يوسف بزّي

المستقبل - الاحد 9 آب 2009 - العدد 3388 - نوافذ - صفحة 11

على طول الطريق المؤدي الى ساحة «بلاس دو مارشيه» احتشد سكان «لوديف» وزوارها من القرى المجاورة في الجنوب الفرنسي، إضافة الى السياح والقادمين من «مونبيلييه» أو حتى من باريس، منتظمين في صفوف طويلة، بانتظار دخولهم الى المسرح المرتجل في الهواء الطلق.

وبالقرب من مدخل المنصة الكبيرة وبوابة دخول الجمهور ارتفع علم فلسطين، ونصبت بسطة طويلة لبيع منتجات فلسطينية من حرفيات يدوية وصناعات زراعية ومنتوجات خزفية تم جلبها من نابلس وبيت لحم والخليل..

هناك في عمق فرنسا، كانت بلدة «لوديف» بمهرجانها الشعري الذي يكاد يكون «أفينيون» الشعر أو «كان» الشعراء، تجمع جمهوراً واسعاً لإحياء أمسية تكريمية في الذكرى السنوية الأولى لغياب الشاعر محمود درويش. وكانت صفوف الناس الطويلة مدعاة للعجب منا نحن الشعراء العرب، ضيوف المهرجان. فهي تليق بحفل غنائي او بنجم فني فرنسي مثلاً، فكيف لمحمود درويش الشاعر الفلسطيني الذي يكتب بالعربية، هذا «الحضور» وهذه «الشهرة»؟ رحنا نتساءل أيضاً ان كان هناك شاعر فرنسي يحظى بهذا الاهتمام من مواطنيه، مؤجلين السؤال الأصعب، وهو: ما سبب انجذاب أهل اللغة الفرنسية الى شعر محمود درويش خصوصاً؟

تناوبنا على المنصة في قراءة قصائد لمحمود درويش: غسان زقطان، نصر جميل شعث، فيديل سبيتي، هنادي زرقة. وتناوب على قراءة ترجمته الفرنسية كل من بيلار غونزاليس، بيار جوريس، ايوسيف فينتورا، كلاوديو بوزاني. اضافة الى اداء غنائي من الفنانتين رولا سفر وسافو.
بين اللغتين كان الجمهور يصغي في المرة الأولى لايقاعات اللغة العربية التي لا يفهمها، متنبهاً للصوت والنبرات، ويصغي في المرة الثانية لمعاني القصيدة وكلماتها المترجمة إلى الفرنسية، ويحاول تلمس دلالاتها والتقاطها من مخيلته التوراتية او من معرفته السياسية او من ثقافته «الاستشراقية» أو من ذائقته الأدبية فحسب.

بهذا المعنى، كان شعر درويش في تلك الليلة ينشئ تلك الصلات الصعبة بين الثقافات، او يوقط تلك الاحتكاكات بين الاختلافات الحضارية والسياسية. ولنقل ان ثمة سجالاً ضمنياً كانت تحرض عليه قصائده، بوصفها حمالة رموز واشارات تاريخية ودينية وايديولوجية، بقدر ما هي مختزنة لتراث فني ـ أدبي غير غربي، اضافة الى كونها في نهاية المطاف تعبيراً عن «قضية» و«صراع» و«هوية».
محمود درويش «الفرنسي» بدأ اكثر رحابة من اسمه العربي وأوسع من معناه الفلسطيني، فهو بلغة فلوبير وراسين ورامبو كان قريباً من الأغاني التروبادورية، اي ان قصائده فجأة اكتسبت ايحاء اندلسياً، اذا صح التعبير، فقراءة الشاعر الايطالي كلاوديو بوزاني لدرويش اخذته الى ايقاع مرح وواثق ومشمس، في حين ان قراءته مع الشاعرة الاسبانية بيلار غونزاليس اعادته الى المزاج التراجيدي والارضي ليبدو شعر درويش الأندلسي كما شعر غارسيا لوركا مفعماً بالحزن والايقاعات الكئيبة.

في ذكرى غياب محمود درويش احتفل فرنسيو مهرجان «لوديف» به بأمسية كثيرة الجمهور، لنكتشف ان ترجمته الى الفرنسية التي أنجزها الياس صنبر وفاروق مردم بك، اعطت هذا الشاعر حياة جديدة وارضا جديدة ولغة جديدة. وهناك في فرنسا بدا درويش اكثر حضورا وشهرة من أي شاعر فرنسي، على نحو يدفعنا للاعتقاد أن قصائد درويش تقدم اقتراحاً هناك، في اللغات الأجنبية، لإعادة الصلة بين الشعر والقراء (او المستمعين)، اقتراح يحيي تقاليد شعرية قديمة، متجددة بالغناء والموسيقى.

لكن ايضا شهرة درويش هي من شهرة «فلسطين» التي تبدو فرنسياً، انهماكاً داخلياً في الثقافة والسياسة والافكار. فلسطين الفرنسية هي بطبيعة الحال متصلة بأسئلة القيم والمبادئ والمعتقدات المتعلقة بـ «حق تقرير المصير» و«حقوق الانسان» و«العدالة والحرية والمساواة.. الخ.. والمتقاطعة مع الشعور بالذنب والماضي الاستعماري والتعاطف مع المضطهد القديم (اليهودي) والمضطهد الجديد (الفلسطيني).
وهنا بالضبط تبرز أهمية قصائد درويش التي غالبا ما تمس تلك الالتباسات وأسئلتها، خصوصا تلك التي تتناول «العلاقة» مع الاسرائيلي ـ اليهودي، انها تقدم للقارئ الفرنسي الصياغة الشعرية لحيرته ازاء «القضية الفلسطينية» أولاً، وازاء «الثقافة العربية» ثانياً. وهكذا يعود درويش وشعره الى وظيفته الفائضة عن دور الشعر: السياسة.

ذلك ما عاد يقلل من قيمة القصيدة، طالما ان الشعر هو الذي «يصنع» السياسة. وذاك هو انجاز محمود درويش.