لقد تحدى «فداء الغضبان» وفريق عمله، المألوف في عالم الصوت والصورة، وما أنتجته «الميديا»، بأسلوب فني اختلطت فيه الرومانسية والتجريدية والرمزية والخرافية والأسطورية، لأنها ساهمت في إنجاز عناصر مختلفة، أهمها الانسجام بين دلالة الكلمة وروحها مع الذات الشاعرة والخلفية اللونية المتحركة وإيحاءاتها، والموسيقى ومرسوماتها التشكيلية الواضحة والغائبة في آن معاً.
فكيف أتى هذا الديوان: «سياسة الضوء» الصادر بالتعاون مع مجلة دبي الثقافية؟ وهل وصل فيه البطل الأساسي، الذي هو مزيج من:»أدونيس» و»شعره» و»رسوماته» إلى ذاك الحلم؟
من يتابع الشريط المضغوط، يكتشف بأن هناك عوامل عديدة، تضافرت في تكوين اللوحات المقطعية المتقطعة «التراكات»:
- القصيدة.
- الإلقاء.
- حركة عناصر المشهد.
- الموسيقى.
- الألوان.
- الرقيمات التشكيلية.
- الحالة النفسية للظل والضوء اللون، للذاكرة، ومفردات الحلم، ورغبات اللا وعي، وتقعات المخيلة.
وشابك هذه العوامل الأساسية، المكونة للوحدات الصغرى، السيناريو، كوحدة كبرى، تفرعت إلى: سيناريو الحدث، سيناريو الزمكانية، سيناريو العناصر، سيناريو الألوان، سيناريو الموسيقى، وما يموج بينها من سيناريو للصمت المتحرك.
واضح أن مبتغى العمل، ليس شرح المنتوج الإبداعي الأدونيسي، فقط، وجعله أكثر قرباً من المتلقين على اختلاف درجات التلقي، بل، تقديم هذه التجربة، على أنها مغامرة فنية، أرادت أن تجعل من الضوء لغة متشعبة إلى مسموعة ومرئية ومقروءة وممثـَّـلة أيضاً، وذلك من خلال الوصول إلى البعد الأعمق للحظة، وأقصد: استنباط روح المعنى لكل من شخصية الشاعر، وأعماله، فلا يبقى من هذه الآثار إلا التأويلات، وانصهارها مع المتناقضات من وجود ولا وجود، نار وثلوج، إضاءة وإعتام، وما بينها من تدرجات دلالية نفسية ولونية ومعنيية واحتمالية، سعياً للدخول في المنطقة المحجوبة من الذات والآخر والفضاء، للكشف عن المزيد من التحولات الكونية في الأجرام الكبرى، والجرم الرمزي:»الإنسان»، كناية عن مزج العناصر بتناغمية تفضل الصيرورة على الانحلال والتحول، فالموت الذي يبدأ به «النص المرئي»، يصير مع جسد الشاعر ذوباً في الأزهار والأغصان بحثاً عن جملته:»خذ طريقك واتركني إلى طرقي»، بما في هذا الحيز من إصرار على التصير الوجودي، الفيزيقي، ومن ثمة، الاقتراب، إلى مقام الضوء، وشفافية الروح، التي تشكو من أحزان السنين، وتكذيب الشيخوخة، والعودة إلى الطفولة، في متضادات لا تكتمل إلا مع مساواة الموت والحب»»حبي وموتي فلك واحد»، وهذه الجملة كلاسيكية، تضاف إلى إغواء اللاحقين بالضوء للتخلص من «ظلمات الأبد» وهي، بالتالي، جملة تقليدية كلاسيكية أخرى، وتـّـرتها اللحظة التصويرية، بطريقة جمالية، فمنحتها الخلفية الحركية الأشد تأملاً.
واضح، كيف سيطرت «سيكولوجيا الألوان» على العمل، وهو اختصاص «فداء الغضبان»، الذي استطاع أن يعزف على ثلاث حركات أساسية: الأبيض، الأحمر، الأسود، وما بينهما من تدرجات للمحور الجوهري: دم الشاعر المضيء، الجرح الخلاق، الحجة للنور والظلام، وهي ذاتها المفاعيل التي تحركت بينها «العدسة»، معتمدة على تداخلات الظل والغيم والانقسام الصوري، كما اعتمدت على الديالوغ الجميل بين «البيانو» و»الناي» وآلات أخرى، مما ساعد على تداعيات موسيقية، اشتبكت بانفصال واتصال، لتنجز محاورة خفية بين الإنسان، سواء كان في الشرق أو الغرب، أو أية جهة أو لا جهة أخرى، مؤكدة الحوار الحضاري بين الفنون والقيم الرفيعة والحلم الواحد، لتلك الرقيمة التي يخطو في فضائها «أدونيس»، كما تخطو بقية العناصر بين الاحتراق، والاشتعال، والانطفاء، والصمت، والسكون، والكتابة، والمحو، والموت، والحياة، و»لغة الشيء الأنقى والأبقى»، والتي تدل على لغة الشيء الأقرب إلى الحواس منه إلى اللا حواس، وفي ذلك خلط دلالي مناقض لـ «التعاليم» التي يعتبرها الشاعر «لغواً»:»والتعاليم لغو»، وينسى بأنه يعطي «التعاليم» في كلماته:»وأغوي من يجيئون بعدي، أن يضيئوا بنور الجسد، ظلمات الأبد»، «عند موتي، احملوني كأني كتاب»، هي تعاليم، أيضاً، ولكن، بهيئة وصية، تنشد الاستمرار في طرق الضوء، تماماً، كما تفعل التعاليم الإنسانية الأقرب إلى الضوء.
ويمشي الشاعر كما تمشي المكونات، مبتعداً، مقترباً، منشطراً، حائراً، إلى أن يصل إلى نقطة بين «السحر» و»الإشارة»، وهنا، يبرز إيقاع الضوء المؤطر بالنار ورموزها ودلالاتها، كقاعدة لسيناريو المشهد المتماوج، وهو يبتعد عن القريب إلى تلاوين اللازوردي والأرجواني، ليصل إلى «قزح دلالي»، يغيب في السواد، كناية عن اللا نهاية واللا محدودية التي تتسم بها حركة التوغل الأزلية في عمقها العميق من الذات والكون في آن معاً.
يختلط «الكولاج» التصويري بـ «الكولاج» التشكيلي، وهذه دلالة مضمرة على محاكاة اللقطة بالرقيمة، ومن جهة فنية أخرى، محاكاة للدلالة الشعرية، المتسعة تصويرياً مع البحر والفضاء، فلا تستقر في الأفق، بل تعود ببطء إلى لقطة أخرى، تطل من «إطار نشط» على «مقطع ـ trackـ آخر، يبدأ بموسيقى تصعد من الأعماق الذاتية، لتتصل بالوشيش الكوني، من خلال وسيط مرئي، هو يد الشاعر، أو صوته، أو رقيماته، أو قلمه، أو خطواته، أو ظلال ذاكرته المرتطمة بالحلم، أو باللا وصول.
ومن مغزى فني، مقارب، يمكن أن نقرأ لوحاته التشكيلية «الرقيمات»، التي عرضها في أكثر من بلد، وهنا، في الإمارات، في «هنر غاليري/ دبي 2008»، والتي رأيتها، واكتشفت فيها خلخلة أخرى، للا وعي، الذي تشرق منه تلك العناصر، بدرامية، تطوي السؤال مع الصلصال والمواد الأخرى، لتشير إلى تركيبية، تساهم فيها القصيدة حركتها الالتفافية، والدورانية، حول الإيحاء، وتداعياته، وارتطاماته بالذي لم يستطع أن يكتبه أدونيس، إلا بالرسم، ليفسح للمحذوف أن يظهر بلغة أخرى، يكتبها كل متلق تبعاً لطاقته الروحية الثقافية، متعامقاً في المزيد من الحيرة، ليصل إلى اجتراح بصري، يحيله، غالباً، إلى «النفري»، «المتنبي»، و»المعري»، في محاورة «كولاجية»، وظفت العديد من الخامات، إضافة إلى الألوان، منها: الحصى، لحاء الشجر، الرمال، القنب، القماش، مفلسفاً «الشيء» في خليط من الدادائية والسوريالية والتجريدية، ولا بد من وقفة لاحقة مع معرضه «مقامات».
هذه الاحتمالات الفنية، افتتحت احتمالات أخرى، منها:
لماذا تم إغفال المرجعية الموسيقية، وإن كنت أرى بأن هناك، في لا وعيي، حدثت وشاية سؤالية: ماذا لو كانت موسيقى العمل «سيمفونية بيتهوفن: ضوء القمر»، لكانت مناسبة، وأكثر إشعاعاً؟ ماذا لو تخلى العمل عن التصوير العادي للشاعر وهو جالس يكتب؟ واستبدلت بحالة عفوية يمارس فيها الكتابة؟ لأن هذه اللقطات كانت تمثيلية أكثر من حالة الشاعر أثناء الكتابة، فلربما لا يكتب المبدع في مثل هذه الحالة الهادئة تماماً الأقرب إلى الطمأنينة!
أيضاً، شعرت بأن وجود الطفلة والطفل، بلا ضرورة، أو بأن هاتين الشخصيتين قد تم زجهما في العمل بطريقة رومانسية، مألوفة، فماذا لو كانا يحملان كتابين، أو مشعل من ثلج ومشعل من نار، أو نصفاًً من الغابة ونصفاً من الفراغ، أو يحملان رموزاً أخرى مما يدل على الكلمة، اللون، الموسيقى، إلخ؟ أو ماذا لو تم استبدالهما بسلسلة كتب ـ من أمهات الرؤى ـ متراكمة ومتواصلة كالغيوم في النار، أو كاللهب في الثلوج، أو لو تم تحويل كتب أدونيس إلى شخوص تغور في الاتجاهات إلى آخر دلالة لما بعد العمق الكوني؟
وتظل «القصيدة الضوئية»، حالة فنية، عمل فيها فريق العمل على إيجاد حيز متوازن، متناغم، بين الشعر والفنون، راغباً في النزوح إلى التجريدية المشوبة بالخرافة الرومانسية، وهالات الضوء، ولوحاتها التي شكلتْ معزوفة كونشيرتية، مشهدية الصمت، متحركة الحضور، ممسرحة العناصر، مستفيدة من أحدث التطورات المعلوماتية، نابضة بوصية للضوء، وأخرى للرحيل المتواصل بين الغربة والاغتراب، المنفى الاختياري للوجود والسفر، التباعد إلى المجهول بدءاً من المعلوم، والسؤال، والتشكيك: «أنقض ما أبني، مستنيراً بدمي»، متحايثاً مع قلق إنساني إبداعي، يظل الثيمة الأساسية للكشف، وكذا:»أجمل ما تكون أن تخلخل المدى».
الدستور
01-04-2011