I . الذاكرة والمُخيِّلة في العمل الفني
ـ 1 ـ
تُفصِح لوحة حيدر، في قراءة أولى، عن همٍّ أو قلقٍ ذاتي. لكن، عندما نمعن النظر ونتعمق في القراءة، يتجلى لنا كيف تُفصِح كذلك عن الخارج الموضوعي، وبخاصة عن الآخر الجمعي، عبر هذا الخارج. إنها الذاتُ تخترق بوعيها وحساسيتها ثقافة الجمع وتاريخه، ورموزه. قلقٌّ ذاتي يتوهج في بُنًى جمعية. بُنًى جَمعية تنعكس في مرايا القلق الذاتي. وتكون اللوحة هنا شكلاً من التقاطع والتداخل بين التاريخ الفردي الخاص والتاريخ الثقافي العام. وفي هذا يجدِّد الفنان الأنماطَ الرمزية والإشارية الأولى، ونماذجها المثالية القديمة، ويعطيها بُعداً حياً يتموج في خرائط الحاضر.
ولَئِن ظهرَت في بعضٍ من أعمال حيدر بعضُ التلويحات التي يمكن النظرُ إليها بوصفها عناصرَ زخرفية، بحد ذاتها، أو وظيفية، فإن بناء اللوحة يُدخِلها في سياقٍ تشكيلي يُخرجُها كُلياً من الزخرفية والوظيفية. وتلعب الـ «أنا» هنا دور التحرر من الـ «هُم». هكذا تبدو اللوحة مشحونةً بالزمن وتقلُّباته، إلى جانب شُحنتها الكامنة: الاستقصاء، وحساسية التغيُّر.
ـ 2 ـ
لا تنفصل الذاكرة عن المخيلة في أعمال حيدر، كأن الحداثة في حدسه الفني، تنهض من سرير القَدامة لكي تهبط إلى الشارع وتنغمس في غباره وصخبه. حداثةٌ تؤالف بين إشراقات الذاكرة وإشراقات الحياة اليومية وثقافتها. وعندما نرى في أعماله أشياء لا خصوصية لها، عادية، مطروحة، مهمَلَة، يمكن القول إن ذاكرة اللاشيء، هنا، تقترن بحضور أي شيء. وتبعاً لذلك، يمكن القول إن حيدر يخلق من اللاشيء بنيةً فنية، وسياقاً فنياً.
والحق أننا عندما ننظر إلى العناصر الجزئية المادية المُستَخدَمة في بعض اللوحات: قطعة حديد، أو نسيج أو خشب أو كرتون، مسمار، مفتاح... إلخ، فإننا نرى كيف أن المادة تتحوّل إلى حركة. كأن المادة تصبِحُ هي نفسها إشارة، أو شكلاً من أشكالها.
وفي هذا تصبح اللوحة نوعاً من أبجدية خاصة يَقرأ بها العالم.
ـ 3 ـ
ليس في لوحة حيدر جسمٌ، بل إيهامٌ بالجسم. لكنها، وفقاً لذلك، ليست تجريداً، بل إيهامٌ بالتجريد. اللوحة عنده تركيبٌ وتوازُنٌ بين مواد فقيرةٍ تتحولان فيهما إلى غنى جميل، بل إلى ما يقارب الترَف الجمالي. تركيبٌ وتوازُنٌ تبدو فيهما اللوحة مُلَقَّحةً بالمخيِّلة والتاريخ، تاريخ ما لا تاريخَ له خصوصاً، إضافةً إلى الهواجس الشخصية. تكادُ بعض اللوحات أن تكون مسرحاً صغيراً: ممثِّل صامتٌ، أو اثنان أو أكثر - كلٌّ يُصغي إلى الآخر، صامتاً، أو كلٌّ يوجِّه كلامه إلى آخرَ شاردٍ، صامت.
سرْدٌ شفويٌّ في تقنيةٍ تشكيلية.
ـ 4 ـ
انظرْ إلى اللوحة: تتحرك وتحيا في فيضٍ من الحضور الذي يحرر المادة من صمتها، من عزلتها، ومن وجودها المُبتَذَل، بحيث تصبح جزءاً حياً في وجود آخر، وسياقٍ آخر، يخلقان جمالاً آخر.
ونتساءل: هل صحيحٌ أن إنتاج المعنى وقفٌ على الكائنات الحية؟
ونصغي إلى اللوحة تقول: كلا. الكائنات غير الحية تُنتِج هي أيضاً معنىً حياً.
ـ 5 ـ
ما يكونُ الزمنُ هنا؟
أيكون خيالاً مرئياً؟ صوراً متحركة لمكان ثابت؟ منفى يُعادُ ابتكارُه، دائماً؟
وما يكون الوطن؟
فضاءَ صداقاتٍ؟ آفاقَ أحلام؟ تعباً يكتبه النهار والليل وتُمليه الريح؟
وما تكونُ الحقيقة؟*
II . آلامُ الكتابة ـ السياسة
ـ 1 ـ
«الجزائر هي فرنسا»: عبارة قالها فرانسوا ميتِران عندما كان وزيراً للداخلية الفرنسية، في سنة 1954.
اليوم، في سنة 2016، في ضوء الأحداث العربية والعــلاقات القائمة بين بلدان العالم العربي وبلدان العالم الغربي، يمكن أن نقول، اســتطراداً لما قاله ميتِران: «العرَب هم الغَرب».
ـ 2 ـ
المستنقع الذي يتفتَّتُ فيه الكلام العربي، وتتشققُ حوله أيام العرب، يكادُ أن يتحول هو نفسه إلى ينابيع متنوِّعة وعديدة في مختلف الميادين.
وها هي البدايات: لم نعد نعرف كيف نميز بين الكلمات التي تخرج من المستنقعات، وتلك التي تخرج من الينابيع.
ـ تبعاً لهذه الحالة، ما يكون النِّظام عند العرب، وما تكون الثورة؟
ـ النِّظام هو تحويل البشر إلى سجناء، والثورة هي قطع الخبز والماء عنهم.
ـ 3 ـ
إذا كان للمستقبل هذه «الشمسُ»، فكيف ستكون الظِّلال التي سترسمها؟
ـ 4 ـ
هذا العالم كمثل جنيٍّ له قوةُ الريح.
غير أنه لا يقدر أن يحيا إلا في صراعٍ دائمٍ.
تأملوا، إذاً، في الكوارث التي تفتك بالجهاز العضلي الكوني.
اسألوا كذلك:
بماذا تلعب الأجنحةُ المادية؟
ـ 5 ـ
تتغيرُ في الحياة الثقافية العربية مفهوماتٌ كثيرة، لا بقوة النظر، بل بقوة الواقع.
المُتحَف، على سبيل المثل، صار يُسَمى «مأوى الشياطين».
مثلٌ آخر:
صارت النار مؤسَّسةً ضخمةً
للزراعة والري والتنقيب عن الماء.
ـ 6 ـ
من رسالة كتبها صديق قُتِل في حلب:
«أتفِقُ معك في رأيك أن «المنفى الكامل» لا وجود له.
لا وجود أيضاً، كما تقول، للإنسان الكامل، أو العمل الفني الكامل.
الكمالُ نية. اتجاه. رغبة.
إن كان ذلك صحيحاً، فإن علينا أن نغيِّر نظرتَنا إلى الأخطاء.
الخطأُ نقصٌ، ضعفٌ. لكنه، مع ذلك، طريقٌ أو جزءٌ من طريق مفتوحةٍ على الكَمال.
المسيح في التراث المشرقي، وفي تاريخ الرؤية الوحدانية للإنسان والعالم، هو الشخص الأول الذي غيّر النظرة إلى الخطأ جذرياً، والذي غيّر تبعاً لذلك النظرة إلى الخطيئة.
هكذا يظل المسيح دائماً أمامَ العالم».
ـ 7 ـ
للصوت العربي أبْراجٌ
يخافُ التاريخ نفسُه أن يتسلقَ سلالمها.
ـ 8 ـ
أنتَ لا تصدق أن الفضاءَ
يمكن أن يكون هاويةً، أو كائناً لا يتجاوز حجمُه سَمَّ الخِياط.
حسناً. إن كنتَ ترغب حقاً في مزيدٍ من المعرفة، ومن اليقين، فما عليك إلا أن تقومَ بزيارةٍ خاطفةٍ لما يُسَمّى الفضاء العربي.
ـ 9 ـ
رسالةٌ من قلب الحرب:
«بعد القبر الذي يُقيمُ أبي فيه،
أخذت أمي تعيشُ معه كمثل ممرِّضةٍ
تُعنى بالسرير والوسادة والغطاء،
وبقية التوابع، إضافةً إلى ذكرياتها.
بعد أن ماتت أمي والتحقَتْ بأبي حيث دُفِنَت إلى جانبه،
تلبيةً لرغبتها،
صار القبرُ هو الذي يُعنى بهما معاً.
صحيحٌ أن القبرَ بيتٌ تبنيه المادة، غير أن الذاكرة هي التي تقيمُ فيه.
القبرُ أثرٌ مرئيٌّ لخطواتٍ غير مرئية».
ـ 10 ـ
لي صوتٌ يتشرد في غاباتٍ من الصمت، ولي آخرُ لا يجرؤ على البوْح.
صوتٌ بلا عنايةٍ في لغةٍ هي أيضاً بلا عناية.
الموتى المقيمون في أحشائي وصبواتي يُنذرونني،
وها هم يُعلِنون نفيرَهم العام.
ـ 11 ـ
جمعَ أنقاضَ بيته،
تأمل فيها وحولها، ثم جلس مُرهَقاً
وأخذ يتوسلُ إليها
لكي تردّ تحيات الذين يزورونها
بأحسنَ منها.
ـ 12 ـ
إذا كان الرحيلُ أعمى
فكيف ستكون الطريق؟
وإذا كانت الطريقُ عمياء،
فكيف سيكون الرحيل؟
* لمناسبة المعرض الذي يقيمه الرسام العراقي حيدر وأصدقاؤه في مدينة «سان بيار دو كور» فرنسا، حتى شباط (فبراير) 2016.
الحياة- الخميس، ٢٨ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٦