-1-
ليس في الشعر كبار وصغار وأمراء ورعية، إنما شعراء حقيقيون مسكونون بالشعر كما ينبغي أن يكون، أو مقلدون يحبون الشعر ولا يحسنون كتابته. ويجيدون قواعد اللغة العربية، لكنهم يظلون - مهما أنتجوا - أبعد ما يكونون عن كتابة الشعر الحقيقي على أي شكل كان، عموداً أو تفعيلة أو نثراً. وإذا كان بعض الشعراء الموهوبين أو الحقيقيين قد حالفهم الحظ فاتسعت شهرتهم واستحقوا صفة الكبار، فإن ذلك لا يعني أن الآخرين الأقل شهرة ليسوا كباراً ما داموا يكتبون شعراً جميلاً، ويعزفون على تلك اللغة التي عزف عليها المشهورون. ولا بد هنا من الإشارة إلى أهمية القاسم المشترك الذي يجمع بين من يستحقون صفة الشاعر؛ بغض النظر عن الصفة المضافة الأخرى التي تلحق بهم أو لا تلحق، وأعني بها «الكبير».
وكثيرة هي تعريفات الشعر، ولا يدانيها في المقابل سوى تعريفات الشاعر. ومن تلك التعريفات الخاصة بالشاعر والتي توقفت عندها طويلاً، إنه المبدع الذي لا يكتب قصائده، وإنما تكتبه قصائده أو تفيض عنه تلقائياً، وهذا التعريف - وإن كان ملتبساً - يشدد على أهمية الموهبة وتألق العفوية، ذلك الخيط الرفيع، الجميل الموصل بين النص وقارئه. ومن هنا، فلا كبار ولا صغار في حضرة الشعر، والفارق - إن وجد - فإنما في الشهرة لا في الشعر ذاته. فالنص الشعري الحقيقي لا يمتلك قيمته من اسم الشاعر الذي كتبه كبيراً كان هذا الشاعر أم صغيراً، وإنما يمتلك هذه القيمة من خلال جودته. والنصوص الرديئة التي كتبها شعراء كبار لا يشفع لها أنهم كتبوها، وهكذا فعند الشعر تختفي الألقاب والصفات وتنحسر الهالات التي تصنعها الشهرة حول بعض الوجوه ولا يبقى إلا الشعر وحده.
وتشغلني - منذ فترة ليست بالقصيرة - تجربة عدد من الشعراء الذين ينتمون إلى الشعر في تجربة استثنائية أكثر مما ينتمون إلى قطر عربي معين، وهم: طاهر رياض - وسبق لي أن تناولته بمقاربة قصيرة في زاوية من هذه الصحيفة - ويوسف أبو لوز، ويوسف عبدالعزيز، وزهير أبو شايب، وهذا الأخير هو رفيقي في هذه المقاربة القصيرة. وكنت التقيته للمرة الأولى في مجموعته الثانية «دفتر الأحوال والمقامات»، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت (1987)، ثم في مجموعته الثالثة «سيرة العشب» الصادرة عن المؤسسة نفسها، بيروت (1997). ومنذ ذلك الحين ربطتني به مودة شعرية جعلتني أعاود قراءته مراراً وبقدر عميق من المتعة والغبطة العالية: «قمرٌ نزقٌ فر من معطفي/ كاد أن ينطفي/ بيد أني أضاءت دمي فانتبهْ/ وتعقبته قبل أن يختفي/ داخل الأتربهْ/ لم يضِع قمري في التراب/ لم يضِع في السحاب/ ضاع في جسدي/ جسدي/ جسدي ي ي ي/ ي ي ي» ( دفتر الأحوال والمقامات، ص 18).
في شعر زهير ما يدهش ويرج الروح: لغة ناصعة، وغنائية هادئة شديدة العذوبة، ومعنى بسيط مستغمض بعض الشيء، لكنه مبرأ من التهويم اللفظي والسردية المقطعية المملة. يتألف النص السابق من مقطعين يتميز كل مقطع منهما بجمله القصيرة المكثفة الخالية من الزوائد والإضافات. وهكذا هو زهير أبو شايب في كتابته الشعرية يتمثل الشعر، نسقاً جديداً من الإفضاء الحالم الشفيف في صوره كما في دلالته: «أفتتح الدهشة/ وأفتِّش عن مطرٍ/ يوقظ في جسدي بوصلةُ الأعماق/ ويضيء براقُ دمي/ سندسَه الرقراقْ».
-2-
تطرح الأعمال الشعرية لزهير أبي شايب وزملائه قضية الأوزان في الشعر، ليس بصفتها قدراً شعرياً لا تجوز مقاومته، أو موروثاً تاريخياً لا يمكن تجاوزه، وإنما بصـــفتها ثروة فنية، من التعسف تبديدها أو الاستعاضة عنها بالإيقاع الداخلي للغة، سيما إذا استطاع الشاعر أن يحرر هذه الأوزان من الصخب و «الإنشادية» العالية. وزهير شأن زملائه لا يتعصب لشعر التفعيلة ضد قصـــيدة النثر، لتحرر الأخيرة من الوزن، بل يخالف معارضيها بشـــدة، وهو في كتابه «ثمرة الجـــوز القاســـية» الصادر عن دار أزمنة (2007)، يرى أن قصيدة النثر «كتابة برزخية توجد عند تقاطع الأجناس، ونحن نميزها لا من حيث هي شكل، كما يحاول ســــوادنا الأعظم أن يفعل، بل من حيث هي انفلات من الشـــكل، إنها المنـــطقة التي تعبرها الأجناس الأدبية متحررة من قوانينها، ومذاقاتها المألوفة». ويضيف أبو شايب قائلاً: «إن «القصيدة» جنس أدبي قار، لكن قصـــيدة النثر ليست جنساًً إلاَّ بصفتها ناشئة من تقاطع الأجناس وانفتاحها، وينبغي لنا أن نحافظ على هذا، لكي لا نفقد ما تنتجه لنا «قصيدة النثر» من فوضى خلاّقة، تخلخل قداسة الأجناس وثبوتيتها».
إذاً، ليس التمسك بالوزن ولا المحافظة على القافية أحياناً عند زهير أبي شايب الذي يرى في قصيدة النثر إثراءً فنياً للقصيدة العربية ما يوحي بأنه ينطلق من موقف صادر عن اعتراض ما على التجديد الشعري في أحدث نماذجه المغايرة، وإنما هو اتجاه فني يسعى إلى الاستغلال الأمثل لموسيقى الشعر في أحدث تجلياتها الإيقاعية بعيداً من الشطط من ناحية، وبعيداً من مباركة الجمود من ناحية ثانية:
«لا قديماً/ ولا في المقام/ كان برق يخيط السموات بالأرض/ برق يُمشِّي الجبال كأطفاله/ جهة البحر/ يتبعه/ مطرٌ غائبٌ/ ومرايا/ كانت الأرض شفافةً/ والحصى بعد رطباً من الخلق/ والماء أعلى/ والنجوم، يقول لها الله:/ كوني ندى/ فتكون». (سيرة العشب: ص15)
يبدو لي أن الوقت الطويل الذي أضاعه بعض الشعراء في الجدل العقيم حول الإيقاع والوزن، وحول شكل القصيدة، جعلهم ينسون أسرارها وتدرجات أطيافها، وهو ما تنبه له زهير أبو شايب وجماعته الصغيرة من الشعراء، الذين دخلت القصيدة الحديثة معهم وبهم مناخاتها المدهشة، معتمدة على مهارات وتقنيات انبثقت عنها ظاهرة شعرية، لم تأخذ مداها المطلوب بعد في حركة الشعر العربي الحديث، ولم تلق من المتابعة النقدية الموضوعية ما يهيئ لها التأثير والانتشار.
ولعل أوضح خصائص هذه الظاهرة الشعرية قدرتها الفائقة على إعادة الثقة في إمكانات التفعيلة واستفادتها من تطورات أكسبتها الكثير من الانسيابية والاختزال في بناء الجملة الشعرية، والتركيز على الصورة والاقتراب من التماعاتها النادرة: «قفي يا روابي/ قفي كي تمر السحابة من بين أضلاعنا/ خفيةً/ ويرى الغيث صورته في التراب./ قفي كي تطيّر أرواحَنا/ بهدوء قليل/ ونركض في أثرها/ إلى سدرة المنتهى./ على حزنها انتظرتنا البيوت/ هناك/ على طرف الأرض كالأمهات». (سيرة العشب، ص 119).
الحياة
04/01/09