب الموسيقية والغنائية في التاريخ المعاصر تبين مساهمة الفنان الموسيقي في دعم قوى المقاومة وتأجيج الحس الوطني بين أفرادها باختلاف توجهاتهم، سأسرد قليلاً عن بعض هذه التجارب على سبيل المثال (لا الحصر) فهناك فنانون قضوا حياتهم كلها في دعم قضاياهم النضالية، سياسية كانت أو اجتماعية أو في أي حقل من حقول النضال الإنساني. سنذهب معاً إلى كثير من الحروب، وكثير من الأغاني التي سنرى من خلالها مدى التزام الفنان المعاصر بقضاياه الملحة واليومية، وكيف يصنع من ألمه عملاً فنياً يظل رمزاً للصمود ضد الطواغي المستعمرة أو حتى المقيمة!!
فإذا بدأنا من مصر التي مرت بكثير من الفترات النضالية الداخلية أو الخارجية، سنجد أن هناك أسماءً شاركت في الغناء النضالي وأخرى شاركت في التأليف والتلحين الموسيقي. فمنهم عبد الحليم حافظ وأغنيات مثل: ((يا أهلاً بالمعارك .. ويا بخت من يشارك)) التي كتبها المبدع صلاح جاهين ولحنها كمال الطويل حيث تغنى بها جيل (ناصري) كامل كان يبحث عن الفوز دائماً ، وأغنية (( صورة.. صورة.. صورة)) التي بعثت البهجة والفخر للشعب العربي بأكمله (في تلك الفترة).
من الأعمال التي تأثرت شخصياً بألحانها أغنية ((أصبح عندي الآن بندقية)) التي تغنت بها السيدة أم كلثوم بصياغة صريحة لكلمات نزار قباني والحان عبد الوهاب الذي سجلها بصوته أيضاً، حيث كانت هذه الأغنية تعبر بصراحة عما هو محظور أن يتكلم عنه أي سياسي أو فنان (في هذه الفترة) وهي المطالبة بمدينة (بيسان)!! وعن فلسطين ما قبل 1948 فبين طيات الأغنية (التي لم تذع رسمياً منذ زمن!!!) يقول قباني: ((عشرون عاماً وأنا أبحث عن أرض وعن هوية))، فأغنية لحنت وتم تسجيلها عام 1969 ، لا بد وأنها كانت تتكلم عن بحثهم عشرين عاماً عن حدود 1948 فهي الأرض التي تتكلم عنها هذه الأغنية (الغائبة).
تكثر الأعمال الغنائية الثورية التي يمعن الفنانون الملتزمون (وغير الملتزمون) في إصدارها متى سنحت لهم الفرصة، وهناك اسم عرفته في صغري حيث كانت أمي تجعلني أستمع لأغنية (يا بهية) بصوته الثائر، وكنت اسمعها وهي تترنم بها بصوتها المخملي أحياناً.. عدلي فخري، الفنان والمناضل المصري الذي قدم أعمالاً كانت رفيقة للثوار الفلسطينيين في خنادقهم وفي حصاراتهم وشارك رفيق دربه الشاعر زين العابدين فؤاد في تقديم (أغنيات المقاومة لمواجهة الحصار الإسرائيلي علي بيروت عام 1982). إلى جانب صياغة مجموعة من أعمال الشاعر بابلو نيرودا و(تمصيرها)، حيث قدمها بشكل أقرب وأكثر حميمية.
أيضاً عندما نذكر الغناء النضالي في مصر، يحضرنا إسم منح حياته كلها تقريباً في غناء الأعمال الثائرة هو (الشيخ إمام عيسى) وباشتراكه مع الكاتب المبدع أحمد فؤاد نجم حيث كونا ثنائياً لفترة ليست بقصيرة.. فهذا الشيخ الكفيف الذي يتكلم بصوته الساخر عن أكثر القضايا حساسية و أشدها خطورة، كان يعرف بأن صوته يصل إلى أبعد مما يتوقع لأنه كان مؤمناً بقضيته.. تنوعت القضايا التي جعلته يبوح (بل ينوح أحياناً) بآلام الشعب المصري خصوصاً والعربي بشكل عام.. فنراه يرحب بالرئيس الأمريكي نيكسون على طريقته بأغنية (شرفت يا نيكسون بابا يابتاع الووترجيت) التي عبر فيها عن غضبه على زيارة نيكسون لمصر مترنماً بكلمات نجم. ثم قدم أغنية عن المناضل الشيوعي الفيتنامي (هو شي منه). واحياناً ينعي (جيفارا) حيث يصيح (جيفارا مات..) بلحن كئيب، ويوقظ بلاده بأغنية (يا مصر قومي)، وعندما يصرخ (لما نحالف) فهو يسجل رفضاً لموقف سياسي يدوس على الحرية التي يسعى لها العربي.
هذا الفنان البسيط الذي خاطب بغنائه جميع طبقات المجتمع وقال من الكلام ما لم يستطع قوله أجرأ السياسيين في فترته، شخص يحكم عليه بالسجن المؤبد بسبب غناءه (وهي سابقة في تاريخ وجغرافيا الثقافة العربية). عاش في عزلة ومات في عزلة، و لم تحتفل بذكرى وفاته العاشرة بلاده بل تونس !!
ذكرت الغناء النضالي ولم أذكر الموسيقى، فالعمل النضالي بالنسبة لنا دائماً مقرون بالكلمة، لكن هناك موسيقيون وهبوا أعمالاً موسيقية كثيرة إلى النضال العربي، فمنهم المؤلف المصري ياسر عبد الرحمن الذي لازمت موسيقاه كثير من الأعمال الدرامية التي تتحدث عن النضال مثل موسيقى (ناصر 56، الطريق إلى إيلات، السقوط في بئر سبع) إلى جانب انه قدم أمسيات موسيقية قدم فيها هذه الأعمال بشكل مستقل. ولا ننسى موسيقى رأفت الهجان التي أبدعها المؤلف عمار الشريعي. وهناك (بانوراما أكتوبر، الثعلب) للمؤلف عمر خيرت الذي قدم كثير من الأعمال التي تتكلم عن انتصارات الجيش المصري العظيم.